-->

رواية جديدة بين دروب قسو ته لندا حسن - الفصل 6 - 1

 قراءة رواية بين دروب قسو ته كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى



رواية بين دروب قسو ته

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة ندا حسن 



الفصل السادس

❈-❈-❈


كانت كل هذه ذكريات مشـ ـوهة مر عليها عامين من الزمن، كانت كل هذه ذكريات حزينة للغاية جعلت القلوب ترتعش حزنًا وتبكي انهيارًا وألمًا، من بين هذه الذكريات لحظة أو اثنين تبدو السعادة بها.. كانت أقل من القليل!..


عامين مضوا على تلك المصيبة التي وقعت على عاتقها وأخلفت كل هذه النتائج البشعة التي جعلت الجميع في منزلهم يفقد رفيق وحبيب وشقيق وصديق..


عامين لم ينسوا بهم هذا الألم وتلك المعاناة، عامين كاملين كل يوم تمر عليهم ذكرى من داخلهم لتعود بهم إلى نقطة الصفر.. وبداية السطر..


الآن نحن في أرض الواقع والحدث الأعظم بعد تخطي الجميع لما حدث وعادت الحياة لهم، بعيدًا عن هذه الذكريات القهرية، المُسببة للألم أكثر وأكثر..


تخطت "سلمى" فاجـ ـعة موت عائلتها ورحيلهم من الحياة بعد وقت ليس بقصير أبدًا، لم يمر عليها يوم بعد رحيلهم إلى أكثر من ثلاثة أشهر إلا وهي تبكي كل ليلة في غرفتها مُستحضرة نفسها أمامها لتجلدها على فعلتها بعدما قال لها أنها السبب الوحيد في موتهم..


ترى كل يوم نفسها وهي وحيدة بينهم، ترى نفسها وهي تقف أمامه دون سند يحميها وظهر تحتمي به كوالدها وشقيقها، لا تخاف منه ولن تخاف، تعلم أن مهما حدث بينهم هو لن يؤذيها ولكن الوضح صعب للغاية..


كانت مع عائلة كبيرة، أحباب وأصدقاء، سند وعون لها ثم دون أي مقدمات بقيت وحيدة هكذا!.. وحيدة تضل جميع الطرق ولا تعرف أين المُستقر..


أخذت فترة كبيرة لكي تعود كما كانت في السابق "سلمى" ومن يعرفها، ولكن ذلك كان واجهة وقناع مرسوم بدقة عليها والجميع يعرف أنهم مازالوا على وضعهم ولن تعود الحياة أو الوجوه كما كانت..


رسمت الجدية على ملامحها لمن يستحق، وأظهرت الابتسامة لمن تريد وعادت مرة أخرى تلك الفتاة صاحبة المواصفات الغريبة المختلفة مع بعضها مثله ولكن تعرف كيف تكون هذا وذاك في كل وقت وموقف..


بالنسبة إلى "عامر" وحبها له، وبكل فخر وقوة تعترف أنها إلى اليوم تحبه!.. تحبه وتفعل أكثر شيء من الممكن أن يكون خطأ، تهواه، قلبها لا يريد نسيانه!.. عقلها تأمر مع قلبها وبقيٰ عنده ووقف عليه عندما قررت أن ترى غيره.. ليس على القلب سلطان، ليس على القلب سلطان..


إن تحدثت عن حبها له لن يكفي الحديث مهما قالت، لن تكفي المشاعر لوصف ما بينهم وما تشعر به ناحيته، لن يكفي أي شيء عندما تتحدث عنه ولكن تعرف كيف تتحكم في كل ذلك!.. وإلى اليوم لم تعود له ولن تعود وليحترق قلبها وعقلها وروحها إن أرادت هذا.. ليحترق كل شيء، لن تعود لخائن، لقاتل، لن تعود لشخص جعلها طوال الفترة الماضية تفكر كيف كانت السبب في مـ ـوت عائلتها!.. كان "عامر" بالنسبة إليها يمثل مقولة "ومن الحب ما قتل"


لم يكن مرور عامين على حياته وهي هكذا شيء كبير، كل ما في الأمر أن هناك أشخاص اختفت منها فقط!.. كعمه الداعم الأكبر له، ابن عمه رفيق الطريق وصديق المحن، و.. حبيبته ومن كانت زو'جة المستقبل..


