-->

قصة قصيرة جديدة زهرة الخريف لفاطمة الألفي - الإثنين 15/7/2024

 

قراءة قصة زهرة الخريف كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى


قصة زهرة الخريف

رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة فاطمة الألفي

1

تم النشر يوم الإثنين

15/7/2024


تلك الندوب التي لا زالت تترك أثرها على أرواحنا، تلتئم جراح الجسد وندوبه ولكنها لن تختفي من داخل اعماقنا، أرواحنا التي تُرفرف مثل الطير الجريح الذي ذُبح غدرًا مما كُنا نظن يومًا أنهُ الحصن المنيع والحائط الصلب الذي نكتئ عليه لنحتمي به من غدر الزمان، هو أول الغادرين بقلب أحبه وتُيم بعشقه ليكون مصير هذا القلب العاشق مطعونًا بسكين الغدر، مجروحًا، خائفًا، منبوذًا بكل قسوة، مطرودًا من أحضان الأمان لجوف البرد وقرص الصقيع ومرارة الايام وتظل الروح مُعذبة في دياجير الليل الذي لا ينتهي وتحاول جاهدة بأن تطفو على سطح الحياة لا تجرفها الأمواج بعيدًا عن ضجيج الواقع وتغوص بها داخل أعماق السراب...

تُرى ما مصير هذه الروح المُعذبة التي تُصارع من أجل البقاء؟؟

 

  ❈-❈-❈

 

سيدة على مشارف الأربعون من عُمرها مُطلقة "على قدر من الجمال، بوجه مُستذير كأستدارة القمر ليلة إكتماله، بشوشة الملامح هادئة، بيضاء البشرة، عيناها سوداوان مُظللتين باهداب كثيفة وطويلة تزيد من اتساع حدقتيها، شديدة السواد، شفاها مُمتلئتين شهيتين كثمار نضجة تأسران من يتطلع إليهما يشتهي تذوقهما ، يعلوهما أنف صغير ووجنتين مرمريتين كحبات التفاح، جبين صغير مُسطح به عدة خطوط أثر ما تثقله من هموم على كتفيها وتحملها وحدها  أعباء الحياة، ترتدي الحجاب الذي تواري خلفه خصلاتها السوداء الحالكة، متوسطة القامة، بجسد متناسق ليس بنحيل ولا سمين "

لديها طفلين في أعمار مُتقاربة، سافر زوجها من أجل العمل بالخارج وبعد برهة من الزمن أرسل إليها بدلا عن المال ورقة إنتهاء حياتها كزوجة

_ورقة طلاق_ وتهرب من مسئوليته تمامًا، انقطعت أخباره عنهما وهي لم تجد أمامها إلا السعي من أجل جني المال لكي تُأمن معيشة أطفالها، ابنها البكري في الثالثة عشر من عمره وطفلها الآخر في العاشرة من عمره، هذه هي كل ثروتها في الحياة..

فجأة وجدت نفسها وحيدة، كسا الحزن ملامحها وتلاشت ابتسامتها وازداد عمرها أضعافًا بسبب ما حدث لها من رفيق العمر، الذي طعنها بسهام غادرة.

جاهدت من أجل أطفالها ووجدت فرصة عمل بعيادة خاصة، قررت أن تعمل بوردية المساء لكي لا تترك أطفالها نهارًا، فهم ما زالوا صغار وبحاجة إليها.

 

(زهرة) تلك الزهرة التي قُطفت أوراقها الندية وألقتها الرياح عاصفة بها هُنا وهُناك، إلى أن أنتهى بها الحال مُلقاة في وحل الحياة، تدعسها الأقدام وتغتالها النظرات كأنها أثمة، تتحمل ذنب طلاقها وحدها، تنهشهاالألسنة بكلمات قاسية تُطعن بقلبها الجريح وأنوثتها المُعذبة، يلتهمون جسدها بنظرات وقحة جريئة، يتوددون لها من أجل نيل مبتغاهم المريض ولكنها تصدهما بكل قوة وصمود وتضع لهما حدًا لن يتجرأ أحدًا على الاقتراب منها وإلا نال ما يستحقه، وعندما وجدوا منها الصد، تسارعوا في نقل الأخبار الكاذبة عنها، بأن زوجها هرب منها لانه لم يتحمل فسقها وفجورها كما يدَعون عليها.

