رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 50 - جـ 2 - الأربعاء 1/10/2025
قراءة رواية ثنايا الروح كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية ثنايا الروح
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رانيا الخولي
الفصل الخمسون
الحزء الثاني
تم النشر الأربعاء
1/10/2025
جاءت عائلة الرفاعي بأكملها للاطمئنان على جاسر ونغم
كان هذا التجمع يحمل طعماً مختلفاً، طعم المصالحة الهشة التي ولدت من رحم الفاجعة، كزهرة نبتت على حافة بركان.
كان المشهد في الحديقة الواسعة أشبه بلوحة فنية دافئة.
سالم وحامد ووهدان وسند ومالك بيستضيفهم جاسر، يجلسون معاً تحت ظلال شجرة وارفة، وأمامهم أكواب الشاي التي يتصاعد منها البخار.
كانت أحاديثهم هادئة متقطعة كأنهم ما زالوا يتحسسون طريقهم فوق جليد القطيعة الذي بدأ يذوب ببطء.
سند كان يطفو على الجلسة بخفة دمه جعلت جاسر يضحك لأول مرة بتلك الطريقة.
كانت ضحكاتهم الصافية نغمة في جو مشحون بتاريخ طويل.
مال جاسر قليلاً على مالك، وبصوت خفيض لا يسمعه سواهما، وبنبرة غامضة تتناقض مع الجو الهادئ، همس
_ عملت إيه؟
رد مالك بنفس الهمس
_ كل حاچة ماشية طبيعي زي ما خططنا الخيوط بتتسلم لبعضها، صخر بيتحرك زي العروسة الماريونيت بالظبط، كل خطوة بياخدها بيجرب من الفخ أكتر.
_ وأكمل؟
_ أكمل ماسك كل التفاصيل القانونية بيچهز الشبكة اللي هتلمهم كلهم مرة واحدة.
بيجول إن الأدلة اللي چمعناها لحد دلوجت كافية، بس هو عايز الضربة الجاضية عايز يجفل الملف ده للأبد.
أومأ جاسر برأسه إيماءة خفيفة، تحمل كل الثقة والرضا.
_ خليه ياخد وجته، الصيد عايز صبر المهم إن الطُعم يكون چاهز.
عاد ليرتدي قناع الاسترخاء، كأن هذا الحوار الخطير لم يحدث قط، ورفع عينيه إلى نغم التي تجلس مع عائلتها بسعادة.
على بعد أمتار منهم، كانت تجلس نغم مع والدتها ونساء اعمامها ووعد وروح
كان مجيء ورد لا يزال يحمل بعضاً من الغرابة.
لسنوات طويلة لم تأتي إلى ذلك المكان.
حتى جاسر لم تكن هناك أي علاقة بينهما، لم تكن ورد سوى اسم بعيد مرتبط بعائلة والدها.
لكن بعد ما حدث لنغم وخاصة بعد موت ابنها عدي تغير كل شيء
وبدأ جاسر يلملم شتات امورهم.
وبعد الحادثة وشعور ورد بالفقد مرة أخرى تبدل كل شيء وطلبت من مالك أن يقف بجواره لأن لا أحد بجواره سوى والدته
أما صخر فمؤكد بأنه وراء ذلك الحادث.
ووقوفهم جميعاً إلى جانبه، بدأت خيوط الود تُنسج ببطء.
كانت وعد بشخصيتها المرحة تحاول كسر الجليد المتبقي.
_ تصدقي يا نغم أنا لحد كام شهر فاتوا، كنت فاكرة ابن خالي ده كائن أسطوري.
بنسمع عنه حكايات بس حكايات تخوف الصراحة.
نظرت إلى ورد بابتسامة.
_ مش اكده يا ورد؟ كنا بنجول عليه جلبه حچر وميعرفش حاچة اسمها حب جاسر التهامي، الاسم لوحده كان بيعمل رهبة.
ضحكت ورد وقالت
_ بس يا بنت عيب.
_هو عشان بجول الحجيجة يبجى عيب.
كنا بنجول ده مستحيل يحب ولما سمعنا إنه خطفك واتچوزك غصب، جولنا خلاص البنت دي الله يرحمها
بس لم رجعت وجاه يزعج جدام بتنا ويجول عايز مراتي
أنا يومها جلت لامي أكيد البنت دي عملتله عمل، مفيش تفسير تاني.
