رواية جديدة ذكريات ضائعة لعلا السعدني - الفصل 6 - الأربعاء 19/11/2025
قراءة رواية ذكريات ضائعة كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية ذكريات ضائعة
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة علا السعدني
الفصل السادس
تم النشر الأربعاء
19/11/2025
عاد (حازم) إلى المنزل، تنوء روحه بما تحمل، وما إن دلف للداخل حتى رأته (شيرين) واتّسعت عيناها بصدمةٍ مشوبة بالشوق، ثم اندفعت نحوه تركض وارتمت داخل احضانه، انزعج هو كثيرًا فهو لا يتذكر من تلك الفتاة ولا يعلم لما هجمت عليه فجاءة هكذا لذا أبعدها عنه وهو ينظر إليها ويتفحصها وقبل أن يتأملها، قالت بصوتٍ سعيد من شدّة فرحتها
- (حازم)! حبيبي .. وحشتني، أنا لما عرفت إنك رجعت، كنت هموت من الفرح
ظلّ واقفًا للحظة، يتلقّى اندفاعها وعاطفتها، ثم رفع بصره إليها، ليمرّ على فستانها الأزرق الذي انسدل فوق ركبتيها قليلًا، وعلى بشرتها السمراء اللامعة، وشعرها البني الداكن، وملامحها الرقيقة جمالها خافت، لكنه آسر ومميز لتوضح لها فهي قد علمت من والدته أنه مازال لا يتذكر شيئًا
- أنا (شيرين) خطيبتك، إنت مش فاكرني؟
ارتفع طرف شفتيه بابتسامة صغيرة، وصوتٌ منخفض ثم قال
- لا خَمِّنت
لم تتمالك نفسها من الضحك، أمسكت يده وسحبته ناحية أقرب كرسي وجلست أمامه، تنظر إليه بحب وشوق بينما سحب هو يده منها وظل يفكر هل كان يتعدى الحدود معها إم لم يضع لها أي قيود داخل علاقتهم سويًا، وربما تكون هي فقط مفتقداه وتتصرف بعفوية ولكنه لم ينكر أنه انزعج، صحيح ان ملامحها وشكلها العام مقبول بالنسبة له بل بالنسبة له هي جميلة للغاية فهو يحب السمار المصري ذاك، ولكن لم يشعر بسعادة في قلبه حين رأها هل كان يحبها ام أنها مجرد خطبة عادية ليست عن حب؟!
لتقاطع افكار الثائرة وهي تسأله
- طب احكيلي، حصلّك إيه؟
ابتلع ريقه، وانخفض بصره قليلًا قبل أن يجيب
- الحمد لله على كل حاجة
تقلّصت ملامحها بقلقٍ ظاهر، اقتربت منه قليلًا تسأل بصوت خافت
- طب الحادثة دي حصلت إزاي؟
أغلق عينيه للحظة كأن السؤال وخز قلبه، ثم قال بأسى واضح
- مش فاااكر طبعًا يا (شيرين)
صفّرت شفتيها بضيق وقالت وهي تهزّ رأسها
- صحيح سؤال غبي
ابتسم لها ابتسامة هادئة ليخفّف عنها، لا يعلم لما لم يشعر بالراحة معها صحيح أنه مازال يشعر بغربة في ذلك المنزل ولكنه يشعر بألفة تجاه كلًا من والدتها وشقيقته حتى لو كانت حالته النفسية لا تجعله يتحدث معهم كثيرًا ولكن هناك شئ خاص في قلبه تجاههم إنما تلك الماثلة أمامه لا يشعر بأي مشاعر معها، قاطعت افكاره
- سرحت في إيه يا زومي؟
اجابها بصدق مرواغ
- فيكِ