بقيٰ على ذلك النزاع مع والده، وكبرت الفجوة بينهم أكثر وأكثر منذ آخر لقاء حدث وتم اتهامه فيه بأنه من قتـ ـل عمه وأسرته، للحقيقة لم تكن علاقاته جيدة مع أي أحد سوى والدته، والده لم ولن يحدث هذا، حبيبته وقد ابتعدت منذ لحظة خيانته لها والتي إلى الآن لا يعتبرها خيانة ولن يعتبرها مهما حدث لأنها لم تكن كذلك.. وآخر شخص بقيٰ في هذه العائلة شقيقته، الذي استحقرته أكثر من السابق وابتعدت عنه بطريقة غريبة وكأنها لا تعرفه والحديث بينهم قليل وأقل منه..


لا يهمه أي من هذا، إنه عاد إلى نقطة الصفر حقًا، يعمل، يعود من العمل إلى المنزل يبدل ملابسه ويخرج ليكون متواجد في إحدى الملاهي الليلية كما كان يفعل دائمًا أو يعود من العمل لينام!.. أتجه إلى التدخين المـ ـدمر للصحة وادمنه كالكحول وكل ما يحدث في حياته يكتمه داخله ولا يخرجه لأي شخص كان ولا حتى يفكر به!.. الوحيدة التي كانت تستمع إليه في كل وقت وحين تركته وحده وتخلت عنه..


كانت تعلم أنه لا يوجد لديه أحد سواها، لا يثق بسواها، ولا يتحدث مع أحد سواها، كانت له كل شيء، حبيبته ابنته، وزو'جته، اعتبرها زو'جته حتى من قبل أن يحدث هذا لأنه رأى بها سنده وقوته، ضعفه وحبه وكلما نظر إلى عينيها رأى نفسه بوضوح..


أصبح وحيدًا وكل ما يحدث بحياته ليس له أي قيمة من بعدها، حبه إليها كان حب جنوني، قـ ـاتل وسام، وإلى الآن هو كذلك ولم يقل عن السابق ولو ذرة واحدة بل ازداد.. ازداد كثيرًا وأصبح يهواها ويشتهي وجودها معه وبحياته بشدة..


تركه لها العامين الماضيين لا يعني أنه تركها إلى الأبد وتستطيع أن تفعل ما تشاء، أبدًا فهي قد كتبت على اسمه وأصبحت له وملكه ومملكته منذ أول يوم وقعت عينيها عليها وهي على دراية بحبها..


تركها تفعل ما يحلو لها، تبتعد كما تريد وتقترب متى تشاء في النهاية مهما حدث لن تكون لأحد غيره ولن تمر على غيره من الرجال، وإن اضطر لفعلها بالقوة ستحدث، بالخبث ستحدث.. مهما كانت طريقة حصوله عليها سيفعلها.. مهما هبط بمستواه ستكون له ومعه..


لن يضيع ذلك الحب ولن يترك عمره الذي كان معها يسرق بهذه الطريقة، لن يراها مع أحد غيره وقلبه ينبض بحبها.. لن يكن الرجل المسالم الذي يتخلى عن ما هو ملكه ليظهر بصورة جيده وليكن متحضر.. لن يفعلها ولن يكن ذلك الرجل..


هو ذلك العنـ ـيف القـ ـاسي، الحاد المتهور، وسيبقى هكذا إلى موته، إلى فناء اسمه من الحياة أو إلى عودتها إليه بكامل رغبتها!.. وهذا لن يحدث


في ذلك الوقت وبينما يمر على الجميع بقصص مختلفة عن الماضي، أغلقت شقيقته على قلبها الباب بقفل محكوم وألقت مفتاحه في قاع المحيط كي لا تعرف كيف تفتحه مرة أخرى من بعد حبيب عمرها وزو'جها الراحل "ياسين"..


هناك الكثير من الذئاب الذي حاولت النيل من هذا القلب وهو مغلق وبطرق غير مشروعة ولكنها كانت الاقوى على الرغم من الهشاشة البادية عليها وحافظت على ما تبقى لها منه..


حافظت على أنقى حب وأجمل ذكريات قد تمر على شخص ما في حياته..


ومنذ آخر مرة تقابلت مع شقيقها في موقف لا يُحسد عليه وهي تجتنبه إلى أبعد حد، بعد أن كانت تراه رجل يُصاحب ما يهواه على حساب الجميع رأته رجل منحط هوى إلى قاع مستوى الدنائة.. هبط إلى أسفل من هذا المستوى بكثير..


