رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الخاتمة - الأربعاء 22/10/2025
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الخاتمة
تم النشر الأربعاء
22/10/2025
..حامل الأوراق..
باريس ١٩٩٣..
جلس مارك مأخوذا بهذه الفاتنة التي تجلس قبالته على الطاولة المعدة لفردين في جو حميمي خافت الأضواء قرب هذه النافذة الزجاجية بعرض الحائط والمطلة على برج إيفل ومعظم ضواحي العاصمة الفرنسية التي تتلألأ سحرا في هذا المساء الباهر وكلاهما بانتظار الخبر السعيد.. يحمل كل منهما كأسه استعداد لنخب الانتصار بعد أن يأتيهما اليقين.. دق جرس الهاتف فانتفض مارك مجيبا في لهفة: نعم!.. حقا!.. هل تم المطلوب بنجاح!.. حسنا..
أغلق مارك الهاتف شاردا لبرهة قبل أن تنتفض راشيل من موضعها مندفعة نحوه في اضطراب متسائلة: هل نجا!.. أخبرني أنه لم..
قاطعها مارك مؤكدا: لم ينج راشيل اهدأي.. قتله القناص الذي ارسلناه ليفعل ولتوه أبلغني بالخبر اليقين.. مات چاك راشيل.. اتمنى أن تكون هذه الأخبار سعيدة ومبهجة..
أكدت راشيل وهي تجذب مارك خلفها كطفل مغلوب على أمره، هاتفة في دلال: طبعا.. والخبر يستدعي الاحتفال بالفعل..
رفعت كأسه تدفع بعضه لجوفه ثم رفعت كفها لتدفع كل محتواه لجوفها.. باحثة عن الزجاجة لتصب منها المزيد من الشراب ليجلس مارك موضعه خلف الطاولة وتحذو هي حذوه وهي ترفع كأسها طالبة التحية ليسايرها مارك ضاربا كأسه بكأسها في سعادة لتصدر طرقعة خفيفة معلنة عن فرحتهما بتحيق المراد.. لكن فجأة وبلا سابق إنذار أسقطت راشيل كأسها من كفها وبدأت تصدر تشنجات بسيطة تطلع نحوها مارك في صدمة وتنبه بعد لحظة أن شيء ما قد دُس لهما في الشراب هل هو السم!.. هم مارك بالنهوض نحو راشيل محاولا اسعافها وخاصة أنها كانت واعية تتطلع نحوه بأعين مذعورة لكن لا قدرة لديها على النهوض وأخذ رد فعل.. واكتشف أنه بدأ يشكو نفس الأعراض ولم يستطع التحرك ومغادرة كرسيه.. كلاهما كان مشلول بلا قدرة على الحركة إلا بؤبؤ العينين الذي يدور بمحجريهما في حركة سريعة مدلولها الفزع للجهل بما يجري..
لحظات وانفرج باب الغرفة ليدخل ظل أسود أقترب من موضعهما تطلع نحوهما من خلف قناعه مدركا أن الشراب قد أتى أثره ما دفعه ليتجه صوب جسد راشيل التي أصبحت نظراتها مثالا حيا للزعر المجسد حين وقف ذاك الظل الأسود خلف مقعدها مخرجا مدية من موضع ما بردائه وفي لحظة رفع جبينها دون أي مقاومة منها نظرا لجسدها المخدر كليا.. ونحرها كنعجة من الشريان للشريان للشريان في برود تام أمام ناظري مارك المذعور النظرة والذي أعتقد أن دوره هو التالي حين أقترب الظل الأسود منه، والذي انحنى في بطء مدروس صوب مارك هامسا بالقرب من مسامعه في هدوء قاتل: جاك يرسل لك تحياته من الجحيم.. ويبلغك رسالة هامة.. استقم وإلا مصيرك المرة القادمة لن يكون أفضل من هذه العاهرة..
لم يحر جوابا بالطبع فقد كان بنفس حالة الخدر العجيبة، ولم ينتظر ذاك الظل القاتل جوابا من الأساس بل تحرك في اتجاه باب الغرفة مغادرا في هوادة، ظلت عينى مارك معلقة بالباب للحظة معتقدة أنه قد يغير رأيه ويعود كنوع من السادية والامعان في التعذيب.. لكنه لم يعد.. ما جعله يحيد عينيه صوب موضع راشيل التي كانت رأسها ملقاة على صدرها وأنهار مصغرة من الدماء تنساب حولها وقد فارقت الحياة وهو غير قادر على ذرف مجرد دمعة لرثائها..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٤..
كانت السراي على قدم وساق لم يكن الأمر فقط لأن السراي تستقبل مولدا جديدا يحمل اسم رسلان لكن لأن الأجواء بالخارج لم تكن تنذر بالخير أبدا.. فقد هطلت الأمطار الغزيرة بشكل غير مسبوق وخاصة بالصعيد.. ولم يتوقف الأمر على ذلك بل إن الأمر قد تحول لفيضان جارف جاء من أعلى الجبل في إتجاه الجزء الملاصق له على الجانب الآخر من السراي.. كان المشهد للناظر مهيبا والماء يندفع كالطوفان في اتجاه الدور المجاورة للجبل حتى ضفاف النهر..
حمد حبيب ربه هامسا، وهو يؤكد على شبل في نبرة حازمة: نفذت اللي جلته كله يا شبل!..
أكد شبل في عجالة: بالحرف الواحد يا حبيب بيه.. جهزت اوض الچنينة المجفولة ورا السرايا وفتحت البيت الجديم للناس اللي السيل خد بيوتها.. لحد ما الدنيا تهدا وتشوف چنابك هنسوي كيف..
هتف بهجت الذي كان يقف متطلعا نحو ما يجري في اهتمام بالغ: يا حبيب.. طمن الناس كلها إن أي حد تضرر.. اصلاح بيته وأرضه عندي.. محدش يقلق..
هتف شبل في سعادة: ربنا يطول لنا بعمرك يا بهچت بيه..
ابتسم حبيب أمرا شبل: اها چدي حلها.. روح طمن الناس.. خليهم يرتاحوا ومحدش يشيل هم..
اندفع شبل لخارج السراي منفذا، بينما هتف بهجت لحبيب في تخابث: وأنت مش هتطلع تطمنا.. ولا عامل نفسك مشغول على حال الناس وانت حالك ما يعلم به إلا ربنا..
تنهد حبيب مؤكدا: مش جادر أطلع على فوج يا چد.. مش هعرف اتلم على روحي.. خليني جاعد هنا ملهي.. والجلج واكلني لاني معرفتش اچيب لها داكتور أو اطلع بها ع المستشفى وسط كل اللي حاصل ده والسيل اللي سد علينا مخارچ ومداخل النچع..