تهلّل وجهها بسعادة صافية، رغم أنها لا تعلم أن تفكيره بها غريب للغاية وليس حنين لتقول
- لسه قلبك بيدق ليا؟ صح؟
اصبح صوته منخفض وهو يقول
- مش عارف، بس أنا مش هسيبِك يا (شيرين) .. متخافيش، الحاجة الوحيدة اللي عارفها ومتأكد منها .. إني عمري ما بتخلّى عن حاجة بتاعتي
اتسعت ابتسامتها، وارتجفت شفتيها بسعادةٍ ممزوجة بالارتياح، ثم قالت
- وحشني كلامك أوووي
❈-❈-❈
كانت (نغم) جالسةً في مكتبها، غارقة في العمل، حين فُتح الباب بعنفٍ مفاجئ، انتفضت قليلًا من الرعب بسبب أنه دُفع بقوة، ورفعت رأسها لتجد (معتز) يقف عند المدخل، وجهه متجهّم، وعيناه تقدحان غضبًا، اندهشت من رؤيته على تلك الحالة الثائرة ليسألها بنبرة حادة للغاية
- ممكن أعرف بقى .. مين البيه اللي كان واقف معاكي؟
تجمدت ملامحها للحظة، ثم رفعت حاجبها بضيق
- إنت بتعلي صوتك ليه يا (معتز)؟
اقترب خطوة، وهو يحاول السيطرة على صوته كي لا ينفجر
- أهو .. أهو بتكلم بصوت واطي، ممكن أفهم؟ هو مين؟
ابتلعت (نغم) ريقها، وأزاحت نظرتها عنه في محاولة لكبح انزعاجها، فلا حق له أن يتدخل بحياتها بذلك الشكل المزعج لذا قالت على مضض
- ده مجرد معرفة مش أكتر
نظر لها طويلًا، نظرةً مليئة بالشك يتفحص ملامحها ليعرف هل تلك كذبةٍ ام لا، ثم قال بحدةٍ محاولًا التحكم في نفسه
- بس إنتي مكنتيش عاوزة تتكلمي معاه، روّحتي معاه ليه؟
ضاقت عيناها بضيقٍ ظاهر، وحدثته بنفاذ صبر
- حصلت ظروف يا (معتز)، وبعدين ده تحقيق ولا إيه؟
ركّز نظره عليها، ثم قال بضيق
- أنا قولتلك مليون مرة، أنا بحبك وبغير عليكي
رفعت (نغم) رأسها فجأة، والغضب يشعّ من ملامحها
- وأعتقد أنا كمان قولتلك مليون مرة ردي على الموضوع!
تنفس (معتز) بعمقٍ في محاولة منه للسيطرة على عاصفةٍ بداخله، وقال بصوتٍ منخفض لكنه ممتلئ بالضغط
- أنا بخاف عليكي
نظرت إليه بحدّة، وجفلت المشاعر المؤرّقة داخل صدرها، ثم قالت بوضوح قاطع
- عارف يا (معتز)، أنا غلطت امبارح لما خلتك تخلصّلي الشغل، إنت افتكرت إن ده معناه إني بقربك منّي! بس أنا فعلاً كنت مرهقة
ثم أكملت بصرامة
- بس بعد كده، مش عاوزاك لا تجيبلي أي مشروبات، ولا تساعدني في أي حاجة، ما دام مش عاوز تفهم إني بعاملك كأخ، كـأخ وبس، فاهم؟
تصلّبت ملامح (معتز)، وانغلقت عيناه على نظرةٍ سوداء، وجزّ على أسنانه بقوة حتى كاد صوته يخرج محطمًا
- هتحبّيني يا (نغم) ومش هسيبِك لغيري وخلّيكي فاكرة الكلام ده كويس
ثم استدار فجأة، وخرج من المكتب بعنفٍ جعل الباب يرتج خلفه بصوتٍ مزعج، أما (نغم)، فأطلقت زفرةً طويلة محمّلة بالضيق والاختناق، وضعت يدها على جبينها، تشعر بأن قلبها ينقبض من الطريقة التي يتحدث بها، ومن معاملته لها وكأنها إحدى ممتلكاته ..
