رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 50 - جـ 1 - الأربعاء 1/10/2025
قراءة رواية ثنايا الروح كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية ثنايا الروح
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رانيا الخولي
الفصل الخمسون
الحزء الأول
تم النشر الأربعاء
1/10/2025
كانت كلمة لأ معلقة في الهواء بينهما باردة حادة ومدوية في الصمت الذي تبعها، اتسعت عينا نغم بصدمة وعدم تصديق وشعرت بقلبها يهوي في فراغ سحيق، كيف بعد كل هذا الألم وهذا الرجاء وهذا الانكشاف الكامل لضعفها أمامه يكون رده هو الرفض القاطع
تراجعت للخلف مبتعدة عنه كأن كلمته كانت صفعة مدوية، انسحبت من بين ذراعيه وعادت لتجلس على حافة السرير والدموع التي كانت تسيل حزناً تحولت الآن إلى دموع صدمة وخيبة أمل مريرة.
_لأ...؟!
نطقت الكلمة بهمس كأنها تتأكد أنها سمعت جيداً، كأنها تأمل أن يكون عقلها قد خانها.
_بعد كل اللي جولته بعد ما فتحتلك جلبي ووريتك الوچع اللي چوايا بتجولي لأ؟
لم يرد جاسر بل ظل ينظر إليها بهدوئه الذي أصبح الآن مستفزاً.
هذا الهدوء أشعل فيها غضباً لم تشعر به منذ زمن غضباً نقياً حارقاً.
ليه؟ ليه يا جاسر؟ إيه اللي هيضرك لو طاوعتني، إيه اللي هيخسره كبرياءك لو طمنتني بكلمة؟
ولا هي صعبة عليك جوي تشوفني مرتاحة؟ لازمن أفضل طول الوجت بتعذب وبتحرج عشان تحس بجيمتك.
نهضت من على السرير وبدأت تمشي في الغرفة ذهاباً وإياباً كوحش محبوس في قفص ويداها تضربان الهواء بعصبية ويأس.
_أنا فهمت أنا فهمت كل حاچة دلوجت، أنت مبسوط بالوضع ده مبسوط إن فيه اتنين في حياتك واحدة بتحبك بجنون والتانية بنت عمك اللي بتحاول تحميها.
مبسوط بلعبة السلطة دي مبسوط وأنت شايفنا بنتجاتل عليك.
توقفت فجأة ونظرت إليه مباشرة وفي عينيها اتهام مرير، اتهام كان يختبئ في أعماقها وخرج الآن بكل قوته
لم تعد تسيطر على غيرتها وقذفته بكلام غير مرتب ولا مفهوم
_أنت محبتنيش أنت عمرك ما حبيتني، أنت حبيت فكرة إني ملكك حبيت خضوعي ليك حبيت ضعفي لكن أول ما طلبت منك حاچة عشاني أنا عشان سلامي النفسي رفضت.
عند هذه الكلمة محبتنيش تغيرت ملامح جاسر اختفى الهدوء وحل محله ألم حقيقي ألم حاد ظهر في عينيه وفي شدة قبضته على ملاءة السرير نهض من السرير ببطء متجاهلاً الوجع في جسده ووقف أمامها كان فارق الطول بينهما شاسعاً لكنها لم تتراجع بل ظلت تواجه بتحدي يائس
وعندما نظر للألم الحاد بعينيها عاد إليه هدوءه ملتمساً لها آلاف الأعذار
أمسك ذراعيها برفق وأجبرها على النظر إليه.
_اسمعيني كويس يا نغم، اسمعيني بعجلك مش بجلبك اللي غيران.
قالت بعناد
_مش عايزة أسمع حاجه واصل.
حاولت أن تتحرر من قبضته لكنه شدد عليها برفق حاسم.
_لأ هتسمعي أنا مجولتش لأه عشان أوچعك، أنا جولتها عشان بحبك.
ضحكت نغم ضحكة مريرة خالية من أي تصديق، ضحكة كانت أشبه بالبكاء.
_بتحبني! دي طريجة چديدة للحب معرفهاش.
