-->

رواية جديدة ذكريات ضائعة لعلا السعدني - الفصل 1 - الجمعة 31/10/2025

 

قراءة رواية ذكريات ضائعة كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى


رواية  ذكريات ضائعة

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة علا السعدني 

الفصل الأول 

تم النشر الجمعة

31/10/2025


كان الليل المعتم يخيم على المكان، والهواء البارد يعبث بحجابها ويحركه، جلست في شرفة منزلها تحتضن كوب الشاي الساخن، تحاول أن تستدفئ به من برودة الجو، لكن أفكارها كانت أكثر اضطرابًا من أن تهدأ، ابتسمت بخفة وهي تتذكر ذلك الموقف الذي حدث منذ أيام قليلة ..


كانت تجلس في إحدى المطاعم، انتبهت حين دخل الرجل الذي تنتظره، رفعت بصرها نحوه، فتجمدت ملامحها للحظة، فهو (رؤوف الحداد)، مسؤول ميداني للآثار، اعتادت رؤيته في المؤتمرات التي لها علاقة بالاثار، حاول أن يفتح معها حديثًا، لكنها كانت دومًا تتهرّب منه بلُطف، فهي لا تحب أن تتحدث مع الغرباء ..


رفعت حاجبها بخفة، وأسندت ظهرها إلى المقعد ثم قالت ببرودٍ حاولت أن تخفي به دهشتها

- خييير يا أستاذ (رؤوف)؟ طلبت إنك تقابلني؟


ابتسم بهدوء، وجلس أمامها، ليتحدث بهدوء

- بصراحة، أنا معجب جدًا بشغلك يا (نغم) .. طريقة تناولك للوثائقيات ليها طابع خاص، مختلف عن أي حد تاني


قطّبت حاجبيها بخفة وهي تجيب

- لطيف إنك شايف كده، بس مش فاهمة طلبت تقابلني ليه بالظبط؟


مال للأمام قليلًا، وصوته انخفض قليلًا

- عندي خبر حصري ليكي، حاجة ممكن تعملي بيها سبق في قناتك الخاصة على اليوتيوب


نظرت له بدون فهم ورددت

- سبق؟ عن إيه؟


ابتسم بثقةٍ متعمدة ثم قال

- عن ملك فرعوني .. لسه محدش اتكلم عنه


رددت دون وعي

- ملك جديد؟! طب إزاي؟ ومفيش أي إعلان رسمي عن اكتشافات الفترة دي


رفع كتفيه بلا مبالاة وقال وهو يعبث بخاتمٍ في يده

- طبيعي .. لأن الإعلان لسه هيتأخر شوية بس أنا عندي معلومات من زميل ليا، ومفيش ضرر إنك تتكلمي عن الموضوع بشكل عام .. من غير ما تذكري أسماء أو تفاصيل دقيقة


وضعت (نغم) أصابعها على الطاولة وبدأت تطرق على المنضدة بتوتر

- يعني أعمل حلقة عن ملك مجهول من غير ما أقول مين المصدر؟


- بالضبط، تطرحيها كفرضية، كبحث وثائقي مفتوح وأصلًا قريب جدًا هيتم الأعلان عن البرديات وساعتها هيبقى ليكي أولوية بأنك تخرجي الفيلم في الشركة اللي شغالة فيها ..


نظرت له بدون فهم وهي لا تفهم لما يفعل ذلك معها ليبتسم هو ويتابع

- عارف حبك للأثار والتاريخ المصري .. تقدري تقولي تقديرًا مني لمجهودك واني حابب أن الفيلم انتي اللي تعمليه


أمالت رأسها قليلًا، تحدّق في وجهه وكأنها تحاول قراءة نواياه من عينيه، بقيت تحدق فيه للحظة قبل أن تومئ ببطء، ثم غادر بعد أن وضع لها ملف خاص بذلك الملك الذي تحدث عنه، تاركًا إياها متخبطة بين أفكارها بين الفضول والقلق ..


حين عادت بذاكرتها للحظة تلك، احتست رشفة من كوب الشاي، كانت تفكر بجديةٍ هذه المرة لما لا فالموضوع يستحق المغامرة، صحيح انها لم تعتاد الثقة بالغرباء ولكنها تعشق التاريخ وعملها كمخرجة أفلام وثائقية ..

