-->

الفصل الرابع - روضتي - ترويض الفهد

 



الفصل الرابع



أنت من تختار أن تكون قوياً أو ضعيفاً في الحياة..
أنت صاحب القرار..
آل باتشينو
❈-❈-❈
نظرت في ساعة الحائط فوجدتها تخطت الواحدة ظهرا؛ فحملت رضيعتها والتفتت تحدث تلك الحنون التي تداعب صغيرها:
-داده، انا يا دوب اجهز عشان اروح للدكتوره، بس هكلم نرمو تيجي تقعد معاكي بالولاد، اكيد مش هتقدري عليهم لوحدك.

استحسنت حنان الفكرة ولكنها قالت بترو:
-اظن شيرين اقرب يا بنتي، كلميها هي تيجي ولا چنى......

قاطعتها موضحة:
-بس شيري تعبانه من الحمل وكمان...

صمتت فهي تعلم بمشكلتها مع زوجها ولم ترد أن تظهر أمامها بالمعرفة بعد تنبيه فارس لها بهذا الشكل الصارم، ففكرت بمهاتفة چنى ولكنها عادت وتذكرت اخبارها لها أمس بخروجها للمصفف من أجل اﻻحتفال مع مازن بأمر خاص لم ترد إخبار أحدا به فلم تجد سواها، اختها ورفيقتها الروحية التي لا تشعر بالاكتمال سوى معها ففسرت رغبتها قائلة:
-محدش فاضي غير نرمو يا داده، انا هكلمها وابعت لها السواق على ما اجهز.

امسكت هاتفها واتصلت بها فردت اﻻخيرة بتعب:
-الو.

تعجبت ياسمين من نبرتها فسألتها بلهفة:
-مالك؟ انتي كويسه؟

ردت عليها بصعوبة:
-ايوه الحمد لله، كنت تعبانه الصبح شوية بس بقيت أحسن.

سألتها متلهفة لسماع ردها:
-كان مالك؟ ايه اللي حصلك فهميني؟

اجابت بتوضيح:
-شوية تعب يا سو متقلقيش، انا حتى كلمتك الصبح بس فارس رد وقالي انك نايمه.

زفرت انفاسها بضيق وعقبت:
-چاسمين مش بتنيمني خالص.

ضحكت نرمين:
-ولسه ياما هتشوفي.

ابتسمت وهي ترد:
-بكره افرح فيكي إن شاء الله.

لم تعقب على حديثها واطرقت رأسها لاسفل بحزن حاولت اخفاءه، فهي لا تشعر السعادة في حياتها ولكنها آثرت الصمت كعادتها، وعندما طال صمتها هتفت ياسمين بقلق:
-انتي فيكي ايه؟ انا رايحه للدكتورة وهعدي عليكي وانا راجعه.

رفضت مبررة:
-ملوش لازمه تتعبي نفسك وانتي لسه تعبانه، وكده كده ماما هنا من بدري.

اتسعت حدقتيها وهي تسألها بخوف:
-طنط عندك! يبقى انتي تعبانه ومش عايزه تقوليلي.

حاولت تهدأتها وقالت موضحة:
-يا حبيبتي انا كويسه والله، شوية دوخه وراحوا لحالهم.

ابتسمت ياسمين من حديثها وقالت مازحة:
-باااس، تبقي حامل.

اغرورقت عينها بالعبرات وطغى الحزن على وجهها وردت مؤكدة:
-لا مش حامل، انا متأكدة.

حاولت إقناعها فقالت معقبة:
-طيب ما تيجي معايا للدكتورة عشان تتأكدي!

زفرت وتحدثت بحدة خرجت منها رغما عنها:
-بقولك مش حامل يا ياسمين، متضايقنيش بقى.

تعجبت من حدتها فقالت بصوت خافت:
-خلاص اهدي، روحي ارتاحي وهبقى اكلمك لما ارجع.

اغلقت معها وجلست على فراشها تبكي بحزن وهي تشعر بالوحدة والوحشة من وقت زواجها، فبالرغم من لهفته عليها في البداية ولكن فترت علاقتهما سريعا بعد الزواج، فهو دائم التحجج بعمله القاسي الذي يشغل اغلب وقته، وهي لم تكن لتتذمر أو تشتكي إﻻ لتلك اﻻسباب التي تخفيها عن الجميع وتريد إخفائها حتى عن نفسها.

❈-❈-❈
ظل ينتفض بين أيدي رجال اﻷمن حتى صاح بهم رب عملهم فتركوه؛ فوقف يهندم ملابسه الباهظة واعتدل بجسده رامقا اياهما بنظرة ممتعضة؛ فتحرك فارس بخطوات ثقيلة متجها نحوه ومد ساعده هاتفا بصوت هادئ ورزين:
-حمدالله على السلامه، وصلت مصر امتى؟

لم يبادله المصافحة ورفع حاجبه هاتفا بضيق:
-مش مستني ترحيبك.