ربت بهجت على كتف حبيب متعاطفا، هامسا له في نبرة تحمل فرحا مغموسا بالشجن: عارف!.. أنا عمري ما عشت اللحظة اللي أنت عايشها دي.. ولا فكرت فيها حتى.. ولا عمري شلت طفل صغير لسه خارج للدنيا من لحظات.. ولا حتى فكرت اسمي ابني أو بنتي ايه.. الأعمال والبزنس خدني ولما مراتي اكتشفت إنها مش هقدر تديني طفل بكت كتير لكن أنا مكنش هاممني.. وكنت يستغرب من زعلها لكن طلع عندها حق.. دي احاسيس عمري ما عشتها ولا فكرت ف يوم إنها مهمة تتعاش.. وجيت هنا وغيرت كل قناعاتي .. وعيشتوني معاكم مشاعر كنت فاكر ان الوقت فات عشان اعيشها واجربها.. يااه.. ربنا ده كريم أوي.. نصيحتي لك يا حبيبي.. عيش كل لحظة وكل احساس.. لأن في حاجات لو فاتت يمكن ميكنش لنا نصيب في فرصة تانية نجربها ونعيشها..
هم حبيب بالرد، إلا أن الزغاريد التي ارتفعت قادمة من قلب السراي جعلته ينتفض مندفعا نحو الداخل مهرولا وبهجت في اعقابه..
وصل حبيب لقلب البهو لتبدأ نبيهة في وصلة آخرى من الزغاريد حين قدمت برلنتي تهبط الدرج في سعادة حاملة حفيدها صوب أبيه مهللة: ألف مبروك يا حبيب.. ولد زي القمر.. يتربى ف عزك..
هتف حبيب متسائلا في لهفة: أنس بخير يا خالتي!..
أكدت برلنتي: زي الفل.. دقيقتين واطلع اطمن عليها بنفسك.. وخد شيل..
دفعت برلنتي بالطفل لذراعي حبيب الذي ظل متطلعا نحوه في وجل، وانحنى مقبلا إياه على جبينه الوردي، قبل أن يتخطى جدته صفية معتذرا، واضعا طفله البكر بين ذراعي بهجت.. الذي حمله في اضطراب لا يصدق أنه يحمل اللحظة إحدى معجزات الخالق..
لتهتف صفية دامعة العينين وهي ترى تأثير فعلة حبيب على قسمات وجه بهجت التي اشرقت بضي عجيب على الرغم من شحوبها قليلا بعد معاودة المرض هجماته لجسده.. وتعجب الأطباء من المقاومة الباسلة لذاك الجسد الذي كان قد أعلن استسلامه قبل أن يطأ بأقدامه الرسلانية.. لكن للمحبة فعل عجب.. تضاهي آلاف المسكنات وملايين العلاجات.. العشق يشفي علل الروح.. فما بال باسقام الجسد!..
هتفت نبيهة متسائلة: هتسموا المحروس الصغير ايه يا حبيب بيه!..
أكد حبيب في ثقة: چده بهچت يسميه..
رفع بهجت ناظريه عن الصغير الذي أُخذ به كليا، متطلعا نحو حبيب بأعين دامعة، متسائلا في تعجب: أنا!.. أنا اسميه!..
أكد حبيب باسما وهو يضم كتفي جدته صفية في محبة: ايوه اومال مين! معلوم چده يسميه.. هااا.. اختار يا چد.. اسم زين مش افرنچي الله يخليك..
اتسعت ابتسامة بهجت، قبل أن يتطلع للصغير مجددا.. هامسا في عزة: مهاب..
رفع بهجت رأسه متطلعا نحو الجميع مرددا في قوة: هسميه مهاب..
هتف حبيب مهللا: الله أكبر.. والله ما يترد لك جول يا چد.. مفيش احلى من كده..
لتهتف صفية في فخر: مهاب حبيب رسلان.. ربنا يچعله زرعة صالحة ويعمر به يا ولدي..
رفعت نبيهة عقيرتها مجددا بسلسلة من الزغاريد حين حمل حبيب طفله مهاب مندفعا للطابق الثاني للاطمئنان على أنس الوجود.. لا تقله أرض ولا تحمله سماء لشدة فرحته..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٥..
تناهى للجميع أصوات أجراس ذاك الدير البعيد بقلب الجبل بالمنطقة الفاصلة ما بين الرسلانية وذاك النجع البعيد الذي تتشارك معه حدا فاصلا صغيرا بالقرب من السفح الذي تتناثر به الدور الصغيرة المتواضعة نسبيا.. كان اليوم يوم عيد النصارى الذين تجمعوا من أجل الصعود للصلوات نحو الدير..
مر حبيب بالبعض منهم ملقيا التحية والتهاني وهو بطريقه لصلاة الظهر بالجامع القريب.. أنهى صلاته وتنبه لبعض الفتية الذين لم يتجاوز سنهم الثامنة عشرة يجلسون بأحد جوانب المسجد ملتفين حول رجل أكبر سنا يلقنهم بعض الأحاديث النبوية الشريفة ويفسر لهم بعض من آيات الذكر الحكيم.. كان حبيب مدركا أن هؤلاء الفتية قد صلوا خلفه بالفعل.. لكن من ذاك الرجل الذي يبجلونه كثيرا!..
إنه ليس من أهل النجع.. أو حتى صادف أن رآه من قبل..
هم بالرحيل.. لكن حدس داخلي دفعه للجلوس خلف أحد الأعمدة متخفيا على مقربة لعل أذنيه تلتقطا ما يحشوه ذاك الرجل بعقول الصبية الملتفون حوله بكل هذه الطاعة والتوقير.. لكن فجأة وبلا مقدمات جاء ذلك الصدى الصارخ من الخارج.. هم حبيب بالخروج من المسجد للاستطلاع فإذا بشبل يظهر مهرولا صوبه، هاتفا في ذعر حقيقي: إلحج يا حبيب بيه.. الدير بيولع..
زعق حبيب مستفسرا: بيولع كيف!.. ايه اللي..
قاطع هتاف حبيب المحتج صرخة فرحة مهللة من داخل المسجد: الحمد لله.. إلى قاع الجحيم بعبدة الصليب..