احمر وجه نغم خجلاً لكنها ابتسمت وقالت
_ عمل؟ للدرچة دي؟
_ وأكتر أصل إحنا عارفين تاريخه
مفيش ست جدرت تلوف عليه
بس الظاهر إنك مش أي حد يا نغم
صدج الحچ سالم لما جال محدش يعرف نغم وميحبهاش
تدخلت ورد بحنان
_ وعد بتهزر يا نغم بس هي عندها حج في حاچة إنتي غيرتي جاسر رچعتيه لينا، ورچعتينا ليه، اللمة دي سببها وجودك في حياته.
واصلت وعد حديثها وهي تنظر باتجاه جاسر الذي لم يرفع عينيه عن نغم.
_ وشوفيه دلوجت أنا جاعدة براجبه من الصبح مش عارف يشيل عينه من عليكي زمان كنا بنخاف من نظرته، دلوجت نظرته هي اللي سايحة في العسل.
والله يا ورد ابن أخوكي ده طلع فيه شيء لله، ونغم هي اللي عرفت تطلعه.
رفعت نغم عينيها بخجل، وتلاقت نظراتها بنظرات جاسر الذي كان يراقبها بابتسامة دافئة وعميقة.
لم تكن ابتسامة عادية كانت ابتسامة تحمل حباً، وتقديراً وامتناناً لوجودها الذي لم يغيره فقط بل أعاد لم شمل عائلته بأكملها.
أرسل لها غمزة خفيفة جعلت قلبها يخفق بشدة وأشاحت بوجهها بسرعة وهي تبتسم، وشعرت بدفء لذيذ يسري في أوصالها.
كان يوماً مثالياً يوماً من الهدوء العائلي، والضحكات الصادقة، والحب الذي يطفو في الهواء، كأنه هدنة جميلة ومستحقة، قبل العودة إلى العاصفة التي يعرفون جميعاً أنها لم تنته بعد.
كانت الشمس قد بدأت تميل نحو الغروب، وتلقي بظلال طويلة دافئة عبر الحديقة عندما قاطع هدوء اللحظة صوت محرك سيارة فارهة يتوقف فجأة أمام البوابة الرئيسية.
لم يهتم أحد في البداية، حتى انفتح باب السيارة وظهر منه جسد صخر التهامي الضخم الذي بدا كبقعة حبر سوداء في لوحة الألوان الدافئة للمكان.
سار بخطوات واثقة نحو الحديقة، وعلى وجهه قناع من البرود والغطرسة لكن عينيه كانتا تطلقان شرراً عندما رأى المشهد أمامه.
لم يكن يتوقع أن يجد جاسر محاطاً بعائلة الرفاعي بأكملها.
كانت هذه ضربة غير متوقعة لخططه.
وقف على حافة تجمعهم، كذئب يراقب قطيعاً ثم قال بصوت عالي يحمل سخرية لا تخفى على أحد
_ منورين البيت، لمة العيلة دي ولا إيه؟
تجمدت الأجواء في لحظة وانقطعت الضحكات وتصلبت الملامح.
نهض سند من مكانه وعيناه تقدحان غضباً وقال بصوت مسموع
_ بما إن الشياطين حضرت يبجى أكيد الملايكة لازم تمشي يلا بينا يا جماعة.
وضع يده على كتف وهدان ليساعده على النهوض لكن صوت جاسر الهادئ الحاسم أوقف الجميع كأنه أمر عسكري.
_ اجعد يا سند.
نظر إليه سند باستغراب لكنه رأى في عيني جاسر نظرة لا تحتمل النقاش.
_ البيت ده بيتي وأنا اللي أجرر مين يجعد فيه، ومين يمشي منه.
ثم وجه جاسر نظره الباردة نحو عمه.
_ خير يا عمي؟ أكيد مش جاي تطمن عليا.
تقدم صخر خطوتين وأصبح في قلب الدائرة ونظراته تتنقل بين وجوه عائلة الرفاعي بازدراء.
_ واجي أطمن عليك ليه؟ هو أنت مش زي الجطط بسبع ترواح؟ أنا جاي بيتي بيت أخويا الله يرحمه ولا نسيت إن ليا في كل حچر هنا زيك بالظبط؟
رد جاسر بفتور
_كان يا عمي ودلوجت بجى بيت مراتي، وأهلها هما أهلي يعني هما جاعدين في ملكهم.
هنا تدخل سالم بصوته الهادئ الرصين، الذي كان يحمل قوة جبل نهض من مكانه ببطء ووقف في مواجهة صخر كأنه يمثل درعاً لعائلته.