❈-❈-❈
كان (حسام) جالسًا في مكتبه، يحاول التركيز في الأوراق المكدّسة أمامه بعد أن انتهى من تحقيقه، لكنه امسك الهاتف لكي يرى من اتصل به أثناء ذلك التحقيق، ليجد سلسلة من الاتصالات الفائتة من (نيرة)، فقد حدثته كثيرًا، عَقَد حاجبيه وضغط شفتيه معًا بضيقٍ خفيف، وقد حدّث نفسه ساخرًا بأنها لابد الآن تشعر بالغضب منه ولن تعطيه أي عذر، هي لا تقدر طبيعة عمله من الاساس، تنفّس بعمق، ثم ضغط زر الاتصال، وفي تلك اللحظة، كانت (نيرة) تتنقّل بين رفوف أحد المتاجر مع صديقتها، تنتقي لنفسها ملابس جديدة فقد اتصلت مرارًا لكي تخبره أنها ستخرج مع صديقتها لكنه لم يجيب، حين دوّى رنين هاتفها ورأت اسمه، انقبض صدرها قليلًا، ثم رمقت الشاشة بعيون ضجرة وهي تفكر ماذا عليها أن تفعل، تعلم أنه عندما يعلم بخروجها دون أذنه سيصب غضبه عليها، ولكن ماذا ستفعل هي كانت تريد أن تبتاع بعض الأغراض وأغلب الوقت لا يجيب على اتصالاتها، أجابت دون حماس، ليأتي صوته دافئًا، مشتاقًا، معتذرًا بطريقة لائقة حتى لا يحصل بينهم خصومة
- بونبونية قلبي، عاملة إيه؟
ردّت ببرودٍ تقصده
- يااا سلااام .. بتضحك عليّا بكلمتين؟ فاكر أنه هيضحك عليا بجد!!
ضحك بخفوتٍ وهو يجلس على مقعد مكتبه
- وأنا أقدر؟
لكن ضجيج المكان وصل إلى أذنيه، فأمال رأسه مستغربًا
- وبعدين إيه الدوشة دي؟ لو واقفة في البلكونة، ادخلي، صوت العربيات عالي قوي
توتّرت ملامحها وابتلعت ريقها فقد كانت انتهت وتسير مع صديقتها في طريقهم للسيارة قبل أن تعترف
- لا، أنا مش في البلكونة، أنا في الشارع
اتسعت عينا (حسام) فجأة، وتشنّج فكّه بإنفعال، وخرج صوته ممزوجًا بالدهشة والغضب
- نعم؟! مسمعتش يا (نيرة)، قلتي إيه يا هانم؟
زفرت هي بضيقٍ وهي تحاول التماسك
- اتصلت بيك كتير عشان أقولك إني محتاجة هدوم وهنزل أشتريها مع صاحبتي، وانت مردّتش، وبعدين انا استأذنت ماما انت عارف اني بستأذنك ذوقيًا مني مش اكتر
شعر بنارٍ تشتعل تحت ضلوعه، وقال بلهجةٍ غاضبة يحاول ألا ينفجر
- آه، فقلتي تنزلي بقى؟ أنتي كده عملتي اللي عليكي وخلاص؟ لكن اتفقنا أننا نحترم بعض ونقدر بعض ونبقى صرحة في كل خطوة مع بعض طز فيه
عضّت شفتها السفلى، محاولة كتمان غضبها المتبادل
- طب مانا اتصلت، وانت من امتى اصلًا كنت فاضي ليل يا (حسام)!!
مرّر (حسام) يده في شعره بضيق، ثم قال بصرامة
- إنتي فين؟
قالت ببرودٍ مُتعَمَّد
- مروّحة أهو، خمس دقايق وهكون في العربية مع (نسرين)
أغمض عينيه لحظة، وكأنه يجمع ما تبقى من هدوءه المبعثر، ثم قال بصوت محمّل بالعَتاب
- ماشي يا (نيرة)، بس خليكي فاااكرة اللي بتعمليه ده مينفعش، أنا قلتلك مية مرة إن الموضوع ده بيضايقني، وبرضه مفيش فايدة، إنتي فاكرة بيبقى بمزاجي لما مش برد عليكي؟!
صمتت ولم تجيبه زفر هو ثم تابع
- ربنا بس اللي يعلم انتي بتكوني وحشاني قد إيه، وإني مبعرفش أنام وإنتي زعلانة مني بس واضح إن مفيش فايدة، مش هتتغيري في دلعك وقمص الطفولة اللي عندك ده مش هتعرفي تكبري منه
رفعت (نيرة) حاجبها في دهشةٍ ممزوجة بالإهانة، ثم قالت بحدةٍ باردة
- قمص طفولة؟!! طب شُكرًا أوي يا سيادة الظابط، سلااام
لم تنتظر إجابته وأغلقت الهاتف بوجهه ثم أغلقت هاتفها تمامًا حتى لا يحاول الاتصال بها مرة آخرى فقد طفح الكيل من أفعاله ..