انتبه حبيب لما يقال مدركا من يكون الرجل وأي أفكار يبثها عقول الشباب الغر.. لكن لم ذاك وقتا مناسبا للجدال.. وهذه المصيبة الكائنة بالخارج تستدعي سرعة التصرف.. ما حثه على الاسراع نحو موضع الحادث ليجد الدير تخرج من خلف اسواره النيران والمصلين الذين خرجوا مهرولين ما أن تنبهوا للحريق يتضرعون في حزن والقساوسة والرهبان في حالة ذهول وحزن شديد لرؤياهم الدير تلتهم جوانبه النيران ولا قدرة للجميع على اطفائها.. حاول حبيب والكثير من شباب النجع والنجوع التي أدركت الفاجعة المساعدة في اطفاء الحريق على قدر الاستطاعة وانقاذ ما يمكن انقاذه.. لكن بلا جدوى.. ما دفع حبيب ليعرض على القس وبعض الرهبان استضافتهم حتى يتم اعادة الدير لحالته الأولى.. فقبل الرهبان عرض حبيب مرحبين.. حتى تتم لهم العودة.. لم يكن البيت القديم متاحا وخاصة في وجود بعض الأسر التي تضررت من السيل ولم تنتهي أعمال البناء والترميم لبيوتها.. ما دفع حبيب لفتح غرف السراي الخلفية لاستقبال ضيوف الدير الذي التهمته النيران في يوم عيد.. أمرا شبل بأن يكون في خدمتهم ورهن إشارتهم.. لكن الأيام لم تمض بهدوء كما هو متوقع.. فما أن هلت المغارب بعد حادثة الدير بثلاثة أيام حتى اندفع شبل مهرولا نحو مدخل السراي مستدعيا حبيب بنبرة يملأها الذعر والذي هل من الداخل متعجبا: ايه في يا شبل!..
أشار شبل لخارج أسوار السراي.. ليتنبه لاقتراب ضوء عجيب ما جعله يهرول للطابق العلوي ليدرك أنها مشاعل تقترب يحملها الشيخ علوان وجماعته.. ذاك الشيخ الذي ظهر منذ سنة أو أكثر قليلا ليمسك إدارة جمعية السماحة.. كان شخصا لا يكبر حبيب سنا باكثر من ثلاث سنوات.. مريبا قليل الكلام له نظرات متفحصة متشككة.. فإذا ما تحدث لم تجد منه إلا الفظاظة في استخدام اللفظ وعدم اللين في الفعل.. لكن ما يحدث اللحظة كان أعجب من أن يصدقه عقل حبيب وكأنه مشهد مقاطع من فيلم قديم بسينما الخمسينات .. بهذا الجمع الأبيض من ذوي اللحى الذي يحيطه حاملا مشاعل كرمز تهديدي لا يقبل أي تفسير آخر.. ما دفع حبيب للهرولة مجددا باتجاه الأسفل لكن أنس الوجود استوقفته وهي تحمل طفلها الثاني كمال بين ذراعيها تسأله في ذعر عما يجري.. ليأمرها حبيب في نبرة حازمة: خدي مهاب وكمال چوه الاوضة واجفلي عليكي بابك.. وخليكم بعيد عن الشباك..
لم تطمئن أوامره انس الوجود بل على العكس زادتها اضطرابا، فهي تدرك أن حبيب لا يستخدم هذه اللهجة الأمرة بهذا الشكل الحازم إلا في أقصى درجات الضرورة.. لكنها نفذت صاغرة.. في انتظار أن تدرك ما يدور بالخارج وأسباب تلك المشاعل التي حولت ليل الرسلانية حول أسوار السراي لنهار ساطع..
خرج عفيف وخلفه خفيره شبل مدججا بسلاحه، يقف على باب السراي متسائلا في تعجب موجها حديثه للشيخ علوان قائد المجموعة: خير يا شيخ علوان!.. ايه في!.. ايه الشُجة الغريبة دي!..
هتف علوان دون حتى إلقاء أي تحية، أمرا بلهجة ملك متوج يأمر فيطاع: الانچاس اللي أنت اويهم بدارك .. يلزمونا..
هتف حبيب متعجبا، محاولا التغاضي عن نعرة الكبر في نبرات صوت علوان: عمر سراية الرسلانية ما كانت مأوى لأي انچاس يا شيخ!.. شكل الحكاية فيها لبس ولا حاچة!..
هتف علوان مؤكدا: عبدت الصليب اللي عندك.. واللي يتطهر منهم الرسلانية.. مش برضك أنت أوي ال..
زعق حبيب صارخا في عزم مقاطعا حقارته، بعد أن تأكد له ظنه: أخرس.. ولم لسانك النچس ده.. أنت اللي هتطهر الرسلانية.. ليه!.. لهو حد جالك أننا هنا عايشين فالفسق والفچور.. الرسلانية طول عمرها طاهرة جبل ما نعرفو عينتك.. روح من هنا.. أنت واللي لاممهم حواليك فاكرنا هنخاف ونرچف.. وبجلهالك يا اللي اسمك علوان أنت.. أنت غريب ولسه رچل بره الرسلانية ورچل چواها.. والله لو حطيتك ف دماغي لا أنت ولا اللي معاك هتبيتو فيها ليلة واحدة..
ثم تنبه حبيب لشخص بالصفوف التالية خلف علوان، فهتف متهكما: ووه، ده مظهر الحراني وسطكم اها.. ما أني بجول.. اللمة الكدابة متجيش إلا من نواحيكم، والله أنت كان تمامك نومة البورش يا بن الحرانية.. وكان لازما أفهم إن النار والمشاعل دي فكرتك.. ما أنت خبرة ف النار دي من زمن.. فاكر ولا افكرك يا واد!..
خرج مظهر الحراني من بين الصفوف متقدما صوب الشيخ علوان منحنيا قليلا يهمس قرب مسامعه ببعض الكلمات، ليهز علوان رأسه متفهما، قبل أن يتطلع نحو حبيب بنظرة من نظراته المتفحصة السامة، أمرا رجاله باشارة من كفه دون أن ينطق حرفا.. لينسحب هو والجمع خلفه دون مناقشة كالقطيع..
ظهر كبير القساوسة عندما دخل حبيب وشبل للسراي، ليهتف في نبرة حزينة: إحنا نمشو يا حبيب بيه بدل ما جعدتنا تسبب مشاكل..
هتف حبيب معاتبا: ووه!.. برضك الكلام اللي يزعل ده يا أبونا!.. ده مطرحكم.. وحمايتكم حج.. لحد ما ترچعوا الدير بالسلامة..
همس القس ببعض الدعوات والتضرعات قبل أن يعود من جديد لحجرته خلف السراي.. ليعود حبيب لداخل السراي مقابلا بهجت، الذي خرج بهوادة وخطوات واهنة يطمئن على سير الأحوال، ليسأل في تعجب ما أن أخبره حبيب: ومن امتا مصر كان فيها الكلام ده! عمرنا ما كنا بنقول ده ايه وده ايه ولا اتصنفنا تبع الدين أبدا.. حتى الي..هود.. كانوا عايشين وسطنا في أمان..
أكد حبيب متنهدا: من يوم ما هل علينا اللي اسمه علوان ده وعينه واحنا شايفين وسمعين العچايب يا چد..
همس بهجت بصوت خافت: ربنا يسترها يا حبيبي..