_لا يا جاسر البيت ده بيتك واحنا ضيوف عندك (نظر لصخر وتابع) البيت ده بيت جاسر ابن أخوك والزيارة ليها أصول يا صخر خاصة لما تكون بينك وبين أهل البيت دم.
ضحك صخر ضحكة ساخرة.
_ وأنت بتتكلم بصفتك إيه بجى يا كبير عيلة الرفاعي؟ محامي الدفاع بتاعه؟ ولا نسيت إن مراتك كان جاطع علاجته بيها زيه زيي؟ إيه اللي غير الموازين فجأة؟
رد سالم بنفس الهدوء القاتل
_ اللي غير الموازين إن الدم بيحن
وإننا في الآخر عيلة واحدة.
ولما حد مننا بيجع كلنا بنسنده، وجاسر بجى چوز بنتي وواحد مننا وده درس الظاهر إنك عمرك ما هتتعلمه
إحنا هنا عشان بنتنا اللي هي مرات ابن أخوك، أنت اهنه ليه؟
كانت المواجهة صامتة، لكنها كانت حرباً تدور بالعيون.
قوة سالم الهادئة في مواجهة غطرسة صخر الصاخبة.
في وسط هذه الحرب كانت هناك حرب أخرى أكثر رعباً وصمتاً.
وقعت عينا صخر على ورد أخته التي كانت تجلس متجمدة في مكانها.
نظر إليها بنظرة مليئة بالحقد والكراهية نظرة تحمل كل وعيد السنوات الماضية لقد أقسم يوماً أنه لو رآها سيقتلها.
لم تستطع ورد تحمل نظرته شعرت بالرعب الذي كان يسكنها لسنوات يستيقظ من جديد وبحركة لا إرادية، وجدت نفسها تزحف للخلف وتختبئ خلف جسد زوجها سالم كطفلة صغيرة تبحث عن أمانها الوحيد في العالم.
شعر سالم بارتجافتها فمد يده دون أن يرفع عينيه عن صخر وأمسك بيدها بقوة، وضغط عليها ضغطة خفيفة تقول لها "أنا هنا متخافيش".
لم يفت المشهد على جاسر رأى خوف عمته، ورأى حقد عمه فقرر أن ينهي هذه المسرحية.
_ لو زيارتك خلصت يا عمي، تجدر تتفضل زي ما أنت شايف، عندنا ضيوف ومش عايزين نعكر مزاجهم.
التفت صخر إليه وقد أدرك أنه خسر هذه الجولة.
لقد حاصر جاسر نفسه بعائلة الرفاعي، وأصبح الوصول إليه أصعب من ذي قبل، لقد تحول من ذئب وحيد إلى قائد قطيع.
_ ماشي يا جاسر شكلك مبسوط باللمة دي بس افتكر كويس، العيلة مش دايمة والحيطان اللي بتتخبى وراها دي ممكن تجع فوج دماغك في أي لحظة.
ألقى نظرة أخيرة مليئة بالتهديد على الجميع ثم استدار وغادر بنفس الخطوات الواثقة التي جاء بها
لكن هذه المرة كانت خطوات رجل مهزوم، يخطط لجولته القادمة.
ما إن اختفى صخر من المشهد حتى عاد الهواء ليدخل إلى رئات الجميع مرة أخرى، كان رحيله كرفع غطاء ثقيل عن صدورهم.
أطلقت ورد نفساً لم تكن تعرف أنها تحبسه، وانفجرت في بكاء صامت بينما كان سالم يضمها إليه ويمسح على ظهرها ويطمئنها بصوت خفيض أن كل شيء على ما يرام، وأن الكابوس قد انتهى... على الأقل في الوقت الحالي.
ساد صمت مهيب للحظات صمت لم يقطعه سوى شهقات ورد المكتومة
كان الجميع ينظرون إلى بعضهم البعض، وقد أدركوا للتو حجم الخطر الذي يحيط بهم، وأدركوا أيضاً حجم القوة التي يمتلكونها عندما يكونون معاً.
في وسط هذا الصمت نهض جاسر من مكانه لم تكن خطواته تحمل أي تردد بل كانت خطوات رجل اتخذ قراراً لا رجعة فيه.
وقف في منتصف الدائرة ووجهه يحمل تعابير معقدة من الأسف والقوة.
لم ينظر إلى الأرض خجلاً، بل رفع رأسه وواجه الحاج وهدان مباشرة كأنه يواجه تاريخ العائلتين بأكمله.
قال بصوتٍ عميق وصادق صوت يحمل ثقل الجبال، لكنه يخلو من أي انكسار
_ يا حاج وهدان... يا عمي سالم... يا رجالة عيلة الرفاعي.