_أيوه بحبك وعشان بحبك مستحيل أكدب عليكي، لو جلت دلوجت أنتِ طالج يا شروق هكون بكدب، هكون بجول كلمة أنا عارف إنها مش حجيجية، وإنها مجرد حبر على ورج زي ما جولتي هكون بديكي مُسكن مؤقت، وهم عشان أسكتك بيه، وأنا عمري ما هبني علاجتي بيكي على الكدب أو الأوهام.
اقترب منها أكثر وخفض صوته ليصبح همساً حارقاً همساً اخترق غضبها ووصل إلى قلبها مباشرة.
_أنا عايز لما أجولك كلمة تصدجيها، عايز لما أوعدك بحاچة تعرفي إنها هتتحجج، عايز ثجتك فيا تكون مطلقة، مش مبنية على كلمات مهدئة بجولها عشان أريحك، لحظتها أنا رفضت أكدب عليكي يا نغم عشان بحترمك وبحترم حبي ليكي.
صمتت نغم وقد بدأت كلماته تتسلل إلى عقلها وتفكك غضبها شيئاً فشيئاً.
لقد نزع سلاحها بمنطقه القاسي والصادق.
_چوازي من شروق هينتهي ده وعد مني وفي اليوم اللي هطلجها فيه بجد، جدام الناس كلها هيكون طلاج حجيجي مش مجرد كلمة في الهوا، بجولهالك عشان أرضيكي لحد اليوم ده ما ياچي أنا محتاچك تكوني أجوى من اكده.
محتاچك تثجي فيا وتثجي في حبي ليكي، حتى لو الوضع صعب محتاچك تكوني مراتي بجد شريكتي اللي بتجف في ضهري مش طفلة بتعيط عشان عايزة اللي في دماغها يمشي.
ترك ذراعيها وعاد ليجلس على السرير بتعب بدا عليه الإرهاق فجأة.
_الجرار جرارك، يا إما تصدجي حبي وتثجي فيا وتستحملي معايا الفترة دي، يا إما تفضلي شاكة فيا وساعتها هنكون بنضيع وجتنا إحنا التنين.
وقفت نغم في منتصف الغرفة ممزقة لقد نزع سلاحها بمنطقه القاسي والصادق، لم يرفض طلبها ليعذبها بل رفض أن يكذب عليها ليُرضيها، لقد طالبها بأصعب شيء الثقة المطلقة، الصبر والإيمان، بحبه دون دليل ملموس، لقد وضع الكرة في ملعبها وتركها تواجه أصعب خيار في حياتها إما أن ترتقي لمستوى حبه وثقته أو أن تظل سجينة لخوفها وغيرتها
❈-❈-❈
سقط الكيس من يدها على الأرض محدثاً صوتاً خافتاً، كان في ذلك الصمت مدوياً كانفجار.
تجمد الزمن تجمدت الأطراف تجمدت الكلمات في الحناجر.
كانت صبر تقف على عتبة الباب، كتمثال من الملح عيناها متسعتان بالرعب وعدم التصديق.
لم تكن ترى التفاصيل لم تكن تحلل الموقف بعقلانية.
كل ما رأته هو كابوسها وقد تجسد.
زوجها في شقتهما في منتصف الليل، مع امرأة أخرى امرأة جميلة وأنيقة، تقف على مقربة شديدة منه.
أما أكمل فشعر بأن الأرض قد انشقت وابتلعته، نظره منه لى ليلى الواقفة أمامه بجرأة، وإلى صبر الواقفة عند الباب كشبح منكسر وشعر بقلبه يتمزق.
لقد تحققت أسوأ مخاوفه في اللحظة التي كان يحاول فيها طرد ماضيه، اقتحم حاضرة ليحطمه.
ليلى التي كانت قبل ثوانٍ تهاجم بكل جرأة أدركت في لحظة أن اللعبة قد انتهت نظرت إلى وجه صبر المحطم، ثم إلى وجه أكمل الذي تحول إلى قناع من الهلع والغضب وأدركت أنها لا مكان لها في هذه المعادلة.