❈-❈-❈

 في الصباح ..

 كانت تقف أمام مرآتها، تُعدّل في غطاء رأسها قبل أن تلتقط حقيبتها، تأملتها شقيقتها من على الفراش وقالت بكسل

- يا بنتي ما تاخدي إجازة، شكلك مرهقة


التفتت إليها بابتسامة متعبة، وهي ترتدي حذاءها

- في شغل جديد جاي ليا .. عاوزة ابدء في فيلم كده


قهقهت (نيرة) بخفة وهي تهز رأسها بآسى

- اما تخلصي الفيلم ده واديني أول تذكرتين سينما بقى


رمقتها (نغم) بنظرة جانبية

- بتتريّقي؟


لتجيبها شقيقتها بملل

- أهو اللي يشوفك يقول بتخرّجي أفلام ومسلسلات!



أشارت نغم لأنفها بفخر

- وتنكرى إني مخرجة أفلام كبيرة؟


ردت (نيرة) وهي تمط شفتيها بعدم رضا

- ما هي كلها أفلام وثائقية محدش بيتفرج عليها أصلًا!


اتكأت نغم على حافة الكومود وهي تضم ذراعيها قائلة بثقة

- الجهلة اللي زيّك هما اللي ميقدروش قيمتها، دي أفلام بتثقف الناس يا (نيرة) 


ضحكت (نيرة) وهي تميل للأمام

- يا شيخة، اخرجي لنا مسلسل في رمضان أحسن، يمكن نتابعه سوا بعد الفطار!


هزّت (نغم) رأسها بضجر:

- مسلسل في رمضان؟ علشان الناس صيامها يضيع .. وشهر العيادة يضيع


ضحكت (نيرة) من طريقتها، بينما دخلت والدتهما الغرفة وهي تقول بصوت حنون

- يلا يا بنات، الفطار جاهز


رفعت (نغم) حقيبتها وقالت وهي تتجه للباب

- افطروا انتوا يا ست الكل، أنا متأخرة جدًا


- يا بنتي كلي لقمة بس قبل ما تنزلي!


بتجيب بهدوء

- هفطر مع زمايلي في الشغل، متقلقيش يا مامي


خرجت مسرعة من المنزل، تستنشق هواء الصباح بنشاط، عملت يومها بالشركة المعتاد وبعد أن انتهت ساعات العمل الخاصة بها قررت ان تذهب إلى الاستديو الخاص بقناتها على اليوتيوب، حين وصلت، ألقت التحية على المصورين والفنيين، ثم اتجهت مباشرة نحو غرفة المونتاج، وضعت حقيبتها على الطاولة، وأخرجت ملفات المشروع من اللابتوب بعد بعضًا من الوقت، رفعت هاتفها الذي علا صوته، فجاءها صوته الهادئ من الطرف الآخر

- هخلص تمرين وهكون عندك يا (نغم)


أغلقت المكالمة ثم جلست أمام شاشات الصوت والصورة، وضبطت الميكروفون بعناية، وضعت السماعات على رأسها وأشارت لشاب الدوبلاج أن يبدأ التسجيل.


لقد تم اكتشاف تمثال لفرعون يُدعى (إيمحور) .. لم يُعرف بعد في أي عصرٍ كان .. وما زال البحث جاريًا


رفعت (نغم) يدها فجأة وقالت بحزم

- ستوووب، الصوت محتاج عمق أكتر يا (يوسف)، خلي النبرة فيها غموض شوية كأنك بتحكي سر


أعاد المقطع بنبرة مختلفة، بينما كانت هي تركّب الصور والفيديوهات النادرة التي حصلت عليها من أرشيف خاص، بعد ساعتين من العمل المتواصل، أغلقت اللابتوب أخيرًا، وأطلقت زفرة راحة، وفي تلك اللحظة، دخل زميل لها وهو يحمل كوب نسكافيه في يده، وعلى وجهه ابتسامة خفيفة