كان صوته كفيلاً بأن يجعل الجميع ينتبهون إليه بالكامل، حتى ورد رفعت رأسها من حضن زوجها لتنظر إليه.
_ أنا عارف إن الكلام مهما كتر مش هيمحي اللي حوصل وعارف إن فيه چرح غويط بين بيوتنا، چرح بجاله سنين بينزف
أنا مش هطلب منكم تسامحوني، لأن السماح ده حجكم ومش من حجي أطلبه.
صمت للحظة وعيناه تتنقلان بين وجوههم بوقار واحترام.
_ بس اللي رايد أجوله... إن اللي عملته زمان كان غلط، كنت فاكر إني برد حج وبصلح كفة مايلة، بس كنت أعمى أعمى عن حجيجة إن الدم مبيجيبش غير دم، وإن الكره مبيولدش غير كره أنا شايل على كتافي وزر كبير، وزر إني كنت سبب في ألمكم، وسبب في إن بنتكم تكون بعيدة عنكم.
ثم التفت بنظره إلى نغم التي كانت تراقبه بقلب يخفق بشدة.
_ ووزر إني ظلمت جوهرة كانت بين إيديا، ومكنتش عارف جيمتها.
عاد بنظره إلى وهدان مرة أخرى، وهنا جاءت لحظة الاعتذار الشامخ اعتذار القائد الذي يعترف بخطئه ليزيد قوة لا لينقصها.
_ أنا مش بعتذر عن اللي فات عشان أضعف، ولا عشان أطلب شفقة أنا بعتذر عشان أصحح بعتذر عشان أجولكم إن جاسر بتاع زمان مات والراجل اللي واجف جدامكم دلوجت، كل اللي يهمه هو إنه يبني بيت ويحافظ على عيلتة، ويحمي مراته اللي هي بنتكم.
أنا بمد إيدي ليكم مش إيد طالب عفو لكن إيد راجل بيطلب وبأصول ترضي ربنا وترضيكم نمحي العداوة دي خالص.
كان اعتذاره قوة في حد ذاته لم يكن فيه تذلل أو ضعف، بل كان إعلان مسؤولية وتعهد بمستقبل مختلف.
في هذه اللحظة، كانت تتابعوا ونس التي كانت تتابع الموقف من بعيد بقلب مرتجف اقتربت بخطوات هادئة ووقفت بجانب ابنها، كأنها تدعم قراره
نظرت إلى ليل وورد ونساء العائلة، وقالت بصوتٍ حنون يملؤه الأسف الصادق
_ وأنا كمان بطلب منكم السماح أنا أم وعارفة يعني إيه حرجة الجلب على الضنا سامحوني إني سكت زمان، وسامحوني على كل يوم باتت فيه بنتكم بعيد عن حضنكم.
والله جلبي كان بيتعصر عليها زيكم بالظبط
بس النهاردة ربنا جمعنا تاني واداكم بدل البنت اتنين نغم بنتي زي ما هي بنتكم وجاسر ابنكم زي ما هو ابني خلونا نطوي الصفحة دي، ونبدأ من جديد عشان خاطر العيال اللي جاية، وعشان خاطر السلام اللي كلنا بنستحقه.
كانت كلمات الأم البسيطة والصادقة هي اللمسة الأخيرة التي أذابت كل الجليد المتبقي.
نهض الحاج وهدان ببطء، وسار حتى وقف أمام جاسر مباشرة نظر في عينيه طويلاً، كأنه يقرأ روحه ثم، وبحركة أبوية مفاجئة، ربت على كتفه بقوة.
_ الراچل هو اللي يعترف بغلطه ويصلحه وإنت النهاردة، كبرت في نظري جوي يا ولدي الماضي راح بحلوه ومره، وإحنا ولاد النهاردة طالما بنتي في حماك وفي وسط أهلها يبقى مفيش بينا غير كل خير.
ثم التفت إلى الجميع بصوته الجهوري الذي استعاد بهجته
_ الشاي ده برد! يا ام جاسر يا بنتي الشاي التقيل بتاع الصعايدة عشان اللمة دي تحلى!
انفجرت ضحكة جماعية دافئة، كسرت كل التوتر، وأعلنت بشكل رسمي عن ميلاد عهد جديد عهد لم يعد فيه "الرفاعي" و"التهامي"، بل أصبحت هناك عائلة واحدة كبيرة، يجمعها الحب، ويحميها رجال عرفوا أن القوة الحقيقية ليست في الثأر، بل في التسامح وبناء المستقبل.