أضاع كل الاحترام الذي كان باقي له عندها، وأشعل الكـ ـره في قلبها ناحيته، أصبح شقيق فقط، الاسم الذي تحمله هو يحمله أكثر من ذلك لن توجد أن بحث عن "عامر القصاص" في حياة شقيقته..


ولم تكن تعلم أنه برئ وضعيف للغاية، هش كما النساء وقلبه يرق في لحظة ضعف له، لم ترى إلا القسـ ـوة والعنـ ـف منه ولم تحاول هي أو أي شخص في هذا البيت أن يرى غيرهما.. إلا هي! تعلم كل ما به.. وترى الضعف خلف قسوته لذلك كانت دائمًا "سلمى" هي مفتاح لـ "عامر"... 


كما فعل معه والده بالضبط، لم يحاول ولو مرة واحدة أن يكتسبه إلى صفه، كانت العلاقة مع ابنه في البداية ليست كهذه أبدًا، كعلاقته بعمه "أحمد" يحبه ويستمع إليه ويأخذ بنصائحه، ولكن عندما كبر "عامر" وأصبح له وضعه بينهم، تحول إلى شخص آخر يشرب دون حساب ويسهر كما يريد، حاول معه والده ولكنه لم يعود فذهبت بينهم العلاقة إلى طريق لم يحبه أحد منهم وأصبح الجفاء سيدها..


يقف له والده على خطأ واحد ليجعله يرى أن نظرته به بعد تحوله صحيحه وهو لا يحب خوض نقاش معه ويبتعد عن أي شيء يأخذه إلى هذا الطريق..


الشفاء من جروح كهذه تأخذ وقت كبير جدًا للتعافي منها!..لو كان والده بقيٰ معه بحنانه وحاول أكثر من المرات العشر والعشرون لم يكن "عامر" هنا اليوم.. إنه مل من نصيحته بلين وأتجه إلى القوة ونظرية أنا على الصواب وأنت دائمًا خطأ ومن هنا كانت البداية السيئة لهم..


ولم تكن والدته لها أي دخل في كل هذا منذ البداية إلى نهايته، كانت على الوضع الصامت وحركة الايماءة إلى والده والتي تدل على الإيجاب في كل شيء موجود.. له هو فقط


عاد والده إلى وضعه معه كما كان بعد رحيل عمه، الذي كان الوصلة بينهم وعصا النجاة بالنسبة إلى "عامر"، وبقيٰ هو الآخر على وضعه ولم يفكر حتى في التغير لتسير مركبهم سويًا..


❈-❈-❈


وقفت أعلى درجات السلم، تنظر إلى الأسفل إن كانوا أنهوا فطورهم أم لا، ويبدو أنه لا، هبطت الدرج بهدوء وثبات، مرتدية حُلة كلاسيكية بيضاء اللون، تاركة لخصلات شعرها العنان والتي أصبحت قصيرة للغاية عما كانت، لقد تغير مظهرها تمامًا بعد أن بدلت لون خصلاتها من البُنبة المالخطة للذهبي إلى الأسود المختلط مع البُني، وقامت أيضًا بتقصيره عما كان حيث أنه أصبح طوله إلى كتفيها بالضبط، وغيرت قصته التي كانت تجعل الخصلات القصيرة تهبط على جبهتها، الآن يختلف تمامًا وتظهر في صورة امرأة مرموقة بهذه الملابس..


عينيها واسعة كما هي ترسمها بدقة تظهرها فاتنة للغاية، شفـ ـتيها مازالت مُكتنزة تبادل وجنتيها الدلال الذي تتمتع به.. ويا له من مغري لشخص يعرفه الجميع..


كانت مُرتدية حذاء أسود لامع ذو كعب عالي يصدر صوت هبوطها على درج السلم وكان هو في الداخل يستمع إليه وينتظر قدومها بينما يقلب في طعامه..


دلفت إلى داخل الغرفة، لتجد عمها كما المعتاد يترأس الطاولة، بجواره على الناحية اليمنى زوجته، وعلى الناحية اليسرى ولده.. 


