رواية جديدة أرهقته حر با لتوتا محمود - الفصل 26 - جـ3 - الأحد 12/10/2025
رواية أرهقته حربًا الجزء الثاني من رواية عشق بعد وهم كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية أرهقته حر با الجزء الثاني من رواية عشق بعد وهم
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة توتا محمود
الفصل السادس والعشرون
الجزء الثالث
تم النشر بتاريخ الأحد
12/10/2025
في صباح اليوم التالي،كانت أشعة الشمس تتسلل بخجل عبر ستائر الغرفة البيضاء، تُلقي بخيوطها الذهبية على وجه "يمن" التي كانت مستيقظة منذ فترة، تحدّق في ملامح "أيان" النائمة بجانبها.
كان نائمًا بعمقٍ كطفلٍ لا يعلم شيئًا عن ثِقل الأسئلة التي تُثقل صدرها.
تتأمله بصمت، عيناها تمتلئان بحيرةٍ لم تجد لها إجابة بعد…
منذ متى يعرف "شهاب الشوري"؟
ولماذا يبدو وكأنه يخفي عنها شيئًا؟
تذكرت تلك النبرة التي تحدّث بها "شهاب" بالأمس… نبرته التي كانت مليئة بالغرور والسيطرة، وكأن “وعد” ملكٌ له لا يحق لأحدٍ المساس بها.
لماذا إذًا يتدخل "أيان" دائمًا لإبعاده عنها؟
وما الذي يربطه أصلًا بهذا الرجل؟
تقلّبت أنفاسها في صدرها وهي تنظر إليه مجددًا، نائمًا بطمأنينة كأنه لا يحمل سرًا في العالم.
لكن قلبها لم يصدق هذا الهدوء.
تحرك بجانبها ببطء، فتح عينيه بتثاقلٍ والتفت إليها مبتسمًا،
قبّل يـ ـدها بحنانٍ دافئ وقال بصوتٍ أجش مبحوح من أثر النوم:
ـ صباح الخير يا حبيبتي.
ردّت بابتسامةٍ خفيفة لم تصل لعينيها،
ـ صباح الخير يا حبيبي.
جلس نصف جلسة على الفراش، أمال رأسه قليلًا وهو يراقب وجهها بتركيز،
ملامحها الهادئة كانت تخفي شيئًا أثقل من الصمت،
فمدّ يـ ـده يمسك يـ ـدها بحذرٍ وسألها بصوتٍ مشوب بالقلق:
ـ مالِك يا حبيبتي؟ انتِ كويسة؟
هزّت رأسها، نظرت إليه نظرة طويلة وقالت بهدوءٍ مصطنع:
ـ أنا كويسة.
لكن عينيها كانتا تفضحانها…
تلك النظرة التي تختبئ خلفها مئة سؤال لم يُسأل بعد.
شدّ على يـ ـدها أكثر وسألها بنبرةٍ ناعمة:
ـ طيب… زعلانة مني؟
هزّت رأسها مجددًا بلا كلمة.
اقترب منها أكثر، رفع يـ ـدها إلى شفتيه وقـ ـبّلها برفقٍ وهو يهمس:
ـ طيب أرضيكي إزاي؟
ابتسمت له ابتسامة باهتة، تخفي وراءها وجعًا لا يُقال، وقالت:
ـ ممكن تعزمني برّا على العشا؟، بصراحة محتاجة أتكلم معاك في حاجات كتير، وكمان هما عازمين ناس وأنا مش حابة أقعد معاهم.
رفع حاجبه باهتمامٍ وسألها، وقد بدا أنه لم يلتقط سوى الجزء الأخير من كلامها:
ـ عازمين مين؟ وليه أصلًا؟
تنهدت وهي تزيح خصلة شعر عن وجهها، لهجتها كانت تحمل شيئًا من الضيق:
ـ هما عازمين عشان نوح خد جايزة هو والست وعد،
زي غدا للعيلة والأقارب كده… كاحتفال بسيط ليهم.
راقبها بصمتٍ وهي تتابع، وكانت هي تراقب أدق تفاصيل وجهه… تنتظر انفعالًا، لمحة، أي شيء يفضحه.
ـ وعازمين مين؟
قالتها وهي تُطيل نطق الكلمات عمدًا، كأنها تُلقي بشبكةٍ لتصطاد ردة فعله :
ـ عازمين أسر، وإبراهيم الخليلي هو ومراته، وعازمين أونكل عادل وعدلي… و شـــهـاب الـشـوري.
كانت الكلمة الأخيرة كالرصاصة…
تسللت من بين شفتيها ببطءٍ مقصود، لتصطدم بوجهه مباشرة.
في لحظة، شدّت ملامحه،
انقبض فكه، وضغط على يـ ـديها بقوةٍ جعلتها تكتم تأوّهها.
رأت الغضب يمر في عينيه كالبرق، لكنه حاول أن يخفيه خلف قناعٍ بارد.
رفعت نظرها إليه ببطء، وصوتها خرج همسًا لكنه مليء بالشكّ:
ـ مين شهاب الشوري يا أيان؟
لم يجب فورًا.
ظلّ صامتًا لحظةً كأنها دهر، ثم أفلت يـ ـديها ببطء، وابتسم لها ابتسامة باردة، ابتسامة لم تصل إلى عينيه قطّ، وقال بهدوءٍ مصطنع:
ـ معرفش يا حبيبتي… انتي بتسأليني ليه؟، هو أنا اللي عزمته؟
قالها وهو ينهض من على الفراش،
لكن صوتها أوقفه، ناعمًا… حذرًا… مليئًا بالشكّ:
ـ يعني افتكرتك عارفه معرفة شخصية مثلًا،مهو راجل أعمال.
التفت إليها ونظر في عينيها مباشرة، ابتسم من جديد بنفس الابتسامة الخالية من الروح، وقال:
ـ لا، معرفوش.
ثم دار بجسده مبتعدًا، تاركًا خلفه صمتًا أثقل من كل الإجابات التي لم يقلها.
أما هي، فظلت تحدّق علي الباب المغلق المغلق الذى اغلقه.
وفي داخلها يقين خافت بأن "أيان" يعرف "شهاب الشوري" أكثر مما يعترف…
لكن السؤال الآن لم يعُد هل يعرفه؟
بل ما الذي يربطهما حقًا
❈-❈-❈
الضوء الصباحي تسلل من بين الستائر البيضاء بخفّة، يعانق الغرفة التي تعبق برائحة نظيفة دافئة، رائحة عطره الممزوجة بآثار بخّاخ الحلاقة التي ما زالت عالقة في الهواء.