- قلت أكيد تعبتي، فقلت أعملك كوباية نسكافيه


التفتت إليه بابتسامة امتنان، اخذت منه الكوب قائلة

- ميرسي يا (معتز)، دي جات في وقتها فعلًا


جلس على الكرسي المقابل وهو ينظر لشاشات المونتاج بفضول

- خلصتي شغلك؟


قالت بفخر وهي ترشف رشفة دافئة من الكوب

- أها، الحمد لله 


- ما شاء الله، هو ده الشغل ولا بلاش، بس أنا بفضل البحر عن التاريخ بتاعك ده


ضحكت بخفة

- عالم البحار ممتع جدًا برده .. بس انا بحب التاريخ 


- يا ستي خليكي في التاريخ اللي واكل دماغك ده، وأنا هفضل في الميه اللي مريحاني


ضحكت من طريقته ثم وقفت قائلة وهي تلتقط حقيبتها

- خلاص يا سيد البحّارة، أنا هنزل دلوقتي، (هيثم) جاي يوصلني


ابتسم (معتز) وهو يومئ برأسه

- سلميلي عليه


ضحكت وهي تلوّح له بيدها خارجة

- يوصل إن شاء الله، سلام

❈-❈-❈

كان يقف في مكتب واسع تملأه ملفات وخرائط قديمة، بدا عليه الإرهاق، بينما يقف أمام رئيسه في العمل الذي جلس خلف مكتبه الخشبي العريض يتأمل التقارير، فقال وهو يحاول أن يُخفي توتره

- أيوه يا (ماهر) بيه، أنا جهّزت كل المعلومات عنه وبعتها فعلاً من خمس أيام البنت فعلًا 


أومأ (ماهر) برضا خفيف، ثم قال 

- تمام أوي .. مش ناقص غير إننا نلاقي السرداب


تغيّرت ملامح (رؤوف) قليلًا، وقال بثقةٍ مصطنعة وهو يشبك يديه

- فعلاً .. متقلقش يا فندم، في أقرب وقت، أنا بشتغل على كده ليل ونهار


رفع (ماهر) حاجبيه ببطء، وظهرت في نبرته لمحة سخرية خفيفة وهو يقول

- إنت بقالك شهر بتقول إنك هتلاقيه


تنفّس (رؤوف) بضجر وهو يُخفض رأسه قليلًا

- أعمل إيه طيب؟! (حازم) فقد وعيه وهو الوحيد اللي يعرف كل حاجة عن السرداب


انحنى (ماهر) للأمام، ونظر له نظرة حادة تُجمّد الكلمات في فمه

- قدامك أسبوع


اتسعت عينا (رؤوف) في دهشة

- يا فندم، قليل جدًا!


- أنا قلت كلامي خلاص 


قالها (ماهر) بصرامة وهو ينهض من كرسيه وهو ينهي النقاش، خرج (رؤوف) من المكتب، وقد تملكه الغضب، قبض على يده بشدة حتى ابيضّت مفاصله، وتمتم بين أسنانه بغيظٍ مكتوم

- طب لما تيجي بس من السفر يا (حازم) .. مش هيكفيني موتك!

❈-❈-❈

بين جدرانٍ باردةٍ داخل مشفى في فرنسا، تفوح منها رائحة المعقّمات الثقيلة، وقف خلف زجاج غرفة العناية المركّزة، يحدّق في صديقه الممدّد على الفراش الأبيض كجسدٍ بلا روح،

كان الهواء ساكنًا إلا من صفير جهاز التنفّس الاصطناعي، رفع يده ولمس الزجاج بأنامله، يحاول اختراق الحاجز بينهما، بينه وبين آخرَ غارقٍ في الغيبوبة، تسلّلت دمعة دافئة إلى وجنته قبل أن يقطع رنين هاتفه هذا الصمت، ألقى نظرة سريعة على الشاشة، وحين لمح الاسم، تنفّس بعمق وأجاب بصوتٍ متماسك

- أيوة يا طنط (عفّت)