❈-❈-❈
في المساء ..
كانت تقف في المطبخ تعدّ القهوة بيدين مرتجفتين قليلًا من شدة الإرهاق، وحين انتهت، أمسكت الفنجان بعناية، وسارت في الردهة الهادئة نحو غرفة (رؤوف)، طرقت الباب طرقًا خفيفًا، وما لبث أن جاء صوته من الداخل، ليأذن لها بالدخول، فتحت الباب ودخلت بخطوات مترددة، مع ابتسامة صغيرة على وجهها ثم ألقت عليه التحية، لم يرفع رأسه من فوق الأوراق المنتشرة أمامه، وألقى عليها التحية بهدوء، وضعت القهوة أمامه بلطف ثم قالت
- قلت أعملهالك، اتفضل
رفع عينيه نحوها، وارتسمت على شفتيه ابتسامة خافتة نادرة الحدوث، ابتسامة كفيلة بأن تُربك قلبها الذي ينبض بحبه
- ميرسي يا (ساندي)
تسارعت دقات قلبها دون إرادتها؛ تلك الابتسامة القليلة منه تكفي لتقلب عالمها، أخذ الفنجان وارتشف منه، بينما كانت تراقبه بعينين حالمتين وسألته بخجل
- عجبتك؟
أجاب باختصار اعتيادي
- آه، حلوة
جلست على أريكة صغيرة بجانب مكتبه، وحين نظرت جيدًا إلى ملامحه، لاحظت الهزل الذي طال وجهه، والهالات الداكنة تحت عينيه، فقالوا بنبرة حانية وقلة في ذات الوقت
- إنت خسيت أوي يا (رؤوف)، وبقى تحت عينك إسود
رفع نظره إليها بنظرة حادة، يحاول إخفاء ما يعانيه ثم قال
- الشغل بقى يا (ساندي)
في تلك اللحظة، كان (حازم) يمرّ في الردهة قاصدًا غرفته، لكن استمع إلى صوت شقيقته صادرًا من داخل غرفة (رؤوف) أوقف خطواته، التفت بطرف عينه، ورآها جالسة بالداخل، نظر إليها بنظرات هائمة فاشتعلت عيناه غضبًا، وقام بمناداتها بأعلى طبقات صوته، فانتفضت (ساندي) واقفة كعصفور مذعور، واتجهت إليه، أمسك بمعصمها وسحبها معه إلى غرفته، ثم أغلق الباب بقوة، وقفت أمامه ترتجف، تزدرد ريقها بصعوبة فهو لم يحدثها قط بذلك العنف فسألته
- في إيه يا (حازم)؟
اقترب منها وهو يكتم غضبه بصعوبة
- بتعملي إيييه مع الزفت ده في اوضته؟
انخفضت نظراتها إلى الأرض وهي تشعر بالخجل من نفسها
- كنت بعمله قهوة، وقعدنا نتكلم شوية
زمجر (حازم) بنبرة تشي بغضبه
- حسّك عينك أشوفك تاني مع البني آدم ده!
رفعت رأسها بسرعة، وعينيها ممتلئتين بكثير من الأسئلة
- إنت أكيد ناسي، إنت كنت عارف إني بحبه يا (حازم)
تجمدت ملامحه لحظة، كأن ما سمعه لم يكن ضمن حساباته وسأل ببلاهة
- وكنت سايبك تحبيه؟!
قالت بصدقٍ موجع
- آه، كنت حنين عليّا، وبتقولّي متسلمهوش قلبك مادام هو مش واخد باله، بس ما منعتنيش اني احبه، هو في حاجة؟!
أطلق (حازم) زفرة طويلة، ثم اقترب منها ورفع ذقنها برفق ليلتقي بعينيها العسلية مباشرة
- يرضّيكي؟ أخت (حازم عبد الرحمن الجمال) تبقى واقعة في واحد مش واخد باله منها؟!