لم تكن تريد مواجهة من هذا النوع أمسكت بحقيبتها بسرعة وبدون أن تنطق بكلمة واحدة، اندفعت نحو الباب مرت من جانب صبر التي لم تتحرك قيد أنملة واختفت في الردهة تاركة خلفها دماراً صامتاً.
صوت الباب وهو يغلق بعد ثانية كان هو الإعلان الرسمي عن رحيلها.
الآن لم يتبق في الشقة سوى أكمل وصبر والصمت.
صمت أثقل من الرصاص وأكثر إيلاماً من أي صراخ.
تحرك أكمل أخيراً خطوة واحدة بطيئة حذرة كأنه يقترب من طائر جريح يخشى أن ينفجر في وجهه.
_ صبر...
لم ترد لم تتحرك ظلت عيناها مثبتتين على البقعة التي كانت تقف فيها ليلى قبل لحظات كأنها تحاول حفر المشهد في ذاكرتها أو ربما محوه.
_ صبر أرجوكي... اديني فرصة أشرحلك
الموضوع مش زي ما...
قاطعته بنظرة.
نظرة واحدة فقط لكنها كانت كافية لتخرس لسانه.
كانت نظرة فارغة باردة خالية من أي شعور
لقد مات كل شيء في عينيها في تلك اللحظة.
أخيراً تحدثت وخرج صوتها أجشاً كأنه قادم من مكان بعيد، مكان قديم جداً.
_ روحي كانت بتطلع وأنا ماشية من هنا الصبح، كل خطوة كنت باخدها بعيد عنك كنت بحس إن جزء مني بيموت.
مجدرتش أجعد في مكان أنت مش فيه حسيت إني وحيدة وحسيت إنك وحيد.
بدأ صوتها يكتسب قوة مريرة قوة الألم.
_ وأول ما ماما نسرين جالتلي سيبي قاسم وروحي لجوزك... مصدقتش
جيتلك طايرة، كنت بجول لنفسي هعوضك عن كل لحظة انشغلت فيها عنك.
كنت جاية أجولك إني بحبك وإني آسفة لو كنت جصرت معاك.
توقفت للحظة وابتلعت ريقها الذي شعرت به كأنه زجاج مكسور.
_ يا ريتني ما جيت يا ريتني فضلت هناك، يا ريتني فضلت عايشة في الوهم الجميل ده.
استدارت واتجهت نحو الباب بخطوات آلية كأنها جسد بلا روح.
هنا انهار تماسكه اندفع نحوها وأمسك بذراعها قبل أن تصل إلى مقبض الباب.
_ عشان خاطري ما تمشيش اسمعيني أرجوكي اسمعيني.
كان صوته ممزقاً، يائساً.
عند لمسته توقفت لكنها لم تلتفت إليه ظلت تنظر إلى الباب المغلق أمامها ثم قالت بهدوء غريب، هدوء من وصل إلى قاع اليأس ولم يعد يخشى شيئاً.
_ عارف يا أكمل؟
صمتت كأنها ترتب فكرة مروعة في رأسها.
_ أنا دلوجتي بس جدرت أسامحك.
نظر إليها باستغراب، لم يفهم.
_ جدرت أسامحك على اليوم اللي حكمت فيه عليا من غير ما تسمعني، جدرت أفهمك لأني دلوجتي عرفت الإحساس ده.
عرفت يعني إيه الصدمة بتخلي الواحد مش جادر يفكر، مش جادر يسمع مش جادر يلتمس أي عذر.
عرفت يعني إيه لما تشوف بعينك حاجة بتكسر روحك وميبقاش فيه أي كلام في الدنيا يجدر يصلحها.
سحبت ذراعها من يده برفق لكنه كان رفقاً نهائياً حاسماً.
_ أنا سامحتك على الماضي بس مش هجدر أسامحك على الحاضر.
ثم فتحت الباب وخرجت وأغلقته خلفها.
لم يكن إغلاقاً غاضباً بل كان إغلاقاً هادئاً كصوت كسر شيء ثمين، لا يمكن إصلاحه أبداً.
❈-❈-❈
وقفت نغم في منتصف الغرفة ممزقة
كانت كلماته الأخيرة تدور في رأسها، منطقية قاسية وصادقة بشكل مؤلم لقد نزع سلاحها بمنطقه الذي لا يقبل الجدال لم يهاجم غيرتها، بل خاطب عقلها وقلبها معاً.