❈-❈-❈
انطلقت السيارة كقذيفة في ظلام الطريق الجبلي تاركة خلفها سحابة من الغبار وغضب مشتعل.
في الداخل لم يكن صخر مجرد رجل غاضب، بل كان بركاناً على وشك الانفجار.
قبضتاه كانتا مشدودتين على عجلة القيادة بقوة جعلت مفاصله تبيض وعروق عنقه ورأسه نافرة كأغصان شجرة يابسة.
كانت عيناه مثبتتين على الطريق أمامه لكنه لم يكن يرى شيئاً.
كل ما كان يراه هو تلك اللوحة التي تركها خلفه... لوحة هزيمته.
كان المشهد يعاد في رأسه كشريط سينمائي ملعون: جاسر ذلك الفتى الذي رباه على يده ليكون سلاحه يقف الآن محاطاً بأعدائه، بعائلة الرفاعي كأنه واحد منهم.
وهدان وسالم وحامد الشيوخ الذين كان يحتقرهم، ينظرون إليه بتحدي صامت.
وورد... أخته... تلك الحية التي ظن أنه دفنها في الماضي، تختبئ خلف زوجها كفأر مذعور لكن مجرد وجودها كان طعنة في كبريائه.
"الدم بيحن..."
ترددت كلمات سالم في أذنيه كطنين حشرة مزعجة، أي دم هذا الذي يتحدثون عنه؟ الدم في عروقه لا يعرف إلا الغدر والخيانة.
ضرب عجلة القيادة بقبضته بقوة وصرخ صرخة مكتومة كزئير وحش جريح
_ "كلاب... كلكم كلاب..."
كان يشعر بالخيانة من كل اتجاه
جاسر الذي كان امتداداً له انقلب عليه
ورد التي تحمل دمه، تحالفت مع أعدائه حتى رجاله الذين زرعهم في كل مكان، لم يخبره أحد بهذا التجمع لقد أصبح معزولاً، محاصراً.
لكن صخر لم يكن من النوع الذي يستسلم للهزيمة.
الهزيمة بالنسبة له كانت مجرد وقود يزيد من شراسة نيرانه.
أوقف السيارة فجأة في منطقة معزولة تطل على الوادي السحيق أطفأ المحرك وساد صمت مطبق لم يكسره سوى صوت أنفاسه الغاضبة.
أخرج علبة سجائره وأشعل واحدة بيدين ترتجفان من فرط الغضب لا الخوف.
نفث الدخان بقوة في وجه الظلام
"ماشي يا جاسر... ماشي يا ابن أخوي عجبتك لمة العيلة؟ عجبتك الحماية بتاعتهم؟"
تحدث إلى نفسه بصوتٍ خفيض كفحيح أفعى.
"فاكر إن الحيطان دي هتحميك مني؟ الحيطان دي أنا اللي ههدها على دماغك ودماغهم.
فاكر إنك لما تبقى وسطيهم مش هعرف اطولك.
نظر إلى الجمر المتقد في سيجارته كأنه يرى فيه مستقبلهم.
"كنت عايز أخلص منك بهدوء بحادثة صغيرة عشان الورث كله يرجعلي بهدوة
بس الظاهر إنك بتحب اللعب الصعب وأنا... بعشج اللعب الصعب."
ألقى بالسيجارة من النافذة، وراقبها وهي تسقط في الظلام كنجمة ساقطة
"كل واحد فيهم... كل واحد كان قاعد هناك النهاردة دفعته تمن الضحكة اللي ضحكها في وشي وهدان وسالم... هخليهم يتمنوا الموت وميطولوهوش وورد... حسابها معايا تجل جوي، والمرة دي مفيش سالم هيحميها أما أنت يا جاسر... أنت هسيبك للآخر.
هسيبك تتفرج على كل اللي بنيته وهو بيتحرج وبيتهد جدام عينك، هتتفرج على عيلتك الجديدة وهي بتتدمر واحد ورا التاني.
وفي الآخر هتيجي راكع على ركبك تبوس رجلي عشان أرحمك... وساعتها بس، هقبض روحك بنفسي."
أدار محرك السيارة من جديد، لكن هذه المرة، لم يكن هناك غضب أعمى في قيادته.
لقد حل محله هدوء جليدي هدوء مفترس وجد فريسته، ووضع خطة صيده لم يعد يقود سيارة، بل كان يقود آلة حرب، متجهاً نحو الظلام، ليبدأ في نسج خيوط الجحيم الذي أعده لهم جميعاً.
يتبع...