هز حبيب رأسه مدركا صدق نبرة القلق في صوت بهجت الذي كان له نظرة استشرافية للمستقبل لا تخطئ.. اكتسبها من المشقة.. وخبرة سنوات طويلة من الغربة..
❈-❈-❈
الرسلانية ١٩٩٧..
اندفعت منيرة لداخل السراي في سعادة تحمل طفلتها الرضيعة على كتفها وتجر خلفها طفلها الأكبر سنا والذي اندفع للداخل باحثا عن أبناء خاله مهاب وكمال للعب معهما.. ولم يلق بالا لزوجة خاله أنس الوجود التي كانت تقف بمدخل السراي مرحبة فلم يلق التحية في غمرة حماسته، ما دفع منيرة لتزعق معترضة: شوف الواد چري زي المچنون.. طب سلم الأول..
قهقهت أنس وهي تحتضن منيرة في محبة وشوق: وحشتينا يا منيرة.. ايه بتروحي وتقولي عدوا لي..
تنهدت منيرة وهي تجلس على أول مقعد قابلها بعد دخولها لقلب البهو مؤكدة: والله عندك حق يا أنس.. بس أعمل ايه!.. سراچ فين ما بيروح بيسحبنا وراه.. واها چت نجلته المرة دي اسيوط وهنبجا چاركم وهروح واچي عليكم اتونس بكم بدل الجعدة لحالي..
أكدت أنس في محبة: ده إنتي هتنورينا.. حبيب هيتبسط أوي..
ربتت منيرة مازحة على بطن أنس التي بدأت تتكور مظهرة حملها الثالث للعيان: ايه يا أنس!.. هتفجسي ميتا!..
قهقهت أنس مؤكدة: خلاص هانت.. ومتبصليش كده ده اخوكي عايز العيال ورا بعض.. قال ايه عاوز عزوة كبيرة وأخوات يشيلوا بعض..
تنهدت منيرة متفهمة: ايوه يا حبة عيني.. حبيب كان طول عمره واجف لحاله وبطوله..
دخل حبيب السراي وهلل لرؤية أخته الصغرى وأطفالها.. لتخبره بنقل سراج لأسيوط، ظهر الصبية يركضون خلف بعضهم وقام حبيب بفتح التلفاز لعله يجد ما يجمعهم على مشاهدة.. لكن ذاك الخبر الذي ظهر على شاشة التلفزيون آثار انتباه الجميع ليرفع حبيب مؤشر الصوت ليسمع من ضجيج الأطفال وصرخاتهم ما يفسر ذاك الخبر المشؤوم..
انتفضت منيرة هاتفة في صدمة: ف الاجصر.. الضرب اللي في السياح ده في الاجصر!.. يا مري.. ده چمال وهاچر وبناتهم هناك..
هتفت أنس الوجود في اضطراب: يا رب خير.. بإذن الله يكونو كويسين..
رن جرس الهاتف فاندفع حبيب ليرد في عجالة مستشعرا أن الأمر يخص هذه الحادثة في الدير البحري التي يزيعها التلفزيون من موقعها ليهتف سراج على الطرف الآخر بعد التحية بصوت متحشرج: چمال اتصاب يا حبيب.. چمال كان هناك.. ادعوله..
هتف حبيب في حزن: لا حول ولا قوة إلا بالله..
هتفت منيرة في ذعر: ايه في!.. أني جلبي كان حاسس!.. چمال صح!.. يا وچع جلبي عليكي يا هاچر..
بدأت أنس الوجود في البكاء لكن حبيب هتف مؤكدا: اتصاب يا چماعة.. والله إصابة.. ربنا يجومه بالسلامة.. ويخليه لعياله..
نزعت منيرة الهاتف من يد حبيب باكية: سراچ.. هو بچد كويس!.. طب هاچر والبنات..
أكد سراج متنهدا: محدش لسه عارف حاچة يا منيرة.. الدنيا مجلوبة والموضوع مش هين.. هحاول أعرف التفاصيل وابلغك.. اطمني..
همست منيرة ببعض الكلمات قبل أن تغلق الاتصال، متطلعة نحو أخيها وزوجه، هاتفة في ضيق: هم الناس دي بتعمل كده ليه!.. وعايزين مننا ايه!.. والناس اللي راحت دي ذنبها ايه!..
همس حبيب رابتا على كتف أخته مشفقا: أهدي يا منيرة.. وربنا يچيبها على خير..
همست منيرة في اضطراب: أنا خايفة يا حبيب.. سراچ منجول ف جلب الحكاوي دي.. وكل يوم نسمع خبر هچوم للي ما يتسمو دول على كمين شرطة ولا قسم.. أنا مرعوبة..
هتفت أنس معاتبة: ده شيطان يا منيرة.. اهدي وربما ما يجيب شر أبدا.. وهنحاول نشوف طريقة نوصل بها لهاجر.. يا ريت أقدر أسافر لها بوضعي ده.. بس أهم حاجة دلوقت نطمن عليهم.. عقبال ما ربنا يطمنا على جمال بيه بإذن الله..
تضرعت منيرة في رجاء.. وما زال الرعب يمتلكها لما يجري..
❈-❈-❈
الرسلانية ٢٠٠٣..
منذ حادثة الحادي عشر من سبتمبر ٢٠٠١ واتهيار برجي التجارة العالمية بالولايات المتحدة نتيجة هجمات ارهابية.. وتحول العالم وسياساته تجاه الشرق الأوسط ونظرته لكل ما يحمل الهوية والصبغة الإسلامية.. والآن على شاشة التلفاز تعرض مشاهد حية من العاصمة العراقية بغداد.. ومحاولات البعض لإسقاط تمثال رئيسها صدام حسين.. القائم بأشهر ميادينها..
تزامن سقوط التمثال مع زغاريد ارتفعت من خارج السراي معلنة قدوم أحدهم بخبر يحمل فرحة ولو مؤقتة تزيل تلك الغصة التي تمركزت بالحلق مع متابعة المجنزرات الأمريكية وهي تطأ الأراضي العراقية في استباحة وخسة..
ظهر سالم على أعتاب السراي الداخلية ملقيا التحية في سعادة يتأبط محمود ذراعه وهو يهتف في فرحة: اهااا.. رسمي يا حبيب بيه.. مشايخ رسمي واخدين الإچازة م الأزهر..
انتفض حبيب في سعادة ما أن تنبه لوصول أخيه محمود، مندفعا يطوقه بذراعيه في فرحة، وكأنها الفرحةذاتها بولده البكر.. رابتا على ظهره في عزة، مؤكدا: عفارم عليكم.. هو ده الكلام ولا بلاش..
أنهى حبيب ترحابه بأخيه معانقا سالم بدوره، هاتفا في محبة وهو يربت على ظهره في قوة: طلعت كده كلمتك يا واد يا.. لا بجى واد مين.. يا شيخ سالم.. ربنا ينفع بكم.. ادخلوا.. اتوحشناكم..
