رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الخاتمة 1 - جـ 1 - السبت 4/10/2025
قراءة رواية ثنايا الروح كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية ثنايا الروح
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رانيا الخولي
الخاتمة 1
الحزء الأول
تم النشر السبت
4/10/2025
كان صباحاً مشمساً وهادئاً في بيت الجبل جلس جاسر ونغم وونس حول مائدة الإفطار في الشرفة يستمتعون بالهواء النقي وصوت العصافير
كان جاسر يرتشف من قهوته وهو يراجع بعض الأوراق الخاصة بالقضية بينما كانت ونس تقطع بعض الفاكهة ونغم تحدق في طبقها بشرود واضح.
لاحظ جاسر صمتها غير المعتاد كانت تقلب قطعة الجبن في طبقها دون أن تأكل وشفتيها مطبقتان بقلق، رفع عينيه عن الأوراق ونظر إليها بتركيز
_نغم حبيبتي إنتي كويسة؟
انتبهت نغم لسؤاله فجأة وكأنها كانت في عالم آخر رفعت رأسها بسرعة وابتسمت ابتسامة مرتبكة
_ها؟ آه آه كويسة يا حبيبي الحمد لله.
لكن عينيها سرعان ما تحولتا نحو ونس في نظرة صامتة تحمل سؤالاً واضحاً:
أقول له؟ كيف أبدأ؟
فهمت ونس نظرة الاستغاثة تلك، هزت رأسها بيأسٍ مصطنع وكأنها تقول منكِ لله هورطتيني
ثم نهضت بهدوء وهي تمسح يديها بمنديل
_أنا هقوم أشوف سامية عملت الشاي ولا لسه.
اتسعت عينا نغم بصدمة وهي تتابع حماتها بنظراتها وكأنها طفل صغير تركته أمه وحيداً في موقف صعب، همست بصوتٍ خافت لم يسمعه سوى جاسر
_بتخلعي ماشي يا حماتي.
ازداد قلق جاسر وهو يرى هذا الحوار الصامت وضع الاوراق جانباً تماماً وترك فنجان قهوته مد يده وأمسك بيدها ونبرته أصبحت أكثر جدية
_نغم فيه إيه بجد؟ قلقتيني.
أخذت نغم نفساً عميقاً وجمعت شجاعتها نظرت في عينيه بتردد وقالت بصوتٍ منخفض
_أنا أنا كنت عايزة أروح لـ زينة
عقد جاسر حاجبيه باستغراب
_زينة؟ ليه؟ إنتي تعبانة؟
هزت رأسها نافية بسرعة
_لأ الحمد لله، بس يعني عشان أطمن إن موضوع السجط اللي فات ده مش هيأثر على على حمل تاني في المستجبل.
تنهد جاسر تنهيدة طويلة تحمل تعباً وقلقاً عليها لقد مر وقت قصير على تلك الحادثة الأليمة وهو لا يريدها أن تفتح جروحاً لم تلتئم بعد أو أن تضع نفسها تحت ضغط نفسي جديد
_وبعدين يا نغم؟ أنا مش فاهم ليه الاستعجال ده؟ إحنا لسه يا حبيبتي بنعدي من اللي فات.
لمعت الدموع في عينيها وهي ترد بحماس وشوق
_عشان نفسي في طفل منك يا جاسر، نفسي في حتة منك ومني تكبر جدام عينينا أنا بحب الأطفال جوي ونفسي أكون أم
رق قلبه لكلماتها ورغبتها الصادقة، كان هو أيضاً يريد ذلك أكثر من أي شيء في العالم، لكنه كان يخشى عليها
_يا حبيبتي وأنا كمان نفسي بس اصبري شوية، خلي الأمور تهدى خالص وأنا أوعدك هوديكي بنفسي ونطمن.
أومأت برأسها موافقة لكنه لاحظ كيف انطفأت لمعة عينيها وكيف سحبت يدها ببطء وارتسم على وجهها حزن خفيف حاولت إخفاءه، لم يحتمل رؤيتها بهذا الشكل كيف يرفض لها طلباً وهي التي أعادت له الحياة؟
أغمض عينيه للحظة ثم فتحهما وقد اتخذ قراره
_خلاص خلاص متزعليش ...
قالها بابتسامة مستسلمة
_ماشي يا ستي جومي البسي هدومك عشان ألحج أرچع أراچع الجضية دي
في لحظة تبدل حالها تماماً لمعت عيناها بفرحة طفولية واتسعت ابتسامتها حتى كادت تصل إلى أذنيها لم تصدق أنه وافق قفزت من مكانها بسرعة وانحنت لتقبّله قبلة خاطفة على خده وقالت بصوتٍ يغمره الامتنان والسعادة
_حبيبي! أنت أحسن زوج في الدنيا كلها!
وانطلقت تجري إلى داخل المنزل لتغير ملابسها تاركة إياه يبتسم وهو يهز رأسه، سعادتها كانت أولويته دائماً وحتى لو كان قلقاً فإن رؤية هذه الفرحة على وجهها تستحق كل شيء.
❈-❈-❈
كانت عيادة الدكتورة زينة هادئة ومريحة تفوح منها رائحة معقمة لطيفة، ما إن دخل جاسر ونغم حتى استقبلتهما زينة بابتسامتها المعهودة وترحيبها الصاخب الذي يبعث على الألفة
_أهلاً أهلاً العيادة نورت بوچودكم مش معجول جاسر باشا بنفسه عندنا.
صافحها جاسر بابتسامة بينما احتضنت زينة نغم بحرارة.
جلس جاسر على أحد المقاعد وبدا عليه الانشغال وهو يلقي نظرة سريعة على ساعته
_أهلاً بيكي يا زينة معلش چينا من غير معاد بس المدام عندك هي اللي صممت.
نظرت زينة إلى نغم التي كانت تجلس على طرف مقعدها بتوتر ثم عادت بنظرها إلى جاسر
_خير؟ في حاچة يا نغم؟
تكلم جاسر نيابة عنها محاولاً إنهاء الأمر بسرعة
_نغم عايزة تطمن إن الإجهاض اللي اتعرضت له جبل اكده مسببش أي ضرر أو مشاكل يعني للمستقبل.
أدارت زينة عينيها نحو نغم ونظرت إليها بغيظٍ مصطنع
_ديما اكده؟ مش جادرة تصبري أبداً دايمًا مستعچلة على رزجك يا نغم.
ثم ابتسمت بحنان وأضافت
_ ولا يهمك يا حبيبتي نطمن ونعمل كل الفحوصات اللازمة.
بدأت زينة في إجراء الفحوصات الأولية وطلبت من الممرضة سحب عينة دم من نغم لعمل بعض التحاليل الهامة.
مر الوقت وجاسر يزداد تململاً، رن هاتفه عدة مرات وفي كل مرة كان يجيب بصوتٍ منخفض وقلق في المكالمة الأخيرة بدا الأمر ملحاً.
أنهى المكالمة وتوجه إلى زينة
_زينة أنا آسف جداً بس چالي تليفون مهم ولازم أمشي فوراً الموضوع يخص القضية
نظرت إليه زينة بتفهم
_خلاص يا جاسر روح مشوارك ومتجلجش نغم هتفضل معايا لحد ما نتيچة التحاليل تطلع وأنا هوصلها بنفسي لحد البيت متشلش هم.
تردد جاسر فلم يكن يريد ترك نغم وحدها، نظر إليها وسألها بعينيه فأومأت له برأسها موافقة وهي تبتسم لتطمئنه.
_متأكدة يا زينة؟ مش عايز أتعبك.
_عيب عليك يا جاسر دي أختي الصغيرة، يلا روح والحق شغلك.
قبّل جاسر رأس نغم وهمس لها
_كلميني أول ما تخلصي.
ثم غادر العيادة على عجل
بمجرد أن غادر جاسر ساد جو من الألفة بين نغم وزينة، وبعد فترة من الانتظار دخلت الممرضة وهي تحمل نتيجة تحليل الدم، أخذتها زينة وبدأت تقرأها بتركيز وتغيرت ملامح وجهها تدريجياً من الجدية إلى الدهشة ثم إلى ابتسامة واسعة جداً.
رفعت عينيها لتنظر إلى نغم التي كانت تراقبه بقلق شديد وقلبها يكاد يقفز من صدرها
_نغم شكلك مش بس مستعجلة ده إنتي سبقتي الأحداث كلها.
لم تفهم نغم مقصدها
_يعني إيه يا زينة؟ فيه حاچة وحشة؟
ضحكت زينة بصوتٍ عالٍ ونهضت من مكانها واقتربت من نغم واحتضنتها بقوة
_حاچة وحشة؟ دي أحلى حاچة في الدنيا مبروك يا حبيبتي التحليل بيجول إنك حامل.
تجمدت نغم في مكانها للحظة وكأنها لم تستوعب الكلمة
_إيه؟ حامل؟ كيف؟
قالت زينة وهي تضحك بسعادة
_زي الناس يا هانم مبروك يا ماما ألف ألف مبروك.
بدأت الدموع تتجمع في عيني نغم لكنها لم تكن دموع حزن هذه المرة بل دموع فرحة نقية، لم تشعر بها من قبل لم تكن الفرحة تسعها، لم تكن الأرض تسعها شعرت بأنها تطير وضعت يدها على بطنها بشكل لا إرادي وهمست
_حامل! أنا حامل؟!
هدأت زينة من حماسها قليلاً لتشرح لها الوضع
_بصي يا نغم الحمل لسه في أوله خالص عشان كده ظاهر في تحليل الدم بس، لسه مش ظاهر في السونار أنا عايزة منك راحة تامة الفترة دي وهتيجيلي كمان أسبوعين يكون الحمل كبر ووضح أكتر في الأشعة ونشوف النبض سوا.
أومأت نغم برأسها وهي لا تزال في حالة من الصدمة السعيدة ودموع الفرح تنهمر على خديها بلا توقف أخيراً حلمها الأكبر على وشك أن يتحقق
❈-❈-❈
توقفت سيارة زينة أمام بيت الجبل، ولم تكد السيارة تتوقف تماماً حتى فتحت نغم الباب وهي لا تزال تبتسم
ابتسامة عريضة تضيء وجهها بالكامل كانت في قمة سعادتها، تشعر وكأنها تمتلك العالم بين يديها.
نزلت زينة من السيارة معها وأمسكت بذراعها بحنان وهي توصلها إلى الباب
_نغم اسمعيني كويس الفترة الأولى دي أهم فترة مفيش مجهود، مفيش حركة زيادة، والأهم... مفيش أي توتر أو زعل اتفقنا؟
أومأت نغم برأسها بحماس وعيناها تلمعان ببريق الأمومة المنتظرة
_اتفقنا يا أحلى دكتورة في الدنيا.
احتضنتها نغم بقوة مرة أخرى
_شكراً يا زينة شكراً على كل حاجة، مش عارفة أقولك إيه.
ثم تراجعت خطوة وقالت برجاء _طب اتغدي معانا، أرجوكي لازم تحتفلي معايا.
ابتسمت زينة واعتذرت بلطف
_يا حبيبتي ألف هنا على قلبكم بس والله عندي عيادة بعد ساعة ولازم ألحق أرجع المرة الجاية أوعدك.
غمزت لها وأضافت
_المرة الجاية في احتفال أكبر.
ودعتها نغم وهي تلوح لها حتى اختفت سيارتها عند المنعطف
أخذت نفساً عميقاً ووضعت يدها على بطنها بحب، ثم فتحت باب البيت ودخلت وهي تكاد تجري من فرط حماسها.
وجدت ونس تجلس في غرفة المعيشة تقرأ القرآن ما إن رأتها، حتى تركت نغم كل شيء وركضت نحوها وارتمت في حضنها بقوة وعيناها مغمورتان بدموع الفرح.
تفاجأت ونس من هذا الاندفاع، لكنها احتضنتها بقلق وحب
_بسم الله الرحمن الرحيم! مالك يا بنتي؟ فيه إيه؟ خوفتيني.
ابتعدت نغم قليلاً ومسحت دموعها السعيدة بكفها، ونظرت في عيني حماتها وقالت بصوتٍ يرتجف من الفرح
_هتبجي جدة يما... أنا حامل!
اتسعت عينا ونس بصدمة سعيدة للحظة لم تنطق ثم تهلل وجهها بفرحة صادقة ونقية نهضت وشدّت نغم إلى حضنها مرة أخرى، لكن هذه المرة بحرص أكبر.
_يا ألف نهار أبيض يا ألف نهار مبروك! اللهم لك الحمد، والشكر يا حبيبتي يا بنتي، ألف مبروك.
ظلت تربت على ظهرها بحنان ثم ابتعدت لترى وجهها المشرق
_الحمد لله ربنا جبر بخاطركم أومال فين جاسر؟ لازم أبارك له بنفسي زمانه طاير من الفرحة.
هزت نغم رأسها وهي تضحك
_هو لسه ميعرفش جاله تليفون مهم في العيادة واضطر يمشي جبل ما النتيچة تطلع.
رفعت نغم حقيبة يدها الصغيرة التي كانت تحملها، وفتحتها بحماس
_بس أنا هعرفه بطريجتي الخاصة.
نظرت ونس إليها بفضول
_إيه اللي معاكي ده؟
أخرجت نغم من الحقيبة علبة صغيرة وفتحتها لتكشف عما بداخلها.
كان زوجاً من الأحذية الصغيرة جداً من الصوف الأبيض الناعم بحجم يناسب طفلاً حديث الولادة.
_عديت أنا وزينة على محل أطفال واشتريته.
قالتها بفخر وسعادة
أمسكت ونس بالحذاء الصغير بين يديها وابتسامة حنونة وواسعة ارتسمت على وجهها، كانت تنظر إليه وكأنها ترى حفيدها المستقبلي ماثلاً أمامها.
_يا حبيبي... يا جلبي... الله يتمم لك على خير يا بنتي.
رفعت رأسها ونظرت إلى نغم بعينين تلمعان بالفرح
_فكره حلوة جوي اعمليله مفاچأة ميحلمش بيها يستاهل يفرح، ربنا يعوض صبره خير.
أومأت نغم بحماس وعقلها بدأ بالفعل يرسم سيناريو اللحظة التي ستقدم فيها هذه الهدية الصغيرة لجاسر، الهدية التي تحمل بداخلها أكبر خبر في حياتهما.
عاد جاسر إلى البيت في وقت متأخر من الليل.
كان يشعر بالإرهاق، ليس فقط من عناء العمل ومتابعة القضية المعقدة بل من ثقل القرارات التي اتخذها والتي ستغير حياة عائلته إلى الأبد كل ما كان يتمناه هو أن يجد السكينة في حضن نغم.
صعد درجات السلم بهدوء وفتح باب غرفة نومهما
تفاجئ حين وجد الغرفة غارقة في الظلام، على غير عادتها
عادة ما تتركه نغم مضاءً بضوء خافت حتى يعود، تسلل القلق إلى قلبه للحظة فنادى بصوتٍ خفيض
_نغم؟
لم يأتِ رد تحرك بخطوات حذرة نحو مفتاح النور بجانب الباب، وضغط عليه.
أضاءت الغرفة وفي اللحظة التي غمرها النور تجمد جاسر في مكانه عيناه تسمرتا على السرير في منتصف الوسادة الخاصة به، كانت تستقر علبة مخملية صغيرة زرقاء، مفتوحة بعناية.
عقد حاجبيه في حيرة وتقدم ببطء نحو السرير وكأنه يخشى أن يكون ما يراه مجرد سراب.
انحنى فوق العلبة ليرى ما بداخلها بوضوح كان زوجاً من الأحذية الصوفية البيضاء الصغيرة... لطفل حديث الولادة.
ظل يحدق به لثواني طويلة وعقله يحاول أن يجمع قطع اللغز
لم يفهم هل هي هدية رمزية؟ أمنية للمستقبل؟
كان قلبه يخفق بشدة لكنه لم يجرؤ على القفز إلى الاستنتاج الذي بدأ يتشكل في أعمق ركن من روحه.
وفجأة شعر بأنفاس دافئة بالقرب من عنقه، وصوت همس ناعم كالحرير داعب أذنه حاملاً معه كلمتين هزتا كيانه:
_مبروك... يا بابا.
استدار جاسر بسرعة البرق كانت نغم تقف خلفه مباشرة ترتدي ثوباً أبيض بسيطاً وعلى وجهها ابتسامة هي الأجمل على الإطلاق، وعيناها تلمعان بدموع الفرح المكتومة.
نظر إليها وهو لا يصدق كان الخوف من أن يكون هذا حلماً أو وهماً يصارع الأمل الجارف الذي انفجر في صدره.
أمسك بذراعيها، وعيناه تبحثان في عينيها عن الحقيقة عن تأكيد يريح قلبه المعلق.
_نغم...
قال بصوتٍ متحشرج
_أرجوكي... متلعبيش بيا ده... ده بجد؟
أومأت برأسها ببطء والدموع تنساب الآن على خديها وهي تبتسم.
_حجيجي يا جاسر... حجيجي أكتر من أي حاچة في الدنيا أنا حامل.
في تلك اللحظة تحرر كل التعب والإرهاق من جسد جاسر وحل محلهما شعور عارم بالفرح الخالص، فرح نقي وقوي كاد أن يطرحه أرضاً لم ينطق بكلمة، بل أطلق ضحكة عالية ومدهوشة ثم انحنى بسرعة وحملها بين ذراعيه ودار بها في منتصف الغرفة.
كانت ضحكاتهما تمتزج معاً ضحكات صافية وسعيدة تردد صداها في أرجاء البيت الهادئ.
كانت نغم تتشبث به وتضحك من قلبها وتشعر بأنها أسعد امرأة في الكون.
بعد أن دار بها عدة مرات أنزلها برفق على الأرض لكنه لم يبتعد ظل يحيطها بذراعيه، ووضع جبهته على جبهتها وأغمض عينيه وهو يحاول استيعاب حجم سعادته.
سألها بعتاب محبب
_ليه؟... ليه متصلتيش بيا أول ما عرفتي؟ كنت محتاچ أسمع الخبر ده أكتر من أي حاچة في الدنيا.
مررت يدها على شعره بحنان
_كنت عايزة أشوف الفرحة دي في عينيك بنفسي حبيت أعملهالك مفاجأة... عشان تكون لحظة بتاعتنا إحنا وبس.
نظر في عينيها المليئتين بالحب ثم انحنى وقبّلها قبلة طويلة وعميقة قبلة لم تكن كأي قبلة من قبل.
كانت تحمل شكراً وامتناناً ووعداً وفرحة لا يمكن للكلمات أن تصفها.
وضع يده برفق شديد على بطنها ونظر إليها بعينين مشبعة بالعشق
وهمس بصوتٍ يملؤه الرهبة والدهشة،
_اهنه....حتة مني ومنك بتكبر اهنه.
رفعت نغم وجهها إليه وقالت بحب _ابننا يا جاسر... أو بنتنا.
حملها بين ذراعيه لكن هذه المرة بهدوء وحرص شديدين ووضعها على السرير كأنها أثمن جوهرة في العالم استلقى بجانبها وضمها إلى صدره ودفن وجهه في عنقها وهو يهمس بكلمة واحدة تُلخص كل شيء
"بحبك."
❈-❈-❈
لم تعد الصباحات في بيت الجبل تبدأ بشروق الشمس أو صوت العصافير، بل كانت تبدأ بحركة نغم المفاجئة وهي تنهض من السرير وتضع يدها على فمها راكضة نحو الحمام.
في أحد هذه الصباحات استيقظ جاسر على الفور كعادته منذ بدأت أعراض الحمل تظهر عليها، قفز من السرير ليتبعها لكنها استوقفته بيدها عند باب الحمام.
_لأ يا جاسر... خليك، أنا كويسة.
قالتها بصوتٍ مكتوم ووجهها شاحب
كانت تكره أن يراها في هذه الحالة الضعيفة لكن جاسر لم يكن ليقبل هذا الرفض أبداً
دفع الباب برفق ودخل وراءها متجاهلاً احتجاجها الخافت.
قال بنبرة حازمة لا تقبل النقاش، لكنها مليئة بالحنان
_مفيش حاجة اسمها خليك.
انحنت نغم فوق حوض الحمام وبدأ الغثيان الصباحي المؤلم وعلى الفور، كان جاسر بجانبها لم يتردد لحظة بيدٍ جمع شعرها الطويل وأمسكه بعيداً عن وجهها وباليد الأخرى كان يسند جبهتها برفق ويفرك ظهرها بحركة دائرية هادئة.
همس بجانب أذنها
_طلّعي كل اللي تاعبك يا حبيبتي... أنا معاكي.
كان وجوده بحد ذاته مهدئاً صوته لمسته ودعمه الصامت جعلوا هذه اللحظات الصعبة أقل قسوة.
بعد أن انتهت وهدأت قليلاً كانت تشعر بالإنهاك
لم تكن لديها القوة حتى لرفع رأسها.
بكل هدوء فتح جاسر صنبور المياه وبلل منشفة صغيرة ومسح وجهها وشفتيها برفق شديد مزيلاً أي أثر للتعب ثم دون أن ينطق بكلمة، انحنى وحملها بين ذراعيه كأنها ريشة خفيفة.
همست بتعب
_جاسر... أقدر أمشي.
أسكتها وهو يسير بها نحو السرير.
_هششش مهمتك دلوقتي إنك ترتاحي وبس.
وضعها على السرير برفق وغطاها جيداً ثم جلس بجانبها يمرر يده على شعرها حتى غفت مرة أخرى وهي تشعر بأمان لا مثيل له.
مرت الشهور وبدأت بطن نغم تكبر وتستدير بشكل واضح خاصة بعد أن فاجأتهم الدكتورة زينة بخبر آخر:
لم يكن هناك طفل واحد، بل اثنان كانت نغم حاملاً في توأم.
الفرحة كانت لا توصف لكن معها زاد الثقل وزادت المتاعب أصبحت حركتها أبطأ وأكثر حذراً أبسط المهام كالانحناء لالتقاط شيء من الأرض أو حتى ارتداء حذائها أصبحت تحدياً كبيراً.
وهنا كان جاسر هو ظلها الذي لا يفارقها.
في إحدى الأمسيات كانت نغم تحاول ارتداء حذائها المنزلي للذهاب إلى الشرفة انحنت بصعوبة، وتأوهت بألم خفيف وهي تحاول الوصول إلى قدميها.
فجأة شعرت بيدين قويتين تمنعانها من الانحناء.
كان جاسر قد جلس على ركبتيه أمامها على الأرض
قال بابتسامة دافئة
_سيبي الموضوع ده عليا.
أمسك بقدمها برقة وألبسها الحذاء ثم فعل الشيء نفسه مع القدم الأخرى
رفعت نغم حاجبها بدهشة مصطنعة
_جاسر بيه بنفسه بيلبسني.
نظر إليها من مكانه وهو لا يزال جاثياً على ركبتيه، وابتسم
_جاسر بيه وكل ما يملك تحت أمرك إنتي واللي في بطنك.
لم يكن هذا الموقف الوحيد كان يصر على مساعدتها في النهوض من الأريكة واضعاً وسادة خلف ظهرها دائماً.
كان يستيقظ في منتصف الليل ليحضر لها كوب الماء الذي تطلبه أو قطعة الفاكهة التي تشتهيها فجأة
كان اهتمامه يتجلى في كل تفصيلة صغيرة، في نظرات الحب والقلق في عينيه كلما رآها تتألم، في لمساته الحنونة على بطنها، وفي كلماته التي كانت دائماً ما تجعلها تشعر بأنها ملكة متوجة على عرش قلبه. لقد حوّل فترة الحمل المليئة بالتعب إلى أجمل رحلة، رحلة يخوضانها معاً، يداً بيد، وقلباً بقلب.
❈-❈-❈
بعد مرور ثلاثة أشهر كانت حديقة قصر عائلة الرفاعي تعج بالحياة والألوان.
الشمس كانت دافئة وحنونة والضحكات كانت تتناثر في الهواء كأنها جزء من عبير الزهور.
كان الحاج وهدان يجلس في صدر المجلس الخارجي يراقب أحفاده وأبناءهم بعينين تلمعان بالرضا والسعادة.
بجانبه كان يجلس سالم ومالك بينما كانت روح ووعد ونغم يجلسن على مقربة يتبادلن أطراف الحديث وهن يراقبن أطفالهن.
كانت الأجواء مثالاً للسكينة الأسرية مالك كان يروي موقفاً طريفاً حدث معه في العمل، والجميع يضحكون من قلوبهم.
كانت روح تنظر إليه بحب عميق، ذلك الحب الذي نضج وتجذر، كانت طفلتهما تحبو بخطوات مترنحة على العشب الأخضر، تكتشف العالم بعينيها الواسعتين.
على بعد أمتار قليلة كان عدي الصغير ابن سند ووعد، طفل في مثل عمرها تقريباً فقط يكبرها بأربع شهور يراقبها بتركيز شديد، كأنه حارسها الشخصي الذي لا يغفل عنها لحظة.
فجأة، قطع هذا الهدوء صوت صراخ وبكاء حاد.
صرخة طفل صغير لكنها مليئة بالهلع.