لم يرفض طلبها ليعذبها بل رفض أن يبني سلامهما على كذبة، رفض أن يمنحها طمأنينة زائفة.
لقد طالبها بأصعب شيء: الثقة المطلقة الصبر والإيمان بحبه دون دليل ملموس، أن تؤمن بالوعد لا بالكلمة العابرة.
لقد وضع الكرة في ملعبها وتركها تواجه أصعب خيار في حياتها.
شعرت بغضبها يتبخر ببطء لا ليترك فراغاً بل ليحل محله شعور أعمق وأكثر تعقيداً.
شعور بالإرهاق العميق وحزن شفاف وفهم مؤلم.
نظرت إليه وهو جالس على السرير يسند ظهره المتعافي بصعوبة ورأت ما لم تره وهي غاضبة.
رأت الإرهاق المحفور في ملامحه ليس فقط من جراحه الجسدية، بل من ثقل العالم الذي يحمله على كتفيه.
أدركت في تلك اللحظة أنه لا يطلب منها الثقة من برج عاجي بل يطلب منها أن تنزل معه إلى ساحة المعركة، أن تشاركه حمل هذا العبء أن تكون شريكته الحقيقية، درعه كما كان هو درعها.
تنهدت تنهيدة طويلة مهزومة مستسلمة
لم تكن هزيمة ضعف بل كانت استسلاماً لقوة منطقه ولقوة حبه الصعب الذي يرفض أنصاف الحلول.
اقتربت منه بخطوات بطيئة كأنها تعيد ترتيب عالمها مع كل خطوة.
عادت لتجلس على حافة السرير أمامه، في نفس المكان الذي جلست فيه قبل دقائق وهي تحمل كل غضب العالم.
لم تعد تبكي لكن آثار الدموع كانت لا تزال على خديها، كجداول جافة شهدت على فيضان.
_ موافجة.
قالتها بصوت خفيض بالكاد يُسمع صوت مبحوح من البكاء والغضب، لكنه كان يحمل قراراً نهائياً.
_ موافجة أستنى وموافجة أثج فيك.
نظر إليها جاسر ورأى في عينيها صدق استسلامها ورأى فيها القوة التي طالما عشقها قوة الروح التي تستطيع أن تنهض من تحت ركام الألم.
_ بس بشرط واحد.
رفعت عينيها إليه وفي نظرتها رجاء أخير
رجاء طفلة خائفة تختبئ خلف امرأة قوية.
_ توعدني.
توعدني إنها هتكون فى أجرب فرصة ممكنة
توعدني إن أول ما الخطر ده ينتهي، أول ما تحس إنك تجدر تستغنى عن الورجة دي... تطلجها توعدني إني مش هستنى كتير يا جاسر أنا روحي مش هتستحمل.
لم يتردد للحظة لقد أعطته أغلى ما تملك ثقتها، والآن حان دوره ليعطيها أغلى ما يملك وعده.
_ أوعدك.
قالها بنبرة حاسمة عميقة، لا تحتمل الشك نبرة رجل لا يخلف وعوده.
_ أوعدك يا نغم إن اليوم اللي هتخلص فيه القصة دي هيكون هو نفس اليوم اللي هتخرچ فيه شروق من حياتنا للأبد ده وعدي.
شعرت بأن جبلاً قد أزيح عن صدرها، لم يكن مجرد وعد بل كان عهداً، ميثاقاً جديداً بينهما أغمضت عينيها وارتسمت على وجهها ابتسامة باهتة متعبة ابتسامة من وجد مرفأ آمناً بعد عاصفة هوجاء كادت أن تبتلعه.
مد جاسر يده وبإبهامه مسح برفق آثار الدموع عن خديها.
كانت لمسته حانية دافئة كأنها تمحو كل أثر للألم والخوف والشك.
_ وحشتيني.
همس بها بصوت عميق أجش يحمل كل شوق العالم، شوق الأيام التي قضاها بين الحياة والموت، وشوق اللحظات التي كادت أن تفقده فيها بسبب الغضب والغيرة.