ترقرت الدموع في عينيها فمسح دموعها بأبهامه وهو يقول
- لأ يا (ساندي)، إنتِ كنز كبييير لأي راجل، ومش هسلّمك إلا للي يعرف قيمتك
اتسعت عيناها بحزن غائر
- بس أنا بحبه يا (حازم)
مدّ يده بحنان وربّت على شعرها كما يفعل منذ أن كانت طفلة
- وبُكرة إن شاء الله هتحبي حد يستاهلك، (رؤوف) مش مهتم ومش في دماغه الحب اصلًا، ليه تتعبي نفسك وقلبك مع واحد زي ده
ارتجفت شفتاها بابتسامة صغيرة ممزوجة بالألم، فابتسم لها بدوره، محاولًا تهدئتها
- يلا على اوضتك، وحسّك عينك أشوفك في اوضته تاني، مينفعش يا (ساندي) حتى لو ابن خالتنا، مينفعش بنت أمّورة زيك تقعد في اوضة أي شاب
هزّت رأسها بالموافقة، ثم خرجت بخطوات بطيئة نحو غرفتها، بينما عاد هو إلى فراشه، وألقى جسده المنهك فوقه كمن يبحث عن هدنة قصيرة من كل ما يحمله قلبه من خوف عليها، وكل ما يكتشفه فجاءة في حياته فالحياة لا تكف عن صفعه منذ أن استفاق من تلك الغيبوبة ..
❈-❈-❈
في عصر اليوم التالي ..
وبعد يوم عمل طويل، قررت أن تعود إلى المطعم الذي اعتادت الذهاب إليه مؤخرًا، علّها ترى ذلك الشاب الغامض مجددًا، دخلت المطعم، وجلست ظلت تبحث بعينيها في المكان، بين الوجوه عن وجهه لكن لا أثر له، شعرت بخيبة امل صغيرة تسري في صدرها، فنهضت مستعدة للمغادرة، وما إن همّت بالخروج، حتى كان (حازم) يخرج من باب الحمّام في الجهة الداخلية، ولمحها من الخلف، توقف في مكانه، واتّسعت عيناه، وحدث نفسه فقد لمح ملامحها نظر للخلف كانت هيئتها تبدو كما رأها من قبل فلابد وأنها نفس الفتاة التي يبحث عنها، لم يفكر كثيرًا، بل اندفع خلفها بخطوات سريعة، حتى لمحها تستعد لفتح باب سيارتها ناداها بنبرة مرتفعة قليلاً حتى وهو لا يعرف اسمها، التفتت نحو مصدر الصوت، وفي اللحظة الأولى ظنّت أنه (إيمحور) نفس القامة، نفس الوقفة، نفس ملامح الوجه، حتى إن نظرتها تعلّقت بعينيه في انتظار تلك اللمعة التي تراها دائمًا في عيني ذلك الشاب، لكن شيئًا ما كان ناقصًا، همست بدهشة وهي تقول اسم (إيمحور)، لكنها ما لبثت أن تفحصت أكثر ملامحه، لتتراجع ببطء وتسأل بصوت منخفض مضطرب
- إنت مين؟
اقترب منها قليلًا، رافعًا يديه في حركة تهدئة
- ممكن ندخل نتكلم جوّه المطعم؟
تراجعت خطوة، والقلق يعبر عينيها
- إزاي؟! مينفعش
قال بنبرة هادئة
- أنا مش وحش متخافيش ومش عاوزِك تحسّي بالخوف وإنتي واقفة معايا
ارتعشت عيناها فجأة، نفس الكلمات، نفس النبرة، نفس الجملة التي قالها لها (إيمحور) من قبل، تجمدت في مكانها، ونظرت له بشدة وهي تسأل بدهشة
- انت مين انت كمان؟!
أجاب بثباتٍ يعلن لها عن هويته رسميًا
- أنا (حازم عبد الرحمن الجمال)، مفتش آثار
حدقت فيه لحظة طويلة قبل أن تقول
- طب عاوز مني إيه؟
أشار نحو المطعم، بنبرة فيها شيء من الرجاء
- إنتي قولتي (إيمحور)، وأنا كنت بعمل بحث كامل عنه، بعد ما اكتشفت مقبرته، مينفعش نقف في الشارع كده، لو سمحتي ادخلي اقعدي معايا، إنتي قاعدة في مكان عام، مش هخطفِك
كان كلامه منطقيًا، وصوته ثابتًا، فشعرت أنه لا يمثل تهديدًا لها، هزّت رأسها قليلًا، ودخلت معه، جلست على إحدى الطاولات بالقرب من الواجهة الزجاجية، وحين جلست وضعت حقيبتها قرب صدرها كأنها تحتمي به، تنهدت وهي تقول
- طب قولّي بقى؟ عاوز إيه؟
جلس مقابِلها، وأسند ساعديه على الطاولة
- عاوز أعرف، ليه قلتي اني هو وازاي شبهِي كده؟ ومين إنتي؟
ابتلعت ريقها، وكان التوتر يظهر جليًا عليها
- بص، أنا مخرجة أفلام وثائقية، والأستاذ (رؤوف شكري) مفتش زيك ادّاني معلومات عن تمثال لفرعون اسمه (إيمحور)، وعملت فيلم بالمعلومات دي،وفجأة ظهر لي واحد بيقول إنه هو (إيمحور)
رمشت عيناه بقوة، وقال باهتمام
- وإنتي بتقولي إن الراجل ده شبهّي، صح؟
هزّت رأسها سريعًا
- بالملي ده حتى ..
نظرت ليده، وارتجف صوتها ثم تابعت
- ده حتى عنده نفس الحسنة دي، اللي في كف إيدك
خفض عينيه إلى كفه، ثم رفعهما إليها ببطء
- إنتي عارفة معنى كلامك ده؟!!
سألته بعدم فهم ليجيب عليها، ابتلع ريقه، وصوته خرج منخفضًا
- إن أنا (إيمحور)
حدقت فيه بصدمة، ورفعت يدها إلى فمها بلا وعي
- إنت هتجنّنّي، ازاااي؟
قال بهدوء شديد يناقض كلّ ما يحدث داخله
- أستني، فاضل حاجة واحدة لازم أعرفها وبعدين إسألي اللي انتي عاوزاه
حسته على الحديث بعينيها ليسألها
- إنتي ابتديتي تشوفي (إيمحور) من إمتى؟
- من حوالي شهر تقريبّا، مش فاكرة اوي
أسند ظهره للمقعد، وكأن الهواء اختفى من صدره
- يعني وقت رجوعي لمصر
نظرت له مشدوهة
- يعني إيه؟!
انحنى قليلًا للأمام وقال بجدية تامة
- بصي يا ستي، أنا مش هخبّي عليكي، إنتي الوحيدة اللي تعرفي حاجات، أنا نفسي مش فاكرها، وبحكيلِك عليها ومش قادر أفهم ليه، أنا محتاج أعرف كل كلمة بقولها ليكي
حدقت فيه (نغم) بشكّ لا يخلو من خوف
- بس أنا لازم أفهم، انت إيه علاقتك بالموضوع؟
وازااي انت هو وانت مش فاكر؟
صمتت ثم تأملته لبرهة وتابعت بنبرة هادئة
- انت راعّبني وأنا كمان حاسة إن في حاجة غلط، من حقي أفهم
ساد صمتٌ قصير بينهما قبل أن يلتقط (حازم) أفكاره العابثة بعقله، مسح وجهه بكفّه، ثم قال بصوتٍ منخفض
- بصّي يا سِتي
ثم أطلق زفرة طويلة، وواصل بنبرةٍ جادّة
- أنا أساسًا كنت بترجم البرديات هنا في مصر ولما الضغط زاد عليّ، قررت أسافر فترة نقاهة، عشان أكمل شغلي من بعيد، الحادثة حصلت وأنا هناك
كانت (نغم) تُصغي له باهتمام، عاقدة حاجبيها، تحاول جمع خيوط تلك القصة، أكمل هو بصوتٍ متوتر خفيف
- وقتها كان في ناس بتطاردني، مش عاوزين اسلم شغلي للوزارة حاولوا يجرّوني معاهم، وأنا رفضت
شدّ أصابعه فهو على الرغم أنه لا يتذكر شئ لكنه يشعر بكل ما مر به
- ولما سافرت حصلت الحادثة، خبطة جامدة في دماغي خلتني افقد الذاكرة، كل كلمة بقولّها لك دلوقتي دي من كلام (وائل) عنّي
هزّت (نغم) رأسها ببطء، وصوتها يشي بالارتباك
- بس (إيمحور) اللي هوّ أنت ميعرفش مكان البرديات!
