-->

رواية ذنبي عشقك - بقلم الكاتبة ميرا كريم - الفصل السادس

 

رواية ذنبي عشقك 

بقلم الكاتبة ميرا كريم 



الفصل السادس 

رواية ذنبي عشقك


"أخبروا الحظ بأننا أحياء، فليطرق بابنا ليلة."

- جبران خليل جبران


❈-❈-❈

أصعب التوابع هي التي يسبقها أمل وهي كانت تأمل أن تجد عمل ولكن هباءٍ، فقد بحثت هنا وهناك حتى يأست وها هي تعود  تجر أذيال الخيبة خلفها.

فكانت شاردة تنعي حظها حين استوقفها صوته الغليظ:

-ازيك يا مزمزيل  


هزت رأسها بحركة بسيطة، ليستأنف هو:

-خير مالك شايلة هم الدنيا ليه؟


أجابت بتلقائية شديدة دفعة واحدة وكأن الحديث يكاد يخنقها: 

-ملقتش شغل و كنت عايزة ابيع الحلق عقبال ما ربنا يفرجها بس كل ما ادخل محل يقولي مقدرش اشتريه من غير فاتورة 


-لا حول ولا قوة إلا بالله العلي 

العظيم...طب لو محتاجة فلوس أنا تحت أمرك  


هزت رأسها تلعن بسرها اندفاعها في الحديث ثم قالت وهي تكاد تخطوا بعيدًا عنه:

-شكرًا يا عم "صابر"... عن اذنك 


استوقفها هو يعرض خدماته التي تحمل نوايا متوارية: 

-استني بس يا مزمزيل ميبقاش خلقك ضيق 


توقفت بمضض تنتظر باقي حديثه، ليستأنف هو:

-روحتي للمحل اللي في الحارة اللي بعدنا


نفت برأسها ليخبرها هو:

-تعالي هوديكِ صاحبه بياخد الدهب الكسر ومش هيسألك على حاجة 


فركت يدها وقالت بحرج:

-ملوش لزوم مش عايزة اتعبك اوصفهولي بس وانا هروح


أصر هو:

-ودي تيجي بردو اسيبك تمشي لوحدك ده الباشا موصيني عليكِ


بمجرد سيرته وجدت غصة مريرة تتكون بحلقها، فذلك المخيف نعم تُدين له ولكن فور أن تتذكر طريقته وتهكمه الجارح لها؛ تشعر بالخزي من ضعفها.


دقائق معدودة سارتها عن بعد مع ذلك المدعو "صابر" بعد تصميمه على ذلك وحين وصلت وأتممت بيع قرطها وخرجت من المحل قال "صابر " بأسف:

-والله يا مزمزيل يعز عليا تبيعي دهبك 


ردت  برضا:

-الحمد لله على كل شيء يا عم "صابر" 


-والله ده أنتِ تستاهلي بجمالك يتقلوكِ بالدهب  


قالها وهو يداعب شاربه ويشملها بنظراته التي بالطبع لم تريحها لذلك زفرت حانقة وتهكمت من بين اسنانها:

-هعتبر دي مجاملة بريئة منك يا عم "صابر"


-ما بلاش عم دي قوليلي يا "صابر" بس


برقت عيناها وقالت بنبرة شرسة متهكمة: 

-أنت راجل كبير وفي مقام ابويا  و مينفعش أقلل من قيمتك...عن اذنك انا عرفت الطريق وهروح لوحدي  


تركته وابتعدت ليلاعب شاربه الكث ويقول وهو ينظر لظهرها:

-مقام ابوكِ! طب بالذمة ده كلام.


