رواية كما يحلو لي النسخة القديمة بتول طه - الفصل الرابع والخمسون
رواية كما يحلو لي - النسخة القديمة
حصريًا على مدونة رواية وحكاية
بقلم بتول طه
الفصل الرابع والخمسون
- سيد عمر... دعني أخبرك أنك مررت بالعديد من الاضطرابات في شخصيتك بعنف ودون ترو وهي التي أدت لتكون كل هذا بداخلك ودفعك لتكون عدو انيا بشكل سلبي حتى وصلت للعديد من الازدواجيات المتناقضة وأصبحت تُشكل لك عبئًا وحملًا ثقيلًا لا تستطيع التعايش والتعامل معهما بسهولة، ألاحظ بدايات الانفصام بشخصيتك منذ أن كنت طفلًا، أرى أولاً أنك صدقت أوهام والدك وبتحميلك الكثير لتظن أنك أنت الشخص المختار، وحتى على الرغم من شعورك بالاضطهاد بمدرستك لم تتحدث، أيضًا عندما كنت بالقرب من أسرتك لم تسمح لأحد بأن يقترب وبنفس الوقت كنت تود هذا وبشدة...
كما أدى هذا للانسحاب الاجتماعي وتكوين حصن حول نفسك عندما كبرت، أرى حتى اختياراتك لمنازلك ليس بغرض التباهي أو أن تفتخر بأنك تملك منزلًا ذو مساحة شاسعة بل أغلبها بأماكن نائية وبعيدة بل وحتى حراسك تمنعهم من أن يقتربوا، لقد عزلت نفسك اِجْتِمَاعِيًّا كنوع من أنواع العقاب لكل من حولك، وكأنك تخبرهم بابتعادك أنا أبتعد عنكم مثل ما ابتعدتم أنتم في البداية، واعتنقت الهوس بالسادية كي تفجر عن كل هذا، سواء ما واجهته من تنمر بمدرستك، أو اضطهاد أبيك لك، صمت والدتك وعدم تدخلها بقرارات أبيك، بل وسكوتك أنت أيضًا في أن تعبر عما تحتاجه وتريده وما ترفضه ومالا تقبله...
لهذا عندما تقدم بك العمر شعرت وكأنك عند عقابك لأحد أو إصدار الأوامر وإيلامك وقسوتك للآخرين سيريحك هذا وكأنه سيعوضك عن السنوات التي سكت بها ولم تتحدث!! ما لا تستطيع تفهمه سيد عمر أنه ليس علينا أن نعاقب الآخرين على كل شيء حدث لنا كما أنك خلال فعلك لهذا الأمر تعاقب من لا يد له بشيء... كأخيك مثلًا فهو لم يختر أن تذهب أنت لمدرسة عسكرية بينما هو بقي مع والدتك!
تريثت "مريم" لتنظر له وقد تشنجت ملامحه وسحق أسنانه بقوة فعلمت أنها وصلت لعديد من الحقائق التي آلمته بمجرد النطق بها هكذا بصوت مسموع وهناك بعض الرفض والاعتراضات الجلية على ملامحه فتابعت حتى تُلقي الكرة بملعبه:
- لديك بعض الهلاوس الممتزجة بالانفصام والسادية... سيد عمر، أعلم أنك تفهم جيدًا ما أقوله لك، أنت شخص مثقف، كما أعي أنك تخبطت بين نوبات الهوس عندما كنت تمارس ساديتك التي بالطبع ازدادت بعد خيانة يمنى التي لم تلحظ مدى الريبة والشك بداخلك، وبين نوبات الاكتئاب التي ظهرت عن طريق شعورك بالذنب بعد أن تفرغ من ممارساتك مع روان، أو مثلما توقفت معها فجأة بهذا المنزل الجبلي... هذا نابع عن الإحباط واليأس بداخلك ولكن ليس الندم، لأن الندم لا يتوافق مع الشعور بالمتعة والانتشاء بإيقاع الآلام بالغير سواء كانت زوجتك أو غيرها من النساء!
ابتلع بمرارة متألمًا وارتجفت يديه غضبًا لتلاحظ "مريم" هذا بوضوح ثم أردفت بحزم وإصرار:
- علاج كل هذا لن يأتي بين يوم وليلة، عليك التحكم في أفكارك، تعديلها، المواظبة على التمارين والعقاقير، كما أنك كنت لأكثر من عشرين عامًا مقتنعا بأن هذه هي الطريقة المُثلى، فتعديل هذه الأفكار سيحتاج للكثير من الإرادة بداخلك... ليس من أجل علاقة سواء علاقتك بزوجتك، أو حتى عائلتك، وبالطبع ليس من أجل ابنك أو ابنتك... كل العلاقات بحياة الشخص بالطبع تلعب دورًا هَامًّا في العلاج ولكن أقصى ما يُمكنك أن تؤمن به هو العلاج كي تكون رجلا مؤهلا لكل هذا، لزوجتك وطفلك وعائلتك بل وعملك!!