زعق حبيب مناديا: تعالوا يا عيال سلمو على عمكم.. الشيخ محمود رسلان.. والشيخ سالم ضاحي خلف الله.. على سن ورمح..
هتف سالم مازحا: لاه.. أنا لازما اچري على أمي حلا.. بالك لو نچية عرفت إني نزلت عند حد جبلها هتقيم عليا الحد.. سلام عليكم..
اندفع أطفال حبيب من أعلى الدرج مهرولين باتجاه عمهم محمود الذين كانو يؤثرون صحبته..
وحلمه على أفعالهم.. جلس جواره مهاب حاملا أخيه الأصغر فاروق.. ثم كمال.. وأخيرا أتى جلال..
مندفعا ليجلس بأحضان أبيه..
هتف حبيب لأخيه محمود: الرسلانية محتاچاكم جوي يا محمود أنت واللي زيك.. الشيخ اللي ما عرف مين جال عليه شيخ اللي اسمه علوان ده.. لامم حواليه شباب النچع من مصغرهم لمكبرهم وشغال يبوظ ف عجولهم بكلام فارغ مش من الدين ولا فيه من الاسلام حاچة.. والكل ماشي وراه.. تجول ما تجول.. يدافعوا عنه وده راچل فاهم وبتاع ربنا.. اومال إحنا بتوع مين!..
همس محمود بصوته الرزين مؤكدا: عندك حج.. النعرة دي انتشرت جوي.. مفيش زاوية ولا چامع ف مصر رحناه إلا ولجيناهم سابجينا.. تيچي تسمع وتصحح أقوالهم اللي كلها تدليس والتباس تلاجي هچوم عليك.. تجول نتناقش بالحچة وأنا أزهري ودارس.. يزيد الجدال ومايرتاحوش إلا وهم مخرچينك بره الزوايا بأي حچة.. ربنا يستر على العقول اللي تعرضت لسمومهم فتتقيتها وإعادة وضعها للفطرة السليمة مش أمر سهل خالص..
أكد حبيب متفهما: ايوه.. معلوم.. دول معمول لهم غسيل دماغ عچيب.. والمصيبة الأكبر الولاء اللي في نفس العيال دي لهم.. لأنهم عرفوا يكسبوهم.. وبالخصوص مع تجديم المال.. العيال دي معظم بيوتهم بيوت على كد حالها.. بيچيبو منين يصرفوا على بيوتهم دي وهم لا شغلة ولا مشغلة إلا المشي ورا الشيخ علوان كيف ضله.. ورايحين فين رايحين الچامع وراچعين منين راچعين من الچامع.. إني اشوف لواحد فيهم محل فتحه لأكل عيشه ولا نازل يعزج له جيراط أرض.. مفيش الكلام ده.. وفوج كل ده الفلوس چاهزة وحاضرة.. منين!.. محدش داري..
همس محمود في رزانة: ربنا يعينا عليهم..
همس حبيب: يا رب.. ياللاه جوم ارتاح لحد ما يچهز الغدا.. تلاجيك تعبان م السفر.. وبكرة نچهز نعمل ليلة لله.. فرحة رچوعك بالشهادة.. وندبح ونأكل ناس الرسلانية كلهم.. وربنا ينفع بك يا شيخ محمود..
ابتسم محمود في سعادة.. ونهض في هوادة مرافقا لمهاب أكبر أبناء حبيب وأكثرهم تعلقا بعمه.. يسيرا في اتجاه الدرج..
❈-❈-❈
الرسلانية ٢٠١٠..
كانت أخبار انفجار كنيسة القديسين بالإسكندرية تتصدر نشرات الأخبار طوال النهار.. فمع مطلع عام جديد طل وجه تلك الجماعات المتطرفة مرة آخرى بعد أن ظن الجميع أن الأمن استطاع كسر شوكتهم بعد حادثة الدير البحري بالأقصر في نهاية التسعينيات.. لكن على ما يبدو أن الأمور قد بدأت تتخذ مسارا آخر مع ظهور تنظيم داعش بعد دخول أمريكا وسيطرتها على العراق..
رن جرس الهاتف المحمول فتطلع حبيب لشاشته التي أنارت باسم منيرة، فأجاب حبيب فورا في لهفة: برضك كده يا منيرة! ومحمول جال والمفروض في يدك.. ارن عليكي اطمن ايه اللي بيچرا عندكم مترديش.. چوزك وعويلاتك بخير..
أكدت منيرة معتذرة: الحمد لله.. والله الواحد ما عارف يجول ايه.. الكنيسة اللي فيها التفچير جرب بيت عمي صبري اللي جاعدين فيه من يوم ما چه سراچ اسكندرية.. والله الجزاز من صوت الاتفچار اتكسر.. منهم لله البعدة.. مت فچلدي أنا والعيال لوحدينا.. وسراچ ف مأمورية.. وچمال صاحبه كان في اچازة هنا عشان أمه ف المستشفى.. ففضلت أنا وهاچر نتكلم طول الليل نتونسوا.. يمكن عشان كده مخدتش بالي لما رنيت..
هم حبيب بالكلام.. لكن تلك الأصوات التي قدمت من الخارج معلنة الفرحة بأصوات عجيبة أشبه بأناشيد الحماسة في الحروب عبر مكبرات صوت.. لا طبول ومزامير كما هو معتاد.. كان بالفعل عجيبا.. فلم يكن ذلك وقت انتخابات ولا احتفال من أي نوع يستدعي مظاهر الفرح هذه..
أنزل حبيب جلال ولده عن حجره.. ملقيا التحية لمنيرة: طب الحمد لله إني اطمنت عليكي.. اجفلي وهكلمك تاني يكون سراچ رچع..
اغلق حبيب الهاتف واندفع للخارج متسائلا.. في صوت زاعق: ايه في يا شبل!..
أكد شبل وهو يندفع نحو موضع حبيب مفسرا: والله ما هتصدج اللي بيچرا يا بيه!.. جول مين رچع!..
أجاب حبيب متشككا: الحچ سعيد أبو مسلم رچع من العمرة!.. كيف ده!.. ده مبجالوش اسبوع م...
هتف شبل مقاطعا في ذهول: لاه.. ده الحچ محسن اللي عاود..
هتف حبيب في ريبة: الحچ محسن مين!..
أكد شبل هاتفا: الحچ محسن الحراني..
هتف حبيب في ذهول غير مصدق: وووه.. محسن الحراني.. وده إيه اللي فكره بالرسلانية وناسها بعد العمر ده كله!.. وداخل لنا بزفة.. ليه عريس!.. ولا كان فالسچن وخد افراچ.. ده تلاجي محدش ف النچع فاكره..