هزّ (حازم) ساقه بعصبية، ثم قال
- مش مهم دلوقتي، المهم تجيبيلي منه كلّ معلومة بيقولّها لك، عشان دي متخزّنة جوا عقلي الباطن ويمكن ..
تردّد قبل أن يكمل
- يمكن الذاكرة ترجع
أومأت (نغم) بتردد واضح
- ماشي عمومًا جرب تروح المكتب اللي بشوفك فيه يمكن تفتكر حاجة
نظر لها باهتمام مفاجئ
- طب ممكن تودّيني له
وبعد اتصال سريع بـ(وائل)، تحرّكوا جميعًا نحو المكتب، وحين دخلوا، وقف (حازم) في منتصف المكان، يمعن النظر في كل ركن، في محاولة منه أن يُجبر ذاكرته على الاستيقاظ، صعد للأعلى، ونزل، ثم توغل في الغرفة، فتح صناديق مغلفة بالأتربة، وأخرج منها أغراضًا وصورًا قديمة له، لمعت عينه للحظة ثم انطفأت وهو يقول بإحباط
- مفيش حاجة مهمة
وظهر صوت (وائل) خلفه، متضايقًا
- طيب ممكن تفهّموني؟ إيه اللي بيحصل؟
تبادل الثلاثة نظرة صامتة، ثم جلسوا يخبرونه بكل شيء، ارتفع حاجب (وائل) بصدمة
- يعني انت (إيمحور)
التفت له (حازم) بحدة
- بالله عليك مش ناقصك على المسّا
ابتلع (وائل) غيظه ثم قال
- على فكرة، أنا روّحت مكتبك في الشركة ولقيتك مغيّر مفتاح الدرج، يمكن البرديات هناك؟
هزّ (حازم) رأسه بعدم مقتناع
- مش للدرجة دي، ازاي هسيب حاجات مهمة كده في المكتب في الشغل
لكن (وائل) أصرّ
- يا عم نجرب بس نلاقي المفتاح الأول
هنا قالت (نغم)، بنبرة ثابتة رغم ارتباكها
- لما جبّني هنا، قالّي أنه لاقى في درج المكتب ده ظرف مكتوب عليه مهم (إيمحور) جواه مفتاح
حدّق فيها (حازم) باهتمام فجائي
- والمفتاح فين؟
- معايا حطّيته في درج مكتبي، وبقالي كام يوم شايلاه في الشنطة
نظر إلى (وائل)
- يلا على المكتب
وما إن وصلوا، وجرب المفتاح حتى وجد أنه لا يخص الدرج الخاص بمكتبه، ضرب جبهته بكف يده فقد سئم ما يحدث به، ومرّر يده في شعره بقهر
- أعمل إيه بس؟
فقال (وائل) ساخطًا
- منّك لله يا شيخ، مدوخني على طول كده زمان وانت كمان فاقد الذاكرة
التفت له (حازم) بحدة وهو يقول
- بالله عليك اخرس
صمت الجميع، وفجأة رفع (حازم) رأسه، ونظر إلى (نغم) نظرة مباشرة، ثابتة حدّ الارتباك وهو يقول بجدية
- تتجوزيني يا (نغم)؟
تجمّدت، اتّسعت عيناها، وارتفع صدرها بأنفاس سريعة، كأن العالم توقف حولها، أما (وائل)، فظل فمه مفتوحًا للحظة قبل أن يتمتم مذهولًا
- إنت اتحولت صح؟ إنت مجنون دلوقتي، مش كده؟!
لكن (حازم) لم يزح نظره عنها، كان ينتظر فقط ردًا منها ..
يتبع