قبل أن تتمكن من الرد أو حتى من استيعاب الكلمة سحبها إليه برفق، متغلباً على الألم الذي شعر به في جسده، وجعلها تقع في حضنه وقبّلها.
لم تكن قبلة عادية كانت قبلة تحمل كل ما لم يستطيعا قوله بالكلمات.
كانت قبلة طويلة عميقة بدأت باعتذار صامت عن كل ألم سببه لها وتحولت إلى وعد متجدد بالحب والأمان، وانتهت بتملّك حاسم، كأنه يطبع ختم ملكيته على روحها.
كانت قبلة تقول "أنتِ لي"
"أنا لك"،
"ونحن معاً في هذا الجحيم حتى نخرج منه إلى جنتنا".
ذابت نغم بين ذراعيه وتشبثت به كأنه طوق نجاتها الوحيد.
تناست كل شيء في تلك اللحظة تناست شروق والخطر والألم، والغيرة.
لم يعد هناك في العالم سوى هو الرجل الذي يخوض الحروب في الخارج، ثم يعود ليجد سلامه في حضنها.
ورغم تعبه ورغم جراحه ورغم الألم الذي كان ينبض في جسده مع كل حركة، لم يكن قادراً على تركها.
كانت هي علاجه وهي قضيته وهي ملاذه الأخير الذي يستحق أن يحارب العالم كله من أجلها.
❈-❈-❈
كانت خطواتها على السلم ثقيلة كأنها تحمل كل هموم العالم على كتفيها.
كل درجة كانت تبعدها عن حياتها التي انهارت، وتقربها من ملاذ مؤقت لم تكن تريد العودة إليه بهذه الطريقة.
وصلت إلى باب شقة حماتها ووقفت للحظة تحاول أن ترسم قناعاً من الهدوء على وجهها المحطم.
أخذت نفساً عميقاً ومسحت دمعة وحيدة خانتها وهربت من عينيها، ثم ضغطت على الجرس.
فتحت نسرين الباب وعلى وجهها ابتسامة دافئة.
_ إيه ده؟ رجعتي بالسرعة دي؟
لكن الابتسامة تلاشت تدريجياً وهي تتأمل وجه صبر.
رأت الشحوب والعينين اللتين فقدتا بريقهما، والجمود الذي حل محل اللهفة التي غادرت بها قبل أقل من ساعة.
_ حبيبتي... مالك؟
دخلت صبر إلى الشقة، وتجنبت النظر في عيني حماتها مباشرة.
_ مفيش حاجة يا ماما لقيته مشغول جوي في ورج الجضية، وسهران محبيتش أعطله عن شغله جلت أرجع هنا عشان مابقاش لوحدي في الشقة.
كانت الكلمات تخرج منها بصعوبة، كأنها قطع من الزجاج
كانت كذبة واضحة لكنها كانت أفضل ما استطاعت أن تأتي به في تلك اللحظة.
شعرت نسرين بأن هناك كارثة قد حدثت.
لم تكن هذه صبر التي تعرفها لكنها أدركت أيضاً أن الضغط عليها الآن لن يجدي نفعاً.
_ عملتي عين العقل يا حبيبتي ربنا يقويه.
طب تعالي أدخلك أوضة أكمل القديمة ترتاحي فيها أنا فرشتها وخليتها زي الفل.
أومأت صبر بصمت وسمحت لحماتها بأن تقودها إلى الغرفة.
كانت غرفة نوم أكمل القديمة لا تزال تحمل رائحته صوره معلقة على الحائط
كتبه القديمة مرصوصة على الرف كانت ملاذاً لكنها الآن أصبحت مكاناً للتعذيب، كل شيء فيها يذكرها به.
_ تصبحي على خير يا بنتي لو عوزتي أي حاجة أنا في الأوضة اللي جنبك.
قالت نسرين بحنان ثم أغلقت الباب بهدوء خلفها.
بمجرد أن أُغلق الباب انهار قناع صبر.
سقطت على السرير ودفنت وجهها في الوسادة التي كانت يوماً ما ملكاً له، وانفجرت في بكاء صامت، مرير يهز جسدها كله.