جاءه صوتها القلق من الطرف الآخر، مرتجفًا 

- (حازم) عامل إيه دلوقتي يا ابني؟


أطرق رأسه، وصوته خرج مبحوحًا 

- للأسف يا طنط .. زيّ ما هو في غيبوبة بقاله أسبوعين


ساد صمتٌ قصير على الخط، لم يُسمع خلاله إلا أنفاسها المرتجفة، ثم قالت بصوتٍ حزين

- ربنا يقومه بالسلامة يااارب .. نفسي أسافر وأجيله، والله قلبي مش مطمن


انتفض سريعًا، وقال

- لا يا طنط، بالله عليكي، مينفعش تيجي دلوقتي الموقف حساس، وإحنا مش عاوزين حد يعرف باللي حصل ل(حازم)


جاءه صوتها المستسلم بعد تنهيدةٍ طويلة

- حاضر يا (وائل) بس طمّني عليه أول بأول، أمانة عليك


ابتسم ابتسامة شاحبة، عينيه ما زالتا معلّقتين بذلك الجسد خلف الزجاج، وقال بصوتٍ حاول أن يبدو مطمئنًا

- متخافيش يا طنط، أنا جنبه طول الوقت .. (حازم) مش بس صاحبي، ده أخويا اللي ما ليش غيره


صمتت لحظة، تحاول أن تكتم دموعها 

- ربنا يخليكوا لبعض يا حبيبي

❈-❈-❈

 كانت المائدة عامرة بكل ما لذّ وطاب، جلست في صدر المائدة، تقطع قطعة من الدجاج بعناية، بينما كانت (نيرة) تتبادل الأحاديث بمرحها المعتاد، أما (نغم) فكانت تعبث بملعقتها لا تعلم هل عليها أن ترفع ذلك الفيلم القصير على صفحتها الشخصية خصوصًا أنها معلومات لم يعرفها أحد من قبل ام لا؟!

وهل عليها أن تثق بذلك المدعو (رؤوف الحداد)؟!

رفع الملعقة إلى فمه ثم قال بصوتٍ يدل على التلذذ بالطعام 

- يااااه يا خالتو، أكلك يجنن! مش زي أكل ماما خالص!


انفجرت (عالية) ضاحكة وهي ترد مازحة

- بطل بكش يا واد ماهو اكل زي اي اكل


أشار إليها بملعقته قائلاً بجدية 

- لا طبعًا في فرق، بس سؤال، هي مش سِتّي اللي علمتكم الطبخ انتِ وماما؟ طب ليه بقى أكل أمي ما يتاكلش كده؟!


ضحكت (عالية) وهي تضع اللقمة في فمها 

- يا بني أمك كانت الصغيرة، وطبيعي تتدلع شوية


عقد (هيثم) حاجبيه في تظاهر منه بالضيق وقال وهو يرفع حاجبه ساخرًا

- أهو الدلع ده .. جيه فوق دماغي أنا


لم تستطع (نغم) كتم ضحكتها، فوضعت يدها على فمها قائلة بمرح

- أحسن، أحسن! ويا رب مراتك يبقى أكلها وحش كمان عشان تبقى كملت يا سيدي


توقف (هيثم) عن المضغ، وحدّق فيها بعينين ضيّقتين، ثم التفت إلى (عالية) قائلاً بتصنّع الغضب

- شُفتي يا خالتو بنتك بتقول إيه؟!


رفعت (نيرة) حاجبيها وهي تقول بحدةٍ خفيفة

- هتفضلوا كده عيال لحد إمتى؟!


ضحكت (عالية) بخفةٍ وهي تمسح يدها بالمنديل

- سيبيهم يا بنتي، أصل دول مولودين فوق رؤوس بعض فعليًا 


ابتسم (هيثم) بفخرٍ وهو يضع الملعقة في الطبق قائلاً بنغمة المنتصر

- أهوه! أكبر منها بيومين كاملين!


رفعت نغم حاجبيها بتحدٍ وهي تقول ساخرة

- ويعني إيه يومين؟! دول 48 ساعة يا عبقري!


أجاب بثقةٍ مبالغ فيها

- بيقولوا اليوم بسنة، يعني أنا أكبر منك بسنتين يا نانا


رفعت حاجبها الآخر وهي تهمس بنبرةٍ ساخرةٍ متوعدة

- انت هتعيش الدور؟


ضمّ أسنانه متظاهراً بالتهديد، ثم التفت إلى (عالية) بخبثٍ طفولي وقال

- ودّعي بنتك يا حجّة، شكلها نهايتها النهارده


اختنقت كلًا من (نيرة) ووالدتها بالضحك ..