❈-❈-❈


القى بقطعة الصنفرة الخشنة من يده بعد ان انتهى من تنعيم حواف أحد الألواح الخشبية، ليربت مالك الورشة على كتفه قائلًا:

-خلاص يا "عماد" كفاية شغل يا ابني أنت مطبق من امبارح في الورشة

 

أجابه بهمةٍ:

-عايز انجز يا عم "فاروق" علشان الأوضة تتسلم في معادها


حثه "فاروق" بطيبة:

-معلش الدنيا مطارتش روح يلا والصباح رباح


اومأ له بطاعة فنعم هو بحاجة مَاسة للراحة، وبالفعل قام بتغير ملابس عمله وغادر وإن وطأت قدمه مدخل بنايته وجد من يجذبه من حاشية ملابسه ويدفع به إلى الحائط صـ ارخًا بوجهه:

-هي فين؟


ابتلع "عماد"رمقه بوجل وهو يجد الشرار يتراقص بعين "صالح" ورد:

-هي مين؟ وانت ماسكـ ني ليه كده شـ يل ايدك 


قالها وهو يزيـ ح يده ولكن الآخر شـ دد أكثر على حاشية ملابسه وتسائل  بفحيح خطر:

-"شمس" فين يا "عماد"؟


- معرفش


-كـ داب انا عارف أنك اكيد عارف مكانها وانها متعرفش غيرك تلجأ ليه


سأل "عماد" ببسمة متشفية حين لاحظ رأسه المضمضة:

-هي اللي عملت فيك كده؟


سـ بها "صالح" بفجوج وتوعد بعدها:

-بنت*كانت عايزة تقتلـ ني بس وربنا ما هسـ يبها 


قال "عماد" بغيظ وهو يدفعه من صدره بقوة كي يتركه:

-تسـ تاهل ياريتها كانت جابت أجـ لك وريحـ تنا منك ومن شرك


زمجر "صالح" ولكـ مه بوجهه صـ ارخًا:

-شـ متان فيا يا ابن*


استشاط "عماد" من تطاوله وكاد ينقـ ض عليه لولآ صـ راخ بسمة التي احالت بينهم:

-نهار مش فايت في ايه بس استهدوا بالله


هدر "عماد" من بين أسنانه:

-عاملي  راجل وبتـ مد ايدك عليا فاكرني هخـ اف منك وحياة أمك لافضحك في الحتة كلها واقول انك عايش عـ الة عليها وملكش لازمة


هـ دده "صالح" والـ شرار يتطاير مع حروفه:

-اعملها علشان اروح اقول للمحروس اخوك  انك انت اللي مقويها ومش بعيد تكون أنت كمان اللي مخبيها


جابهه "عماد" دون خوف:

-اعلى ما في خيلك أنت وهو اركبوه انا بطلت اخـ اف


-هنشوف...ليرفع سبابته بوجهه ويخبره بإصرار مقـ يت يشبهه:

-بس يكون في معلومك "شمس" لو تحت الأرض هعرف اوصـ لها 


ذلك آخر ما نطق به قبل أن يغادر بخطوات غاضـ بة تاركه يبـ صق في أثره ويسير يجلس على مقدمة الدرج يتحـ سس وجهه ويلعـ نه


أقتربت هي تجلس بعده بدرجتين متسائلة:

-هي هربت؟


أجابها بملامح متقلصة من شدة الألم: 

-معرفش عنها حاجة

  

نظرت له مُشفقة وقالت وهي تمد يدها بتلقائية غير مقصودة تتفقد كدمته:

-بتوجعك؟


دقت الطبول بداخله ورفع نظراته لها يرى اهتمامها بعيون تفيض فيض بمكنونها دون حديث...استغربت نظراته واشاحت بوجهها بعد أن ضمت قبضتها و وضعتها بحجرها

وقبل أن يجيب همت بالنهوض قائلة: 

-هجيبلك تلج تحطه عليها


تنهد بتثاقل ورد:

-لأ ملوش لزوم تتعبي نفسك


اجابته  بتلقائية غير عابئة بوقع كلماتها عليه:

-تعـ بك راحة ده أنت اخو الغالي 


زفر انفاسه يلـ عن بداخله ثم نهض 

بعصـ بية مُفرطة يتخطاها قائلًا:

-مش عايز حاجة 


وقفت تنظر لظهره حائرة لا تعلم فيما أخطأت فهي تحاول أن تكسبه كما تفعل "شمس" لعله يشفع لها عند مالك قلبها ولكن ردة فعله جعلت ملامح الخـ يبة ترتسم على وجهها.


❈-❈-❈

عادت لتلك الغرفة التي تقبع بها  وإن كادت تضع مفتاحها ببابها انتبهت  لسيدة تحمل  بساط  كبير وتحاول وضعها بصعوبة على السور، لتقترب منها وتساعدها في فرده معها وحين انتهت شكرتها السيدة بلطف:

-يسلم ايدك تعبتك معايا 


اجابتها "شمس" ببسمة هادئة:

-مفيش تعب ولا حاجة 


قيمتها السيدة  بنظراتها وتسألت: 

-هو أنتِ الساكنة الجديد


هزت رأسها تؤكد لها:

-اه عم "صابر" سكني أمبارح


قلبت السيدة عيناها وقالت كارهـ ة: 

-قُطع وقُطعت سيرته ده راجل اعوذ بالله 


وضعت "شمس" يدها تخفي فمها وتكبت بصعوبة ضحكاتها، لتتسأل الأخرى بريبة:

-اوعي يكون في سابق معرفة بينكم وهتزعلي عليه


نفت برأسها واجابتها بعفوية شديدة:

-لأ مفيش معرفة 


-احسن بردو ده راجل عينه ينـ دب فيها رصـ اصة


أجابت "شمس" بِفطنة:

-ما انا اخدت بالي 


نصحتها بصدق وبملامح تندح بالطيبة:

-طب خلي بالك من نفسك شكلك بنت حلال

  

-متقلقيش أنا بعرف اوقف أي حد عند حده


لتنكزها بخفة في كتفها وتقول ببسمة واسعة: 

-جدعة يا بت تعجبيني...انا حكمت جارتك في الشقة اللي تحت


ابتسمت وصرحت بلطف: 

-وانا "شمس" اتشرفت بيكِ يا ست "حكمت"


لتعقب "حكمت" بخفة:

-لأ هزعل واقلبها مناحة قوليلي "حكمت" بس من غير حاجة 


اتسعت بسمتها، لتعقب "حكمت":

-ايوة كده اضحكي محدش واخد منها حاجة...إلا قوليلي هو انتِ ساكنة في الأوضة دي لوحدك


هزت رأسها بنعم وقد اندثرت بسمتها وتهدلت معالم وجهها، لتتنهد

" حكمت"  بحُزن لحالها وتسحبها من يدها قائلة بطيبة صادقة تسود كل تصرفاتها: 

-طالما وحدانية وملكيش حد يبقى خلاص بقينا اصحاب وتعالي بقى نعزمك على كوباية شاي ونقعد نرغي 


حاولت "شمس" التحجج بأي شيء كي تتركها فمازالت لا تثق بها:

-استني بس اصل...


قاطعتها "حكمت" مطمئنة:

-من غير أصل وفصل أنا كمان وحدانية بعد جوزي الله يرحمه  ومفيش حد عايش معايا غير ابني "حسام" وبيصلح الموتوسيكل ومش هيرجع دلوقتي 


حديثها يبدو صادق لذلك انصاعت لرغبتها ونزلت معها لشقتها، وبعد دقائق كانت الأحاديث تدور بينهم حتى أن "شمس" شعرت براحة عارمة لشخصها ولكن ما أثار فضولها هو وجود كميات كبيرة من الخضار بأنواع متعددة على الطاولة، وقبل أن تسألها أوضحت هي:

-متستغربيش ده شغلي


تأهبت "شمس" لباقي حديثها لـ تستأنف "حكمت":

-انا بعمل اكل بيتي إنما زي العسل وببيعه وربنا بيكرمني


-بتبعيه ازاي؟


-الواد" حسام" عاملي صفحة على النت وبسوق منها ده غير ان في مطاعم بتاخد مني


-الفكرة حلوة أوي ربنا يكرمك ويوسع رزقك عن اذنك بقى امشي قبل ما ابنك يجي ميصحش


ضحكت "حكمت" وأوضحت بأريحية وكأنها تعرفها من زمن:

-ابني اللي عملاله حساب ده هو يدوب ١٨ سنة وزمان الميكانيكي مقعده جنبه لغاية ما يصلح الموتوسيكل أصله ده اللي بيقضيلي بيه و يوصل  الطلبات… بالله تخليكِ شوية 


ابتسمت "شمس" وأطاعت رغبتها في البقاء وبعد وقت ليس بقليل استأذنت منها مرة آخرى وعادت لغرفتها وهي تشعر براحة لم تشعر بها منذ وقت طويل، فمنذ أن فقدت عزيزها لم تتحدث مع أحد قط بذلك الود والاريحية التي كانت عليها معها. 


❈-❈-❈

وقف أمام خزانة الملابس التي رتبتها، يتأمل كل قطعة بها على حدى مستغل انشغالها بالأسفل بمهاتفة ابنة عمها، يعلم أن ما يفعله لا يصح ولكن يقسم أنه كان سيفقد عقله إن لم يفعلها وعند قطعة معينة وجد ذاته يخرجها من موضعها ويمرر يده على تفاصيلها يتخيلها بها، ابتلع ريقه بحلق جاف يلعن تفكيره العابث بها وأفعاله التى لا تنتمي للعقل بشيء، فيبدو أنه فقد اتزانه من شدة توقه لقربها ويكاد يجن لنيلها.


-"نضال" أنت فين؟ 


هتفت بها هي بعدما لاحظت غيابه، في حين  ارتبك هو  و ارجع كل شيء بمكانه واغلق الخزانة يجيبها بصوت مهـ زوز بعض الشيء:


-انا هنا


تسائلت بريـ بة ما أن اتبعت صوته و وقفت امامه:


-بتعمل إيه؟


اجلى صوته قليلًا ثم اجابها وهو يمسد منحدر أنفه بشيء من الارتباك:


-كنت بتفرج على الأوضة بعد ما اتفرشت 



هزت رأسها ببسمة هادئة تخالف تلك الأعاصير التي تعصف بها بمجرد تفكيرها بالأمر ترتبك ولا تعرف كيف ستخوض ذلك معه 

نعم ليست مرتها الاولى ولكن حقًا تشعر بشعور مختلف معه.


-تحبي ننزل 



تسائل هو بترقب وكأنه قرأ أفكارها، لتومأ له وهي تلملم خصلاتها خلف اذنها تتبعه بخطواتها وفور أن وصلوا للردهة قالت هي بشيء من الحُزن: 

-"سعاد"بنت عمي  مش هتقدر تيجي بس وعدتني انها هتنزل مصر في أقرب فرصة علشان تباركلنا


ابتسم وحاول مواساتها:

ـ اعذريها  اكيد غصب عنها انتِ عارفة "سعاد" بتحبك أد إيه واكيد مش سهل عليها تسيبك في يوم زي ده 


تنهدت و أجابته بثقة: 

ـ عارفة ومتأكدة من ده


نظر لها نظرة عميقة مطولة من ثقتها الزائدة وكم حسد "سعاد" على استحقاقها منها، توترت تحت وطأت نظراته الدافئة، وقالت وهي  تجلس على الأريكة المجاورة:

 ـ على فكرة انا خلاص خلصت ترتيب اوضة ماما "كريمة" الدور عليك بقى تحاول تقنعها 


جلس بجوارها هادرًا: 

-انا فعلًا فاتحتها بس هي رفضت و مصممة تفضل قاعدة في بيتها



-بس انا نفسي تعيش معانا 

يعني أنت عارف انا مليش حد هنا


اسند ساعده على ظهر الأريكة واعتلى حاجبيه يسألها بمشاكسة:


-أنا مش مالي عينك ولا إيه؟



أوضحت هي بصدق:


-"نضال" مش كده انا اتحرمت من اهلي بدري وكنت دايمًا بحس إني غريبة في بيت عمي ولما...


صمتت لهنيهة تستوعب ما كانت ستنطق به، ليتنهد هو ويحثها بتفهم كعادته:


-كملي يا "رهف" أنا سامعك وعمري ما هفهمك غلط



تشجعت وصرحت بآمالها السابقة: 


-لما اتجوزت كان نفسي اكون اسرة كبيرة واجيب ولاد كتير يكونوا حواليا علشان يعوضوني الدفى والأمان اللي اتحرمت منه لتبتلع رمقها وتضيف:


-والحمد لله ربنا كرمني ب 

"شريف "و" شيري"...وعوضني بيك وعلشان كده عايزة مامتك تعيش معانا وتربي معايا الولاد وفي نفس الوقت عارفة انك مش هتبقى مرتاح ومطمن عليها وهي عايشة لوحدها.



جزء من حديثها عن الأطفال جعل غصة مريرة تتكون بحلقه، ولكن كعادته الصبورة لن ييأس وسيكمل ما بدأه من أجلها، ورغم تلك الأفكار العاصفة التي تضرب به إلا أنه التزم بـ ثباته الانفعالى كعادته وأجابها:


-صدقيني هحاول اقنعها طالما دي رغبتك



ابتسمت تلك البسمة الهادئة التي تأتي بربيعها على قلبه الغارق بها ثم قالت:


-طب يلا بينا بقى خلصنا شغل النهاردة وزمان الولاد مغلبينها


فرد ذراعيه على سور الأريكة بأريحية  وقال بخفة: 

ـ متخلينا شوية أصل حبيت الكنبة دي أوي

 

هزت رأسها بلا فائدة ليستأنف يمدح بموقعها المتميز أمام شاشة التلفاز: 

ـ لا ومكانها ممتاز بصراحة براڤو عليكِ… أصل  أنا كائن بيتوتي وبموت في الأنتخة والكنبة دي هتساعدني اوي

 

انفجرت ضاحكة ونهضت تسحبه معها: 

ـ" نضال" بَطل وقوم بقى


ساومها بمشاكسة: 

ـ هقوم بس واحدة "نضال" تاني كده 


لتهز رأسها بلا فائدة وتنطق أسمه مجددًا: 

ـ "نضال"


ـ يخربيت "نضال" وسنين "نضال" كفاية ابوس ايدك انا اعصابى باظت


قالها بتنهيدة مُسهدة قبل أن ينهض ويغادر معها وهو يدعو الله بداخله أن يهون تلك الأيام القلائل قبل أن يفقد عقله من شدة توقه لقربها. 

❈-❈-❈

مرت عدة أيام عليها بسلامٍ 

دون أي جديد يذكر غير أنها إلى الآن لم تجد عمل، فكانت تجلس على المقعد تستند بذراعها على سور السطح تتطلع في العمار حولها بشرود تام وعقلها هناك عند ابن شقيقها تود حقًا لو تستطيع أن تطمئن عليه...تنهدت بقوة والحيرة تشتت عقلها...فحتى "عماد" لابد أنه سمع بما حدث وقلق عليها ولكن لا تريد توريطه مرة أخرى وخاصًة أنها تعلم أن "صالح" لا يتوانى في أخبار "سلطان" بمساعدته لها وبالطبع لن يسلم منه.


فكانت غارقة في دوامة أفكارها غافلة عن "حكمت" التي تقدمت منها وهي تشعر بالحُزن لحالها فبعد أن قصت "شمس" لها ما مرت ذكرتها بذاتها فهي مثلها تعتمد على ذاتها و لا سند لها لذلك كانت تتعاطف معها وتحاول مواساتها فقد اقتربت منها متسائلة بود: 


-سرحانة في إيه؟


تنهدت واجابتها:

-بفكر في "عماد" زمانه قلقان عليا 

وكمان نفسي اطمن على "رامي" بس خايفة


اقترحت "حكمت" وهي تخرج هاتفها من جيب اسدالها:


-خدي تليفوني وكلميهم يا بنتي وسيبيها على ربنا 


تناوبت نظراتها بين الهاتف وبينها ثم قالت ومازال الخوف يسكن أحشائها:


-هكلمهم بس مش دلوقتي



هزت "حكمت" رأسها تتفهم خوفها، ثم تسائلت:


-بردو ملقتيش شغل؟



أكدت "شمس" برأسها، لتعقب "حكمت":


-يعني لو مكنش المتعلمين اللي زيك هما اللي يشتغلوا مين هيشتغل 



اجابت بنبرة بائسة:

-كلهم عايزين Cv وانا دورت كتير قبل اللي حصل وكان معايا وملقتش، و بعد اللي حصل سيبت كل حاجة هناك ده حتى بطاقتي  نسيت اخدها من الظابط


اقترحت "حكمت" : 

-طب ما تروحي تاخديها منه واهو بالمرة تشكريه



تكونت تلك الغصة المصاحبة لسيرته بحلقها لتبتلعها  بمرارة وتجيبها :


-لو أنه كلامه دبش بس  هعمل كده و بالمرة ارجعله فلوس الايجار… ما انا بعت الحلق علشان كده



-معلش ربنا هيعوضك وهيجبر بخاطرك علشان أنتِ غلبانة


أَمنت على دعواتها، لتقترح "حكمت" بتردد:


-طب بقولك ايه انا عايزة اقولك حاجة كده


شجعتها "شمس" برحابة:


-قولي يا "حكمت" متتردديش



-إيه رأيك تشتغلي معايا وايدي على ايدك مش انتِ قولتي بتعرفي تطبخي وتعملي حلويات



-ايوة وكنت شغالة في مطعم صغير قبل ما اسافر بس صاحبه الله يسامحه قطع عيشي وصدق كلام الجرسون عليا



-يبقى خلاص تستلمي أنتِ الحلويات ورزقي ورزقك على الله و من بكرة هخلي الواد "حسام" ينزل على الصفحة وإن شاء الله ربنا هيكرمنا والشغل هيكتر أنا متفائلة بيكِ



راقت لها الفكرة كثيرًا وخاصًة أنها تتقن ذلك العمل ولطالما كان عمل الحلويات من أهم هواياتها التي سعت لتطويرها لذلك وافقت دون تردد فقد حمدت ربها كثيرًا...صدق من قال من تعود على الشقاء والعمل يمرض حين يهنأ بالراحة   

وحقًا ذلك ما كان سيحدث لها إن لم يحالفها الحظ والتقت بتلك الحكمت.

❈-❈-❈

-بتقول ايه يا روح امـ ك يعني ايه فص ملح وداب!


صـ رخ بها "سلطان" حين وصله الخبر وقام بمهاتفة "صالح" ليتأكد منه، ليدعي "صالح"عليها كاذبًا: 


-اللي حصل يا معلم ضـ ربتني على راسي وكانت عايزة تجيب اجـ لي لما قولتلها مش هتتجوزي غير المعلم وكمان باعت التاكس اللي كنت باكل بيه عيش وخدت فلوسه وطفـ شت


زمـ جر "سلطان" وحـ ذره بشـ ر:

-"صالح" اوعى تكون بتشتغلني 


رد "صالح" من الطرف الآخر مُصر على ادعائه:

-وانا هكـ دب عليك ليه طب دي باين عليها اتبلت عليا وعايزة تجبلي مصـ يبة ده الرجالة بتقول أن ظابط القسم الجديد جه وسأل عني ومن ساعتها وانا خايف ارجع الشقة وقاعد عند "فريال" 


زمـ جر "سلطان"  مرة أخرى وهـ دده بشكل صريح:

-طب اسمع بقى تقلـ ب الدنيا عليها وتلاقيها احسن وكتاب الله هجيب اجلك بأيدي بس اخرج من هنا


-هلاقيها يا معلم متخافش بس انا كنت محتاج فلوس؛ اصرف بيها نفسي أنت عارف انها سابتني على الحديدة 


-روح للرجالة هيدوك اللي أنت عايزه بس الأهم تجبلي اخبار 


-بإذن الله يا معلم 


ذلك ما دار بينهم في مكالمة هاتفية أجراها "سلطان" خِفية من هاتف أحد العساكر التي تقوم بالمناوبة بعد أن منحة حفنة من المال كي يتستر عليه لحين ينتهي...فهو غالبًا ما يلجئ لتلك الطرق الملتوية والغير مُصرح بها  كي يتواصل مع رجاله...فقد اغلق الخط يعتصر الهاتف بيد وباليد الأخرى يضرب الحائط أمامه هادرًا من بين اسنانه بغضب:

-مُصرة تبعدي عني ليه يا زبادي!


❈-❈-❈

أما عنه فقد مرت الأيام السابقة عليه بروتينية مميته لاشيء بها يذكر وها هو يسير في طريقه لمكتبه بخطوات واسعة واثقة لحين استوقفه العسكري القابع على باب مكتبه قائلًا بعدما أدى التحية برسمية وتبجيل:

-في بنت مستنية حضرتك في المكتب يا "سليم" بيه


عقد حاجبيه الكثفين ثم دون أن يخمن دخل مكتبه ليجدها أمامه متأهبة...لتضيق نظراته و يقول بحدة أجفلتها:

-بتعملي ايه هنا؟


زاغت نظرات عيناها الواسعة واخبرته بارتباك:

-أنا...كنت جاية علشان أقابل حضرتك و...


لم يمهلها وقت كافي لتكمل حديثها فقد باغتها زاعقًا وهو يجلس خلف مكتبه:

-أظن قولتلك مش عايز أشوف وشك مرة تانية... جيتي ليه؟


أبتلعت غصة بحلقها تكاد تخنقها أثر حدته الزائدة وإن كادت ترد باغتها مرة آخرى بنفاذ صبر:

-ما تنطقي جاية ليه تاني...اوعي تكونِ عملتي مصيبة تانية! 


لم تتحمل حدته معها وتسرعه في الحكم عليها كالمرات السابقة لذلك تشجعت وقالت تجابهه:

-لأ معملتش حاجة... ولو عطيتني فرصة اتكلم كنت هقولك إني جاية أشكرك وارجعلك فلوسك


قالتها وهي تضع المال على سطح مكتبه، ليسند ظهره بأريحية أكثر على مقعده ويتناوب نظراته المُرعبة بينها وبين المال، لتبتلع هي رمقها وتضيف وهي تتحاشى النظر له: 

-لو سمحت عايزة بطاقتي أنا نسيتها معاك


ضاقت نظراته لثوانِ ولم يجب حتى ظنت أنه لم يسمعها من الأساس وإن كادت تكرر، زفر أنفاسه ثم أخرج حافظة نقوده وأخرجها يلقيها لها بأهمال على سطح مكتبه...

استغربت كونه احتفظ بها داخل حافظة نقوده وليس داخل أحد أدراج مكتبه ولكن لم يشغلها الأمر فقد أخذتها ثم استدارت دون حديث تنوي المغادرة ولكن صوته استوقفها حين هدر:

-استني عندك....هو انا سمحتلك تمشي! 


بررت بثبات:

-انا كنت جاية لغرض معين وخلاص...عن اذنك


قالتها وهي تصر على المغادرة وتخطوا نحو الباب مما جعله يهدر بنفاذ صبر وكل خلية به تنتفض من عنادها:

-قولت استني


التفتت نصف التفاته ثم تنهدت بضيق وتسألت:

-افندم 


أشار بيده نحو المقعد المقابل له وأمرها:

-تعالي أقعدي


رفعت عشبيتها اللامعة له وارسلت له نظرة بها بريق خاص جعله يتنهد بنفاذ صبر ويقول بنبرة نافذة اغاظتها:

-خلصي أنتِ لسه هتصوريني...بقولك أقعدي 


انصاعت له بملامح ثابتة ليتناول  سيجارة من علبة سجائره ويقوم بإشعالها ثم يقول بعدها وهو يمرر ابهامه بين شعيرات ذقنه الناعمة:

-مرتاحة في السكن 


أومأت بنعم...ليسترسل بنبرة صوت أقل حدة عن سابقتها:

-حاجة حصلت أو حد ضايقك 


نفت برأسها دون أن تنظر له و دون أن تتفوه بكلمة واحدة ليزفر حانقًا ويتناوب بنظراته الضيقة بينها وبين المال ودون أن يمهل ذاته وقت للتخمين حتى صدر سؤاله مشككًا: 

-جبتي الفلوس منين؟ 


-افندم!


قالتها باستهجان وهي ترشقه بنظراتها وكأنها تحاول أن تستوعب المغزى الحقيقي من سؤاله بينما هو كانت نظراته جامدة كأنها تغلف ليلٍ قارص البرودة 

فنعم تعثرت بداخل عتمة عيناه ولكن ذلك البريق المفعم بالكبرياء الذي يشع من عيناها كان كفيلًا أن يكون بقعة ضوء دخل عقله. 

فقد انتفخت أوداجه وأمرها  قبل أن يطفئ

سيجارته داخل المنفضة بعـ صبية مُفرطة:

-خدي فلوسك وامشي...و أخر مرة تدخلي القسم ولا توريني وشك...وأظن قولتلك مش بحب أكرر كلامي مرتين قبل كده

    

حقًا أرادت لو انشـ قت الأرض وابتلعتها من شدة الحرج ولكن لن تصمت تلك المرة وتقبل أن يقلل من شأنها بسبب مِحنتها فقد نهضت وقالت بنبرة تحمل بين طياتها شموخ كبريائها: 

ـ همشي بس الأول هتسمعني انا اتعودت ألتمس لكل الناس اعذار و يمكن الظروف اللي قابلتني فيها هي اللي مخلياك تحكم عليا غلط… ويمكن برضو تكون حد جواه كويس؛ وده اللي ظاهر من افعالك 

لكن رغم إني مدينة ليك بمعروف  إلا أن  مش مُبرر ابدًا لطريقتك معايا ولا يديك الحق أنك تقلل مني …انا مليش ذنب ان  اخويا اتلم على ناس فسدته وعدمت فيه نخوته…أنا اللي جابني ليك هو إن عمري ما نسيت  فضل  حد عليا ولا اخدت حاجة مش من حقي…انا اتعودت أشقى بالقرش علشان اعرف قيمته… ومتخافش أنا مش سرقاهم… لتتناول نفس من الهواء تحفز به نفسها ثم تضيف بعزة نفس تضاهي عجرفته اللامتناهية:

-أنا مش هاخدهم علشان ده حقك انت ولازم يتردلك وبجد اسفه اني جيت وضيعت وقتك يا "سليم" بيه


قالت ما قالته وغادرت برأس شامخة دون ان تنتظر ردة فعله فكان جاحظ العينين ينظر لآثارها  لثوانٍ يحاول يستوعب ما صدر منها وإن فعل شبح بسمة تسللت إلى فمه هو وحده يعلم سببها. 


❈-❈-❈

أما هناك في أحد الطرق الرئيسية وبين الزحام  كانت تسير هي بخطى واسعة متجهة لعملها، تنظر يسارًا ويمينًا قبل أن تتخطى الطريق ولكن لسوء حظها لم تنتبه لذلك الموتور المُسرع الذي بلمح البصر كان يصطدم بها جاعلها تسقط على الأرض الأسفلتية الصلبة متـ أوهة و مدرجة بدمائـ ها ليتجمهر العديد من المارة حولها  بينما الموتور وسائقه المـ تهور اختفوا بين الزحام في غضون ثوانٍ معدودة وكأن شيء لم يكن. 


يُتبع..