أكد شبل مشيرا للخارج: ده مين اللي مش فاكره!.. ده الرسلانية كلها بره ورا عربيته اللي بيحدف من شباكها ورج بميات يا حبيب بيه.. والعيال اومات دجون كلهم ملمومين وراه.. من النچع هنا والنچوع اللي چارنا.. ودابح له بتاع خمس عچول لحد دلوجت.. والناس تلاجيهم ملمومين ف الحرجة دلوجت لچل ما كل واحد فيهم ينوبه من الدبيحة حتتين لحم يعشي بهم العيال..
لم ينطق حبيب حرفا.. وقف ساهما يصله صوت أناشيد الحماسة وكأنها نعيق بوم ينذر بشر مستطير.. تضرع أن يعين الله الرسلانية على تحمله..
❈-❈-❈
الرسلانية ٢٠١٢..
عام كامل مر على ثورة يناير.. عام من التخبط والازدواجية وضبابية الرؤية.. ما كنت تظنه اليوم هو عين الصواب تكتشف بعد أسابيع قصيرة أنه عين الخطأ.. اعتصامات وتصريحات ووعود.. وتسريبات.. هجوم على الاقسام الشرطية.. فتح لسجون.. وهروب مساجين وعناصر إجرامية خطرة.. انحلال أمني بعد محاولات السيطرة على الجهاز الشرطي واستهداف الصباط.. نزول الجيش بقواته لشوارع القاهرة والمحافظات لحفظ والكل الأمن ومحاولة السيطرة على الأوضاع التي تزداد سوءا يوم بعد يوم.. والكل في الميدان.. ميدان التحرير.. ينتظر اللحظة الحاسمة باعلان الرئيس مبارك تنحيه عن الحكم.. وترك إدارة البلاد لحكم مدني منتخب.. ليعلن التنحي اخيرا.. لتعيش مصر شهورا في حكم انتقالي وحظر تجوال.. ثم ها قد جاءت لحظة الحسم فيما يخص كرسي الحكم ومقعد الرئاسة وطبيعة فترة الحكم الجديدة بعد ثورة أطاحت بحكم به الكثير من العوار على حد قول المحليين.. والاتيان بحكم مدني يحقق ما نادت به الثورة من خبز وحرية وعدالة اجتماعية.. مرشح ذو خلفية عسكرية كالعادة منذ الاطاحة بالملكية.. ومرشح ذو خلفية دينية تابع لجماعة كانت ضمن الجماعات المحظورة من المشاركة السياسية لسنوات طويلة.. ولها باع طويل وتاريخ أسود.. ملطخة الأيدي بدماء الكثيرين من خصومها..
عاشت الرسلانية أيام وليالي من ظلام وخوف.. جاءت منيرة تحتمي بها بصحبة أولادها بعد إصابة سراج في إحدى المواجهات.. وظلت بصحتهم حتى هذه اللحظة بعد تعافي سراج وعودته لموقعه.. ظلت السراي مأوى لكل عابر سبيل أو طالب أمان.. حتى جاء يوم الانتخاب وتعالت الصرخات من هنا وهناك .. كان الشيخ علوان وجماعته يدفعون بنصارى النجع للرحيل قسرا.. أو حبس بعضهم داخل دورهم.. حتى انتهاء يوم الانتخاب رغبة في منعهم من التصويت علما منهم بل. يقينا أن أصواتهم لن تكون لصالح مرشح جماعتهم..
فر العديد من النصارى صوب الدير الذي كان قد تم تحصينه بالحراسة المشددة بعد المرة التي تم حرقه فيها.. والبعض الآخر فر صوب السراي ليفتح لهم حبيب أبوابها كعادته.. لم يقتصر الأمر على ذلك.. بل دخل سالم صارخا وهو يحمل محمود مصابا.. فقد كانا في طريقهما للنجع حين ظهر لهما مسلحين على مدخل الرسلانية اطلقوا النيران على السيارة التي كانت تقلهما.. رغبة في اصابة محمود وسالم والتخلص منهما.. فقد عرف كلاهما بصوته العالي دفاعا عن صحيح الدين وتصحيح المفاهيم المغلوطة التي زُرعت بعقول الشباب..
صرخ حبيب في شبل ليأتي بالدكتور سرور.. فقد عمل الشيخ علوان وجماعته على تطويق مداخل النجع ومخارجه.. حتى تنتهي ساعات الاقتراع المقررة رسميا..
وزاد الأمر تأزما عندما ظهر على بوابة السراي شخصا يطلب الحماية.. مصاب اصابة شديدة بذراعه وعلى ما يبدو استطاع الهرب والنجاة بأعجوبة.. كان صحفي معروف مناهض للجماعة وافعالها ويحفظ تاريخها الأسود.. فحاذ كره أفرادها.. ذاك الصحفي جمعته صداقة قوية بمحمود وسالم وكان مقررا أن يأتي بصحبتهما للرسلانية.. وحدث ما جرى..
وحصل ما كان متوقعا.. ما لم تحصله جماعة علوان منذ سنوات حين محاصرة السراي بالمشاعل.. ها هي تعيده بنفس تفاصيله.. لكن هذه المرة الاعداد أكبر بكثير وأفراد الجماعة لم يكتفوا بحمل مشاعل النار بل اصبحوا مدججين بالسلاح..
هتف أنس الوجود في ذعر حين رأت الأمر بهذا الشكل المثير الفزع: حبيب!.. الناس دي عايزة مننا ايه!..
همس حبيب شاردا في أنوار المشاعل التي تقترب نحو أسوار السراي من كل جانب: عايزين يجتلوا محمود وسالم وكل اللي زيهم.. عايزين يخدوا أستاذ جاسر الصحفي عشان يخرسوا صوته ويجطعوا لسانه لو فكر يفضح كدبهم.. عايزين يخلصوا م النصارى عشان جال ايه مصر إسلامية.. طب ووصية الرسول عليه الصلاة والسلام بأهلها النصارى نودوها فين!.. لو ع اللي عايزينه فهو كتير.. يا أنس.. فين الأمانة اللي سلمتهالك تداريها.. روحي چبيها..
همست أنس متعجبة: دلوقت!..
أكد حبيب وعينيه تتابع ما يجري بالخارج.. وقد أوشكت الجماعة على الوصول لأسوار السراي..
ضفط حبيب نمرة سراج والذي رد في عجالة: خير يا حبيب!.. انتو بخير!..
هتف حبيب نافيا: لاه.. مش بخير يا سراچ.. الچماعة إياها اللي كنت كلمتك عليهن جبل سابج.. بيجربو م السراي شايلين سلاح وشكلهم مش ناويين يچبوها البر..
هتف سراج في هدوء: طب حاولو متحتكوش بهم وأنا هتواصل مع مديرية أمن أسيوط أخليهم يبعتوا دعم للنجطة عندكم.. أنت عارف الچهاز بيتعافى لسه.. والدنيا مش أحسن حاچة.. وهم متجصدين يعملوا كده يوم انتخابات عشان الكل ملهي.. دول ناوينها يا حبيب..