ألقت عليهم تحية الصباح أثناء تقدمها إلى مقعدها بجوار زو'جة عمها:


-صباح الخير 


بادلها عمها وزو'جته التحية بابتسامة جميلة من وجوههم الطيبة بالنسبة إليها، وبقيٰ هو صامت كالمعتاد، لا يتحدث ولا يُجيب عليها تحية الصباح ولا حتى أي تحية تلقيها في دخلتها عليهم.. لم تكن هي فقط، بل للجميع هنا يفعل ذلك..


جلست على المقعد جوار والدته وتركت حقيبتها على المقعد الآخر المجاور لها، استدارت تبصرها جيدًا وتحدثت مُتسائلة:


-عامله ايه دلوقتي يا طنط بقيتي كويسه؟


ابتسمت لها الأخرى بعد أن أدارت وجهها إليها مُجيبة بهدوء:


-أيوه يا حبيبتي الحمدلله


تسائلت "سلمى" مرة أخرى عن "هدى" الغير موجودة على غير العادة: 


-اومال فين هدى 


عقبت على سؤالها والدتها قائلة بجدية:


-هدى فطرت بدري ونزلت الشركة على طول بتقول عندها شغل كتير


أومأت إليها برأسها ثم حركت وجهها إلى الأمام وبدأت في تناول فطورها بهدوء، عينيها كانت تختلس النظرات إليه بين اللحظة والأخرى وفي كل مرة كانت تتقابل مع عينيه التي تنظر إليها بدقة وثبات..


لم يكن مثلها يختلس النظرات منها بل كان ينظر إليها بوضوح رافعًا رأسه وبصره مثبت عليها.. فعادت هي إلى طعامها تاركة ذلك التبجح الذي يتمتع به إليه وبقيت صامتة..


بعد لحظات من هذا الهدوء رفعت رأسها إلى عمها مُردفة بصوت واضح وقوي:


-لو سمحت يا عمي كنت عايزة الشيك اللي هتتبرع بيه للجمعية علشان محتاجينه ضروري 


أومأ إليها برأسه قائلًا من بعدها بنبرة جادة:


-حاضر يا سلمى


مرة أخرى تؤكد عليه حديثها بخجل وبعينين ضيقة عليه: 


-ممكن النهاردة علشان ألحق اصرفه


لاحظ خجلها منه وهي تطلبه مرة ثانية، ابتسم إليها بود ولين ليجعل ذلك الحرج يبتعد عنها وقال:


-حاضر بعد الفطار هكتبلك الشيك 


ابتسمت باتساع وفرحة وهي تشكره ساردة له كم سيكون هذا فارق لهم في الجميعة التي أسستها منذ عام:


-شكرًا جدًا يا عمي، المبلغ ده هيفرق معانا 


اغمض عينيه وهو يحرك رأسه للأسفل بحب وحنان يوجهه ناحيتها: 


-ربنا يوفقكم يا بنتي


ابتسمت إليه ببشاشة ونظرة رائعة خلابة من عينيها الساحرة ووجهها الفاتن، وعادت مرة أخرى إلى طعامها وعم الصمت مرة أخرى ولكن هاتفها لم يعجبه الوضع فأصدر صوت عالي منه بوصول مكالمة إليها..


أمـ ـسكت الحقيبة من على المقعد ثم فتحتها وأخرجت الهاتف منها، كان اسم صديقتها "إيناس" يُنير الشاشة، تركت الحقيبة مكانها ثم أجابت عليها بهدوء:


-أيوه 


استمعت إلى حديث الأخرى وهي تنظر أمامها ثم عند قول شيء ما من قِبلها وضعت إصبع يدها على زر خفض الصوت وتلقائيًا عينيها ذهبت عليه خوفًا من أن يكون استمع إلى ما قالته..


لم يلاحظ هو بل كان ينظر إلى طعامه بشرود، تنفست الصعداء ثم أنهت المكالمة معها دون توضيح أي شيء مما تحدثوا به..


وضعت الهاتف مكانه مرة أخرى في الحقيبة وما كادت أن تقف على قدميها لتهم بالرحيل إلا أنها استمعت إلى صوت عمها الحاد القوي:


-كنت فين امبارح


واستمعت مرة أخرى إلى أجابت "عامر" التي خرجت من بين شفتيه بقوة ونبرة هجومية: 


-هكون فين يعني


أبصرت عمها الذي كرر عليه السؤال مرة أخرى بطريقة أوضح مما سبقت وقد بدى عليه أن هناك شجار وشيك كالعادة بينهم:


-كنت فين امبارح بالليل


ترك عامر فنجان القهوة الذي كان بيده، ابتلع ما وقف بجوفه وهو على علم أن هناك محاضرة ستلقى عليه وربما نهايتها لن تكون جيدة:


-سهران مع صحابي.. فيها حاجه دي كمان 


صاح والده بنبرة حادة مُغتاظة وعينيه كعينين الصقر عليه:


-سهران مع صحابك لحد الصبح.. راجع الساعة أربعه الصبح وقايم تشرب تلاته قهوة علشان تعرف تصحصح 


أجابه "عامر" بمنتهى الهدوء والذي كان يصاحبه التبجح اللا نهائي بعدما عاد بظهره إلى ظهر المقعد ليستند عليه:


-مادام مقصرتش في شغلي ولا حاجه طلبتها مني يبقى محدش ليه حاجه عندي وأعمل اللي يعجبني


أشار والده "رؤوف" بيده بقوة وهمجية ناحيته صائحًا باهتـ ـياج بسبب اللا مبالاة الموجودة لدى ابنه وأسلوبه الوقح في الحديث: 


-لأ مقصر.. مقصر في شغلك وأختك راحت من بدري علشان تكمله، مش واخد بالك إن المجمع السكني هيتسلم النهاردة ولا ايه؟


أكمل بسخرية واستهزاء ناظرًا إليه بقوة شديدة:


-شكل الخـ ـمرة لحست مُخك 


رفع "عامر" عينيه عليه للحظة ثم أخفضهما على الطاولة، مسح بإصبعه طرف أنفه الشامخ في وجهه ومرة أخرى عاد بنظرة إلى والده وهتف ببرود:


-تمام ايه المطلوب دلوقتي؟


صدح صوت والده بعد فترة وكان بها يحاول التماسك والضغط على أعصابه بسبب ذلك الأحمق الذي يجلس أمامه:


-تتعدل وتحترم نفسك، وتتعامل معايا بأدب وتأدي دورك كابن ليا وللبيت ده


بمنتهى التبجح وقلة الاحترام إلى والده، بمنتهى البرود واللا مبالاة لعمر والده ولكل شيء فعله في حياته لأجلهم أجاب بقوة وعنـ ـف وكأنه لم يفكر في حديثه هذا قبل أن يقوله: 


-لما أنت تأدي دورك كأب ليا وللبيت ده هبقى أعمل كده 


لحظات صمت مرت على الجميع، هو نظر إلى الطاولة بعد كلماته التي ألقاها عليه وسعر لوهلة أنه أطال الأمر وخرج عن يـ ـده، بينما كان والده في حالة صدمة تامة.. بقيٰ ناظرًا إليه ولم يهبط بعينه من على وجهه وملامحه، لم يكن يتوقع أنه من الممكن في يوم من الأيام يصل هنا!..


لم يكون دنيء إلى هذه الدرجة ومنحط ببراعة، لم يكن خائن وعنـ ـيف، لم يكن قـ ـاسي ومتهور فقط لقد كان ابن عاص أيضًا


نظرت إلى والدته التي وجدتها تبصره بصدمة تامة كوالده الذي لم ينطق بحرف من بعدها، وقفت على قدميها سريعًا وذهبت لتقف جوار عمها الجالس على المقعد ووضعت يـ ـدها الاثنين على كتفيه تحتضنه صائحة بعنـ ـف له:


-أنت إزاي تكلم عمي كده؟


رفع وجهه إليها ينظر إلى ملامحها الشرسة التي ستقاتله الآن لأجل عمها الذي أخذت صفه منذ أن تركته، تبجح بها هي الأخرى وقال بصوت حاد:


-وأنتي مالك أصلًا؟


أجابته بنبرة قوية حادة مثله بالضبط وعينيها على عينيه البُنية ولم تخشى هذه المرة الضعف أمامه، بل كانت القوة في محلها بعد كلماته القاسـ ـية:


-مالي ونص.. عمي هو أبو البيت ده وعموده غصب عن عنيك... هو كده فعلًا مش مشكلتنا إنك شايف غير كده وماشي على خط غير خطنا 