❈-❈-❈

داخل أروقة المستشفى بفرنسا، كان الصمت يلف المكان، لا يُسمع سوى أصوات الأجهزة الطبية التي تنبض بإيقاع رتيب، كان (وائل) يسير بخطوات سريعة، قلبه يخفق في صدره بخوفٍ، بعدما أخبرته الممرضة أن الطبيب يرغب في الحديث معه بشأن حالة (حازم)، توقّف أمام باب الغرفة، التقط أنفاسه، ثم طرق بخفةٍ تتردد في الممر، جاءه صوت الطبيب من الداخل، بلكنتةٍ الفرنسية 

- تفضل


فتح (وائل) الباب ودخل، ملامحه متوترة 

- ما الأمر، ايها الطبيب؟


رفع الطبيب رأسه من فوق الأوراق، نظر إليه ثم قال

- لقد أفاق (حازم) من الغيبوبة


اتسعت عينا (وائل) بذهولٍ وسعادةٍ مفاجئة، كأن قلبه عاد ينبض بالحياة

- حقًا؟! حمدًا لله يا رب!


ثم تراجع خطوة للأمام، لكن الطبيب أطرق رأسه قليلًا، لأنه يحمل خبرًا غير سار، ثم قال بصوتٍ خافتٍ

- نعم .. لكنه فقد الذاكرة


تجمد (وائل) في مكانه، سقطت الكلمات عليه كصاعقة، اتسعت عيناه بصدمةٍ لم يُخفها، وأعاد الكلمة بنبرة مرتجفة

- ماذا؟! فقد الذاكرة؟!!


أومأ الطبيب برأسه ببطء

- للأسف، لا يتذكر شيئًا من حياته السابقة، لذلك قررنا نقله إلى طبيب مخ وأعصاب، فربما يساعده ذلك على استعادة ذاكرته تدريجيًا


ابتلع (وائل) ريقه بصعوبة، وعيناه بهما بعضًا من الخوف، ليقول الطبيب

- عليك فقط الامضاء على بعض الأوراق


أومأ (وائل) برأسه بصمت، ثم قال وهو يلتقط الأوراق من أعلى المكتب

- حسنًا أيها الطبيب ..

❈-❈-❈

بعد مرور ثلاثة أيام ..

 كانت (نغم) تجلس في غرفتها، غارقة في صفحات كتابها، بينما جلست إلى جوارها (نيرة) تتابع أحد البرامج على شاشة التلفاز، حين فُتِح الباب لتطلّ والدتهم، التي جلست بجوار ابنتها الكبرى وطلبت منها أن تتحدث معها لترحب (نغم) بها وتغلق الكتاب الذي تقرأه، فجلست والدتها على طرف الفراش، وقالت بنبرة متوترة

- في عريس متقدملك، إيه رأيك تشوفيه؟


انقبض صدر (نغم) على الفور، وزفرت بضيق واضح 

- يوووه يا مامي، قولتلك مش عاوزة أتجوز دلوقتي


ابتسمت (عالية) في محاولة لتهدئتها

- ليه يا حبيبتي؟! ده انتي عندك ٢٦ سنة، وجميلة، إيه اللي يمنع إنك تتجوزي؟


قالت (نغم) وهي تُشيح بوجهها في تبرّم

- هيقعد يقولّي اقعدي متشتغليش، وأنا يا مامي بحب شغلي.


ربّتت (عالية) على يدها برفق

- ومين قال؟! مش يمكن يوافق على شغلك؟ انتي بتحكمي قبل ما تشوفيه ليه؟


رمقتها (نغم) بنظرة ضجر وهي تقول

- مش عاوزة! مش مستعدة 


ضحكت (نيرة) وقالت بخفة دمها المعتادة

- وفيها إيه يا نانا لما تشوفيه؟ مش يمكن يعجبك؟ ونخلص منك بقى!


رفعت (نغم) حاجبها مازحة

- نخلص منك انتي وحوس الأول يا أختي!