اقترب مازن مندفعا نحوه وهو يصرخ به بحدة اجفلته:
-ما تتلم يا واد أنت واتكلم مع عدل.

لاح اﻻفق بشجار حتمي انتبه له فارس على الفور، فأمسك مازن من ذراعه وقال بصوت منخفض:
-اهدى.

صاح مازن بغضب:
-ما أنت لو سكتله هيسوق فيها.

ربت على كتفه وهمس له:
-الجرح لسه صاحي يا مازن، سيبه يهدى ويفهم.

التفت هاتفا بقوته المعهودة وقال بصوت حاد:
-تعالي يا يزن نطلع مكتبي فوق عشان نتكلم بهدوء.

تحرك ثلاثتهم صوب المصعد وصعدوا للطابق الموجود به مكتب فارس، ووقف أمام مساعدته وأمرها بصوت جاد:
-الغي مواعيدي انهارده، ومتدخليش حد علينا ولا تستقبلي مكالمات.

أومأت له باحترام معقبة:
-تحت أمرك يا باشا.

دلف ثلاثتهم، التف فارس ليجلس على مقعد مكتبه الوثير وأشار له بالجلوس فجلس وجلس أمامه مازن الذي ينظر لها بامتعاض، فاستهل فارس حديثه متسائلا:
-اخوك عامل ايه؟

رد متحفزا:
-كويس، ورجع معايا عشان نرجع حقنا اللي لهفته يا باشا.

أنهى كلماته باستهزاء فتجهم وجه مازن وحاول التهدث؛ فنظر له فارس محذرا:
-سيبه يقول اللي في نفسه.

أخرج ضحكه ساخرة ومازن يعقب عليه:
-لسه فاكر يرجع دلوقتي! مشفناهوش وقت عزا ابوه.

قضم فارس جانب فمه من الداخل واطرق رأسه محاولا كبح غضبه ورد معقبا:
-اسكت يا مازن لما اشوفه جاي عايز إيه بالظبط؟.

صرخ يزن بصوت عال ومحتد:
-عايز حقي أنا واخويا، عايز ورثنا وفلوسنا اللي لهفتهم يا فارس، ولا مكفاكش أنك اتسببت في موت بابا......

انتفض فارس بعد أن فقد هدوءه الزائف وصرخ به معترضا:
-انا لا اتسببت في موت حد، ولا أخدت فلوس حد، وخد بالك من كلامك، أنا عارف ان حرجك لسه صاحي ومش عايز اقسى عليك.

وقف مازن بدوره مستهزئا به:
-جرح ايه بس يا فارس؟ وهو لو هامه اصلا كان جه على اﻻقل حضر عزا ابوه، مش جاي بعد قد ايه عشان بس الفلوس.

اقترب يزن منه ووقف أمامه مترصدا، وتحدث بصوت غاضب وخشن:
-انا لو زي ما أنت بتفكر كده كنت جيت من وقتها وطالبت بحقي.

سأله ممتعضا:
-وايه سبب أنك مجتش وجاي دلوقتي؟

أجابه موضحا بضيق:
-السبب كانت امي، هي اللي منعتنا أنا وآسر اننا نطالب بفلوسنا وانتوا عارفين كويس أنها بعدت من زمان.

سأله بحيرة:
-وايه اللي غير رأيها دلوقتي؟

رمقه بنظرة حزينه رد:
-لانها ماتت من شهر، خلاص اللي كانت منعانا عنكم راحت ومفيش قوه على اﻻرض هتمنعني اطالب بحقي.

مسد فارس لحيته الكثيفة ورمقه بنظرة قوية وتحدث بصوت أجش وقوي مؤكدا على مخارج حروفه:
-حقك أنت واخوك في الحفظ والصون وهتاخده على داير المليم، عايز تفضل مستمر في الشركه أو عايز تصفي اسهمك براحتك.

صر يزن على اسنانه وتكلم بعصبية:
-اسهمي!؟ بس اللي ليا عندك هي اسهمي؟

أومأ له معقبا بتأكيد:
_ايوه ملكوش عندي غير اﻻسهم.