أكد حبيب خامسا: إن كان ع النية فىهي جديمة جوي.. أنا هحاول اتصرف وأنت ابعت اللي يجدر من عندك..
أنهى حبيب المكالمة.. وعادت أنس الوجود بالظرف الأصفر ناولته إياه.. ليطاليها في هدوء.. خدي العيال الصغيرة.. ولاء وصديج معاكي انتي ومنيرة وعيالها الصغيرين.. واطلعوا على اوضة البدروم تحت المطبخ.. اجعدوا فيها ومتطلعوش..
سألت أنس في اضطراب: وباقي العيال يا حبيب..
أكد حبيب في نبرة حازمة: نادميهم كلهم.. أني كنت بخلفهم لليوم ده.. وبجولك.. لو چرا لي حاچة.. ابجي..
قاطعته أنس الوجود باكية: حبيب!.. بلاش الكلام ده.. ميتعش يوم ف الدنيا من غيرك..
همس حبيب مطالبا في لين: اسمعي بس.. سوا نصيبنا من الدنيا خلص النهاردة ولا بعدين.. الظرف ده.. هحطه مطرح ما كنت شايله.. واللي هيلاجيه من ولادك.. هو اللي هيشيل السرايا دي وهمها العمر كله.. فهماني يا أنس!..
هزت أنس رأسها في طاعة، وهرولت مبتعدة كما أمرها.. ليحضر أولاده السبع في غمضة عين أمرا إياهم: مهاب وجلال.. خليكم ناحية السور الشرجي للسرايا.. كمال وفاروج.. على الناحية الجبلية.. وأنت يا نادر هتخليك على باب السراي من چوه إياك تخرچ غير لما نجولوا.. معلوم!..
نفذ الجميع في طاعة تعليمات والدهم.. وما أن أصبح وحيدا.. حتى فتح الظرف الأصفر مخرجا ذاك الخطاب المطوي داخله.. ليفضه في حرص..
وقد بدأ القراءة في صوت مسموح وكأنه يستحضر صوت جده الكبير سعد رسلان صاحب هذه الوصية التي كتبها منذ سنوات طويلة خلت بعمر هذه السراي الذي أدرك لما هذا التكالب على بيعها تارة وهدمها تارة آخرى ..
إلى حامل هذه الأوراق ..
ما أن تجد هذا المظروف الأصفر فذاك يعني أمرا واحدا.. أنك المقصود.. أنك المختار لحمل الأمانة.. أنا لا أعرف من أخاطب.. قد تكون ولدي فضل الله أو ربما ولده رؤوف!.. أو قد تكون حفيدا بعيدا لم يسعفنا الزمان لنلتقي.. لكن على أية حال.. اقرأ هذه الكلمات القادمة بقلبك قبل عينيك.. واعمل بالنصيحة قدر استطاعتك.. وإياك والافصاح عن محتوى هذه الأوراق والا فيه الهلاك..
يوم أن سعيت لبناء هذه السراي حين كانت جدتك أنس الوجود هتاك تائهة لا تقدر على العودة للمحروسة.. جاءتي هاتف منامي أمرا إياي أن اشيدها على أرض البركة بالتحديد.. على الرغم أنها لم تكن اختياري الأول وحاولت أن اقيمها بالفعل في موضع آخر لكن للعجب.. لم تقبل أرض بالرسلانية كلها أن يقام بها عمود واحد كأساس للسراي إلا أرض البركة قبلت بل ورحبت مع تعجب المهندس الإيطالي ورفضه لطبيعة الأرض في البداية.. لكنه أستمر في البناء بلا كلل أو ملل لسنوات قاربت على الثلاثة أعوام..
وفي ليلة وبلا مقدمات وجدتني مجذوب للسير نحو أرض البركة حيث موقع البناء لأجد المهندس باجازة واستشعر وجود شخصا ما قام بدفعي تجاه إحدى الحفر العميقة.. لم يكن هذا الشخص إلا نعيم.. الخواجه اليهودي.. لم أكن أعلم قبلها أنه يكن لي كل هذا العداء.. ولم أعرف لم فعل هذا .. لكن ما حدث بعد سقطت بهذه الحفرة العميقة الأشبه ببئر جافة.. أني وجدت الموضع حولي مضاء بنور عجيب لم أعرف حتى مماتي مصدره.. وصوت هاتف حدثني وأنا بين الذهول والصدمة أن كل هذا الضوء لأبصر الصندوق الذي يحمل إرث للعائلة منذ زمن جدي الأكبر الذي جاء هاربا من السخرة.. واستصلح هذه الأرض بكفين عاريتين..
داخل هذا الصندوق صكوك ملكيتنا لهذه الأرض وكل ما عليها وبكل ما في باطنها.. وصكوك آخرى أشد خطورة سعى كثيرا جد نعيم الأكبر في الحصول عليها ولو كلفته حياته لكنه لم يستطع وكذا حاول نعيم.. الذي كان يرغب في قتلي والراحة من وجودي ثم العبث بأرضي ليصل لغايته.. هذه الأوراق هي صكوك عبوديتهم.. عقود تثبت أنهم كانوا مملوكين لا مالكين كما أدعو كثيرا كذبا أنهم أسياد هذه الأرض.. بالتأكيد راودك اللحظة سؤال عن رغبة نعيم في استرداد هذه الصكوك والوثائق.. فمن مصلحته أن تظل مختفية ولا تظهر مطلقا.. أليس كذلك!.. كنت أعتقد ذلك مثلك.. حتى أدركت طبيعتهم الخبيثة المعجونة بالخسة والتي تجعلهم على استعداد للحصول على هذه الصكوك والوثائق والعمل على تزويرها بكل براعة واتقان تحت مسمع ومرأى من الجميع والكل سوف يصفق مؤيدا وثائقهم المزورة وتجميل تاريخهم المعطوب.. لتكون السراي وأرضها بل قد يمتد الأمر ليؤكدوا أن الرسلانية كلها ملكا لهم بحكم قضائى لن يقبل استئناف أو يخضع لنقض.. هنا أدركت لما خصني ذاك الهاتف بالبناء على أرض البركة.. حتى اكتشف هذه الأسرار.. وأدركت أن حروبا كثيرة سوف تقوم من أجل هدم السراي لأنها هدفهم الأول الذي لو تحقق لنالوا مبتغاهم.. وأعلم... أنهم حين تعييهم الحيل وتُغلق امامهم السبل لتحقيق مبتغاهم.. سيدفعون برجال من بينكم.. يشبهونكم لكن ليسوا منكم.. أخذتهم الدنيا وغرهم البهرج الخداع وشاع الضلال بعقولهم والعبث بفطرتهم.. ينفذون خطتهم المرسومة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.. فاحذرهم.. وكن على يقين أن الله غالب على أمره.. وإياك والتفريط..