لم تكن تبكي على الخيانة فقط بل كانت تبكي على الثقة التي تحطمت، على الحلم الذي تبخر على الصورة النقية التي رسمتها له في قلبها وقد تلطخت إلى الأبد.
كانت تبكي على نفسها وعلى غبائها وعلى حبها الذي قادها إلى هذا الجحيم.
في الصالة كانت نسرين تقف قلقة، تستمع إلى صوت البكاء المكتوم القادم من الغرفة وقلبها يتمزق.
لقد عرفت أن الأمر أكبر بكثير من مجرد "مشغول في الشغل".
أمسكت بهاتفها بتردد ثم بحسم وطلبت رقم ابنها.
رن الهاتف مرة اثنتين ثلاث لم يرد
شعرت بالقلق يتزايد ثم في الرنة الرابعة جاءه صوت أكمل لكنه لم يكن صوته.
كان صوتاً مكسوراً متحشرجاً قادماً من بئر سحيق من اليأس.
_ أيوة يا أمي.
_ أكمل... إيه اللي حصل؟
ساد صمت طويل على الطرف الآخر من الخط لم يقطعه سوى صوت أنفاس أكمل الثقيلة.
_ أكمل رد عليا! صبر رجعت هنا منهارة وبتقول إنك كنت مشغول مراتك بتموت من العياط في أوضتك عملت فيها إيه يا أكمل؟
لم يعد أكمل قادراً على التحمل
وبدأ يحكي لأمه كل شيء، بصوت متقطع تختلط فيه الكلمات بالندم والألم والغضب.
حكى لها عن مجيء ليلى المفاجئ عن كلامها السام عن محاولاتها وعن دخول صبر في أسوأ لحظة ممكنة.
حكى لها عن نظرة عينيها الفارغة، وعن كلماتها الأخيرة التي كانت بمثابة حكم إعدام على حبهما.
_ سمحت ليلى تضيع كل حاجة
كانت جاية عشاني وأنا... أنا كسرتها.
كانت نسرين تستمع بصدمة ورعب كانت تعرف ليلى، وتعرف انها مجروحه من ابنها، لكنها لم تتخيل أبداً أنها قد تصل إلى هذه الدرجة من الحقارة.
_ طب وأنت عملت إيه؟ سيبتها تمشي؟
_ معملتش حاجة اتشليت وقفت أتفرج على حياتي وهي بتتدمر قدام عيني
قالتلي كلام... كلام وجعني أكتر من ألف رصاصة.
قالتلي إنها دلوقتي بس قدرت تسامحني على الماضي لأنها فهمت يعني إيه صدمة وبعدين مشيت.
تنهدت نسرين تنهيدة عميقة، تحمل كل حزن العالم.
_ اسمعني يا أكمل انت غلط لما وافقت تدخلها بيتك ومراتك مش موجودة وده في حد ذاته غلط كبير حتى لو بدافع شريف
بس برضه الغلط مش غلطك لوحدك دي حية ودخلت بيتك عشان تلدغك بس دلوقتي مش وقت لوم لازم تتصرف.
_ أتصرف إزاي؟ هي مش هتصدقني مش هتصدق أي كلمة هقولها أنا شفت الموت في عينيها يا أمي.
_ هتجيلها الصبح وهتفضل وراها لحد ما تسمعك
هتترجاها وهتتحايل عليها، وهتعمل المستحيل عشان تصدقك.
صبر بتحبك يا أكمل والحب الحقيقي ممكن يغفر
بس محتاج منك مجهود محتاج تحارب عشانه متستسلمش يا ابني متضيعش مراتك وابنك عشان واحدة متسواش.
أغلقت نسرين الخط وجلست على أقرب مقعد تشعر بالإرهاق.
نظرت نحو باب الغرفة المغلق الذي تأتي من خلفه أصوات بكاء ابنة قلبها، ثم نظرت نحو النافذة التي تطل على ظلام المدينة، حيث يجلس ابنها وحيداً في شقة باردة، يبكي على أطلال حياته وأدركت أن الليلة ستكون طويلة جداً على الجميع.