تهجم يزن عليه وحاول امساكه من تلابيه ولكن حال مازن دون ذلك؛ فوقف له بالمرصاد وابعده عن فارس الذي لم يحرك ساكنا بل ظل واقفا بشموخ ووقار جعل اﻻخر ينتفض من الغل وهو يصيح بشراسة:
-ورصيد بابا اللي في البنك وكان فوق المليار؟ والفيلا بتاعته؟ ولا دول بقوا ملكية خاصة؟

ابعد فارس مازن عن طريقه ووقف أمامه ينظر له بجمود وصرح موضحا:
-آه قصدك على دول، عموما الفلوس دي مع الحكومه مش معايا، والفيلا ابوك كان كاتبها باسم العيله اللي كان متجوزها واهي عندك روح لها وطالبها بحقك، بس قبل ما تروح لها اعرف إن مروان بيه كان سايب وصية مع محامي المجموعة و...

قاطعه صارخا ومتسائلا:
-وفتحتوا الوصيه ونفذتوها من غير حضورنا!

رفع فارس حاجبه ورد موضحا:
-بعتنالكم ووالدتك بعتت رفضها بالحضور، وعشان كده المحامي فتح الوصيه ونفذها.

صر على اسنانه مطبقا على فمه بغيظ جم وسأله محاولا التحكم في حركة فكه المغتاظ:
-وكان فيها ايه الوصية؟

أجابه:
-اسهم الشركه ليك انت وآسر، والفيلا لمراته وكان كاتب إن فلوس البنك تتقسم بالشرع بس طبعا البوليس حجز على ارصدته كلها.

قضم اسفل شفته وهو يقول:
-البوليس اللي اتعاونت معاه وعملت كمين لعمك وخليته هربان، وبعدها خليت اخوه يقتله مش كده؟

صاح به مازن عندما لم يستطع أن يصمت اكثر من ذلك:
-ابوك كان مكرس حياته لاذية فارس، وكل اللي عملناه اننا بلغنا عن اعماله المشبوهه اللي كانت السبب اﻻساسي إن والدتك الله يرحمها سابته واخدتكم وبعدت، انما بقى هتتكلم في قصة مدحت الفهد وسبب قتله لاخوه فده موضوع اكبر من اننا نتكلم فيه معاك وانت جاي بتتكلم في فلوس وورث.

ضحك ساخرا والتفت يوليهما ظهره وهو يقول:
-والله ومازن بقى له صوت وبيتكلم.

عاد ملتفتا ناظرا له باهانة:
-كنت فاكر انك لسه تابع لسيدك فارس يا مازن.

هنا لم يتمالك كل من مازن وفارس اعصابهما وهجما عليه بشراسه لتتحول تلك الجلسة إلى عراك ومشاجرة وتطاول بالايدي والالفاظ، لدرجة أن خرجت أصواتهم لخارج المكتب.

❈-❈-❈

في نفس الاثناء ترجلت ياسمين من سيارتها برفقة حارسها الخاص، وتلك السيارة رباعية الدفع التي تلازمها بأي مكان منذ آخر حوادث مرت بها وتسببت بأذيتها بكافة الأشكال مازالت وتحدث لها بسبب اقترانها بتلك العائلة "عائلة الفهد" والادهى اقترانها بكبيرهم واﻻكثر عرضة للوقوع بالمصائب.

اصطحبت معها رضيعتها تخفيفا على تلك الحنون المسنة التي لا تقدر سوى على بكريها، ولم تجد من يجالس الصغيرة فوضعتها بمقعدها المحمول والذي يمكن ربطه باحكام داخل السيارة ويمكن أيضاً أن يتحول لفراش هزاز مريح للصغيرة.

تحركت فتبعها أمجد الذي أصر عليها بحمل الرضيعه داخل مقعدها وصعد معا الدرج، بالطبع فهي كانت ولا تزال تخشى اﻻماكن المغلقة وبصفته حارسها أصبح يحفظ كل ما بها عن ظهر قلب. 

وصلت للطابق المنشود وهي تتنفس بعمق فأوقفها حارسها ناظرا لها بقلق وسألها:
-حضرتك كويسه يا هانم؟

أومأت له والتفتت ترد عليه:
-مش قولتلك ميت مره مبحبش هانم دي يا أمجد!

أبتسم لها واطرق رأسه خجلا وهو يعقب على حديثها:
-لو قولت غير كده الباشا هيسفرني بتذكرة ذهاب للآخره.

ضحكت على حديثه وحركت رأسها بامتعاض من تصرفات زوجها التي لم ولن تعتاد عليها أبدا ودلفت للداخل فوجد مساعدته تجلس على مكتبها، فتنحنحت لتنتبه لها اﻻخيره ووقفت باحترام هاتفة:
-ياسمين هانم! ازي حضرتك؟

اجابتها بحبور:
-الحمد لله يا ندى، انتي اخبارك ايه؟
ابتسمت لها بمجاملة وقالت:
-الحمد لله تمام.