وهي تنام كل ليلة دامعة العين؛ شاكية للمولى عز وجل بأن يقتص لها مِن كل مَن ظلمها وسولت له نفسه بالخوض في شرفها، ثم تتضرع لبارئها بأن يعينها على إكمال مسيرتها في تربيتهم وتأسيس حياتهم، فهي تأمل بهما خيرًا، هما عوض الله لها في هذه الدنيا القاسية التي تاخذ منك أكثر مما تُعطيك، تمنع وتمنح، تسلُب وتُعطي، هذه هي تقلبات الحياة، تتقلب بنا مثل فصول السنة الأربعة وعلينا أن نحاربها بصمود ونضال لنفوز بها لا ندعها تتغلب علينا وتنتصر هي..

 

  ❈-❈-❈

 

تسللت أشعة الشمس الذهبية على شرفة غرفتها وأزاحت الستائر مع نسمات هواء الصباح الباكر، عندئذ غردت العصافير على سور شرفتها تُصدر ألحانها الشجية التي تسري القشعريرة داخل أوصالها، تحثها على الاستيقاظ مُعلنة عن بداية يوم جديد.

نهضت "زهرة" عن فراشها وهي تبتسم في هدوء ثم اقتربت بخطوات متئدة تزيح ستائر غرفتها لتنفرج الشرفة وتضيء أشعة الشمس البرتقالية غرفتها المكونة من فراش قابع بمنتصف الغرفة وعلى جانبيه الكومود وفي الجهة المقابلة للفراش خزانة الثياب وعلى الجانب الايمن للفراش موضعة منضدة الزينة خاصتها ، ذات الاثاث البني الداكن، والحوائط مطلية باللون العاجي.

دلفت الشرفة وهي تبتسم لسرب الطيور التي أحتلت شرفتها مُنتظرين حبات الأرز والقمح التي اعتادت "زهرة"أطعامهم في هذا الوقت من الصباح ، مدت يدها داخل الحقيبة البلاستيكية السوداء الموضوعة بأرضية الشرفة والتقطت حفنة من داخلها، ثم أستقامت لتضع داخل المصفاه التي ثبتته سابقًا على جانبي الشرفة، وضعت حبات القمح داخله  لتصدر العصافير رفرفة رقيقة مع صوت زقزقة متداخلة بتناغم كأنهم يعزفون سمفونية شهيرة، تجمعوا على طعامهم يلتهمونه في نهم  تحت نظراتها الحانية، بعدئذ غادرت الشرفة لاحضار الماء لتروي عطشهم أيضًا.

ثم دلفت داخل المرخاض لتتوضئ وتصلي صلاة الضحى، وعندما أنتهت نهضت مغادرة غرفتها متوجهة إلى المطبخ لتعد وجبة الإفطار لصغارها وتحضر صندوق الطعام  الخاص بهم  وتضعه داخل حقيبة المدرسةخاصتهم، ثم ولجت لغرفة أطفالها توقظهم من أجل الإستعداد للذهاب إلى مدرستهم.

 

أقتربت من فراشهم ووقفت بالطرقة الفاصلة بين الفراشين الصغيرين المطليين باللون الموف، ذات حوائط ورقية بها رسومات الكرتون وأبطالهم الخارقة "سبايدر مان " و"بتمان" وهارك "الرجُل الاخضر" وخزانة ملابسهم ذات الثلاث درف المقابلة لفراشهم، كما يوجد مكتب صغير الحجم يعلوه حاسوب خاص بزياد و كرسي خشبي صغير قابع خلف مكتبه.

دنت من "زياد" تهز كتفه برفق"ملامحه تشبه ملامحها، بوجه ابيض صبوح ولكن طفى على ملامحه العبوس بعد فراق والده ،كأنه يحمل حزنًا دفينًا يظهر ذلك الحزن علي تقاسيم وجهه المستدير الصغير ، بعيون بنية تبرق بلمعة حزينة وأنف صغير وشفتين رقيقتين ممتلئة قليلا ،ويزين راسه خصلات شعره الاسود اللامع ذو الملمس الناعم، وجسد ضئيل ولكنه طويل القامة مثل والده .

-زياد حبيبي.. هيا أستيقظ.

ثم توجهت للصغير "زين" صغيرها الشقي ذى الوجه الغاضب دائما ، يمتلك عينين صغيرتين عسلية ولكن نظراتهما حادة ، كلما طالعته نظراته ترى بها نظرات طليقها ، يبدو أنه تركها وترك خلفه النظرات القاسية ورثهما عنه طفلها ، لكنها تقابل حدة نظراته بحنو فهو ليس لديه ذنب بأنه يرث الشبه عن ابيه ، يعلو جبينه خصلات شعره البنيه المنسدلة على عنقه في نعومة، يرفض تقصيره، فهو يعشق شعره الطويل الذي يميزه، حتي ورث أيضَا غلظته فهو طفل مُشاكس يتمتع بشخصية قوية يفرضها على زملائه بالمدرسة ، يمارس دوره كقائد ويدقن الدور تمامًا .

- زين.. صغيري، هيا انهض من أجل مدرستك.

نهض زياد أولا وهو يقترب من والدته يميل بجذعه الطويل مقبلا جبينها:

-صباح الخير أمي.

تبسمت له وربتت على كتفه في محبة :

-صباح الخير يا صغيري.

غادر زياد الغرفة وهو يحمل منشفته ذات اللون الازرق على كتفه ثم دلف المرحاض لكي يستعد للذهاب إلى مدرسته أما عن الصغير الكسول فهو يورق والدته كل صباح.

تنهدت بنفاذ صبر وهي تقترب منه تجذبه من فراشه كي يستيقظ:

- كفى كسل يا صغيري، سوف تتأخر عن المدرسة.

همس "زين" بتكاسل وهو يضع كفه يتثائب أثر النعاس :

- دعيني اليوم يا أمي، لا أود الذهاب.

-لماذا؟

فرك عينيه الصغيرتين ونظر لها بترقب ثم بتر كلماته في خوف:

-لن استطيع الذهاب دون ولي أمري، هكذا أخبرني مدير المدرسة.

هتفت بتساءل:

-مدير المدرسة!.. ماذا فعلت؟ ما الأمر يا زين الذي يستدعي أن يطالبك المدير بأحضار ولي الأمر؟ ولماذا لم تخبرني بالأمس؟

ابتلع ريقه بصعوبة وقال مُعتذرًا:

- أسف يا أمي، لكنكِ أتيتِ من عملك مُتأخرًا وكنت ذهبت للنوم.

تأففت في ضجر وقالت :

-هيا انهض وارتدي ملابسك ريثما استعد أنا أيضًا للذهاب معك ومعرفة السبب الذي تخفيه عني.

قال مُسرعًا :

-لا سوف أذهب وحدي، لا اريد لاحد بأن يقول خائف ويحتمي والدته.

نظرت له بدهشة ورددت:

- ماذا تقول أنت؟

- أصدقائي سوف يسخرون مني وأنا أسير جانبكِ، لم اعد طفل صغير لكي تصطحبيني وتمسكين بيدي للذهاب معي إلى مدرستي.

ركض يستعد بارتداء ملابسه بينما وقفت زهرة تطالعه في صدمة، واقترب منها "زياد" قائلا:

-ما بكِ يا أمي لما تتسمرين مكانك هكذا؟

قالت بتوجس :

-متى كبر زين لهذا الحد؟ أخشى القادم.

ضحك زياد بخفة وقال:

- زين فتى مشاكس يا أمي ولن تسلمين من أفعاله.

-حسنًا.. سأذهب وأعلم ما الأمر.

بعد تناول وجبة الإفطار، غادر زياد المنزل وتوجهًا سيرا على الأقدام إلى حيث مدرسته فهو طالب في الصف الثاني الأعدادي أما زين لا زال بالصف الخامس الأبتدائي.

وأسرع زين يهرول أمام والدته لكي لا يراه أحد برفقة والدته.

 

  ❈-❈-❈

داخل مكتب مدير المدرسة

 

 استأذنت "زهرة" الولوج ومعرفة أمر الاستدعاء، وما الخطأ الذي فعله صغيرها يا تُرى؟

بعد فنية أذن لها المدير بالدخول، حاولت رسم ابتسامتها ولكن توترها منعها من ذلك فهي لا تعلم بحقيقة ما فعله "زين" وتخشى أن يكون الأمر كثير الخطورة، ضربات قلبها تقرع بصخب كالطبول، قلبها يُخبرها بأمر جلل حدث

جلست أمام المدير قائلة بصوت ثابت جاهدت في اخراجه لكي لا يشعر بتوترها:

-صباح الخير حضرة المدير.. أخبرني ماذا فعل "زين" اتيت من أجله اليوم.