كان “نوح” يقف أمام المرآة يعدّل ياقة قميصه بعناية، أصابعه تتحرك بثباتٍ ظاهري، لكن في داخله ارتباك خفي لا يعرف له سببًا.
رفع كفه يمسح شعره إلى الخلف برشاقة، وابتسامة صغيرة تتسلل على طرف شفتيه كمن يتهيأ لمواجهة يوم طويل.
وفي اللحظة ذاتها، انفتح باب الحمّام بخفة، وخرجت “نور” كأنها نسمة دفء جاءت لتقلب كل توازنه.
خطواتها كانت هادئة، لكن كل حركة منها كانت تُحدث ضجيجًا في صدره.
كانت ترتدي فستانًا أزرق سماويًّا، ناعم القماش، ينسدل بخفّة على جسدها ليقف تمامًا عند ما بعد ركبتيها بقليل، يلتصق بنعومة دون مبالغة، مزدانًا بنقوش صغيرة بألوان هادئة كأنها نُثرت عليه من فرشاة فنان حالم.
شعرها جمعته في ذيل حصان بسيط، إلا أن بعض الخصلات تمردت وسقطت على وجنتيها، تُبرز ملامحها أكثر وتُضفي على وجهها لمحة طفولية آسرة.
في أذنيها كانت أقراط صغيرة على شكل نجمة ذهبية، تتراقص مع كل حركة منها، تلتقط الضوء كأنها شُعلة ضوءٍ صغيرة تُثير الانتباه دون عناء.
لم تضع شيئًا على وجهها، لا مساحيق ولا ألوان.
وجهها وحده كان كافيًا ليُربك الحواس، فيه من الصفاء ما يجعل كل ما حولها باهتًا، ومن النقاء ما يجعل الجمال يبدو بسيطًا وساحرًا في آن واحد.
“نوح” كان يراها من خلال انعكاس المرآة، لم يتحرك، فقط عيناه تبعانها بصمتٍ غامض، كأنهما تلتهمان كل تفصيلة فيها من خصلات شعرها المتمايلة إلى ارتجافة أناملها وهي تُعدّل الفستان قليلاً.
كانت تشعر بثقل نظرته، بخيوطها التي تشد أنفاسها دون أن يلمسها.
تلاقت أعينهما في المرآة للحظة قصيرة لكنها كانت كافية ليتجمد الزمن بينهما.
لم يستطع أن يشيح بنظره، ولا هي استطاعت أن تسيطر على خفقان قلبها.
الهدوء بينهما صار كأنه حديثٌ صامت، تقول فيه العيون ما لا تجرؤ الشفاه على قوله.
ابتلعت ريقها بخفّة، وقررت الهرب من ذلك الموقف الذي بدأ يلتهمها من الداخل، تحركت نحو الباب بخطوات سريعة كي تغادر الغرفة وتلتقط أنفاسها، لكنها توقفت فجأة حين سمعت صوته يناديها بخفوتٍ، نداءً خرج من بين شفتيه بنغمةٍ هادئة، عميقة، تحمل شيئًا من الرجاء ودفئًا يذيب المسافة بينهما…
اقترب منها بخطواتٍ بطيئة، كأن الهواء بينهما صار أثقل من أن يُقطع،
وفي لحظةٍ خاطفة، محا المسافة كلها، وأمسك وجهها بيديه كمن يخشى أن تهرب منه للأبد.
نظراته كانت مشتعلة خليط من الغضب، والاشتياق، والندم المكبوت وقبل أن تستوعب ما يحدث، وجدَت شفتيه تلتهمان أنفاسها بقـ ـبلةٍ جموحها يفوق كل عقل.
لم تكن قـ ـبلة عابرة، كانت انفجارًا من مشاعر محبوسة منذ زمن، كأنّه عاقب نفسه فيها قبل أن يعاقبها، كأنّه يُفرغ بها صمته الطويل، وحنينه، وغضبه، وضعفه أمامها.
حاولت أن تبعده، أن تلتقط أنفاسها، أن تستعيد سيطرتها على هذا الجنون،
لكن يديه كانتا تُثبتانها بحنانٍ عنيف،
كلما دفعت، زاد اقترابًا…
كلما حاولت الهرب، زاد عمق القـ ـبلة،
حتى شهقت بصوتٍ واهنٍ كأنها تُناديه ليعود إلى وعيه لكنه لم يسمع سوى أنينها الذي زاد اشتعاله.
كانت الدنيا تضيق حولهما، والوقت توقف عند حدود تلك اللحظة.
أنفاسه كانت حارة تلسع بشرتها،
وقلبها يخفق بجنونٍ لا تعرف له اسمًا:
هل هو خوف؟
هل هو حب؟
أم كليهما معًا؟
وحين أخيرًا ابتعد عنها، لم يبتعد كثيرًا.
أسند جبينه على جبينها، أنفاسهما متقطعة، تتداخل، كأنهما يتنفسان من رئةٍ واحدة بعد معركةٍ طويلة.
كانت وجنتاها محمرتين، وعينيها مغرورقتين، ونبضها يعصف بها.
هتف بصوتٍ مبحوح، متعب، كأن كل كلمة منه خرجت من أعماقه:
ـ صدقيني لو مكنتش عملتها مكنتش هعرف أعدي اليوم،كفاية إني منمتش بسببها.
كلماته كانت همسًا، لكنها ارتطمت بقلبها كالعاصفة.
أغمضت عينيها وهي مازالت تلتقط أنفاسها،
قلبها يطرق صدرها بعنفٍ، كأن كل خفقةٍ تقول له “ليه عملت كده؟ وليه مش قادرة أزعل؟”.
وفي خضم هذا الصمت المليء بأنفاسٍ متقطعة وارتباكٍ لا يُحتمل،
قطعته دقّات خفيفة على الباب، تبعها صوت "وعد" الرقيق المتردّد، كأنه جاء من عالمٍ آخر بعيد عن هذا الذي يغرقان فيه:
ـ آسفة يا نوح لو أزعجتك، بس أنا لازم أروح الشركة ضروري، وقلت أقولك عشان متقلقيش، لو سامعني دلوقتي لما تخلص، ابقى ابعتلي مسج، ولو نور سمعاني ونوح مش سمعاني، فأرجوكي يا نور تبلغي نوح بده.
ثم خيّم الصمت مجددًا، وصوت كعب حذائها كان يبتعد بخطواتٍ سريعة تُذكّرهم بالواقع الذي حاولا الهرب منه للحظات.