رأت الضجر والاستياء ينهمر على تقاسيم وجهه ولكنها تابعت بتنهيدة لتوضح له بنبرة داعمة معتدلة:
- عليك العمل على جميع علاقاتك، مثلًا قد تبدأ بالاقتراب من عائلتك... إخوتك... حاول أن تحتك بالاجتماعيات، أعلم أن ما أقوله لك قد تراه مجرد شيء عادي وأنه لن يساعد ولكن ثق بي، سيحل لك الكثير وسيساعدك أن تُصلح علاقاتك بالآخرين في مساعدتك على العلاج نفسه، عليك السيطرة على غضبك والتحكم به والتفكير مَلِيًّا قبل أن تفعل أي تصرف، عليك أن تفكر في نتائج هذا التصرف وما يُسفر عنه، والابتعاد التام عن كل تلك الغرف التي تحتوي على الأدوات التي أخبرتني عنها، فكر بهذا الذنب الذي تشعر به بآخر مرة فعلتها وواجه نفسك به قبل أن تبدأ بممارسة عنفك وعدوانيتك مع أي شخص، وبالطبع لن أستطيع أن أؤكد لك أن علاقتك بزو جتك ستستطيع تحسينها بين يوم وليلة ولكنها تحتاج الكثير من العمل والمحاولات المستمرة كي ينجح الأمر فيما بينكما!
- أعي أن هذا لن يحدث بيوم وليلة ولكن عليك البدء، ألا يكفي كل هذا كما أنك أوشكت على أن تصبح أبا ووالدا مسئولا... هل تود أن تصبح مثل والدك مع طفلك؟ سيكون هذا هو الحافز لأن تكون مؤهلا، ولكن قبل أي شيء لا بد من أن تفعل هذا من أجل نفسك!
- رن سؤالها بعقله ودوى بشدة ليذكره بالعديد من الذكريات مع والده التي ولأول مرة يشعر كم قامت بتغييره في العديد من الأوقات من حياته فالتزم الصمت ولم يود التحدث أكثر من هذا...
❈-❈-❈
- أظن اختيارنا سيكون عمر، كنظرة مستقبلية هو الأفضل من وجهة نظري وبناء على تلك التقارير... كما أن عمر له الخبرة بمجال الاقتصاد والاستثمارات عكس أبي الذي يُركز كل عمله على القضايا وحدها!
تحدث عدي بنبرة غارقة في التفكير لتعقد روان حاجبيها بجدية وتريث مُفكرة هي الأخرى لتنظف حلقها ثم عقبت بصوتٍ متردد:
- حسناً... ولكن ستحدثه أنت بهذا، أنا أقتنع أيضاً أن عمر أفضل من حيث الخبرة، هو مُلم بتفاصيل أكثر من والدك! أتفق معك في هذا!
تفحصها بعناية وتردد لوهلة قبل أن يسألها باهتمام واكتراث أخوي:
- كيف حالكما الآن؟... أقصد أنت وهو!
تفقدته بابتسامة صغيرة بها يشوبها الحزن ويمزقها الانكسار ثم هزت رأسها بالإنكار وهي حَقًّا لا تدري أين تقف معه:
- لا أدري... بدا سعيداً اليوم عندما أخبرنا أمي وأخي بأنني حامل، تظاهرت أنا أيضاً بالسعادة ولكنني تمنيت لو أنها حقيقية!
- هي حقيقية روان...
سرعان ما أكد على كلامها بلهفة وأضاف بنبرة لينة:
- عمر يحبك، هو حَقًّا يعشقك، لم أره يبكي بحياتي منذ أن كنت طفلًا لآراه يبكي بسببك ولأجلك نادمًا على ما فعله، تلك الصلابة والقوة انهارت لكِ أنت فقط... وأنا أعلم أنكِ تحبينه أنتِ الأخرى وإلا كنت ستتركينه... هل يُمكنك مسامحته يومًا ما؟
ابتلعت بمرارة ثم نظرت له بأسفٍ وهي لا تعرف ما الإجابة على هذا السؤال وبعد تريثٍ شديدٍ منها وعينيها تفتقران للثقة همست بحزن:
- أشعر وكأني لن أستطيع أن أكون معه مثل السابق، أنا أرتعد كلما أقترب مني ولـ...