ابتسم بسخرية واستهزاء بحديثها، ثم نظر إلى عينيها بعمق وكأنها تناست كل ما كان يعاني منه، تناست كل مخاوفه تجاه والده والذي كان يعترف إليها بها دومًا، تناست كل شيء ووقفت أمامه الآن تسخر مما يشعر به:


-أنتي اللي بتقولي كده 


أومأت برأسها بجدية ومازالت تتابع حديثها معه بحدة، وتغاضت عن تلك النظرة وذلك الحديث الخفي خلف ضحكته الساخرة:


-آه أنا اللي بقول كده.. وبطل بجاحة وأتكلم معاه بأسلوب كويس وبعدين ماهو عنده حق هتابع شغلك وحياتك إزاي وأنت كل يوم راجع الصبح 


أجابها ببرود مرة أخرى ولا مبالاة حقيقية:


-شيء مايخصكيش 


نفت حديثه وهي تبتعد عن عمها مقتربة منه لتوضح له أنها لها مثلما له بالضبط في كل هذا:


-لأ يخصني.. ده شغلي وشغل بابا وياسين اللي تعبوا عليه كتير لحد ما بقى كده 


وقف هو الآخر على قدميه وأجاب بعنـ ـف وقوة وهو يبصرها جيدًا مُشيرًا بيـ ـده بحركات هوجاء تصدر عنه وقد خرج عن هدوءه وذلك البرود الذي كان يرسمه على ملامحه:


-لو قلبك واكلك عليه أوي كده روحي أنتي اشتغلي بدل الجمعية اللي واكله حياتك دي.. أعملي زي هدى أخدت مكان ياسين روحي خدي مكان أبوكي 


عاندت حديثه وراق لها ذلك، أن تجعله يشتعل من الداخل بقولها أنه لا يخصه أي شيء تفعله بحياتها:


-شيء مايخصكش أشتغل ماشتغلش مش بتاعتك دي 


كاد أن يُجيب عليها بعد أن قاربت دماءه على الغليان بسبب حديثها في أكثر شيء يجعله يغضب، وهو أن يكون بعيد عن حياتها ويتركها تفعل ما يحلو لها، وهذا لن يحدث..


أردف والده أخذًا منه فرصة الرد عليها، مُهددًا إياه بجدية شديدة وحديث سيحدث حقًا إن لم يعد عن أفعاله:


-قسمًا برب العباد إن ما اتعدلت يا عامر لأ أنت ابني ولا أعرفك ولا تكون داخل البيت ده من أساسه وانسى إن ليك أهل ولا حتى ميراث بعد موتي 


أبعدت عينيها إلى عمها الذي صدمها حديثه للغاية!.. يستطيع فعلها حقًا وهذا الأحمق لن يعود عما يفعل بسهولة ولن يستمع إلى حديث والده وبالأخص إن كان بهذه الطريقة، ابتلعت ما وقف بحلقها خوفًا من أن تسوء الأمور أكثر من هذا ويفعل عمها ما قاله


نظر "عامر" أمامه وأبعد نظره عنه لتقع عينيه على والدته التي أشارت له بعينيها بقوة لكي يعود عما يفعل ويعتذر من والده وبادرت هي بأول شيء لكي يفعلها:


-هدي نفسك يا رؤوف عامر مايقصدش 


لكنه ألقى حديثها عرض الحائط وأشار بيـ ـده بهمجية وعنـ ـف بحت ثم استدار بقوة ناظرًا بعينيه التي تحولت إلى اللون الأسود الحالك إلى حبيبته الغبية، بادلها النظرات الحادة العنـ ـيفة ثم خرج من الغرفة تاركًا إياهم يشتعلون منه ومن أفعاله..


جلست "سلمى" سريعًا على مقعده ونظرت إلى عمها بهدوء وجدية بنفس الوقت ثم خرج الحديث من شفتـ ـيها بلين ورقة:


-متزعلش منه يا عمي أنت عارفه غبي وبيقول أي كلام بس قلبه طيب وهو مايقصدش 


نظر إليها عمها وابتسم من زاوية فهمه، على الرغم من كل ما فعله بها، وعلى الرغم من أنها تظهر إليه الجدية الشديدة ولا تعطيه فرصة للحديث حتى إلا أنها مازالت تدافع عنه أمام الجميع وتحاول أن تصلح كل خطأ يفعله..


أومأ إليها بهدوء وابتسامه قائلًا:


-عارف يا سلمى... عارف 

تابع قراءة الفصل