رواية جديدة طُياب الحبايب مكتملة لرضوى جاويش الفصل 1 - 1 - الجمعة 22/11/2024
قراءة رواية طُياب الحبايب كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية طُياب الحبايب
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رضوى جاويش
الفصل الأول
1
تم النشر الجمعة
22/11/2024
صفقة رابحة
إسطنبول.. ١٩١٤م..
أمسكت بالسور الحديدي للباخرة متطلعة صوب رصيف المرفأ، إلى حيث أبيها كاظم أوغلو باشا، الذي يقف مودعا في وقار ومن حوله بعض خدمه، لوحت بمنديلها لدقيقة قبل أن تسيل على خديها الدموع، لم يطل والدها البقاء ملوحا للمرة الأخيرة قبل أن يستدير تاركا موضعه متوجها في خطوات واثقة صوب عربته يهرول خلفه خادماه، تبعته بنظراتها حتى غاب راحلا فرفعت نظراتها نحو الأفق ملتهية بالتطلع نحو مسجد شمسي أحمد باشا، على ذاك الجانب الآسيوي من ميناء إسطنبول، حيث تنتظر الباخرة التي تقلها في طريقها للاقلاع خلال دقائق معدودة، سمرت ناظريها على قباب ذاك المسجد الذي بُنبي عند تلاقي نهر مرمرة بمياه مضيق البوسفور، ما منع الطيور من الوقوف فوق قباب ذاك المسجد نظرا لشدة تلاقي الريح بهذه المنطقة، ابتسمت في حسرة مستشعرة أن ذاك إشارة ما إلى حياتها التي تلاقت ريح الحزن عند مرفأ حياتها فأرغمت طيور الفرح على الهرب مبتعدة من أن تحط على جدران قلبها التي تصدعت وجعا وقهرا..
سالت دمعاتها مجددا وحادت بناظريها لتتطلع للجانب الأوربي من اسطنبول حيث قصر دولما باتشا، ولاح على شفتيها طيف ابتسامة غربت سريعا حين تذكرت ما كان..
تراه أين يكون اللحظة! هل ما زال على قيد الحياة! هل تزوج وأنجب الأطفال! تراه يذكرها في خلواته حين يمر على موضع جمعهما سويا، وباتت فيه ذكريات هواهما في بعض الأركان! أم أنه ما عاد يذكرها، وطوى النسيان سيرتها، وإلتهى بزوجة وصغار! .. أم أنه فارق الدنيا وما عاد من أحيائها!
آه يا نوري، يا حب العمر وشقاء القلب.. عشر سنوات مرت منذ آخر لقاء بيننا .. عشر سنوات كنت أنا ابنة التاسعة عشرة وأنت ذاك الشاب الثوري الذي ما كان يرضى بالظلم وينتظر أن يهل فجر الحرية والعدالة على البلاد، تتردد بأذني اللحظة كلماتك التي كانت تطرق مسامعي للمرة الأولى، وأشعار الحرية التي لطالما كررتها عليّ، حتى حفظها القلب ووعتها ذاكرته.. بدأت في الهمس الجميل شاردة، لكن نفير الباخرة العالي كاد أن يصم أذنيها، مفزعا طيور النورس المحلقة فوق رؤوسهم بطول المضيق وعرضه، معلنا عن البدء في رحلة المجهول التي لا تدرك ما إن كانت رحلة للبحث عن بعض الأمل الذي تحاول جمع أشلائه، أو فقده مجددا وللأبد هذه المرة!
اقتربت منها خادمتها المرافقة، نازلي، مؤكدة في نبرة هادئة: قمرتك جاهزة يا سيدتي!
هزت رأسها في تفهم، لكنها ما برحت موضعها، فقد كانت عيونها تتعلق بكل ما تطالع اللحظة والباخرة قد بدأت تتهادي مبحرة، تحاول التقاط صور لكل تفصيلة حولها لعل ذاك يكون آخر عهدها بهذه البلاد العزيزة التي ما شعرت يوما أنها آمنة على أرضها.. على الرغم من كل هذه المحبة التي تحملها لها بقلبها..
أعادت رفيقتها تأكيد ما سبق: سيدتي، القمرة الخاصة بكِ.. جاهزة.. و..
هتفت أُنس الوجود مقاطعة في نفاذ صبر لم يكن من عاداتها: حسنا يا نازلي، علمت، هيا..
تحركتا بعيدا عن السطح نحو الداخل، وطيور النورس ما زال صوتها الناعق يصاحبها حتى وصلت حجرتها، تطلعت حولها في محاولة لاظهار بعض الاهتمام لتفاصيل القمرة، لكنها ما عادت قادرة على التظاهر، خلعت عنها حجابها وقفطانها فتناولتهما رفيقتها لتعلقهما على المشجب القريب خلف الباب، قبل أن تتمدد على فراشها في محاولة لإيقاف طاحونة الأفكار الدائرة برأسها، لتهتف نازلي في تساؤل: الغذاء عند الثالثة، سأتِ لإصطحابك!
هزت أُنس الوجود رأسها موافقة، مولية ظهرها لنازلي التي استشعرت رغبة سيدتها في الانفراد بنفسها، فانسحبت لخارج الغرفة تاركة أُنس الوجود وحيدة، والتي رفعت جزعها قليلا وتطلعت من نافذة قمرتها المستديرة صوب آخر طيف لاح لها من مدينتها الغادرة، إسطنبول.. قبل أن تتلاشى معالمها تدريجيا، لتبدأ في زرف الدموع من جديد..
❈-❈-❈
علمت على مائدة الغذاء، أنها ساعات قلائل وتحط السفينة على ميناء وجهتها الأخير، شعرت أُنس الوجود داخلها باضطراب وصراع بين مشاعر مختلطة يمزجها الفرح ببعض الحيرة والشجن ويشوبها الترقب، أسبوع على متن الباخرة استعادت فيه كل لحظة من لحظات سنواتها الماضية في إسطنبول، كل حدث .. كل ذكرى.. كل وجع.. كل لحظة سعادة.. على الرغم من ندرتها.. وتنبهت أن لحظات سعادتها القصيرة تلك لم تكن إلا برفقته.. رفقة نوري الذي غاب خلف ضباب المجهول منذ ما حدث..
تطلعت لاقتراب النوارس من السفينة فعلمت أن اليابسة على بعد أميال قليلة، كان النهار يتسحب مبتعدا يجرجر أذياله في وهن، والليل يقبل زاحفا بتؤدة، وروائح الإسكندرية التي لاحت ظلالها قد فاحت واختلطت بنسيم البحر الذي حمل بعض من عبقها.. لم تكن هذه هي زيارتها الأولى للاسكندرية، فقد زارتها منذ سنوات بعيدة، كانت ما تزال طفلة تخطو أولى خطواتها نحو الصبا، وها هي تضع أقدامها على مرفأها من جديد بعد كل هذه الغيبة الطويلة، امرأة ناضجة تكاد تنهي العقد الثالث من عمرها، مستشعرة بالأجواء ألفة عجيبة تشمل روحها، وإحساس بالأمان يغمرها..
أشارت لها نازلي مرافقتها صوب شخص ما يحمل اسمها على يافطة كان بانتظارهما، فانتبهت لتخطو نحوه فأدرك من توه أنها الضيفة المنتظرة، أومأ منحنيا ومرحبا في احترام، مشيرا لنازلي نحو عربة كانت تنتظر بالخارج، حمل الحقائب وسار مسرعا يدلهما على وجهتهما قبل أن تزيد السماء من اكفهارها متوعدة بهطول المطر..
كانت نوة الشمس الصغرى على أشدها، والأمطار لا تستئذن أحدا، صعدت ورفيقتها العربة التي كان يجرها الخيل، عربة أشبه بعربة الأميرات، وعلى الرغم من انتشار الاطومبيلات إلا أنها كانت تفضلها، غادرت العربة الميناء مبتعدة صوب وجهتها، دفعت أُنس الوجود ذاك الستار الحريري لنافذة العربة من الداخل، ليسمح لها برؤية المدينة التي غابت عنها دهرا، هل تغيرت أم أنها وحدها من تغير منذ فارقتها طفلة!.. لم يسمح لها الليل باستطلاع التفاصيل كما يجب على الرغم من إضاءة الشوارع والطرقات، لكن العتمة مع المطر الغزير صنع بعضا من غمام ساد الرؤية فاشعرها بالاحباط، وها هي تلك الطرقعة القوية التي صدرت من الخارج تكمل المشهد لتصدر منها صرخة مكتوبة مرافقة لذعر نازلي، والعربة تميل على نحو مخيف صوب أحد جانبيها.. لتتمسك كل منهما بالآخرى في فزع متسائلات عما يحدث..
هتف سائق العربة الذي قفز مستطلعا ما حدث: أخشى أن إحدى عجلات العربة قد انكسر منفصلا عنها يا سيدتي.. لا داعي للذعر.. سأحاول التصرف سريعا.
لم تكن تعرف كيف سيمكنه التصرف وبسرعة كما أدعى في مثل هذه الأجواء! وفي هذا الشارع الذي فرغ تماما من المارة في مثل هذه الساعة المبكرة من الليل لقساوة الطقس!.. كانت تعلم أنها ما قال ذلك إلا لبث الطمأنينة بنفسها، لكن على أي حال هي تدرك تماما أنها بورطة..
❈-❈-❈
كان في سبيله نحو سراي أحد البشوات لقضاء السهرة قبل عودته غدا لبلدته، كانت دعوة لا ترد من أحد أكبر داعمي تجارته في الاسكندرية، وعليه تلبية الدعوة ونيل تلك الصفقة التي سعى خلفها لشهور طويلة..
زعق في سائق سيارته حينما اقترب من تلك العربة المتوقفة بعرض الطريق، وكان على وشك تجاهلها مجتازا إياها: وجف يا محسب، ايه مشيفش اللي واجفين يستچيروا فالطريج دوول! أنزل شوف إيه في!
توقف الاطومبيل ونزل سائقه متوجها نحو العربة المائلة المكسورة الإطار، مستفسرا من سائقها المغلوب على أمره، والذي يحاول جاهدا استعادة استقامة العربة حتى يستطيع أن يسمح بالسيدة ومرافقتها بالخروج منها في أمان..
تنبه هو من داخل الاطومبيل لما يحدث، ومحاولة كلا من السائقين إعادة العربة لاستقامتها والتي مالت بشكل خطر حتى أن الإطار كاد أن ينفصل كليا عن جسد العربة ونهت عن السيدتين داخلها صرخة ذعر دفعت السيد داخل الاطومبيل لترك موضعه والنزول تاركا عباءته داخله، متوجها نحو السائقين وقد أدرك ما يحدث.. دفع السيد السائقين جانبا، ومد كفيه نحو تلك الاسطوانة التي تحمل الإطار، وهتف في عزم مستمدا العون من قوة مجهولة، دفع هتافه أُنس الوجود لتطل من نافذتها الضيقة مستفسرة عما يحدث بالخارج، لتشاهد ذاك العملاق الذي غمر وجهه رزاز المطر، يزعق رافعا العربة وحيدا، أمرا السائقين بوضع الإطار موضعه بشكل مؤقت، لتستقيم العربة أخيرا..
كان يعلم أن العربة لم تكن لتتحرك خطوة وهي بهذه الحالة، لذا سأل في هدوء سائقها: بلغ الحريم اللي چوه يتفضلوا نوصلوهم مطرح ما يحبوا..
شكره السائق مرحبا بعرضه، واندفع يبلغ أُنس الوجود ونازلي، والتي وافقت مترددة فما كان لها من مخرج غير قبول ذاك العرض في مثل هذا الطقس، والذي بدأت فيه الأمطار بالهطول بغزارة مجددا..
مد السيد كفه نحو مظلته السوداء من داخل الاطومبيل، واندفع نحو باب العربة التي فُتح في حرص، وانسدل درجها في حرص أكبر، حتى إذا ما مد الشائق ذراعه لتستند عليه السيدة إلا واستبقها هو ناشرا مظلته لتظللها حتى باب الاطمبيول ليقيها البلل، لتستقر داخله بالاريكة الخلفية، وتبعتها خادمتها من الجانب الآخر للعربة..
صعد سائقه وجلس هو جواره، وساد الصمت لبرهة، قبل أن يسأل السيد في أدب: الهوانم كانوا رايحين على فين!
لم تفهم نازلي ما كان ينطق به ذاك السيد، فهي لا تفهم إلا التركية، لكن أُنس الوجود وعت ما كان يقصد، فهي تتقن العربية، على الرغم من أنها لم تتحدثها منذ سنوات، إلا في قاعة تعلم وحفظ آيات القرآن الكريم التي حرص والدها على تلقيها، فهمست في أدب من خلف غلالتها الرقيقة التي كانت تخفي ملامحها إلا عيناها: إلى فندق ويندسور بالاس..
أومأ السيد متفهما دون أن يحرك نظره نحوهما ولو لبرهة أمرا سائقه بالتحرك نحو الفندق، مع التأكيد على سائق عربتها بإرسال من يعاونه على إصلاح العربة في أقرب وقت ممكن..