نظر "نوح" إلى "نور"، مازال قريبًا منها، يلتقط أنفاسه بصعوبة، بينما عينيها تتهربان منه، تخاف أن يرى في نظراتها ما حاولت طوال الوقت إخفاءه…
أنها، رغم كل شيء، مازالت تضيع كلما اقترب منها.
ابتعد عنها قليلًا، وكأنه يمنحها الفرصة لتستعيد توازنها بعد تلك اللحظات المشتعلة التي أفقدت كليهما أنفاسهما،
ولكن قبل أن تهرب منه تمامًا، عاد يقترب منها بهدوءٍ مخمليّ، خطواته ثابتة كأنها نغمة يعرف جسدها إيقاعها عن ظهر قلب.
اقترب حتى شعرت بأنفـ ـاسه الدافئة تلامس بشرتها،
ثم مال عليها برقةٍ مُرهفة، ليطبع قُبلة بطيئة على خدها، قبلة هادئة تحمل من الطمأنينة ما يُذيب ما تبقّى من ارتباكها.
ارتجف جسدها للحظة،
قلبها خفق بعنفٍ، وكأن تلك القبلة البسيطة كانت أجمل من كل عاصفة سبقتها.
ابتعد عنها أخيرًا وهو يبتسم، تلك الابتسامة التي لا تشبه أحدًا سواه ابتسامة دافئة تُشبه الصباح الذي يغزو العتمة بهدوء.
رفع كفه ليمسح على وجنتها برفقٍ، ثم همس بصوتٍ مبحوحٍ خافتٍ يكاد يختلط بأنفاسه:
ـ أما دي بقى بوسة الصباح.
ابتسمت بخجلٍ وهي تُخفض نظرها، بينما شبك هو يـ ـده بيـ ـديها بإحكامٍ،
تشابكت أصابعهما كأنها وعدٌ صامت لا يُقال،
ثم سارا معًا نحو السلم، يهبطان بخطواتٍ بطيئة متناسقة، كأنهما لا يسيران بل يعلنان للعالم كله أن كلًّا منهما بات ملكًا للآخر.
حين وصلا إلى الأسفل، كان المنزل يعجّ بحركةٍ هادئة،
الضوء يتسلل من النوافذ الكبيرة ليعانق الأرضية الرخامية، ورائحة الطعام تعبق في الأجواء،
صوت الملاعق والأطباق يملأ المكان، وكأن هذا الصباح البسيط يُخفي خلفه ألف حكاية دفءٍ عائلية.
لكن "نور" كانت شاردة، مازالت أنفاسه عالقة في عنقها،
وعطره يلتف حولها كوشاحٍ لا تريد نزعه.
أفاقت من شرودها حين سمعت صوت "حميدة" وهي تنظر إليهما، تحدّق في أيديهما المتشابكة بعينٍ لا تخفى دهشتها وارتياحها، ثم رفعت نظرها إلى وجه حفيدها
وجه "نوح" الذي كان يحمل مزيجًا من الحب والفخر والهدوء.
ابتسم لهم جميعًا وهو يهتف بنبرةٍ ناعمةٍ دافئة تملؤها المودة:
ـ صباح الخير.
رد الجميع بابتساماتٍ متفاوتة،إلا "كاميليا"…
كانت الوحيدة التي ظلّت صامتة، نظرتها غائمة، ملامحها متصلبة.
لم يُعجبها المشهد لم يُعجبها كيف يمسك يدها أمام الجميع بتلك الطريقة المليئة بالملكية.
كانت قد نزلت مبكرًا وجلست على الكرسي المعتاد بجانبه،
ذلك الكرسي الذي كانت تعتبره “مكانها الدائم”،
لكن اليوم… وجدته مشغولًا.
مشغولًا بامرأةٍ أخرى تسكن ابتسامته وتشعل عينيه.
جلست "كاميليا" في صمتٍ مطبق، بينما هو ما زال ممسكًا بيد "نور"، يتحدث بثقةٍ ودفء،
كأن العالم كله صار يبتدئ من عندها… وينتهي إليها.
نظر "نوح" إلى الكرسي الفارغ الذي اعتاد الجلوس عليه بجانب "كاميليا"، تلك التي كانت تترقبه بعينين مترقبتين، وما إن التقت نظراتهما حتى ارتسمت على شفتيها ابتسامة واثقة تحمل من التملك أكثر مما تحمل من الود.
لكنه لم يبادلها سوى نظرة هادئة خالية من أي دفء، ثم قال بنبرة مهذبة لكنها حاسمة:
ـ ممكن يا كاميليا بعد إذنك تيجي للكرسي اللي جنبك عشان عايز "نور" جنبي.
ساد صمت ثقيل للحظة، وكأن الكلمات سقطت على المائدة كحجر في ماء راكد.
حدقت فيه "كاميليا" بصدمة، لم تصدق ما سمعته للتو… أمام الجميع؟
هذا مكانها، مقعدها الذي لم يشاركها فيه أحد قط.
كانت تظن أنه رغم زواجه، سيظل يحافظ على تلك المسافة الصغيرة التي تجمع بينهما في كل وجبة، لكنه خيّب ظنها تماماً.
أما "نور"، فبقيت للحظة جامدة في مكانها، تتأمل ملامحه دون أن تستوعب ما قاله، قبل أن تتسلل ابتسامة خفيفة لوجهها دون إرادة منها.
ابتسامة بسيطة، لكنها خرجت من قلبٍ امتلأ دفئًا.
هو لم يطلبها فقط… بل أعلن للجميع بصمته وفعله أنها تخصه وحده.
نظرت "كاميليا" إليها حين لاحظت تلك الابتسامة، نظرة حارقة كادت أن تخترقها.
الغيرة كانت تشتعل في عينيها، تتلوى كألسنة نار تبحث عن شيء لتحرقه.
أما "حميدة"، فكانت تتابع الموقف بصمتٍ خبيث، ثم ارتسمت على وجهها ابتسامة رضا…
كانت تتوقع أن يجلس بجانبها كعادته، لكنها لم تغضب من تغيّره، بل سعدت بتلك الخطوة التي أظهرت للجميع من هي سيدته الآن.
بينما "يُمن" جلست تراقب المشهد بارتياحٍ ظاهر، نظراتها تُحيي تصرف "نوح" وكأنها تقول في سرّها، أخيرًا وُضعت كاميليا في حجمها الحقيقي.
فهي لا تحبها أبدًا، لطالما رأت فيها امرأة متسلطة لا تعرف إلا فرض السيطرة، حتى على ما لا يخصها.
وفي الجهة الأخرى، كانت "كاميليا" تعضّ على أسنانها بقوة حتى كاد صوت الاحتكاك يُسمع، قبل أن تهتف بنبرة يملؤها الغيظ المكبوت:
ـ بس يا نوح… ده مكاني، مكاني هنا، وأنا مش هتحرك من مكاني.
ارتفعت حاجب "إيان" بخفة، مستمتعًا بالمشهد وكأنه يشاهد مسرحية درامية.
هو يعرف جيدًا مدى تعلّق "نوح" بـ "نور"، ويعلم أن ما سيأتي لن يكون بسيطًا…
فحين يحب "نوح"، لا يتراجع.
لكن نوح لم يفقد هدوءه، بل ابتسم ابتسامة هادئة، وصوته خرج ثابتًا، فيه ثقة لا تعرف التراجع:
ـ ولا يهمك يا كاميليا.
كادت "نور" تظن أنه تراجع بالفعل، وشعرت بخيبة صغيرة تطرق صدرها، فانحنت قليلًا، بخطوات مترددة اتجهت نحو الكرسي المجاور لـ "إيان".
لكن قبل أن تصل، شهقت بخفوت حين شعرت بيده تمتد برفق نحو خصرها، جذبة خفيفة لكنها حاسمة جعلتها تتوقف.
تجمدت في مكانها، والحرارة تسري في جسدها من لمسة غير متوقعة، ثم رفع نظره إليها، ابتسامة دافئة ارتسمت على شفتيه، وعيناه تفيضان بحنانٍ صادق وهو يُبعد خصلة صغيرة من شعرها سقطت على وجهها.
ـ أنا عند كلمتي… هتقعدي جنبي.
خرج صوته واثقًا، عميق النبرة، فيه تلك الهيبة التي لا تُجادل، لكن بين طبقاته دفء رقيق لا يمكن مقاومته.
كانت عيناه لا تفارقانها، يبتسم لها ابتسامة صغيرة تكفي لتربكها وتُذيب الخجل في عروقها، حتى لم تجد نفسها إلا تجلس بجانبه كما أراد… كأن جسدها أطاع أمره قبل عقلها.
في تلك اللحظة، شعرت "كاميليا" وكأن الأرض سُحبت من تحت قدميها.
تبدلت ملامح وجهها مئة وثمانين درجة؛ من ثقة متعالية إلى صدمة مكتومة، ومن أنوثة مصطنعة إلى غيظ يشتعل خلف عينيها كجمرٍ مُلتهب.
فتحت فمها لتتحدث، لتصرخ، لتستعيد ما تعتبره “حقها”، لكنها صمتت فجأة حين رأت ما فعله "نوح".
لقد جلس هو بنفسه بجانب "إيان"، وكأنه يقول للجميع أمام العائلة كلها إن "نور" لم تعد مجرد امرأة في حياته… بل أصبحت مكانه وراحته، وأن مكانها بجانبه هو الأهم، حتى وإن غيّر لأجلها ترتيبه ومكانه على المائدة التي اعتاد الجميع احترامها.
ساد صمت قصير لكنه كان مليئًا بالدهشة، قبل أن يقطعه صوت تصفيقٍ مفاجئ من "إيان"، الذي صفق بحرارة وكأنه يشاهد مشهدًا سينمائيًا عاطفيًا حيًّا أمامه، ثم أطلق صفيرًا عالياً بنغمةٍ مرحة جعلت الوجوه تتبدل بين الدهشة والإحراج.
كانت "كاميليا" على وشك الانفجار من شدة الغيظ، الدماء تصعد إلى وجهها، كأن كل ما فيها يغلي.
نظرتها تنقلت بين “نوح” و”نور” وكأنها تبحث عن مبرر واحد لهذا الإهانة العلنية… ولم تجد.
رفعت ذقنها بتكبرٍ مصطنع، ثم نهضت فجأة، ابتعدت بخطوات سريعة متوترة، والكعب العالي يطرق الأرض بعنفٍ أفصح عن كل ما في داخلها من حنق.
أما "حميدة"، فقد تجمدت ملامحها في مكانها، نظرة استغراب حقيقية ارتسمت على وجهها.
هو “نوح النويري”، كبير العائلة، الذي لم يتنازل يومًا عن كرسيه المعتاد على رأس الطاولة، كرسي القوة والهيبة… كيف يجلس في مكانٍ آخر هكذا؟
لم تفهم ما الذي تغيّر، ولم تستوعب كيف أن حفيدها، الذي ربّته على الثبات والصرامة، يمكن أن يترك مكانه من أجل امرأة!
لكنها حين نظرت إلى ملامحه الهادئة وهو يسكب لنور الماء بيده، أدركت أن ما يحركه ليس الضعف… بل الحب.
الحب فقط، ذلك الشيء الذي لا يُقهر، ولا يُناقش، ولا يرضخ لقواعد الكبار.
❈-❈-❈
كانت "راندة" تجلس في غرفتها، والهدوء يلف المكان إلا من صوت أنفاسها المتقطعة وإيقاع أصابعها التي تضغط على لوحة المفاتيح بسرعةٍ متوترة.
كانت تعمل على مشروعٍ هام جاءها على حين غِرّة، وكل ثانية تمضي تقترب من موعد التسليم أكثر… ومع ذلك، عقلها لم يكن حاضرًا بالكامل، فكل شيء حولها بدا ثقيلًا، باهتًا.
لكن فجأة…
ارتجف الهاتف على طرف المكتب، وظهر إشعار صغير على الشاشة، فرفعت رأسها بخفة.
تجمدت أصابعها في الهواء لحظة، وهي ترى أن الإشعار جاء من الحساب الوهمي الذي أنشأته سرًا لمراقبته من بعيد.
ضغطت على الشاشة ببطءٍ، وكأنها تخشى ما ستراه، وما إن انفتحت الصورة حتى شعرت وكأن الوقت توقف للحظات…
كان هو "أسر" بابتسامته ذاتها التي تعرفها عن ظهر قلب، يضم بين ذراعيه طفلته الصغيرة.
لم يتغير وجهه.
نفس الملامح التي كانت تحفظها عن ظهر قلب؛ نفس العيون التي كانت تغرق فيها دون أن تنجو.
حتى التجعيدة الصغيرة عند زاوية ابتسامته… ما زالت كما هي، وكأنها ما زالت تختبئ هناك، بين ضحكته ووجعها.
تجمدت نظراتها في الصورة، وكأنها تخشى أن تُغلقها فتفقده للأبد.
تأملت ملامحه بنهمٍ واشتياقٍ كأنها تلتقط منها أنفاسها الأخيرة…
قلبها خفق، خفق حتى شعرت أن أنين نبضاته يملأ الغرفة الخاوية، وهي تهمس لنفسها بمرارةٍ خافتة:
يا ليتني مكان زوجته الآن
يا ليتني أعيش هذا الدفء الذي كان من نصيبها.
كم كانت تلك الأمنية قاسية، وبريئة في الوقت ذاته.
لم تكن تغار من الطفلة، بل من القدر الذي سمح له بأن يمنحها ما حُرمت هي منه حبّه، حضنه، صوته حين يضحك دون تحفظ.
وضعت الهاتف جانبًا ببطءٍ، لكن عقلها بقي هناك… في الصورة.
كانت تحاول العودة إلى العمل، تحدق في الحروف أمامها، لكنها لم ترَ منها شيئًا.
كل ما تراه هو عينيه، كل ما تسمعه هو صوته حين كان يناديها ذات يوم بـ "رانودة" وهو يضحك…
مرت دقائق طويلة، والملف أمامها لم يتحرك، فقط صدى الذكريات هو الذي تحرك بداخلها كعاصفةٍ لا تهدأ.
رفعت رأسها نحو النافذة، نظرت إلى السماء بخواءٍ ثقيل، ثم أغلقت عينيها وهي تهمس في صمتٍ موجع:
هو عاش حياته، والله رزقه بطفلة…
أما أنا، فما زلت هنا، على ذات الطريق الذي سرنا فيه يومًا…
أنتظر من رحل، دون أن يلتفت.
❈-❈-❈
الغرفة كانت تغمرها أنوار الصباح الخافتة، تتسلل من بين ستائر حريرية بلون عاجيٍّ رقيق، تُلقي بظلالها الناعمة على ملامحه المتوترة وهو يقف أمام المرآة يعدّل من ياقة قميصه ببطء، بينما عقله مشتعـل بأفكار متشابكة لا تهدأ.
خلفه كانت “يمن” واقفة، متكئة على طرف الفراش، تتأمله بنظراتٍ تجمع بين الغضب والاستغراب والخذلان.
في عينيها ألف سؤال، وفي صدرها ألف شعور لا يُقال.
كاد أن يغادر يذهب لشركة وهو في مزاج جيد الأن،و لكن صوتها أوقفه كالخنجر الذي يغرس في قلبه من الخلف:
ـ مقولتليش هتخرج بالليل ولا لا؟
تجمّد للحظة، نظر إلى الأرض كمن يبحث عن مخرجٍ من بين الحروف التي تتراقص في عقله.
فكر قليلاً في عرضها، لا مانع لديه من الذهاب معها، بالعكس، جزء منه يتوق لأن يُرضيها… ولكن الجزء الآخر الجزء الذي يتملكه الغضب والخوف لا يريد ترك "وعد" وحدها في مواجهة “شهاب”.
كان يشعر بأن قلبه سيخرج من بين أضلعه كلما تذكر “شهاب”، ذلك الرجل الذي يعرفه جيدًا، يعرف نظرته، طريقته، هوسه المقنّع تحت قناع الوقار والهدوء.
يعرف أن تلك الدعوة البريئة للعشاء العائلي، ليست إلا فخًا بملامح ناعمة، خيوطه كلها تمتد نحو “وعد”.
في داخله، دارت العبارات كعاصفة:
" لا… مش هسيبه يقرب منها مش طول ما أنا عايش "
رفع عينيه نحو “يمن”، ابتسم ابتسامة باهتة تُخفي خلفها آلاف الانفعالات، وهتف بصوت هادئ يحاول السيطرة على ارتباكه:
ـ انا اسف يا حبيبتي، بس دلوقتي افتكرت ان عندي معاد مهم في الشركة ولازم اروحه دلوقتي حالاً.
كانت الجملة كشرارة أشعلت كل ما كان محتجزًا في داخلها من غضب.
استدارت نحوه بعينين تشتعلان، وخطواتها سريعة كمن يريد أن يُفجر ما بداخله دفعةً واحدة:
ـ يتأجل يا أيان، كل حاجه تتأجل! يا خي ده انا بقولك زعلانه منك، ومش طايقه اقعد معاهم ثانيه واحده للعشا، تقولي معاد مهم؟
صوتها ارتفع بحدة، نبراته مختلطة ما بين الألم والعتاب، كأنها كانت تصرخ في وجه تجاهله، لا في كذبه.
تنهّد “أيان” بعمق، زفر الهواء من صدره كمن يطرد ثِقَل العالم من داخله.
رفع يده ليمررها على وجهه ببطء، يحاول أن يستجمع هدوءه.
لم يكن يريد خسارتها، فهي رغم كل شيء ستكون ورقته الرابحة فيما هو قادم. لكنه أيضًا… لا يستطيع ترك “وعد” لتلك الوحشية المتخفية في هيئة رجل.
لعن نفسه، لعن ضعفه، لعن “شهاب” ألف مرة… لعن كل تلك القيود التي تجعله ممزقًا بين نارين.
اقترب منها بخطوات محسوبة، ملامحه تحاول أن تستعيد دفئها، وصوته صار رقيقًا كأنه يلامس جرحها بخفة:
ـ طيب يا حبيبتي هنتعشي بره، أهم حاجة متتضايقيش.
قالها بابتسامة صغيرة، مُصطنعة أكثر مما هي حقيقية، ثم حاول أن يقترب منها ليهدّئها… لكنها أدارت وجهها، واتجهت إلى غرفة الثياب دون أن ترد، تفتح الأدراج بعنفٍ صامت وكأنها تفرغ غضبها في حركة يديها.
توقف هو في مكانه، ينظر إلى الأرض بشرود، يمرر أصابعه على ذقنه بتفكيرٍ غائر.
إزاي أوقف شهاب من إنه ييجي؟ وإزاي أبعده عن وعد من الأساس؟
كانت الأسئلة تنهشه من الداخل كالسكاكين، والقلق يثقل على صدره حتى ضاق تنفّسه، فيما ينعكس وجهه في المرآة أمامه رجل يبدو هادئًا من الخارج، لكنه في داخله… ساحة حرب لا تهدأ.
افاق وهو يسمعها تهتف بحدةٍ تماثل شرر عينيها:
ـ ثواني أجهز عشان نخرج.
هز رأسه بابتسامةٍ مصطنعة، ابتسامة يخفي خلفها اضطرابه، بينما راقبها وهي تدخل غرفة الثياب بخطواتٍ واثقة.
ظل مكانه، يداه في جيبه، رأسه منحنٍ قليلًا، وعقله يدور كدوامة لا تهدأ.
هو لا يريد أن يقترب "شهاب" من "وعد" أبدًا… لا تحت أي ظرف.
يعرفه أكثر من أي أحد.
يعرف هوسه، جنونه، رغبته في التملك، وذاك الخطر الكامن في عينيه حين يذكر اسمها.
مد يده بسرعة إلى الهاتف، ضغط الرقم بخفةٍ لكن أصابعه كانت ترتجف.
وما إن سمع الرد حتى خرج صوته متوترًا، متقطع الأنفاس:
ـ الو يا خالو.
جاءه صوت خاله هادئًا لكنه حذر:
ـ خير يا أيان، في حاجة حصلت؟
زفر بقوة، شدّ شعره بعصبيةٍ وهو يتحرك ذهابًا وإيابًا في الغرفة:
ـ لا يا خالو، بس حاول متخليش شهاب ييجي العزومة بتاعت راندة، متخلهوش ييجي القصر.
ـ اشمعنا؟
توقف عن الحركة، وصوته خرج مبحوحًا وهو يضغط على كل كلمة وكأنها آخر محاولة للنجاة:
ـ عايزين نبعد شهاب عن وعد بأي طريقة… انت مسمعتش الدكتور النفسي بتاعه؟
سكت الطرف الآخر لثوانٍ طويلة، والقلق يتسلل لصدر "إيان" مع كل ثانية تمر.
ثم جاءه الرد أخيرًا، هادئًا… وهادئًا أكثر من اللازم:
ـ تمام، أنا هتصرف، سلام دلوقتي.
انقبض قلبه.
نظر إلى الهاتف بين يديه كأن الجهاز صار غريبًا عنه، حاجباه انخفضا بارتباك، وملامحه تجمدت في قلقٍ واضح:
ـ دي مش طريقته في الكلام… في حاجة غلط.
من الجهة الأخرى، كان "خاله" يجلس في مكتبه، يحدق في الهاتف للحظات قبل أن يضعه بهدوء على المكتب.
مد يده وأغلق الخط نهائيًا، ثم رفع عينيه ببطء نحو "شهاب" الذي كان يقف أمامه.
كان صوته وديعًا لكنه مليء بالخوف وهو يقول:
ـ يا حبيبي، أنا وأيان عايزين مصلحتك.
اقترب "شهاب" خطوة بخطوة، خطواته ثقيلة كأن الأرض ترتجف تحتها، وملامحه تتبدل شيئًا فشيئًا حتى صار وجهه مزيجًا من الغضب والهوس.
عينيه اشتعلت بنارٍ غير طبيعية، وصوته خرج منخفضًا، مخيفًا:
ـ ومصلحتي مع "وعد"…
توقف لحظة، ثم أكمل بنبرةٍ حاسمة تشق الصمت كالسيف:
ـ وهتجوزها يا بابا، غصب عن أي حد.
❈-❈-❈
جاء الليل أخيرًا، يحمل معه غروبه الهادئ وكأنه يخفي خلفه سيلًا من الأحداث التي تنتظر الانفجار داخل ذلك القصر الفخم.
نسيم المساء تسلل بين أرجائه، يحرّك الستائر بخفة، والأنوار الدافئة تنعكس على الرخام اللامع لتمنح المكان هيبة وغموضًا في آنٍ واحد.
دخل "إبراهيم" بصحبة زوجته أولاً، بخطوات واثقة، ورائحة عطرها تملأ المكان، يتبعهم "آسر" وعمه "عادل"، أما "عدلي" فقد اعتذر عن الحضور؛ لم يستطع أن يترك ابنة "كمال" ولا "ياسين" وحدهما في القصر، فقد كان الخوف عليهما أكبر من أي عزومة.
وبعد وقتٍ قصير، جاء "شهاب".
وقف للحظة عند مدخل القاعة، عيناه تمسحان المكان بتوترٍ متخفٍّ خلف ملامح هادئة، ثم ما لبث أن تعرّف عليه "نوح" فتبادلا التحية، وسرعان ما انساب بينهما حديث خفيف، حديث بدا في ظاهره عاديًا، لكن في باطن "شهاب" كانت عاصفة من اللهفة تتخبّط داخله.
جلس الرجال في غرفة الضيافة، تلك الغرفة التي تفوح منها رائحة الخشب الفاخر والمسك، جدرانها تكسوها لوحات قديمة وذكريات صامتة.
بينما كانت النساء في الغرفة المقابلة لهن، تتعالى أصوات الضحك الخافت والكلمات المتقطعة بينهن، تملأ الجو بدفء أنثوي لطيف.
جلست "ريما" إلى جوار "نور"، تحدثها بابتسامة ودودة، تتعرف أكثر على العائلة، بينما "نور" تحاول أن تخفي ارتباكها خلف أدبها الجمّ.
مرّت ساعتان ببطء قاتل بالنسبة لـ"شهاب"، كل دقيقة كانت تمزّقه أكثر، فالشوق في صدره أصبح كوحشٍ ينهش روحه.
كل ما يريده هو أن يراها… أن تلتقي عيناه بعيني "وعد"، فقط لحظة، ليهدأ ذلك الجنون داخله.
لكن كيف؟ الرجال يملأون المكان، وحديثهم لا ينتهي، وكأن القدر يتعمّد أن يعاقبه بالانتظار.
وأخيرًا، جاء وقت الطعام.
تحركوا جميعًا نحو المائدة الطويلة، تنعكس عليها الأضواء وتلمع فيها أدوات الطعام الفضية كأنها تستعد لوليمة ملكية.
جلس "شهاب" في مكانه، وعندما رفع رأسه، رآها.
كانت "وعد" تجلس أمامه مباشرة، رقيقة كنسمة، وجهها مضاء بنورٍ خافت جعلها تبدو كأنها لوحة خرجت من بين أنامل رسّام عاشق.
بجانبها "راندة"، التي التقطت بسهولة نظرات "شهاب" المشتعلة، فارتسمت على وجهها ابتسامة خفيفة، تجمع بين الفهم والشفقة.
أما "ريما"، فكانت إلى جوار زوجها "إبراهيم"، تتبادل معه كلمات قصيرة وابتسامات دافئة.
و"نوح" جلس إلى جانب "نور"، التي لم تستطع أن تضع لقمة واحدة في فمها؛ عينا عمّها لم تتركاها لحظة، نظراته كانت سيوفًا صامتة من الاحتقار والعتاب.
قطع هذا الهدوء الممشوق صوت رنين الهاتف.
تجمّد الجميع لوهلة، ثم مدّ "نوح" يده إلى جيبه وأخرج هاتفه، نظر إلى الشاشة فعقد حاجبيه بحيرة.
"يمن" تتصل به؟
منذ شجارهما الأخير وهي لم تحاول التواصل معه أبدًا… ولم ينسَ أنها غادرت القصر صباحًا مع "أيان"، ولم يعودا بعد.
اعتذر منهم بنبرة سريعة، ونهض مبتعدًا عن المائدة، خطاه مسرعة نحو الشرفة الجانبية، الهواء البارد يصفع وجهه، والقلق بدأ يتسلل لعروقه.
ضغط على زر الرد علي الاتصال ، وما إن كاد يتحدث حتى دوّى صوتها في أذنه، صوت مرتجف يقطّع أنفاسه:
ـ الحقني يا نوح.
تجمّد في مكانه، الدم انكمش في عروقه، وصوت دقّات قلبه صار كطبول الحرب.
عيناه اتسعتا بخوفٍ هائل، وكأن الأرض تزلزلت تحت قدميه…
❈-❈-❈
مرّت دقائق طويلة أثقل من الساعات، والهدوء بدأ يتحول لتوتّر صامت بين الجالسين.
العيون تتلاقى بتساؤلٍ خفيّ، والهمسات تدور بين المقاعد، فالجميع بدأ يتساءل:
أين ذهب "نوح"؟
نهضت "نور" بقلقٍ واضح، خطواتها مترددة وهي تمسح المكان بعينيها، تبحث عنه بين الغرف والممرات الطويلة للقصر، وصوت كعب حذائها يرتد في الأرجاء كصدى الخوف.
مدّت يدها إلى الهاتف علّها تجد إجابة، وقبل أن تتصل، اهتزّ الجهاز بين يديها، يعلن عن اتصال منه.
اتسعت عيناها ورفعت الهاتف بسرعة، لترد بصوتٍ خافت يحمل كل اللهفة والارتياح معًا:
ـ انت فين يا نوح؟؟
كان صوته يأتيها من بين أنفاسٍ متقطعة، يمتزج فيها الثبات الظاهري بعاصفةٍ داخلية من الخوف.
يقود سيارته كالمجنون، الشوارع تمر بجانبه كظلالٍ باهتة، وصوت المحرك يعلو كنبض قلبه المضطرب.
ومع ذلك، جاء رده هادئًا، متماسكًا، كعادته حين يحاول أن يخفي النار خلف صوته:
ـ في مشكله في الشركة، اضطريت إني أروح ليها، وهاجي على طول، بلّغيهم وقوليلهم مش هيتأخر.
كذب.
نعم، كذب عليها، وهذه كانت المرة الأولى، لكنها كذبة اضطرارية، ثقيلة على صدره.
لم يملك خيارًا آخر… لا يريد أن يُقلق أحدًا، ولا يريد أن تصل "جدته" أدنى رائحة خوف.
كل ما يشغل قلبه الآن هو "يمن" وصوتها المرتجف الذي لم يفارقه.
أما "نور"، فقد عقدت حاجبيها بقلقٍ حقيقي.
ملامح وجهها كرّمشها التوتر، وصدرها يعلو ويهبط بسرعة، فهي تعلم أن غيابه ليس أمرًا بسيطًا.
وجوده فقط في المكان يمنحها الأمان… وها هو الآن بعيد.
الخوف بدأ يتسلّل إليها كنسمةٍ باردة في منتصف الليل.
شعر "نوح" بصمتها من الطرف الآخر، صمتًا ثقيلًا مشبعًا بالخوف، فشدّ على المقود وهتف بصرامةٍ صادقة لا تليق إلا بـ"نوح النويري":
ـ شوفي مين مزعلك، وحطي صوابعك الاتنين في عينه، وأنا أجي أكملك.
ضحكت بخفة رغم كل شيء، ابتسامة مرتجفة خفّفت عنها القلق للحظة، ثم همست لأول مرة بصوتٍ يقطر حُبًا واهتمامًا لم تستطع إخفاءه:
ـ متتأخرش عليا يا نوح.
ساد صمتٌ قصير، فقط أنفاسهما تتنفس بعضها، ثم جاء صوته عميقًا، دافئًا كحضنٍ بعيد:
ـ حاضر يا قلب نوح، اقفلي دلوقتي وأنا شوية وهرن عليكي تاني… سلام يا عمري.
أنهى المكالمة، وأغلق الخط بعجلة، بينما أنفاسه لا تزال تتسابق، كأنها تلهث خلف الوقت الذي يضيع.
أما "نور"، فبقيت ممسكة بالهاتف لثوانٍ، تحدّق في الشاشة المظلمة وكأنها تحاول استيعاب ما حدث.
ثم استجمعت نفسها، دخلت إلى الغرفة بخطواتٍ هادئة، وابتسامة مصطنعة على شفتيها وهي تهتف للجميع بخفوتٍ مرتبك:
ـ "نوح" عنده مشكله صغيرة في الشركة، هيحلها بسرعة وهايرجع على طول.
تفهّم الجميع الموقف، وهزّوا رؤوسهم بلا اعتراض، وبدأ الحديث يدور حول أمورٍ أخرى لتخفيف التوتر.
حاول "إبراهيم" و"آسر" و"وعد" الاتصال به أكثر من مرة، لكن الهاتف ظلّ صامتًا، لا يجيب.
نظرات القلق تبادلت بينهم، لكنهم التزموا الصمت… ربما فعلاً منشغل بالعمل.
وبعد أن انتهى العشاء، تحركوا جميعًا إلى الحديقة الخلفية للقصر، حيث الهواء يعبق برائحة الورد الليلي، والأضواء تتراقص بين الأشجار في مشهدٍ يبدو هادئًا من الخارج…
لكن خلفه، كانت العاصفة قد بدأت بالفعل.
❈-❈-❈
كانت أروقة القصر تضجّ بصمت ثقيل، صمت يشبه صوت الصرخات المكتومة خلف الجدران العالية المزخرفة بالنقوش الذهبية العتيقة.
الثُريّات البلّورية المعلقة في السقف الشاهق تعكس ضوء المصابيح على الأرض الرخامية اللامعة، فتبدو الأرض وكأنها بحيرة من الضوء الهشّ الذي يتكسّر تحت وقع الأقدام المتوترة.
رائحة عطر الخشب القديم ممتزجة برائحة الورود البيضاء في الفازات الكبيرة عند أطراف القاعة، كأن كل شيء في المكان شاهد على ما يحدث الآن.
ـ نور؟؟
التفتت ببطء إلى مصدر الصوت، كأن رأسها يزن أطناناً. وجدت "ابراهيم" واقفاً على بعد خطوات منها، نظراته قلقة، وحاجباه معقودان في انحناءة حزن.
حاولت أن ترسم على شفتيها ابتسامة، فخرجت ابتسامة مرتعشة، هشّة، لكنها كانت واضحة بالنسبة له كأنها استغاثة وليست ابتسامة.