صمتت ياسمين في انتظارها أن تبلغ زوجها بحضورها، ولكنها وجدتها تتخبط بافكارها فقالت بهدوء:
-ممكن تبلغي فارس اني هنا؟ هو عنده مييتنج ولا ايه؟

أومأت لها موضحة:
-ايوه يا هانم، وحتى طلب مني امنع حد يدخل أو أوصل له تليفونات.

لم تعقب وتحركت لتجلس بجوارها وتناولت الصغيرة من يد حارسها واخبرته برقة:
-انزل انت يا أمجد خليك مع الحراسه وانا حستناه يخلص.

لم يراجعها ولكنه فور أن تحرك أستمع هو ومعه الجميع لتلك اﻻصوات العالية التي خرجت من مكتب فارس وتؤكد وجود شجار عنيف؛ فحاول اقتحام المكتب لنجدة رب عمله ولكن وقفت له المساعدة تتوسله:
-ارجوك متدخلش أحسن يرفدني.

أدار وجهه جهه ياسمين الواقفة تنظر بهلع لتلك اﻻصوات حتى يتبين موافقتها أو رفضها لاقتحامه المكتب، ولكن عندما علت اﻻصوات أكثر أشارت له بالموافقة؛ فاقتحم المكتب على الفور واندفع ليقف بالمنتصف ليحول بين رب عمله وبين ذلك الثائر والممسك بتلابيب مازن بشراسة وكانهما عدوين بحرب ضارية.

ابعده أمجد عن الشجار الدائر وعاد ليفض اﻻشتباك بينهما حتى تمكن بالنهاية من إبعاد مازن وسحب قبضته الحديدة التي أطلقت على عنق يزن الذي صرخ بسبة نابية وإهانة كبيرة لهما صارخا:
-والله لوريكم يا *** ده أنا ه**** على عمايلكم دي يا شلة نصابين.

انتفخت فتحتي انف فارس غيظا فمد يده لداخل سترة حارسه المتمسك به بقوة وسحب سلاحه من مخدعه وفتح زمام اﻷمان ووجهه سلاحه صوب ابن عمه الأرعن وصرخ بصوت أرعد الجميع:
-لو مش عايز تتدفن جنب ابوك، أبعد عن وشي السعادي يا أبن مروان.

صوته ايقظ الصغيرة من نومها ولم يثنيه عن صراخه الهادر سوى صوت بكاءها الذي صدح بالطابق؛ فالتفت بوجهه ليجد زوجته تقف بأحد أركان الغرفة متمسكة بمقعد صغيرتها وتنظر له بوجل ورهبة من شكله المخيف الذي جعله يشعر بغصة داخله لخوفها هي وصغيرتها من تلك اﻻحداث.

ما زاد من حنقه هو عدم صمت ذلك اﻻرعن بل ومداومته على اﻻهانة والسباب اللاذع فامسكه أمجد بقوة ونظر لرب عمله يستأذنه:
-اسمحلي يا باشا ارميه بره الشركه.

صر فارس على اسنانه ورد بغضب:
-سيبه، مهما كان من عيلة الفهد ومينفعش اهينه بالشكل ده وخصوصا في وجود مراتي.

التفت يزن ناظرا لها فابتسم بجانب فمه نصف ابتسامة بالكاد لامست وجهه، وقال بصوت ممتعض:
-هي دي مراتك؟ والله انا ما مصدق أن فارس الفهد اتجوز واتلم وبقى اب كمان.

ازاح فاسر أمجد بيده واقترب من ابن عمه وابتسم بوجهه معقبا:
-بكره تقع أنت كمان واشمت فيك براحتي، خد بالك أنا سكت بس تقديرا لحالتك ولو عايز تفهم وتعرف كل حاجه عن مروان الفهد وعمايله هات اخوك وتعالى وأنا افهمك كل حاجه.

ظل صامتا وعاد ملتفتا ينظر للصغيرة التي اخرجتها والدتها من مقعدها وحملتها تحاول تهدئتها؛ فتحرك صوبها ونظر لفارس هاتفا:
-تسمح؟

وافق فارس فتناول الصغيرة من والدتها التي اعطته اياها وهي ترتعش حرفيا وتنظر لزوجها بخوف وذعر حقيقي، تفحص يزن ملامح الرضيعه ورفع وجهه ينظر لياسمين وقال مبتسما:
-زي القمر، شبه مامتها.

تنفس فارس بهدوء وتحرك ليقف بالقرب منه محتضنا زوجته، واخذ منه الرضيعة وهو يرد حديثه واطراءه:
-سبوع چاسمين يوم الجمعة، هات آسر وتعالى وسيب أي مشاكل على جنب لحد ما نقعد ونتكلم ويا اقنعك يا تقنعني.

أومأ له ونظر لياسمين وقال معتذرا:
-آسف يا هانم على المشهد اللي مش ظريف اللي شوفتيه من شوية، أنا يزن الفهد بالمناسبه.

مد ساعده ليصافحها فنظرت لفارس الذي يقف بجوارها يدعمها فسلمت عليه بفتور وهو يكمل تعريفه بنفسه:
-يزن مروان الفهد.
❈-❈-❈

وصلت أسفل البناية وصعدت الدرج وهي تتحامل على نفسها وشعورها بالغثيان الذي يضايقها دائما وطرقت باناملها على الباب ففتحت لها والدتها التي فور أن رأتها ابتسمت لها واحتضنتها هاتفه بترحيب:
-تعالي يا شيري يا حبيبتي، ادخلي ده انتي وحشتينا اوي.

ابتسمت لها وردت التحية:
-وانتي كمان يا ماما.

دلفت واخفضت صوتها تسألها باهتمام:
-مالها نرمو يا ماما؟

اجابتها بحزن وقلق:
-والله ما عارفه، شغاله عياط وبس، جبتها هنا قولت تقعد معانا يومين تغير جو وعشان كده كلمتك اهو تسليها.

أومأت لها واستمعت لها تكمل بخزي:
-ولا مالك اللي كأنه ما صدق وأول ما قولتله هاخدها عندي قالي احسن بدل ما هي قاعده لوحدها طول اليوم.

قوست شيرين فمها وقالت بامتعاض:
-مكانش ليها الجوازه دي، هو ظابط ووقته مش ملكه وهي اللي مظلومه في النص.

سحبتها للداخل وهي تربت عليها هاتفة:
-ادخليلها وربنا يجيب الخير من عنده.

فور أن دلفت الصالة وجدت ذلك الكهل جالسا بجوار توأمها مستندا على عصاه ومنصت لها بشكل كبير واﻷخرى تهمس له بأمر ما، وفور ان انتبها لدخولها صمتا وابتسم لها رافعا يديه أمامه مرحبا بها:
-يا اهلا يا اهلا يا حبيبة جدو.

هرعت ناحيته وارتمت بحضنه مقبله اياه من كفه هاتفه باشتياق:
-وحشتني أوي يا جدو.

جلست بجواره من الناحية اﻻخرى ونظرت لتوأمها وغمزت لها بمشاكسة:
-نرمو، مالك يا قمر احلويتي كده ليه؟

ضحكت ساخرة على حالها وردت:
-قمر بالستر يا شوشو، اسكتي الله يخليكي انتي مش عارفه حاجه.

ربت السيد على فخذها بحنان وعقب:
-كل اللي حكتيه ده يتصلح يا نرمو، سبيني بس وأنا هبعت اجيبه واقرصلك على ودنه اخليه يتظبط.

قبلته من وجنته وهتفت بحب:
-ربنا يخليك ليا يا جدو.

وقفت شيرين وسحبتها من ذراعها وهي تمزح مع جدها:
-عن اذنك بقى يا جدو أحسن اوضتي وحشتني اوي، هدخل أقعد فيها أنا ونرمو شويه.

ابتسم لها وأوما موافقا فتحركتا صوب الغرفة واحكمت شيرين إغلاق الباب، والتفتت تنظر لاختها وهمست لها وهي تصر على اسنانها:
-تعالي بقى عرفيني مالك، واوعي تفتكري انا هيدخل عليا الكلام العبيط اللي قلتيه لماما ولجدو ده! انتي اعقل واحده فينا ومش معقول عامله كل الزعل ده عشان جوزك انشغل عنك شويه من ساعة الترقيه!

ظلت تقضم شفتيها بتوتر فصاحت بها اﻻخرى:
-ما تتكلمي بلاش تعب أعصاب.

همست وهي مطبقة باسنانها تتحدث بغل وكره:
-امه واخوه سبب كل المصايب اللي انا فيها، وهو ولا حاسس ولا دريان بحاجه.

سألتها مستفسرة:
-قولتيله يعني على تصرفاتهم وهو طنش؟ ولا سكتي زي عادتك.

صمتت لتفهم أختها أنها لم تتحدث فصاحت بها موبخة:
-وهو هيشم على ظهر ايده ويعرف إن اهله مضايقينك؟ ما تقوليله ولما يبقى ميتصرفش ساعتها يبقى في كلام تاني.

زفرت أنفاسها وهي تشعر بالضيق والضياع لا تستطيع أن تخبر أقرب اﻻقربون لها بمشكلتها العويصة التي تمر بها، فآثرت الصمت ومددت جسدها على الفراش وتحدثت باجهاد:
-انا عايزه انام، سيبني يا شيري أرتاح شوية.

ربتت اختها على ظهرها ودثرتها بالغطاء وهمست بتذمر:
-جوازاتنا إحنا اﻻتنين مش أحسن حاجه، بالرغم أن اللي شايف من بره يقول ياما هنا ياما هناك، والناس حاسدينا على النسب بتاعنا.

لم تعقب تلك المغلقة لعينها محاولة كتم عبراتها داخل مقلتيها واستمعت لتوأمها تكمل:
-كل اللي حوالينا عمالين يتكلموا، شوفي دي اتجوزت واحد غني ودي اخدت ظابط، وهم لو عاشوا عيشتنا مش بعيد ينتحروا أو يتطلقوا من أول شهر.

لم تعقب عليها وظلت مغلقة لعينها فأضافت شيرين:
-حتى الوحيده اللي مبسوطه فينا مع جوزها، لا الناس ولا المصايب عايزة تسيبها في حالها وكل شوية كارثه شكل.

مسحت على ظهر اختها عندما ظنت انها راحت بسباتها فهمست متذمرة:
-ربنا يصلح أحوالنا جميعا يا رب.
❈-❈-❈

سحبها من يدها المثلجة واجلسها على اﻻريكة الموضوعة باحد أركان مكتبه وتناول منها الصغيرة ووضعها بمقعدها الهزاز وظل يحك اطراف زوجته لتشعر بالدفئ وهو يعلم أنها على مشارف نوبة من نوبات علهها التي يعلمها تمام العلم.

اقترب منها وقبلها من وجنتها هامسا لها بحب:
-سلطانه.

نظرت له فوجد حدقتيها ملونتين باﻻحمر القاني فابتسم بزيف وربت على ظهرها يهدأها وسألها:
-انتي مالك خوفتي ليه كده؟ أول مره تشوفيني ماسك سلاح؟

هو يعلم تماما سبب خوفها فتحدث بمصداقيه ومباشرة:
-انا اتعصبت من اسلوبه وهو مفكر إني سرقت ورثه، وانتي عارفه أنا موتي وسمي اللي يغلط فيا أو يهيني، بس مكنتش هستخدمه اكيد.

رفعت وجهها تنظر له بجمود وسألته:
-هو جاي عايز ايه؟ ناوي يبوظ لنا حياتنا زي ابوه ما عمل مش كده؟

نفى برأسه مؤكدا:
-يزن كويس مش زي مروان الفهد، واﻻطيب منه آسر اخوه الصغير.

توترت وسألته من جديد:
-أومال كان بيتخانق معاك ليه؟

مسح على ظهرها بطمأنه ووضح:
-فاهم غلط مش اكتر، وهو اول ما يهدى انا هفهمه كل حاجه وهسلمه ورثه وإن شاء الله الدنيا تهدى، متقلقيش انتي بس.

أومأت له وهي تقضم شفتيها باسنانها بتوتر فرفع وجهها بسبابته وابتسم بسمته الساحرة وانحنى يقبلها قبلة عميقة على شفتيها تجاوبت معها على الفور، فسرحت بها حتى ابتعد بعد أن سحب انفاسها بداخله وحرك لسانه على شفتيه بنهم وكأنه تناول فاكهه لذيذة، وغمز لها بطرف عينه فابتسمت رغما عنها.

وقف يهندم ملابسه وهو يسألها:
-ميعاد الدكتورة امتى؟

اجابته وهي تنظر لساعة الحائط:
-المفروض كمان نص ساعه.

أومأ لها وهو يجلس على مكتبه وتناول بعض اﻻوراق وقام بمراجعتها وأكد لها:
-هخلص الملف اللي في أيدي وننزل على طول.

ابتلعت ريقها وسألته بتوتر:
-هو هييجي الحفله.

لم يفهم مقصدها فسألها:
-مين تقصدي؟

أجابته بضيق:
-ابن مروان بيه.

زفر أنفاسه ونظر لها قائلا:
-متحاوليش تضايقي نفسك من غير اسباب، يزن وآسر معملوش حاجه عشان كل الخوف ده و...

قاطعته بحدة:
-مش معقول مش قلقان منهم، انت لو مكانهم كنت هتسيب تار ابوك؟

جعد جبينه وملامحه وهو يرد عليها بحدة:
-وهو تار ابوهم عندي انا؟

ردت عليه بغضب مماثل:
-عند عمك، وأبو أخواتك، فأنت بقى مطمن وهتدخلهم حياتنا زي ما عملت مع عاليا؟ وكانت النتيجة ايه غير المصايب اللي لسه مخرجناش منها لحد دلوقتي.

ادار وجهه عنها وركز بصرة باﻻوراق التي امامه ولكنه ظل يصر على اسنانه بضيق محاولا الصمت حتى لا يرد عليها رد يحزنها وهو يعرف أن حالتها الصحية لم تشفى مائة بالمائة، ولكنها لم تصمت وفتحت معه ذلك الحوار الذي ينتهي دائما بشجارهما؛ فتكلمت بصوت باكٍ:
-انت على طول بتحطني أنا وولادك في الخطر عشان بس تثبت لنفسك أنك كبير العيلة وتقدر تديرها بكل مشاكلها، مع أن عمامك كل واحد فيهم مكبر دماغه.

وقف منتفضا ودفع مقعده للخلف فارتد بالحائط ورفع سبابته أمامها هاتفا بتحذير:
-وبعديم معاكي؟ اقفلي كلام في الموضوع ده نهائي.

صمتت وبكت فتركها ووقف أمام النافذة وفتحها ليتنشق الهواء العليل حتى يهدأ من حالته، وظل واقفا عاقدا ذراعيه خلف ظهره واﻻخرى تبكي بلا توقف؛ حتى طرق مازن على الباب وظل منتظرا أن يسمح له فقال بصوته العال:
-ادخل.

مسحت عبراتها بظهر يدها حتى لا يراها مازن، ولكنه فطن لبكائها من صوت نحنحتها واستنشاقها لماء انفها؛ فاتقرب من اخيه الروحي ووضع راحته على كتفه وهمس له:
-بلاش تزعلها عشان منرجعش ندوخ بيها في المستشفات يا فارس ولا نسيت؟

بالطبع لم ينس مرضها وتلك الحمى التي اصابتها بسبب حزنها والنزيف الذي لم يتوقف وجعلها تفقد الكثير من وزنها؛ فأصبحت شاحبة نحيفة ومريضة، وها هي أخيرا بدأت بالتحسن لتعود لحزنها وبكائها، فرمقه بنظرة بمعنى اتركنا فابتسم له وقال وهو يتحرك للخارج:
-انا خلصت ورق الشحنه بتاعة المجر، شوف مين فينا اللي هيسافر؟

رد مؤكدا:
-روح انت وخد چنى معاك.

فتح الباب ووقف على اعتابه ورد:
-هيكون في عز امتحانتها مش هينفع، بس تمام أنا هعمل حسابي على السفر وخليك أنت المرة دي.

اغلق وراءه الباب فتحرك فارس وجلس بجوارها وامسك اناملها بين خاصته وهمس بمداعبة:
-مش لوكنتي روحت برنامج محاكاة الطيران اللي قولتلك عليه كان زماني انا وانتي بنقضي الشتا في المجر؟

رمقته بنظرة حزينة وعادت تطرق رأسها، فرفعها بسبابته ونظر بعمق عينها وقال بحب:
-مش بقدر على زعلك يا سلطانه، متزعليش مني.

قبلها قبلة رقيقة ونظر بساعته قائلا:
-يلا ننزل عشان منتأخرش.

وقفت بصمت وبدأت بهندمة نفسها وحملت رضيعتها معها فأخذها منها ووضع راحته خلف ظهرها وتحرك للخارج ونظر لمساعدته آمرا:
-خلصي مع مازن أي شغل متعطل وابقي اجلي كل مواعيدي لبكره.

باحترام أومأت له، فتحرك برفقة زوجته صوب الدرج وبدأ بالنزول معها ولكنه تذكر أمرا فسألها بحيرة:
-انتي علاقتك إيه ببيري؟

ردت فورا:
-كويسة، من وقت ما عملنا فكرة تجمع البنات وأحنا اتقربنا من بعض شوية، بس التعب بتاعي خلانا بطلنا نتجمع.

زم شفتيه وتردد بسؤالها ولكنه اتخذ قراره وقال:
-طيب تعرفي موضوع ارتباطها ده؟

ابتسمت له وقالت ضاحكة:
-مفيش حاجه تستخبى عليك أبدا.

أمسك راحتها مخللا اناملها بحب وقبلها عليها وعقب:
-انا فارس الفهد.

ابتسمت ورمقته بنظرة ساخرة وهتفت:
-يادي الغرورو يا ربي.

ضحك عاليا فانتبه له موظفي اﻻستقبال بالطابق اﻻرضي وهو يرد:
-احلى صفة بحبها فيا.

تبادلا الضحكات فخرجت همهمات الموظفين على حاله الذي تغير كثيرا؛ فتحول ذلك الرجل القاسي والشرس الى هذا الزوج المحب والحنون والذي يشاطر زوجته كل كبيرة وصغيرة بحياتهما.

وصلا لعيادة الطبيبة التي بالطبع تركت عملها لترحب بهما وادخلتهما فورا حجرة الكشف؛ فجلسا أمامها واستهل فارس الحديث قائلا بجدية لا تتماشي مع مفردات حديثه:
-انهارده تشوفي حل للمعاشره الزوجيه و لمنع الحمل لان كده كتير بصراحه.

ابتسمت ونظرت لزوجته التي اكتسح الخجل وجهها فقالت بتوضيح:
-خليني اطمن على حالة الرحم، ولو كل حاجه تمام اكيد هيكون احسن للكل.

بعد أن وقعت الكشف عليها جلست ممسكة بقلمها ونظرت لفارس الجالس يهز قدمه بتوتر وقالت بعملية ومهنية شديدة:
-حالة الرحم مش أحسن حاجه، بس ده مينعش المعاشره الزوجيه، لكن المشكلة إن مش هينفع وسائل لمنع الحمل دلوقتي لأن بيكون لها آثار جانبيه إحنا في غنى عنها فى الوقت الحالي.

صر على اسنانه وقال بضيق:
-حلو اللغز ده.

ابتسمت له بمجاملة وهي تعلم تماما مع من تتعامل وقالت بتوضيح اكثر استفاضة:
-احنا في غنى عن مضاعفات ممكن تتعبها وهيتأثر عليها بعدين، وعشان ده ميحصلش أنا عارفه أن سيادتك مستعد تعمل أي حاجه في مصلحتها.

أومأ لها فأضافت:
-يبقى لحد ما الوضع بتاعها يتحسن حضرتك اللي هتستخدم الوسيله.

صمت ولم يعقب على حديثها ومسد لحيته ناظرا للأرض بضيق ورفع وجهه متسائلا:
-مفيش حاجه تانيه غير الزفت ده؟

حاولت كتم ضحكتها وهي تجيبه بالنفي:
-للاسف مفيش، ده وضع مؤقت لحد ما حالتها تتحسن وبعدها.......

قاطعها بحدة:
-تمام خلاص، بس هي صحتها كويسه؟

اكدت لها:
-الحمد لله صحتها زي الفل.

وقف منتصبا بجسده وأمسك زوجته وحمل طفلته وشكرها وتحرك للخارج وتلك العاشقة تنظر له من جانب عينها، فلاحظ هو نظراتها المتوارية وبسمتها الخفية فقال لها بصوت حاد متذمر:
-حاسس أنك فرحاه فيا!

ضحكت وأومات فاندهش من صراحتها فانحنى وقبلها من وجنتها وقال بمعاتبة:
-الله يسامحك يا سلطانه.

جلست بجواره بالسيارة وهي تحاول كتم ضحكاتها فرمقها بنظرة ممتعضة ومتضايقة وصاح بها:
-بس بقى.

لم تتمالك نفسها من الضحك وربتت على كتفه هاتفه باسلوب متوارٍ:
-معلش يا حبيبي، خيرها في غيرها.

قضم اسفل شفته وأشار لسائقه بالتحرك وهي لا تزال تضحك بهستيرية وشاركها زين باﻻبتسام رغما عنه من تلك النوبة التي إجتاحتها بالرغم من عدم فهمه لسبب ضحكاتها المتتالية؛ فلمحه فارس الذي هدر به فورا:
-انت بتضحك على إيه انت كمان؟ 

صمت زين على الفور ونظر أمامه وهو يعتذر بلباقة:
-متأسف يا باشا.

صمت ونظر لزوجته التي كتمت ضحكتها براحتها فخرج شكلها مضحك، فقال بتحذير:
-مش كفاية مراتي عارفه بموضوعك قبل مني يا زين، وعديتها .. كمان بتحفل معاها عليا.

تعجبت من حديثه فنظرت له بحيرة واﻵخر يلعن بداخله معرفتها للأمر واحراجه بهذا الشكل أمام رب عمله؛ فبالتأكيد اخبرتها بحقيقة مشاعرهما فهي قريبتها بالنهاية، أما هي فتسائلت بهمس:
-موضوع إيه اللي أعرفه ده؟

رد موضحا:
-زين وبيري، إيه هتعملي نفسك مش عارفه؟

تجهم وجهها وتبعه التفات زين ناظرا للخلف وتسائل بعفوية:
-موضعي أنا وبيري هانم! موضوع ايه ده؟

انعقد حاجبي فارس بشدة وصاح به:
-انت يا بني مش قولتلي على مشاعرك وأنك...

قاطعته ياسمين:
-مع بيري؟! مستحيل، بيري مرتبطه بمهندس في الشركه زميلها إسمه معتز، ايه اللي دخل زين في الحوار؟

رفع فارس رأسه ناظرا لزين ولمعت عينه وهو يسأله بغضب:
-اومال مين اللي أنت عايز تتجوزها وكنت خايف تقولي؟
يتبع....