قهقهت (نيرة)

- لااا، حسام بطّيء أوي يا (نغم)، ده تقريبًا هيتجوزني عند سن الستين!


ضحكت (نغم) و(عالية) معًا، ثم قالت والدتها

- حرااام عليكي يا بنتي، (حسام) بيحبك وانتي عارفة، الحاجة بقت غالية أزاي! الواد بيقطع نفسه عشانك


قطّبت (نيرة) حاجبيها قائلة بتذمر

- أنا نفسي أفهم، هو اللي ابنك ولا أنا اللي بنتك؟!


قهقهت (نغم) وهي تضع يدها على فمها

- الحق حق يا نونو، مامي مغلطتش


ابتسمت (عالية) راضية وهي تقول

- خلاص يا ستي، العريس جاي بكرة إن شاء الله، عاوزاكي تنقي فستان كده حلو


تنهدت (نغم) في استسلام وقالت بهدوء

- حاضر يا ماما

❈-❈-❈

وفي مساء اليوم التالي، وقفت (نغم) أمام المرآة تتأمل نفسها، ارتدت فستانًا أزرق طويل، ووضعت حجاب بنفس لون الفستان، لتبدو في غاية الأناقة رغم بساطتها، وضعت مسحة خفيفة من المكياج، ثم التفتت (نيرة) نحوها بدهشة

- قمر بقى يا نانا .. قمررر، منوّرة كده ما شاء الله!


ابتسمت (نغم) بخجل

- لما أنا قمر، أمال انتي تبقي إيه بس؟


- حبيبتي يا نانا


اقتربت (نيرة) منها وطَبعت قبلة على وجنتها، في تلك اللحظة دخلت (عالية) قائلة بحماس 

- يلا يا (نغم) يا حبيبتي، اخرجي اقعدي معاه


قالت (نغم) بتردد

- حاااضر


خرجت بخطوات بطيئة، كانت لا تريد تلك المقابلة ولكن ما باليد حيلة، عيناها مثبتتان في الأرض بخجل، جلست في هدوء بينما والدتها ووالدة العريس تبادلتا الأحاديث الجانبية، ساد الصمت لحظة، قبل أن يقطع صوته المألوف السكون

- إيه يا (نغم)؟ هتفضلي ساكتة كده؟


رفعت (نغم) نظرها في دهشة حين تعرّفت على الصوت، ثم اتسعت عيناها في صدمة

- إيه ده؟ (معتز)!!! طب مقولتش ليه إنك جاي؟


ابتسم (معتز) بخجل وقال

- بصراحة خفت أقولك، متجيبيش سيرتي في البيت، أنا بحبك أوي يا (نغم)، وانتي بتتكلمي معايا في حدود الشغل وبس، وأنا نفسي أتعرف عليكي أكتر


قالت (نغم) بضيق وهي تحاول تمالك أعصابها

- بس يا (معتز) ..


قاطعها بعصبية واضحة

- بس إيه؟ هو في حد تاااني في حياتك؟!


نظرت له بضيق من تلك العصبية التي ليس لها أي مبرر

- الموضوع مش كده، بس أصل


ترددت، ولم تجد الكلمات، فابتلع (معتز) ريقه وقال برجاء

- يااريت تديني فرصة .. كل اللي بطلبه فرصة، ومش هخيب ظنك إن شاء الله


ظلت تحدّق فيه لحظة، ثم قالت في هدوء متعب

- طب لو سمحت سبني أفكر يومين، أنا حاليًا متلخبطة ومش هقدر أرد عليك دلوقتي


- زي ما تحبي يا (نغم)


نهض وانصرف، فدلفت غرفتها بخطوات بطيئة هائمة على وجهها، جلست على الفراش وهي تشعر بخيبة أمل غامضة، كانت تنتظر شخصًا مختلفًا. رفعت (نيرة) عينيها عنها وسألت بقلق