زفر أنفاسه بحنق وتحدث بغضب:

-زين ولد مُشاغب، يضرب أصدقائه دائما بعنف، ولا يكترث لاخطاءه، يجب تعديل سلوكه وإلا سيحدث كارثة سوف تحل على رأسك يوما مًا بسبب عنفه الزائد.

همست بضيق بسبب ما تفوه به من حديث لازع:

- حسنًا، أعدك بأن الأمر لن يتكرر ثانيًا.

لوي ثغره بضجر وقال وهو يرمقها بنظرات مبهمة:

- أرجو الإهتمام بصغيرك، هذه مسئوليتك بعد غياب الأب.

نهضت عن مقعدها وهي تنظر له بقوة قائلة:

- أنا أهتم جيدًا بأطفالي واعتني بهم واقوم بدور الأب والأم على أكمل وجه.

 غادرت غرفة مكتبه بوجه مكفهر، غاضبة الملامح، تلعن تلك الظروف التي جمعتها بهذا المدير المتعجرف الذي ينظر لها مثلما ينظر لها بعض الرجال عديم الأخلاق والشرف، هي تعلم نظراتهم الجائعة التي تنهش بجسدها حق المعرفة.

 

عادت منزلها بعقل شارد، وعيون ذابلة حزينة، غمرها الشعور بالتيهة، الحمل كل يوم يزداد ثقلا على كتفيها، تحاول جاهدة السير في طريقها وحدها دون أن تطلب مُساعدة من أحد ، أتخذت على نفسها وعدًا بأنها لن تتخاذل وتتقاسع عن واجبها ، ستقوم بدور الاب على أكمل وجه ، ستتحمل عناء دربها، لن تقف عاجزة بمنتصف الطريق ، فهي لا زالت بأوله وستخطيه بخطوات متهادئة، ستحسم أمر كل شيء حولها ، ستمضي دون التطلع للماضٍ .

بدءت في ترتيب منزلها الدافء الذي لا يخلوا من أنفاس صغارها ورائحتهم التي تعبقه، طلاء حوائطه بللون الابيض لون قلوبهم النقية التي لم تتلوث بعد بغبار الرياح التي تعصف بكيانهم وتُهدد بسقوط مُحتم، بدأت بغرفة صغارها لتجد كراسة الرسم الخاصة بطفلها "زين"مُلقاة بإهمال بجانب الفراش والالون الخشبية مبعثرة بفوضوية، هزت رأسها في أسى ومدت يدها ببطء تلتقفها وتفتح صفحاتها التي صعقتها كماس كهربائي ضرب بجسدها ، هوت جالسة على فراش صغيرها وهي تنظر بمقلتيها التي تتلألأ داخلهما الدموع أثر رسومات الصغير ، فقد كانت جميع رسماته يحكي عن نفسه ، يرسم نفسه وهو ممسك بيد والده واخري يلعب بالكورة ووالده يُشاركه اللعب، مدونًا أعلى كل رسمة خاصه بوالده كلمة "أبي" كانه يشتكي فقده وحرمانة لاوراق كراسته ، أنهمرت دموعها كالشلال دون توقف بعدما شعرت بما يعاني منه صغيرها، حقًا هو يشتاق لوالده يتتوق لاحتضانه، للعب معه ، لمشاركته جميع أمور حياته، الهذا السبب يتعامل طفلها بعنف مع رفاقه ؟

هل غياب والده يترك أثرًا على نفسه؟هل يشعر بالضياع دونه ؟ صغير لا يستطيع التعبير عن المكنون الذي بداخله ولكنها شعرت به ، كيف لا تشعر به وهو صغيرها قطعة من روحها ، النور الذي ينير عكمة دربها، هو وشقيقه الضي لعينيها لا ترى الدنيا جميلة إلا بمقلتيهما الصغيرتين اللاتي كلما طالعتهما تجد العمق والخواء من كل حقد وكره ، أزهار بيضاء تتفتح في ربيع شمسها، بسمة شفتيهم المنبعثة من وجههم الصبوح تسري السكينة والطمائنينة داخل أوصالها.

أتخذت قرار التحدث بأمر صغارها  مع الطبيب "غيث" الذي تعمل ممرضة في عيادته، لابد وأنه يمتلك حلا.

 

بعد الظهيرة..

عادوا الصغار من المدرسة وجلسوا سويا لتناول طعام الغداء وهي تطالعهم من حين لآخر شاردة في حياتهم القادمة، تخاف المجهول، داخلها صراعات عديدة، تجلد نفسها هي أيضًا وتتساءل داخلها :

-هل قصرت يومًا بحق زوجها لكي يفعل بها ما فعل؟ وما ذنبها في قراره الذي خطط له وطلقها دون أن يواجهها وينظر لعينيها بدلا من الهروب مثل الجبان؟ فكل ما فعله جعل ألسنة الناس ترميها بسهام قاتلة وتجعل منها جاني، لا مجني عليها، مذنبة لا ضحية..

سأمت الأقاويل وتريد أن تخرس الألسنة ولكنها تجد نفسها وحيدة وهم الكثير، كيف ستغلبهم وحدها؟ ولكن هذه حربها وعليها خوضها والفوز بها مهما كلفها الأمر، يكفي خضوع، ضعف وأستسلام.

 

  ❈-❈-❈

 

في المساء داخل عيادة الدكتور "غيث النجار" طبيب الأطفال.

شقة صغيرة في الطابق الثاني، مكونة من ثلاث غرف وصالة فسيحة لاستقبال المرضي، مصفوفة المقاعد السوداء ذات الكسوة الجلدية عند جانبي الصالة ومكتب صغير خلفه المقعد الخاص بالممرضة وغرفتين خاصتين بكشف الطبيب ، جانب بها المكتب خاصته الذي يعلوه دفتر صغير الحجم خاص بحالات المرضى وميزان خاص بالاطفال حديثي الولادة ومقلمة على شكل أسطوانة خشبية بها عدة أقلام وحقيبة الادوات الطبيبة من تيرموتر خافض للحرارة وخافض لسان خشبي وسماعة طبيبه سوداء يتفقد بها نبض المريض  وخلفه المقعد الجلدي الوثير ، ويوجد ميزان أخر بجانب المكتب أرضًا خاص بالاطفال الاكبر عمرًا ، وبالجانب الاخر فراش طبي ذو جلد أسود وحامل معدني طبي خاص بالمحاليل الطبية وطاولة صغيرة يعلوها أدوات طبيبة يستعين بها اثناء فحص الطفل ، حوائط الغرفة مطلية باللون الكريمي وبها عدة صور خاصة بالاطفال وبعض الرسوم الكرتونية .

والغرفة الأخيرة يوجد بها عدة مقاعد خاصة بالمرضى لا تساخدمها "زهرة"إلا أذا كانت العيادة تعج بالزحام وبعض الامهات تستخدمها لارضاع صغيرها الباكي جوعًا دون أن تطالعها جميع العيون .

جلست "زهرة" خلف مكتبها الصغير تدون أسماء الأطفال المتواجدون داخل العيادة، وتستقبل حجزات الكشف عبر الهاتف، ثم تنظم الولوج لداخل غرفة الطبيب وتعود تجلس مكانها تطالع الأطفال الصغار الذين لا يحملون هم للحياة، وتبتسم لهذا وتداعب ذاك وتحزن من أجل تلك، وهذا يصرخ منهما متألما، تلك سيدة تحمل صغيرها تربت على ضهره برفق وتسير ذهابا وايابا لكي يكف عن البكاء ، واخري تتحسس جبين طفلها باناملها الرقيقة بين فنية وأخرى وتقترب بشفتيها تُقبل جبينه وتضمه لصدرها بحنان تنتظر دورها في قلق ، جميعهن ينهشهن القلق على صغارهم الباكية الشاكية من الآم متفرقة تُصيب أجسادهم الصغيرة المنهكة أثر الاعياء.

 

 لاحت ابتسامة جانبية أعلى ثغرها وهي تنظر لطفل صغير نائم مثل الملاك، همست داخلها :

 

"تتوق عيناي لنوم طفل صغير هادئ لا يعلم للحزن معنى، ولا يسكن قلبه همًا، ولا يورق مضجعه ألمًا يقرع رأسه بالصداع من كثرة التفكير في متاعب الحياة ولا يعي الخوف من القادم"

 

في العاشرة مساءً أنتهت الكشوفات، نهضت عن مقعدها وهي تحمل النقود بيدها لكي تعطيهم للطبيب وتحدثه عن امر طفلها" زين"

غيث شاب في الخامسة والعشرون من عمره تخرج من كلية الطب وتخصص في طب الأطفال وحديثي الولادة"طويل القامة بجسد ضعيف، ذى وجه صغير نحيف، بشرة حنطية وعيون عشبية يعلو جبينه الصغير المسطح خصلات شعره ناعمة مائلة للون البني ، وانف طويل معكوف وشفتيه رفعتين ولديه غمزة بذقنه تتضح عندما تكون ذقنه حليقة" مثله كمثل أي شاب تخرج ويريد ممارسة مهنته، بحث عن عيادة بحي بسيط وبدء حياته المهنية ووجد بهذا الحي الشعبي التي تقطن به "زهرة" مبتغاه وتم إستئجار شقة مناسبة وعندما علمت زهرة بوجود طبيب قررت أن تذهب وتعرض عليه العمل معه ممرضة وسوف تتواجد فترة المساء، وهذا بالفعل ما حدث، سعد "غيث" بوجودها فهو أيضا لم يمتلك أن يتواجد بالنهار لان تلك الفترة الصباحية يقضيها بالمشفى الذي يعمل بها، فقد كان حلا مناسبًا لكلايهما، كما أنه يعتبرها مثابة والدته يكن لها أحترامًا وهي أيضا تعامله بمودة ومحبة كأنها تعامل شقيقها الأصغر.

طرقت باب الغرفة ودلفت بالداخل

طالعها "غيث" قائلا بتساءل:

-انتهت حالات اليوم؟

أومت له بالايجاب ومدت يدها تعطيه المال التي جنته اليوم من المرضى وقالت بخجل:

- أريد التحدث معك بأمر خاص بطفلي "زين"

نظر لها باهتمام وهمس بقلق :

- ما به زين أخبريني؟

قصت عليه ما حدث في الصباح وعن حديث المدير الذي كان قاسيًا معها، ولا تعلم بماذا تفعل ولما "زين" يتعامل بعنف مع أصدقائه وانهت حديثها بالرسومات التي وجدتها داخل دفتر الرسم خاصته .

أستمع لها إلى أن سردت له كل ما يقلقها ويورق تفكيرها باتجاه طفلها ، طمئنها وهمس بهدوء:

- لا تقلقي يا "أم زياد " هذا أمر بسيط وسوف يُحل، زين فتى ذكي، يبدو أنه تصرف هكذا ردًا لفعل، يجب أن تتحدثي معه بلين وتعلمين منه بهدوء ما السبب الذي دفع به بأن يضرب أصدقائه، يبدو أنه يعاني أمر ما داخله، يجب الإفصاح عنه أولا وبعد ذلك سوف نجد له الحل المناسب وتنتهي تلك الأزمة بسلام.

هتفت بحزن :

- لا أعلم كيف أتصرف معهم، الفتى الكبير منطوي وليس لديه أي أصدقاء والصغير مشاكس ويفتعل المشاكل.

- تربية الصبيان صعبة ولكن أثق في والدتهم انها ستحتوي الأمر بحبها وحنانها وسوف تنتهي المُشكلة من جذورها، أنتِ أما مثالية ولابد وأن يفتخروا بكِ.

- لست أمًا مثالية ولكني قوية أُحارب دائمًا من أجل أطفالي.

نظر لها بجدية ثم بتر حديثه قائلا بصدق حدسه كطبيب متمرس :

- أعتذر منكِ على تطفلي،ولكن الطلاق وغياب الأب يُأثر على نفسية الأطفال بالسلب، وهذا السبب الرئيس وراء تبديل حالة زين وأنطواء زياد أيضا ،يبدو انه مفتقد الثقه في كل من حوله

 

تنهدت بعمق ثم خرج صوتها حزينًا قائلة:

- وماذا عليَّ أن أفعل ؟ هو من تركنا ورحل .

أشفق "غيث"عليها ولا يعلم بماذا يخبرها ،ولكن اقترح عليها بأن تذهب لطبيب نفسي تستشيرة في حالة الصغار وتستعين برأيه وأن تشغل وقت فراغهم بممارسة الرياضة وتصطحبهما إلي مكتبة من أجل القراءة فسوف تساعدهم علي نماء عقلهم الصغير والابعاد عن  اللعب واللهو خلف شاشات الكمبيوتر او شاشات الهاتف الذي يضيع عقولهم .

 

 

وعدته بأن تفكر في الأمر ثم استاذنته وغادرت العيادة لكي تلحق بهم قبل أن يناموا، تريد أن تتحدث معهم وتعلم بكل ما يدور داخل فكرهم الصغير...

  الصفحة التالية