- أعطي لكِ وله فرصة أخيرة روان... ما حدث ليس بهينٍ وأنا أتفهم ألمك، ولكن خطوة بخطوة سيكون كل شيء بخير، عمر الآن تغير كثيرًا، كما أن امرأة مثلك قوية تستطيع أن تنص شروطها على حياتها المستقبلية بوالد طفلها، ستستطيعين أن تـ...
قاطعها محاولًا أن يلمــ ــس ولو بعضًا من غفرانها لأخيه ولكنهما فوجئا بمن يدلف المكتب فتوقف "عدي" عن متابعة حديثه وانتبه كما فعلت هي الأخرى لينظرا نحو الباب الذي تحرك مُعلنًا عن حضور "عمر" الذي تفقدهما باستفهام وملامح جادة لم يستطع أي منهما تفسيرها...
حدق بهما لبرهة بنظراتٍ مترددة، لا يزال بداخله يحمل الغيرة الشديدة تجاه أخيه، مجرد رؤية روان بالقرب منه يزعجه، بالطبع ليس مثل أي رجل آخر ولكن لا يزال الأمر بالنسبة له يحضه على الغضب والغيرة، حتى ولو بعد الذي فعله معهما الفترة الماضية وتحمل عدي له يظل في نظر عمر متميزًا عنه. بما امتلكه هو وهو طفل صغير بينما لم يجده هو بسهولة!
- ما سبب الزيارة غير السعيدة إذن؟
وجهت "روان" سؤالها له بنبرة لم تجعله يشعر سوى باستفزازٍ يندفع بدمائه لتنقلب تمامًا من منكسرة وضعيفة تشكو حالها بمنتهى الحزن وقلة الحيلة لامرأة متمردة لا تكترث لشيء ولا حتى رؤية نفس الشخص الذي يُسبب لها كل ما تمر به من مشاعر مضطربة!
- كنت أقصد رؤية عدي والتحدث معه ولكن وجدته هنا!
أخبرها مُجيبًا بإعتدالٍ دون مبالغة بعدما فاق من شروده بهما فأومأت وهي تشيح بنظرها بعيدًا عنه وتكلمت بتعجرف وتعالي:
- لدينا عمل الآن... عندما ننتهي سنخبرك
سقطت تلك الكلمات على مسامع "عدي" مما جعله يعض شفتيه مانعًا تلك الضحكة والاندهاش بوقت واحد ثم قرر التدخل حتى يقوم بفض تلك المعركة التي ستبدأ لتوها بين الجيشين وقد توشك على الالتحام الآن
- عمر كيف حالك؟ هل كل شيء على ما يرام؟
توجه له ثم احتضنه ليتعجب عمر موسعًا عينيه من عناق أخيه الذي لم يعتد أي منهما عليه ولكن وجده يهمس بأذنه منبهًا إياه:
- بهدوء عمر لا تقسو عليها أرجوك... لتوي كنت أحاول أن أمهد لك الطريق معها
- لا تقلق
همس بأذنه هو الآخر متصنعًا مبادلته للعناق ثم نظر له بخبثٍ مازح ومن ثم أشاح نظره إلى روان لتتأفف من وجوده معها بنفس المكان ونظرت ببعض الأوراق أمامها وهي تحاول أن تتصنع التركيز الذي لن تجده طالما هو متواجد بالقرب منها لتستمع له يتكلم مقترحًا:
- كنت أود أن أدعوك عدي لتناول الغداء معاً ولكن يبدو أننا سنتناوله ثلاثتنا
توجه نحو روان التي توسعت عيناها وهي ترمق الأوراق أمامها وبلمح البصر قبل أن ترفع رأسها متفوهة بالاعتراض اقترب منها دون أن تدري وقبل جبينها بلطفٍ لتصده سريعًا ونهضت من كرسيها غاضبة لتنظر له بضيق بينما هو لا زلت الابتسامة على شفتيه مترقبًا إياها لتنطق ولو بكلمة واحدة!
- ما الذي تظن أنك ستفعله؟!
صاحت به ثم أخذت أوراقها وكادت أن تذهب لمكان آخر ليسرع بجذب الأوراق منها وهو يقف أمامها وحال بينها وبين مرورها قبل أن تبتعد وهمس إليها:
- اشتقت لكِ عزيزتي