مما سألها بقلق وهو يتفحص ملامحها:
ـ انتِ كويسه؟؟
تراجعت خطوة للوراء، كأن الأرض تهتز تحتها. عيناها تلمعان بدموع محبوسة، تخبئ وراءهما وجعاً لم يلتئم، تخبئ ماضياً مظلماً، ثقيلاً، تحاول أن تدفنه، لكنها الآن عاجزة عن دفنه.
ارتعشت وهي تتذكر كلمات عمّها، تلك الكلمات التي كانت مثل شفرات، تغرز في قلبها، تحاول أن تبقى ثابتة أمامها، لكن جسدها كان يخذلها.
ولكنها لم تستطع.
لم تستطع الآن الصمود.
هربت دمعة من خديها، سارت ببطء على بشرتها الشاحبة كأنها تفضحها أمام الجميع. ونظرت خلف "ابراهيم"، فوجدت عمها "عادل" واقفاً هناك، ينظر إليها بنظرات مشمئزة، كأنها نجس، نظرات جعلت قلبها يؤلمها أكثر وأكثر حتى شعرت بوخز في صدرها.
تجاهلت "ابراهيم" رغم أن صوته كان يحاول أن يمسكها من حافة الانهيار، وأخذت تقترب من عمها بخطوات مكسورة، تهتف بقهر هذه المرة، قهر نابع من أعماق قلبها الممزق:
ـ اسمع يا عمي انا مكنش قصدي اقـ ـتل رحيم مكنش قصدي اقتـ......
صفعة قوية قطعت اعترافها قبل أن يكتمل، صفعة من يد عمّها نزلت على وجهها كالرعد، صوتها ارتطم بجدران القصر وارتد صداه بين الثُريّات.
سقطت على الأرض من قوة الضربة، جسدها ارتطم بالرخام البارد الذي لسع جلدها.
اقترب منها "ابراهيم" بسرعة، يده ممدودة ليسندها، لكن "أسر" سبقه، مدّ يده بقوة، رفعها ببطء وجعلها تقف على قدميها، وعيناه تشتعلان غضباً مكتوماً.
"أسر" نظر لعمه "عادل" بنظرات نارية، وجهه مشدود، شفتاه منطبقتان بإحكام، لم يعجبه الوضع أبداً، بدا وكأنه على وشك الانفجار.
بكت "نور" وهي تنظر إلى عمها بعتاب كبير، عتاب مكسور يقطر من عينيها كالمطر.
تجاهل "عادل" نظراتهم جميعاً وهو يرفع سبابته أمامها بغضب واضح، صوته خرج كزئير:
ـ اسمعي بقي يا لعنة، رحيم ابني متجبيهوش علي لسانك القذر ده تاني، ولو حاولتي تستجرئي ان......
لم يكمل جملته، لأن صفعة أخرى التقت على خديه بعنف غير متوقع.
تراجع إلى الخلف من المفاجأة، صدمة واضحة على وجهه القاسي.
الجميع شهق، الهواء في القاعة صار أثقل. كانت "حميدة النويري" هي التي صفعته، يدها ارتفعت وهوت على وجهه كأنها كفّ العدالة.
نظر لها بغضب وهتف بعصبية من الذي فعلته للتو:
ـ انتي ازاي تستجرئي يا ست انتِ انك تضربيني بشكل ده و.....
قطعته هي للمرة الثانية وهي ترفع سبابتها عليه بوقاحة لم يعرفها منها من قبل:
ـ انت اللي ازاي تستجرأ انك تمد ايدك علي مرات نوح النويري.
بينما أكملت وهي تصيح بحدّة، صوتها كالسوط يجلد صمته:
ـ انت اتجننت، حسك عينك، تقرب لـ نور تاني، مش عشان نوح مش هنا تعمل اللي انت عايزهه، انت هنا في قصر النويري، ومتنساش انك في بيت نور اللي ضربتها قدام الكل.
بينما أكملت وهي تمسك يـ ـد "نور" وتسحبها إلى جانبها بدون خوف، تنظر له بشرارة لا تنطفئ:
ـ اعتذر منها، حالاً
"نور" عقدت حاجبيها بحيرة من تصرف "حميدة".
ماذا طلبت منه للتو؟ أيعتذر؟ ومن مِن؟ من تلك التي يسميها لعنة، التي أصابت بيته، وقتلت ابنه؟
اقترب هو منها وقال بحدّة وحيرة من تصرفاتها:
ـ انت باين عليكي ولية خرفتي، اعتذر من مين؟؟.
ـ نعم وليه مين اللي خرفت يا جدع انت، ما تحترم نفسك.
قالتها "وعد" باندفاع وعصبية وقد نسيت تماماً كل الاحترام الذي علمته جدتها، نبرتها خرجت كالسهم.
تدخلت أيضاً "كاميليا" وهي ترفع سبابتها نحوه، هتفت بشراسة أخفتها طويلاً:
ـ انما انت راجل مش محترم بصحيح، اطلع برا يا راجل انت.
أشارت "حميدة" بيديها أمام أحفادها بأن يصمتوا، أصابعها مرتجفة لكنها قوية، وبالفعل صمتوا.
هتفت هي بنبرة لا تبشر بالخير، نبرة باردة لكن فيها تهديد صريح:
ـ هيمشي بس هيمشي لما يعتذر الأول.
ابتسم بسخرية كأنه يسخر منها ومن حديثها، رفع حاجبيه استهزاءً وهتف بصوت منخفض لا يسمعه إلا هي:
ـ اعلي ما في خيلك اركبيه، ومش هعتذر.
اقتربت منه "حميدة" هذه المرة خطوة بخطوة، صوتها خرج منخفضاً لكن ملأ القاعة بالتهديد، جعل قلبه يطرق كالطبول داخل صدره:
ـ تمام متعتذرش، بس لو معتذرتش، هخلي الكدبة بتعتك تبقي حقيقه، وهخليك تقرأ الفاتحه علي بنتك.
ارتعش وهو ينظر لها بصدمة، ارتجفت يداه للحظة من هول ما سمع، هي تعرف ذلك السر اللعين؟ السر الذي دفنه عميقاً؟ رمش عدة مرات، توتره فضحه، صوته خرج مبحوحاً:
ـ قصدك علي مين؟؟
ابتسمت هي ابتسامة مرعبة، ابتسامة لم تحتج إلى كلمات، ابتسامة ردت له جوابه بتلك الابتسامة وحدها، ابتسامة كأنها تقول: "أنا أعرف كل شيء".
يتبع...