السلام ختام..
سعد باشا رسلان..
أدخل حبيب الأوراق دامع العينين لمظروفها في حذر.. أعادها لموضع سترها.. عائدا متطلعا من نافذة الطابق العلوي نحو الخارج وقد أصبح علوان وجماعته يحيطون بسور السراي الخارجي.. تذكر حبيب يوم محاولة هدم السراي وإصرار الجد بهجت على إعادة بناء الأسوار بهذا الارتفاع وهذه المتانة.. مترحما عليه في سره..
هتف حبيب متسائلا بصوت زاعق: ايه اللي چابك يا علوان من تاني!..
اتسعت ابتسامة علوان مؤكدا: لاه.. ما هي المرة دي غير يا حبيب.. النوبة اللي فاتت كانت الدنيا فى يدكم.. لكن النوبة دي الدنيا كلها بيدنا إحنا.. واللي معرفناش نعمله من جبل كده.. هنعملو المرة دي ولا حد يجدر يعدل علينا..
هتف حبيب مؤكدا: ده عشم إبليس ف الچنة يا علوان.. إن رچلك تخطي السرايا دي او حتى تلمح فروع شجرها حلم مش هتنوله.. ولا هتنول واحد من اللي استجارو بها واحتمو فيها.. احنا لا زيكم ولا شبهكم.. لا بننقض عهد ولا بنخلف وعد..
هتف علوان صارخا في حنق: يبجى أنت اللي طلبتها ونولتها يا واد رسلان..
بدأ أفراد جماعة علوان في قذف السرايا بمشاعل النار والتي طاشت بعضها ولم تمر فوق السور العالي وأخرى مرت ما جعل حبيب يأمر أولاده باطفاء النيران لا ردها عليهم مفسرا:دول بيستفزوكم عشان تردوا عليهم.. اياك حد فيكم يرد.. طفوا النار ..وبس..
اطاع أولاده وظلوا على هذه الحالة فترة.. وما أن ارتفع صوت الرصاصات الحية معلنا أن علوان قرر استخدام الخيار الثاني.. السلاح ليقتحم السراي.. لكن فجأة وقبل أن يأمر حبيب أولاده بالتستر.. ظهرت الشرطة التي حاصرت أسوار السراي بدورها لتكون هي الحد الفاصل ما بين السراي ومجموعة علوان.. ليأمر الضابط في صرامة: فض التجمهر ده.. وابعدو عن السرايا.. وإلا هضرب ف المليان..
لم ينفذ علوان ما أمره به الضايط.. وصمت يستمع لمظهر حين أقترب يبلغه أمرا ما على أثره هلل علوان في فرحة ورجاله مهللين خلفه، وقد أعلن فوز مرشحهم الرئاسي.. ليهتف علوان ساخرا: بكره هجيب أمر بهد السرايا دي على دماغ صحابها وأنت واجف ومش هتجدر تجول لاه..
هتف الضابط في ثقة: لما تبقى تجيبه هبقى اهد معاك.. ولحد ما ده يحصل.. خليك بعيد.. سامعني يا علوان..
هتف صوت أمرا علوان بالتوقف، ليظهر محسن الحراني متطلعا للسراي بنظرة شاملة وخلفه رجاله هاتفا لحبيب في ثقة: تبيع بكام يا حبيب!..
هتف حبيب ساخرا: هو أنت لسه فيك الداء المهبب ده يا محسن يا حراني.. وفاكر إن كل حاجة للبيع..
هتف محسن ساخرا بدوره: وأنت لسه راكبك الكبر يا حبيب يا واد رسلان وفاكر إن الدنيا اتخلجت عشان مزاچ چنابك..
قهقه حبيب من خلف أسوار السراي مؤكدا: ايوه.. وخليك حاسس كده طول عمرك.. إني السرايا دي أبعد عن انكم تحطوا رچلكم چواها.. أو تطولوا اللي انتو جاينها عشانه.. وأنا وانتم والزمن طويل.. واللي انتو فرحانين به مش هيدوم.. اللي مالوش أساس مسيره يتهد.. واللي مالوش أصل.. بيدور له على أصل ولو بالكدب.. ولا ايه يا حراني..
هتف محسن الحراني في حنق، متجاهلا سخرية حبيب: ورانا الأهم دلوجت.. وبعدها لك روجة.. وفعلا الزمن بينا طويل.. واللي يصبر ينول.. كيف ما نلنا الكرسي بعد ٨٠ سنة انتظار ..
اندفع محسن الحراني مبتعدا، ليجد علوان نفسه بلا فائدة تذكر فاضطر لسحب رجاله والابتعاد عن السراي..
لينتصر حبيب مجددا.. والذي ضم أولاده لصدره في محبة.. ليسأله أحد أولاده: هم ليه كل شوية عايزين يهدوا السرايا يا بابا..
ابتسم حبيب لسؤال ولده مجيبا: لچل ما يتوه اللي زيك عن أصله.. ويچهل دينه.. ويسوجوه الغُرب والجُرب على هواهم.. وينسى تاريخه.. وينسى هو مين يا ولدي.. فهمت!..
هز الصبي رأسه متفهما ليصطحب حبيب أولاده جميعا تحت التعريشة بعد أن أمر مهاب بإخراج أمه وعمته من غرفة البدروم.. والتي جاءت مهرولة تحمل طفلتها ولاء ويحمل مهاب توأمها صديق.. بينما ذهبت منيرة لتطمئن سراج على سير الأمور..
ليشير حبيب موسعا مجال جواره لتجلس أنس الوجود ملتصقة به، يحاوطهم أولادهم في سعادة.. حتى هتف فاروق مهللا: احكي لنا حدوتة..
ابتسمت أنس الوجود لحبيب هامسة: احكي يا شهريار..
اتسعت ابتسامة حبيب مشاكسا في همس: شهريار كان بيطير رجاب النسوان بس.. مالوش ف الحكاوي..
قهقهت أنس هامسة بدورها في عشق: إزاي بقى.. ده أحلى حكاية ف العمر كله كانت معاك.. والتعريشة دي لو اتكلمت تشهد..
وكأن كلمات أنس الوجود الناعمة كانت هي الوقود الذي أشعل فتيل الرغبة بقلبه، مقررا أن يقصد عليهم قصة سعد رسلان وكرمة العشق التي لم تذبل أو تشيخ ثمارها أبدا.. مشيرا للكرمة التي بدأت عناقيدها في الظهور هامسا: كان يا مكان.. يا سادة يا كرام.. ما يحلى الكلام.. إلا بذكر النبي..
ليهتف الجميع.. عليه الصلاة والسلام..
تمت بحمد الله.. وفضله..