- مالك يا نانا؟ زعلانة كده ليه؟


قالت (نغم) بحزن عميق

- طلع (معتز) اللي معايا في الشغل


- زميلك ده في الشركة والاستديو؟


اومأت لها برأسها، لتقول (نيرة) باستفهام 

- طب وفيها إيه يا نانا؟ مش شاب كويس؟


- هو كويس ومحترم .. بس مش هو ده فتى أحلامي


ابتسمت (نيرة) بسخرية وهي تقول

- وانتي فاكرة إننا بنتجوز فتى أحلامنا؟! عيشي على أرض الواقع يا نانا


نظرت لها (نغم) بضيق واضح وقالت

- اللي يشوفك كده ميقولش إنك بتحبي (حسام) جدًا


قالت (نيرة) مؤكدّة بثقة

- لا، بحبه طبعًا


خفضت (نغم) رأسها وهي تهمس

- طب مانا نفسي كمان أحب واتحب يا (نيرة)، و(معتز) ده حتى مش حاسة ناحيته بأي مشاعر من أصله


اقتربت (نيرة) منها وربتت على كتفها بحنان

- فكّري يا نانا، على أقل من مهلك يا حبيبتي


تنهدت (نغم) وقالت

- الحمد لله إن بكرة إجازة، هقدر أفكر براحتي وكمان هصلي صلاة استخارة دلوقتي وأنام


- أوك يا حبيبتي، ربنا يقدملك اللي فيه الخير


- يااارب

❈-❈-❈

في صباحٍ دافئ تخللته نسمات خفيفة، جلست (نغم) في النادي على أحد المقاعد القريبة من حديقة صغيرة، تتأمل المارة من حولها بينما تمسك كتابها بين يديها، تُقلّب صفحاته ببطء، كان كوب العصير أمامها على الطاولة الصغيرة، تتناوله بين الحين والآخر بغير شهية، وعيناها شاردتان، بعد لحظات، قررت أن تُحادث صديقتها للخروج قليلًا علّها تُبدّد هذا الضيق الكامن في صدرها، لم تمضِ سوى ساعة حتى جلستا معًا في أحد المطاعم المطلة على الشارع الرئيسي، تبادلتا الأحاديث وقضا اليوم سويًا، وحين انتهتا، ودّعت صديقتها، ثم فضّلت أن تعود سيرًا على قدميها، كانت تحتاج أن تنفرد بنفسها، أن تُفرغ ما يثقل صدرها، سارت بخطوات بطيئة على الرصيف، وهي تفكر في أنها لا تستطيع أن ترى (معتز) كزوج لها إطلاقًا، توقفت لحظة، زفرت تنهيدة ثقيلة، ثم تابعت تفكيرها إلى متى ستظل ترفض كل من يتقدم لخطبتها، ولكن ماذا ستفعل فهي لا ترى أن (معتز) هو نصفها الآخر ..


وبينما كانت غارقة في حديثها الداخلي، سمعت وقع خطواتٍ خلفها، التفتت ببطء، فرأت شابًا يقف أمامها على بُعد أمتار قليلة، تجمدت في مكانها، كان طويل القامة، يرتدي بنطالًا أسود وقميصًا أسود، ملامحه شديدة الوسامة، لكن في عينيه شيء غريب، كحلٌ داكن يحيط بعينيه العسليتين على غير عادة الرجال، ترددت (نغم) لحظة، ثم نظرت حولها، الشارع كان خاليًا إلا منهما لا أحد ..


ابتلعت ريقها بخوف، وتراجعت خطوة إلى الخلف، ثم أخرجت هاتفها تتظاهر بالاتصال، لكنها لم تجد شجاعة الكلام، بدأت تقرأ في نفسها آياتٍ من القرآن، وصوتها يرتجف ..


لكن الشاب لم يتحرك، اكتفى بأن يتقدم ببطء حتى صار على مقربةٍ منها، وعيناه لا تفارقان وجهها ثم، وبكل جرأة، مدّ يده وأمسك بمعصمها ليقول بصوتٍ منخفض

- يا آنسة ..


شهقت وهي تصرخ في فزعٍ حقيقيّ لعل أحدًا يمر وينجدها من ذلك الغريب

- يا مااااامي!! يا ماااااامي!!


حاولت أن تسحب يدها من قبضته، لكنها فشلت، فقد كانت يده قوية، تشدها نحوه بقوة جعلت أنفاسها تتسارع، قال مستعطفًا وهو يحاول تهدئتها

- اسمعي بس ..

يتبع

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة علا السعدني، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة