رواية جديدة بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) لعفاف شريف - الفصل 5 - الأربعاء 11/12/2024
قراءة رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض) كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخر
رواية بين الرفض والقدر (عريس قيد الرفض)
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة عفاف شريف
الفصل الخامس
تم النشر الأربعاء
11/12/2024
*"فتحت أبواب القفص الذهبي، وتحرر الطير محلقًا في سماء الحب، فرحًا مغردًا، سعيدًا بتلك البداية، مخبرًا العالم: ها أنا قد تحررت!
لكن، ما جدوى الحرية حين تصبح الأجنحة مثقلة بالأشواك؟
وما معنى السماء إن كانت محاطة بأسوار خفية؟
إنها حرية تبدو براقة كالقفص الذي تركه، لكنها لا تمنحه سوى أفق موارب،
بين السمو والسقوط، بين النور والظلال، بين الوهم والحقيقة."
❈-❈-❈
بعد مرور سنة
بعض اللحظات توشِم قلوبنا بالذكريات، تخبرنا أننا هنا وسنظل هنا للأبد، شئنا أم أبينا.
حصلت هي اليوم على نصيبها من السعادة، حصلت على قدرها أخيرًا من الحب،
وخطت خطواتها نحو درب لم تتذوق طعمه من قبل.
خطت خطواتها الأولى نحو ذلك الواقف في استقبالها.
عيناه تروي ألف حكاية ورواية، تخبرها أنه، ولو اجتمعت نساء الأرض جميعًا، لن يحبها أحد كما أحبها هو.
اليوم تتوج هي ملكةً لقلبه، وحبيبتةً لآخر أنفاسه، وزوجةً أحبها وسيظل هكذا أبد الدهر.
اليوم هي فريدة شوكت، تلك المتمردة، تلك الأبية أن تظل كما أرادو أن تكون.
المتحررة من أقفال الماضي، تتزوج من اختارته زوجًا وأبًا وصديقًا وحبيبًا، اختيارها الأول والأخير: عمر الدسوقي.
ابتسامةٌ شقّت ثغرها وهي تتذكر قصة حبهما القصيرة.
محامي صغير في بداية حياته، أحبته وأحبها.
تحدت الجميع لأجله، وربحت. وإن خسرت، فهي ربحته، وهذا كافٍ بالنسبة لها.
حتى وإن خسرت عائلةً لم تكن لها يومًا كما تمنّت.
أفاقت من شرودها وأصوات الزغاريد تحاوطها.
حسنًا، ستقتلهم أمها!
ضحكت برقة وهي تتخيل أنها تسمع تلك الأصوات، وهي تكمل هبوط الدرج بفستانها الأبيض شديد الأناقة والرقة.
يضيق ويلتف حول جسدها ويهبط باتساع طفيف وأنيق.
وخمارها الرقيق تحمله بين يديها، قبل أن تضع يدها بهدوء وخجل بين يدي من يكاد أن يتلقفها بين أحضانه لو استطاع.
"اقترب منها، يرغب بشدة في تقبيل جبينها،
لكنه اكتفى وهو يردد، مُعطيًا إياها باقة الورد التي تماثلها جمالًا ورقة."
"جميلة… مش شايف أجمل من كده، ولا عمري هشوف. بحبك يا أحلى حاجة في حياتي."
ابتسمت بخجل ورقة تحتضن باقتها تتبع يده حيث طاولة عقد القران، عقد قرانها… هي.
وأخيرًا، بشخص تحبه ويحبها.
قادها نحو المقعد الخاص بها، بجانب والدها.
اختفت ابتسامتها وحلّ محلها تنهيدة متعبة.
والدها يحدّقها بغضب شديد واضح للجميع.
هو ببساطة…
رافض. غاضب. ناقم.
وبكل معاني الرفض، هو يرفض تلك الزيجة.
يرفضها هي شخصيًا.
هو فقط هنا لأجل الصورة العامة، وبعد ضغط كبير جدًا.
والمؤلم… أنه ليس هنا لأجلها أبدًا.
وكم تمنت أن يكون اليوم فقط أباها.
اليوم فقط… هل هذا صعب؟
تريده أبًا، يقف في نهاية السلم ينتظرها بابتسامة دامعة.
ضمة وقبلة على الوجنة، وحزن على فراقها.
لكن، تلك هي أحلامها التي ستظل أحلامًا.
هو فقط هنا لأجل واجهتهم الاجتماعية.
وتحترق هي.
نقلت أنظارها نحو الجمع القليل المتواجد، تبحث بعينها بلهفة عن أمها المختفية منذ بداية اليوم.
اختفت ببساطة.
هي أخبرتها أنها لن تحضر من الأساس.
خيرتها بينهم وبينه.
وبكل ألم… اختارته.
هل أخطأت؟
نعم أم لا؟
لا تدري. ولا تريد أن تدري.
وجدتها أخيرًا، تجلس على إحدى الطاولات.
ترسم ابتسامة مصطنعة متحجرة، مجبرة، متيبسة.
تناظرها شرزًا.
غاضبة وبشدة.
يا الله… ما ذاك اليوم؟
أليس من المفترض أن يكونوا أسعد المتواجدين؟
كيف يكسرون قلبها بيوم كهذا؟
ابتلعت ريقها بحزن، وهي تمسح عبرة أبت أن تتحرر.
وأعادت ابتسامتها المترددة نحو ذلك الجالس بالجهة الأخرى يطالعها بحب.
وفي تلك اللحظة…
هي حقًا كانت سعيدة.
طالما لا يهمهم سعادتها، فلتهتم هي بها، ولتسعد اليوم.
فهي تستحق السعادة، وستحصل عليها بنفسها.
كانت بداية نهاية لشيء لم تعلمه، حينما ردد الشيخ:
"بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير."
أصبحت زوجته… أخيرًا.
ولعل تلك بداية… لم تردها.
❈-❈-❈
انتهى الحفل البسيط، ورحل الجميع.
ما عدا هي، ظلت واقفة أمام بيتها... أو ما كان يُسمى بيتها.
فهو لم يكن يومًا بيتًا لها.
كان... أو لم يكن، هي نفسها لا تدري.
سنوات طويلة قضتها هنا، سنوات من الألم، محاولةً الخروج من ذلك الجحيم.
كيف لقفصٍ من ذهب، يتمناه الكثير، أن يكون نيرانًا مستعرة تحرقها كل يوم،
كل دقيقة، مع كل نفس تأخذه؟
كانت تتلوى محترقة...
لكن ها هي اليوم بالخارج.
متحررة.
رغم ذلك، لم تشعر بالراحة.
لم تكتمل سعادتها.
هناك شيء ينقصها.
أهلها.
كانت تريدهم...
بعد كل ما حدث، ومهما حصل، كانت تحتاجهم.
كانت تتمنى حضنًا دافئًا يضمها إلى صدورهم.
تنهدت وهي تشعر بيده تحيط كتفها،
يضُمها إلى صدره برفق، ويهمس بهدوء:
"لازم تدخلي تسلمي عليهم قبل ما نمشي.
مش هينفع تمشي من غير ما تصفي اللي بينكم يا فريدة. مهما حصل، هم أهلك.
في صلة رحم ما ينفعش أبدًا تنسيها.
أهلك ليهم حق عليكِ، وواجب لازم تقدميه.
عارف إن اللي بينكم صعب وكبير قوي، بس برضو...
الناس دي أهلك، حتة منك، وإنتِ حتة منهم.
أنا هستناكي هنا.
اللحظة دي خاصة بيكي.
إلا لو حابّة أكون معاكِ وقتها، أكيد هدخل.
ومهما يحصل... يحصل."
التفتت إليه بنظرة ممتنة، وابتسامة صغيرة ترتسم على شفتيها.
استندت إلى صدره، وقالت بصوت متهدج:
"عارفة يا حبيبي... بس قلبي وجعني أوي.
حاسّة بوجعهم... بس هم لية متوجعوش عشاني؟"
كان بداخلها الكثير لتقوله، لكن الكلمات علقت في حلقها، تأبى الخروج.
اكتفت بالصمت الآن.
رفعت عينيها إليه، وقالت بثقة:
"هدخل لوحدي.
حابّة أتكلم معاهم شويّة... ومش حابّة حد يقول كلمة تجرحك.
مش هتأخر."
طبع قبلة رقيقة على جبينها، ثم راقبها بصمت، وقلبه يتألم.
رآها ترفع فستانها بخفة، تخطو نحو الباب بخطواتٍ حذرة...
مُقررة المحاولة،
للمرة التي كانت تظنها الأخيرة.
❈-❈-❈
لم تحتجْ الكثير من الجهد لإيجادهم،
فكالعادة ، هم في غرفة المكتب الخاصة بوالدها.
ترددت قليلًا أمام الباب المغلق.
هي اتخذت تلك الخطوة بصعوبة شديدة؛ تمسكها بـ"عمر"،
وإخبارهم بأنها اختارته زوجًا،
دفعهم لتقبله، ترجتهم.
رفضهم القاطع قتلها، لكن هذا حقها،
وهي حاربت لأجله بكل قوة.
أغمضت عينيها بتوتر؛ لا تريد أن تخطو... أو ربما تريد.
أصبحت مشتتة بين أن تدخل أو تحمل فستانها وتهرب.
وللحق، الخيار الثاني كان الأنسب لها في تلك اللحظة.
فتحت عينيها وفرت دمعة لم تحاول حتى منعها،
وقبل أن تخطو خطوة أخرى،
ارتدت للخلف وهي ترى الباب يفتح بقوة،
وأباها يحدق فيها بذهول من وقوفها هنا.
قبل أن يرمقها بقرف وغضب شديد وهو يصرخ:
إنتِ! إنتِ بتعملي إيه هنا؟ مش عملتِ اللي في دماغك واتجوزتِ الجربوع ده؟ برا!
واقترب منها يمسك ذراعها بقوة شعرت لوهلة بأنه سيكسرها،
وهو يصيح بعنف ويجذبها للخارج، وهي تحاول التحرر منه:
اخرجي برا حالًا! اخرجي!
حاولت التملص من يديه وهي تبكي مرددة:
يا بابا، اسمعني... اسمعني بس!
صرخ بها بقوة:
اخرسي! وإياكِ... إياكِ تيجي هنا تاني!
إنتِ فاهمة؟!
إنتِ من النهارده... لا إنتِ بنتي ولا أعرفك!
البيت ده مبقاش بيتك!
إنتِ برا حياتنا!
إنتِ مش بنتنا!
وألقاها أرضًا بقوة جعلتها تتأوه من الألم،
ودموعها تلاحقها وهو يصرخ:
إنتِ فضحتينا!
بعد ما نفذتِ اللي في دماغك، رفضتِ تميم!
تميم الراجل اللي أنا اخترته عشان ده!
يفرق في إيه ده عن تميم؟! صغرتيني قدام شريكي واخترتِ واحد مايساويش!
وجدت أمها تركض من خلف أبيها.
ظنت لوهلة أنها قادمة لأجلها،
لكن كعادتها، حطمت آمالها،
وهي تراها تقترب من أبيها تربت على صدره تحاول تهدئته،
لكنه أبعد ذراعها بعنف وأكمل غاضبًا:
أنا بعد العمر ده، بنتي أنا تتجوز جربوع لا نعرف له أصل ولا فصل؟!
حتة محامي حقير، طمعان فيكي وفي فلوسك!
يا غبية! إنتِ غبية! وأنا غلطت لما وفقت على المهزلة دي!
قالها وهو يناظر "صفية" بغضب،
وكأنه ضغط على زر الانفجار لها هي الأخرى.
لتصرخ به مرددة:
كنت عايزني أعمل إيه؟!
وأقول للناس إيه لما فجأة يعرفوا إن بنتي اتجوزت؟!
إيه بداري عليها!
أنا اتجبرت زيي زيك أقبل المهزلة دي عشان الغبية اللي إحنا خلفناها!
وأكملت حديثها وهي تلتفت لابنتها:
إنتِ فاكرة إني موافقة عشان عملتلك الفرح هنا؟!
لأ، انسي!
الفرح ده اتعمل عشاني أنا... عشان اسمي ومكانتي!
أما إنتِ، فأنا معنديش عيال!
اعتبرتكِ ميتة زي اللي ماتوا!
هتفرقي عنهم إيه؟!
لا إنتِ أغلى منهم، ولا حبي ليكي أكتر منهم!
بالعكس، يا ريتك إنتِ اللي كنتِ موتي!
جبتي لنا القهرة وحطيتي اسمنا في الأرض!
من النهارده، البيت ده مش بيتك، ومش عايزة أشوف وشك!
روحي ورا حبيبك ، ودوقي طعم الفقر والذل!
عشان تعرفي إنتِ كنتِ عايشة في إيه!
والجربوع اللي اتجوزتيه، خليه ينفعك!
خليه يوريكي عندك ودّاكِ فين!
كل هذا و"فريدة" تحدق بهم بأعين متسعة،
ووجه شاحب متألم، ويدها تحتضن صدرها بقوة،
وهي تشعر بألم شديد يراودها،
كأن قلبها على وشك الخروج من شدة خفقانه.
وقبل أن تكمل أمها حديثها السام،
قاطعها صوت حاد، منفعل وقاسٍ بقسوة هم بحاجة إليها، وهو يردد:
بس كفاية!
واقترب من زوجته، يرفعها عن الأرض،
يوقفها على قدميها، ويضمها إلى صدره، يسألها بقلق:
إنتِ كويسة؟
أومأت له ودموعها تلاحقها.
مرر يده على وجنتيها بحنان،
قبل أن يلتفت نحوهم محدقًا فيهم بقوة وغضب، قائلًا باحترام محتد رغم كل شيء:
بس كفاية!
إنتو فاكرين نفسكم مين؟!
عاملين تبيعوا وتِشتروا فيها؟ بأي حق؟!
مين أصلاً إداكم الحق تحكموا عليا بالشكل ده؟!
شفتوا مني إيه يوحي إني طمعان في بنتكم؟!
مين إداكم الحق تحكموا على حبي ليها؟!
وأكمل بصدق قوي:
أنا حبيت بنتكم.
حبيت بنتكم الحب اللي إنتو مقدرتوش تحبوه.
أنا بحب "فريدة"، ومش فارق معايا هي غنية أو فقيرة.
أنا حبيتها وهفضل أحبها للعمر كله،
سواء إنتو اقتنعتوا بده أو لأ.
أنا بحب بنتكم، ومش فارق معايا فلوسها،
وهي من اللحظة اللي اتكتبت على اسمي،
بقت مسئولة مني، ومش هتحتاج فلوسكم الغالية طول ما فيا النفس.
بنتكم غالية عندي، أغلى مما تتخيلوا.
فكفاية كده!
صرخ "شوكت" بغضب:
اخرس!
إنت فاكر إني مش عارف أشكالك كويس؟!
وأكمل مؤكدًا:
بكرة تجيلي تبكي بدل الدموع دم، ندم إنك اتجوزتي واحد زي ده!
نظر له "عمر" بقوة قبل أن يقول:
لو في حد هيندم، مش هيكون "فريدة".
هيكون إنتو...
على كل لحظة ضيعتوها من عمركم وعمرها،
وإنتو متعرفوش إن زي ما الأبناء عليهم واجبات، ليهم حقوق،
حقوق إنتو متعرفوش عنها حاجة.
وحمل "فريدة" الباكية، وغادر يضمها إلى صدره،
واعدًا إياها أمام الله، كل الوعد،
بأن الابتسامة لن تغادرها ما دام حيًّا يُرزق.
وكان صادقًا.
--
وقفت بجانبه بعد أن ودّعهم صديقه أمام البناية بعدما أوصلهم.
رفعت عينيها نحوه تبتسم له، قبل أن يمسك يدها ويسحبها إلى الداخل،
يصعدان إلى شقتهما... بيتهما الجديد.
صعدت درجات السلم ويده تحتضن يدها، حتى توقفا أمام الباب.
فتحه، يحثها على الدخول بابتسامة تقع في حبها كل مرة.
وقفت تتطلع إلى الشقة المضاءة، قبل أن تشعر به يحيط خصرها،
يستند بذقنه على كتفها، يتطلع إليها وهي تتأمل بيتهم.
تلك الشقة الصغيرة التي لا تشبه بيتها القديم بأي شكل من الأشكال،
لكن، ورغم ذلك، كانت أدفأ وأجمل.
اشتراها لأجلها، دفع فيها كل ما ادخره منذ بدأ العمل.
هنا أسّس منزلهما بكل جهد وشقاء.
جالت بعينيها تتفحص الشقة ككل مرة بسعادة.
غرفة رئيسة تخصها أنشأتها بكل حب،
وأخرى صغيرة فارغة، أصرت هي على تركها فارغة إلى أن يحين موعد امتلائها.
أما باقي البيت، فكان رقيقًا هادئًا:
جلسة مميزة، وتلفاز صغير.
ركن مميز هو "ركنهم الخاص"، اختارته هي بدقة،
وكان "مؤيد" غير معترض أبدًا على أي شيء.
بنياه سويًا... أو بمعنى أدق، بناه هو.
فهي لم تأتِ بأي شيء، لم تشارك بأي شيء فعليًا،
حتى ملابسها...
أخبرتها أمها أنها لن تأخذ منها أي شيء،
ولا قطعة واحدة حتى.
وحينما علم هو بذلك، أحضر لها كل ما تحتاجه دون تردد أبدًا.
لم يهتم، فقد أسّس منزلهم كما نص الشرع.
هكذا أخبرها:
تجهيز المنزل بأكمله واجب عليّ، وأنتِ لن تشاركي بأي شيء.
أنتِ ستأتين ملكة، تُتوَّج على قلبي.
استندت على صدره مبتسمة براحة أخيرًا.
وكان هذا كافيًا لها.
❈-❈-❈
وقفت في منتصف الغرفة تتطلع حولها بارتباك.
ادخلها إلى الغرفة يهمس في أذنها بحب:
هسيبك براحتك بس.
وأكمل متوجهًا نحو خزانة الملابس،
يخرج ما جعل عيناها تتسع بشدة.
كان يحمل بين يديه قميص نوم طويل باللون الأبيض، شديد البساطة والأناقة، وفوقه رداء شيفون يماثله طولًا.
وضعه على الفراش، ثم التفت إليها يضمها إلى صدره.
همس في أذنها ببساطة ورقة تذيبها:
أول ما شفته، قلت مستحيل يليق على حد غيرك.
جبته وشيلته لليوم ده.
حابب أشوفه عليكي.
ارتجف جسدها إثر لمساته، وهي تهز رأسها نافيه بشكل طفولي جعله يرجع رأسه للخلف يضحك بقوة.
طبع قبلة عميقة على وجنتها، وهو يهمس مؤكدًا:
عشان خاطر عمر حبيبك.
وتركها وغادر سريعًا على مضض، تاركًا لها مساحة أن تأخذ أنفاسها وتستعد.
كم كان يتوق أن يضمها إلى صدره.
ظلت محلها تنظر إلى الغرفة بتوتر.
تنظر للقميص تارة، ولنفسها في المرآة تارة.
ظلت هكذا عدة دقائق، حتى أغمضت عينيها بابتسامة خجولة،
حاملة القميص بين يديها.
هي تحبه وتثق به.
هو حبيبها ورفيقها عمر.
هو يستحق هذا.
بعد مدة، لم تعلمها، تخلصت من الفستان بصعوبة.
كانت بحاجة للمساعدة لفك سحابته، ولكن يستحيل أن تطلب منه.
فظلت تحاول حتى نجحت.
أخذت حمامًا دافئًا، وأزالت زينة وجهها،
واسدلت خصلاتها.
وقفت أمام المرآة، تنظر لنفسها بابتسامة شاردة.
كانت هشة جميلة.
كانت هي، وإن اختلفت.
رفعت عينيها إلى خاتم زواجها تمسه برقة.
لقد وصلت بر الأمان، وأخيرًا حصلت على سعادتها.
وفي تلك اللحظة، توجهت خارج الغرفة بسعادة وتوتر.
سعادة حقيقية.
❈-❈-❈
كان يقف في الشرفة في انتظار خروجها. كم انتظر تلك اللحظة، أن تكون معه، زوجته، بين أحضانه. كان قرارًا صحيحًا بعدم تطويل الخطبة. كم كان سيكون صعبًا!
الحمد لله أن الله أتم لهم زيجتهم بسلام.
تنهد وهو يفكر.
يعلم أنها متوترة وكم كان مقدرًا. سينتظر مهما طال الأمر، الأهم أن تكون هي في راحة، الأهم أن تكون هي معه. لا يهم كيف، المهم أنها معه، والباقي سيأتي مع الوقت، بحب وحنان.
سمع صوتها خلفه يناديه:عمر.
التفت سريعًا ليناظرها بعينيه التي اتسعت بشدة، وهو يراها بكامل جمالها ورقتها.
القميص لم يزدها سوى حلاوة، وإن كان صدقًا هي من تعطي للملابس الرونق، لا العكس.
اقترب منها يتمتم بابتسامة:
ما شاء الله، ما شاء الله، ما شاء الله تبارك الله.
أحاط خصرها، يقربها منه، يشتم عبيرها الأخاذ، وهو يقول:أجمل ما شافت عيني.
جميلة أوي أوي يا فريدة.
وأكمل بصوت سعيد للغاية:جميلة .
قالها وهو يضمها أكثر، جعلها ترتجف.
فلم يتردد، وهو يبتعد، يدخل الغرفة سريعًا، تحت نظراتها المتعجبة.
ويخرج حاملًا بين يديه رداء الصلاة.
قطبت حاجبيها، وقبل أن تسأله،
أجابها برفق:البسي، خلينا نصلي ركعتين.
ابتسمت برقة وهي تخبره بصدق:بس أنا مصلتش العشاء لسه يا عمر.
ضربها بخفة على أنفها وهو يقول بابتسامة:
حصل خير يا ريدة.
مش مشكلة، بعد كده هنصليها كل يوم سوا بإذن الله.
وأكمل:يلا اتوضي عشان نصلي سوا.
قالها بابتسامة بشوشة مثله.
وقفت لدقيقة تتطلع به.
كان رائعًا، بعيون بنيّة تشبه خاصتها، ووجه خمري بشوش، ولحية صغيرة منمقة تناسب وجهه.
فلم تجد نفسها سوى تستطيل وتطبع قبلة رقيقة فوق لحيته وهي تردد بحب:بحبك.
اتسعت ابتسامته قبل أن يردها لها فوق وجنتها بعمق، يهمس لها بحب أكبر: وأنا بموت فيكي.
ربنا يبارك لي فيكي يا ريدة.
يلا بقى روحي اتوضي.
قالها بنزق مضحك.
ضحكت برقة وهي تتوجه سريعًا لتتوضئ.
وبداخلها سعيدة بحق.
❈-❈-❈
وقفت خلفه يؤمها بصوته العذب.
صوته يمس القلب، يمس روحها.
يجعلها تريده ألا يتوقف،
فليظلا هكذا للأبد.
لن تمل أبدًا.
كان يصلي بخشوع وتضرع بين يدي الله.
حتى انتهى، ظل محله ولم يلتفت لها.
كان يهمس بشيء لم تسمعه.
حتى التفتت إليه، يحاوطها بتلك الابتسامة الهادئة ويمد يده يمسك يدها.
سألته مستفسرة:
"كنت بتقول إيه؟"
ابتسم لها وهو يجيب بهدوء:
"أول حاجة بستغفر،
بعدين بصلي على النبي.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد."
قالتها بهدوء،
ليكمل بعدها مبتسمًا:
"بعدين بذكر الله،
سبحان الله،
الحمد لله،
الله أكبر."
كان يعدها على يدها وهو يكمل:
"هي سنن عن النبي صلى الله عليه وسلم مهجورة، بس مهمة أوي بعد الصلاة."
أومأت برأسها وهي تقول:
"اللهم صل وسلم على نبينا محمد."
"حبيتها، أنا كمان هعمل كده بعد كده،
لأني مكنتش أعرف."
ابتسم لها قبل أن يقترب منها ويقبل رأسها، وهو يقول:
"تقبل الله يا حبيبي."
ابتسمت له بهدوء ليُرفع يده فوق رأسها، يهمس بهدوء:
"اللهم بارك لنا في حياتنا، واجعلها حياة مليئة بالمودة والرحمة."
"اللهم اجعلنا من الزوجين الذين يسيرون على طريقك، ووفقنا لما تحب وترضى."
"اللهم اجعلنا نعيش في سعادة وسكينة، واهدنا لطريق الخير معًا."
"اللهم ارزقنا الذرية الصالحة التي تسعدنا في الدنيا وتكون لنا قرة عين."
"اللهم اجعل أولادنا صالحين، واجعلهم من أهل الجنة."
"اللهم احفظها لي من كل شر، وبارك لي فيها، واجعلها دائمًا في طاعتك."
"اللهم اجعلها سندًا لي في الدنيا والآخرة، وكن عونًا لنا في كل أمر."
"اللهم اجعل قلوبنا متعلقة بك، ووفقنا لما يرضيك."
وختم دعاءه بابتسامة قائلاً:
"اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا."
وأكمل مناكفًا:
"قولي آمين."
أجابته مبتسمة:
"آمين."
وقفا معًا لتنظر حولها بتوتر،
تفرك يديها ليسألها:
"تحبي تكلي؟"
هزت رأسها نافية وهي تخبره بصدق:
"معدتي شادة، مش حابة آكل دلوقتي. ممكن كمان شوية."
وأكملت بسرعة:
"لو حابب، ممكن آكل معاك حاجة بسيطة."
أجابها نافيًا:
"الحقيقة، نفسي أشرب حاجة دافئة. إيه رأيك نشرب كاكاو؟"
أخفضت رأسها أرضًا وزمت شفتها بطفولة، وهي تخبره بقلق كطفلة صغيرة:
"بس أنا مبعرفش أعمله يا عمر."
أرجع رأسه للخلف يضحك، وهو يضمها ويخبرها بصدق:
"يا قلب عمر، وماله، أنا بعرف.
روحي استنيني على الكنبة اللي قدام البلكونة، وأنا هعمله وأجي، يلا."
وطبع قبلة سريعة ودخل للمطبخ.
حركت يدها حول وجهها الأحمر تطلب الهواء،
قيل أن تخلع رداء الصلاة،
تهندم خصلاتها،
وتتجه ببطء حيث أخبرها.
كانت الأريكة بجانب الشرفة الصغيرة،
وقد أزاح الستائر ليكون الفراغ أمامها،
والقمر ينير السماء.
كانت الأجواء هادئة والإضاءة خافتة،
أحبتها بشدة.
يبدو أن تلك الأريكة ستكون رفيقتهم دائمًا.
فلم تجد نفسها إلا وهي تسترخي، تمدد جسدها على الأريكة،
مشاهدة المنظر بسعادة.
لم تشعر كم مر،
ولم ترَ ذلك الواقف خلفها،
يشاهدها هي،
وكانت الأجمل،
أجمل ما رأت عيناه.
❈-❈-❈
وضع الأكواب على الطاولة بجانبها، ومعها بعض الحلويات، لتنبه له وتهديه إحدى ابتسامتها الخلابة.
وكادت أن تعتدل لتسمح له بالجلوس، لكنه أشار لها أن تتوقف.
اقترب منها ليزيحها قليلاً،
جلس خلفها ضاماً ظهرها إلى صدره،
يضمها إلى قلبه، ويحاوطها بحب.
حب نبع من قلبه فخترق قلبها.
تنهدت بسعادة وهي تشعر بملمس يده تمسد يدها.
رفع كوب الكاكاو خاصته وجعلها ترتشف منه، قبل أن يشرب منه وهو يردد: كده أحلي .
لم تتمالك نفسها وهي تضحك بقوة.
فأجابها بتأكيد وصدق خبيث: "صدقيني كده أحلى".
التفتت إليه تناظره بخجل وقالت:
"لما كنت بسمع عن الحاجات دي، كنت بستغرب وبقول: إيه الهبل ده، شغل عيال؟"
سألها بترقب: "وطلع كده فعلاً ؟"
أجابته نافيه بسرعة: "طلع حب. حب حقيقي."
وأشارت لقلبها، وقالت: "بيطلع منها."
ثم وضعت يدها على قلبه.
بيوصل هنا
طالت نظرتهم،
انتهت بضمة حب.
اكتمال.
أمان.
وطن.
واتضح أن الدار أمان.
أمان بين أحضان زوجها.
بين أحضان عمر.
وأغمضت عينيها على همسه لها.
الحبُّ طُهرٌ في القلوبِ تسامى
نورٌ يُضيءُ في الظلامِ غماما
هو ذلكَ النبضُ الذي لا ينتهي
ينسابُ في الأعماقِ أنغامًا كراما
الحبُّ عطرٌ من ودادٍ خالدٍ
يسمو، ويجعلُ للحياةِ مقاما
ليسَ الهوى فِعلَ اللسانِ تكلُّفًا
بل صدقُ قلبٍ لا يُريدُ سِوى سَلاما
يا حبُّ، كم فيكَ الشعورُ تألَّقَ
وبكَ ارتقى الإنسانُ روحًا وغراما
إن كنتَ في طُهرِ الحلالِ مقيمًا
فالكونُ يُزهرُ والربيعُ دوامَا
فاجعلْهُ للهِ طريقَ هدايةٍ
تُسقى بهِ الأرواحُ صدقًا ووئامَا
وختمها:
"اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا."
وكانت اللحظة الأولى...
❈-❈-❈
هبط من سيارته وهو يدندن بإحدى المقطوعات الموسيقية، والإبتسامة تزين فمه.
لكن سرعان ما اختفت الابتسامة عندما سمع رنين الهاتف.
أخرجه بملل، يضعه على أذنه وهو يتوقع أن يكون أحد إخوته، لكنّه انتفض مفاجئًا مبتعدًا عن الهاتف بسرعة بسبب صراخ شقيقته العالي.
كاد الصوت أن يثقب طبلة أذنه.
زفر بملل وهو يلقي بسبٍّ وقحٍ، ثم أعاد الهاتف إلى أذنه قائلاً بتوبيخ:
"حسبي الله ونعم الوكيل.
حسبي الله ونعم الوكيل.
ادعي عليكي بأي، وإنتِ فيكي كل العبر.
لو عايزة تقطعي خلفي مش هتعملي كده.
في إيه يا آلاء؟
في إيه يا ماما؟
في إيه يا ست زفته؟"
أجابته متأففة: في إيه يا تميم؟
كنت بزعق لتميم الصغير.
فرك جبينه بملل، قبل أن يقول:
أنا معرفش، إنتِ سمتيه على اسمي من حبك فيا ولا عشان تهزقيني براحتك؟
إنا مش قلتلك ملكيش دعوة بالولد؟"
أجابته بقرف: فعلاً، هيطلع لمين؟
واكملت همسًا: كتكم القرف.
صنف عكر.
ولا واحد فيكم عدل.
الاتنين أنيل من بعض.
سألها بقلق وهو يسمع همسًا خفيفًا: إنتِ بتقولي إيه؟
بتشتمي صح؟
أنا عارف لسانك.
مبرد طايل الكل."
وأكمل بتوعد:ماشي، ماشي، صبرك عليا.
ده أنا هعمل من وشك طبق بطاطس مهروسة لما أشوفك.
أجابته بلا مبالاة: اتنيل يا حبيبي.
هز رأسه بيأس وهو يخرج مفتاح المنزل،
ليفتح الباب ويقول بتقزز:
"إنتِ أصلاً متصلة ليه؟
عشان تنكدي عليا صح؟
قولي."
قالتها متذكرة وأكملت:
"لا، كنت متصلة أقولك.
أصل حسام قالي وأنا بكلمه الصبح وأنا بقطف الملوخية، وفي وسط الكلام بقي عرفت.
وقلت أقولك بس اعمل إيه؟
عقبال ما خلصت وسلقت الفراخ،
والعيال حسبي الله،
بهدلوا الشقة،
وجريت وراهم بالشبشب،
هو أنا هسبهم يعني؟"
كانت تتحدث بعفوية وصوت عالي،
وهو يستمع لها بعين متسعة قبل أن يهتف بقوة مقاطعًا إياها بحدة:
"بس بس!
إيه ده؟
إنتِ فاكرة نفسك فين؟
آلاء،
دقيقة واحدة.
دقيقة واحدة تقولي المفيد،
وتقولي اللي عايزة تقوليه.
لأقسم بالله!"
قبل أن يكمل، قاطعته بنزق:
"خلاص،
خيبة عليك،
بس تصدق؟
أحسن."
"تستاهل يا حبيبي،
روح على البيت بقي، واستلقي وعدك من بابا حبيبي.
مستنيك يطلع على جتتك القديم والجديد."
أجابها بتوجس:
"إيه؟
حصل إيه؟"
أكدت بضحكة شامتة:
"تصدق يا حبيبي؟
هتصدق إن شاء الله،
إنت هتتجلد،
أحسن، أحسن."
وأغلقت الخط في وجهه.
ظل ينظر للهاتف بغيظ شديد،
قبل أن يفتح الرسائل ويخرج المحادثة الخاصة بها.
أرسل لها جمجمة وثلاث خناجر،
وجملة: "هجلدك، صبرك عليا."
وأغلق الهاتف.
وكان ينظر إلى المفتاح المعلق على الباب،
يفكر فعليًا في المبيت عند أحمد اليوم.
ولياتي في يوم آخر يكون أباه في وضع هادئ.
حقًا هو لا يريد التقريع.
ربما غدًا في الصباح.
وقبل أن يتحرك خطوة، رن هاتفه برقم والده.
ذم شفتاه بيأس،
وهو يردد:
"واضح أن يوم فل."
وأكمل وهو يدلف للمنزل:
"حسبي الله ونعم الوكيل فيكِ يا آلاء،
إنتِ السبب."
ودخل وهو يدعو عليها وعلى حسام،
وعلى إخوته الأوغاد جميعًا.
❈-❈-❈
دلف إلى المنزل يبحث عن أبيه بحذر شديد، كان يتمنى لو يستطيع الهروب من الموقف الذي ينتظره. كانت الخطوة التالية هي أن يركض إلى غرفته ويدّعي النوم، أو ربما الموت، أيهما أقرب .
لكنه فشل في ذلك، ووقف يذم شفتاه بقوة، وهو يرى أبيه يقف أمامه، يكتف ذراعيه ويناظره بغضب واضح.
"حسنًا، كم سيكون هذا اليوم لطيفًا!"
رسم ابتسامة سخيفة على وجهه وهو يتثاءب قائلاً بدهشة:
"الله! بابا؟ معقول لسه صاحي؟ ده الوقت تأخر أوي!"
وأكمل وهو يحيط كتفه:
"يلا ننام يا حبيبي، أنا عارف أكيد إنت مستني تطمئن عليا."
أزاح والده ذراعه وهو يهتف بضيق:
"عملت اللي قلتلك عليه
أجاب تميم بتساؤل غبي:
"اللي هو إيه؟"
صاح والده بعصبية:
"شفت صور البنات اللي بعتهملك!"
هز رأسه بيأس وهو يرد:
"يا بابا حرام عليك، مش إحنا اتكلمنا في الموضوع ده؟ هنرجع نفتحها تاني؟ أنا بلغت حضرتك إني لسه ما لقيتش البنت المناسبة..."
وقبل أن يكمل، قاطعه والده قائلاً:
"إنت عايز تشلني بجد؟ رد عليا عشان أبقى عارف طريقتي في التعامل معاك. لحد إمتى؟ لحد إمتى هفضل ساكت؟ سنة وأنا ساكت وحاطط جزمة في بقي، وعمال أقول سيبه يختار، ينقي، يتزفت! بس البعيد حمار!"
وأكمل بصوت عالٍ:
"أنا بقولك، أنا قلت لأختك آلاء تشوفلك عروسة، ويا أنا يا أنت يا تميم!"
ثم غادر من أمامه وهو يشتمه.
ضرب تميم كفًا على كف، وهو يخرج هاتفه ليهاتف صاحبه النصف عقل أخته، وهو يردد:
"أكيد دي فكرتها هي والزفتة الثانية.
حسبي الله ونعم الوكيل.
حسبي الله ونعم الوكيل!"
قالها وهو يبعث لها رسالة:
"ماشي، ماشي... مترديش، هتستخبي مني فين؟"
وأكمل صعوده إلى غرفته وهو يحسبن عليها بداخله ،هو لا يريد الزواج، فقط لا يريد، وحتى هو لا يعلم السبب
او ربما يعلم
❈-❈-❈
صباح يوم جديد...
"تسللت الشمس بخجل إلى الغرفة، تلامس الجدران بأنامل ذهبية، تنشر الدفء في كل زاوية. أصوات العصافير تراقص أحلامها، كأنها تهمس بأغنيات خفية لا يسمعها سوى القلب. دفء اللحظة يلفها بحنان، وهمسات خفية تلامس روحها، تطرب القلب كما لو كان يعزف سيمفونية لا تنتهي."
استيقظت على ملمس ناعم يداعب وجهها برفق، ففتحت عينيها لتنظر بتشوش حولها. رفعت ذراعها تتثاءب محاولًة تخطي مرحلة النوم، لكن شيئًا ما استوقفها.
حسنًا، هي ليست في منزلها، ولا في غرفتها.
ارتدت للخلف لوهلة وهي تستوعب الوضع، قبل أن ترى ذلك الجالس أمامها، مبتسمًا بتسليه، وهو يمط شفته قائلاً بتقييم:
"بقي ده شكلك وانتي لسه صاحيه من النوم؟ أممم."
مسحت وجهها بسرعة محاولًة إزالة أثر النوم، وبدأت في تمشيط خصلاتها بيدها في محاولة لتهدئة التشعث الطبيعي الذي يرافق الاستيقاظ. قبل أن تقول بخفوت وخجل:
"إبعد."
رفع حاجبيه بتسلية وهو يجيب:
"ليه؟"
كادت أن تقفز من فوق ساقه في حركة سريعة لتذهب إلى الحمام، لكن يده كانت الأسرع. اعتقلت خصرها، واجلسها علي ساقه، وقال بنزعاج:
"رايحة فين يا شقية؟"
أجابته بخجل:
"الحمام. سبني بقي."
أجابها نافياً:
"لا، لا. بالسهولة دي؟ في قوانين."
أجابته بعينيها المتسعتين:
"قوانين؟"
أكمل بابتسامة بريئة:
"أيوة، طبعًا. ممنوع تروحي في أي مكان قبل ما تديني قبلة الصباح."
اتسعت عيناها، وكادت أن تفعل شيئًا لم تعرف ما هو من شدة خجلها. لكنه أكمل وهو يحرك وجهه ليعطيها وجنته، مردداً:
"يلا."
ابتسمت بخجل، ثم نظرت إليه بتوتر، قبل أن تطبع قبلة سريعة على وجنته، متحررة منه، ثم ركضت إلى الحمام بسرعة.
وخلفها، كان هو سعيدًا في هذا الصباح.
سعيدًا لأنها هنا.
❈-❈-❈
استفاق تميم من نومه على رنين هاتفه، وكان شقيقه حسام. أغلق المكالمة في وجهه، لكنه لم يتركه، حيث عاد الاتصال مرة أخرى كان حسام مصممًا على إقناعه بضرورة حل أمر الخطبة.
"بص يا تميم، أنا مش ببرر ضغط بابا عليك، بس للحق هو عنده حق. تخيل لو أنا مكانه، ابني يقعد كل ده بدون جواز، أخواته اتجوزوا وخلفوا من أكبرهم لاصغرهم، وأنت زي ما أنت، مينفعش كده."
تنهد تميم وهو يزرر قميصه يرد بنزق:
"يعني، بالله عليكم، عايزني أتجوز وخلاص لمجرد الجواز؟ يا جماعة، حرام عليكم، اتقوا الله فيا."
تنهد حسام هو الآخر قائلا بهدوء:
"لازم تفكر في الموضوع بشكل جدي. مش معقول تفضل كده طول عمرك. لازم تلاقي واحدة تريحك وتكون معاك."
أكمل ارتداء ملابسه وهو ينظر للهاتف بغضب، ثم حمله وأغلق المكبر قائلاً:
"يعني، أنت فاكرني مش عايز؟ أكيد زي أي راجل، عايز يكون عندي بيت وزوجة وأطفال. ده شيء طبيعي، بس مش معقول تكرروا نفس الغلط تاني شوفت إيه اللي حصل المره اللي فاتت، أروح ويطلع وأهلها غصبنها عليا؟ ولولا ستر ربنا كنا روحنا في داهية، ودفعت الثمن غالي."
اكيد مكنتش وقتها هكون سعيد
ولا حتي ابوك الي عمال يضعط عليا
ٔإجابه حسام بتأكيد:
"هو سابك واداك وقتك. مش معني إن تجربة واحدة مش ناجحة إن كل التجارب كده. الموضوع هيتحل بإذن الله. حاول تهدي أبوك، وأنا هحاول أخلي الاء تنقي عرايس كويسة،
ويا سيدي أقعد معاهم
مش يمكن تلاقي فعلا الي تخطف قلبك
تنهد تميم بتعب قبل أن يرد:
"بالله عليك، أنت ملقتش غير الاء؟ دي كل اللي بتجيبهم زي وشها. أعوذ بالله. دي لو كانت عايزة تنتقم مني مش هتعمل كده."
وأكمل سريعًا قبل أن يغلق الخط:
"اقفل دلوقتي، عايز أروح لأبوك قبل ما يمشي."
وأغلق الخط، بينما تسارع خطواته نزولًا ليلحق والده، فهو لا يرضى أن يراه حزينًا مهما كانت الظروف.
❈-❈-❈
انتهت من تبديل ملابسها إلى منامه رقيقة من الستان باللون العاجي، والتي أضفت عليها ملامح من النعومة والجمال. هندمت خصلاتها برقة، وضعت لمسات بسيطة فهي عروس بالنهاية، فكانت بالفعل جميلة بكل تفاصيلها.
خرجت من الغرفة، بينما كان قلبها يلتقط تفاصيل المكان التي أحبتها. صوت القرآن يتردد عبر التلفاز، ورائحة البخور العطرة تملأ الأجواء. كانت تفاصيل صغيرة، لكنها أثارت في قلبها سكينة لا توصف.
بحثت عنه، فوجدته في الشرفة، منهمكًا في ترتيب الطاولة. وعندما رآها، توقف عن ما كان يفعله، وأهدى إليها ابتسامة جميلة، مدًّا يده إليها، داعيًا إياها للاقتراب. اقتربت منه، فاحتضنها بدفء، قبل أن يقبل وجنتيها.
جلسا معًا، وهو يوجه إليها كلمات رقيقة ، يدللها ويطعمها، يتحدث عن الأسبوع القادم وما يحمل من مفاجآت. أخبرها أنه سيكون بجانبها، يحقق كل ما تريده. سيدللها ويسافران معًا إن رغبت، وكل ما تشتهيه نفسها سيكون لها. فحبّه لها كان كافيًا ليملأ قلبها.
وفي تلك اللحظة، شعرت بسعادة تغمرها، فقد حصلت على ما كانت تحتاجه،
الحب.
❈-❈-❈
هبط الدرج سريعًا داعيًا من الله أن يلحق بأبيه، لكن توقف وهو يرى والده يجلس على طاولة الطعام يتناول فطوره.
اقترب منه يقبل يده، ليهديه مدحت ابتسامة حزينة هادئة.
حادثه بالأمس حسام وأمير، حتى ملك والاء.
الجميع يخبره بالتريث.
تميم لن يتزوج فقط لأجل الزواج.
هو يريد بناء منزل ك منزلهم، يحيط به الحب.
حتى بعدما غادرت صاحبته، ظل منزلها محاطًا بالورود، بالحب والدفء.
دفء قلبها، غادرت ولم يغادر عبيرها.
لن ينكر أنه لا يريد أن يضغط عليه، لكن كيف يراه يفني سنوات عمره هكذا؟
كم سيحيا له؟ سنة؟ اثنين؟ عشرة؟ حتى.
يريد أن يطمئن قلبه.
أفاق من شروده على يد تميم تربت على يده، وهو يقول: "بص يا بابا، أنا وعدتك أن هفكر، وأنا فعلاً مش متجاهل الموضوع."
وأكمل بستسلام لا يريده: "أنا موافق يا بابا."
ارتفعت عينا مدحت بتفاجؤه وهو يسمعه يكمل: "موافق أقابل العرايس، بس بدون أي حاجة رسمية. مجرد مقابلات. هشوف إذا هرتاح ولا لأ. وأوعدني الاختيار يكون ليا."
"تمام يا حبيبي." قالها وهو يقف ليحتضن والده ويقبل رأسه.
وبداخله، هو لا يريد.
كان يريد يومًا ما، والآن لا يريد.
يريدها.
لا يريد شيئًا سوى أن تكون هي.
يتبع...
إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة عفاف شريف، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية