-->

الفصل الخامس - شهاب قاتم

 




الفصل الخامس



"ياااه يا عبد الصمد.. بقالك كتير أوي مبترسميش" حدثها بصوته الرخيم الذي اتضح به آثار النعاس وأتضحت نبرته التي تحمل الإبتسامة

"هششش.. سيبني أركز علشان أخلصها قبل ما ييجوا"

زجرته نورسين وهي تُسلط تركيزها على تلك اللوحة التي ترسم بها كلاً من سليم وزينة

"خلاص.. بقيتي بترسميه.. هو وأنا كخه" تحولت نبرته للتهكم بينما جلس على احدى المقاعد بجانبها بشرفة غرفتهما وفرك عيناه

"بطل بقى شغل الغيرة العامية ده.. أخبرته دون إكتراث وهي تُكمل ما ترسمه"

"ما أنا ياما رسمتك، ولا نسيت؟!"

"لا منستش، بس أنا الأول برضو"

"طيب ماشي هارسملك صورة جديدة وأنت عجوز ومكحكح كده"

"خلاص بقيت عجوز ومكحكح! ماشي يا ستي.. لولا بس إنك نايمة زعلانة مني من امبارح مكنتش عديتهالك"

"والله كرم أخلاق منك، وياريت بقى لو تقوم تعملنا الفطار على ما أخلص الرسمة يبقى كتر ألف خيرك"

"طبعاً ما الهانم سايباني علشان سليم ومراته وبقيت الفيليبينية" أخبرها في تهكم

"يا سلام يا بدر بيه" التفتت إليه وهي تُمسك بالقلم الرصاص بيدها وظهر عليها ملامح الإنزعاج "ما أنا بعمل الفطار بقالي سنين، وحضرت كل الأكل اللي هيتغدوا ويتعشوا بيه كمان، أبقى فليبينية؟"

"يا ساتر، حقك عليا مقصدش"

"أيوة كده!! هات ورا بقى.. رجالة مينفعش معاها غير العين الحمرا" حدثته بثقة وهي ترفع احدى الخصلات خلف أذنها ثم عادت لتُكمل رسمتها من جديد

"لا يا حبيبتي.. مش علشان مدلعك و.." قاطع كلماته رنين هاتفه لتلتفت له نورسين بنظرة متعجبة فلا يزال الوقت مبكر للغاية كما أن سليم وزينة لن يصلا قبل ساعات من الآن

"مين اللي هيكلمك دلوقتي؟" سألته في تعجب بينما كان هو في طريقه لإحضار هاتفه

"رايح أشوف أهو" أقترب من الهاتف ليجد أسم إياد فأجابه على الفور "صباح الخير يا إياد" أجاب المكالمة بصوته الرخيم الذي بدا عليه الترقب ونبرته حملت الإستفسار الجلي

"أنا آسف يا خالو إني بكلمك دلوقتي بس أروى فاقت، وماما منهارة، أنا محتاجك معايا" حدثه بنبرة خائفة ولم يعطه تفسيراً ولكنه أستجاب له على الفور

"ماشي يا حبيبي مسافة السكة وهتلاقيني عندك.. أجمد كده وخليك جنب هديل لغاية ما أجيلك"

"حاضر يا خالو"

أنهى المكالمة ليجد زوجين من زرقة البحر تحدقه في مطالبة بأي تفسير ليزفر بدر الدين واتضح على ملامحه القلق الشديد وظهرت عقدة حاجباه

"أروى فاقت ولازم أروحلهم دلوقتي"

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

"كل واحد شنبو خضر سف كميه كمان وبدر.. مين يصوني ومين يقدر ده انتوا كيفكو اهم شئ.. لما اقول لازم هتسمع .. انت باهت وانا بلمع"


تعالى صوت زينة مع كلمات ذلك المهرجان الجديد كما يسمونه وكذلك تمايل جسدها بالمقعد المجاور لسليم وهما في طريقهما للعودة بعد أن صممت زينة ألا يعودا بالطائرة ليرمقها سليم وضحك بخفوت

"هار أسوح!! بقى دي سيادة البشمهندسة اللي درست في ألمانيا وحاصلة على الماجيستير! إيه اللي حصلك يا زوزا؟!"

"فرفشني يا ببلاوي! إيه.. سليم الفرفوش راح فين؟"

"موجود بحاطة إيدك" أخبرها ثم رفع من الصوت ليكملا التغني سوياً

"شقلطوني في بحر بيرة دغري سكه انتي الاميرة .. في الجمال حلوه وخطيرة مش بشوف زيك يا بطه .. بحر عشق وموج محبه انتي ساكنه الروح يا شابه .. قشطه عسلية ومربه مفيش منك في اي حته" نظر لها نظرات مداعبة وتصنعت هي الدلال المبالغ به وجسدها يتمايل ليضحكا سوياً لفترة ثم أخفضت هي من الصوت

"بجد يعني بجد أنا مبسوطة جداً معندكش فكرة ازاي، اليومين دول خلوني أنسى كل حاجة"

"يا حبيبتي أنا عايز أشوفك مبسوطة على طول.. أنت تؤمر يا زوزا" أخبرها لتبتسم له

"أنا بصراحة قولت نرجع بالعربية احسن من الطيارة علشان ناخد وقت ونتبسط سوا، حاسة إني خايفة شوية، أكيد ماما لسه زعلانة علشان أروى وكده ومش هاينفع نعمل الكلام ده كله قدامها هي أو حد من أخواتي" هدأت نبرتها ليُمسك هو بيدها

"متقلقيش.. بكرة أروى هتكون كويسة وكل الحاجات دي هتعدي، وبعدين كلها يومين وهنسافر تاني"

"ساعات بحس إن ماما أصلاً كانت رافضة فكرة إني أنا وأنت نتجوز طول ما أروى تعبانة و.."

"لا بقولك إيه! ترفض ولا مترفضش أنا كنت خلاص على أخري" قاطعها وهو ينظر إليها ثم أعاد نظره للطريق "الدنيا مش هاتقف علشان ست أروى يعني"

"يا سليم دي تعبانة.. متقولش كده حرام عليك" زجرته ليطلق هو تنهيدة عميقة

"ربنا يشفيها" أخبرها بإقتضاب بينما أنزعجت ملامحه

"أنت لسه مش قادر تنسى اللي هي عملته، مش كده؟" سألته بنبرة حزينة

"خلاص بقى يا زينة.. انسي الكلام ده كله" كانت نبرته زاجرة ورفع صوت الأغاني بعد أن اختار أفغنية أخرى ولكن هاتفه أصدر رنيناً ليتفقد هوية المتصل ليجده والده فأخفض مجدداً من صوت الأغاني وتعجب لماذا والده سيحدثه وقد قاربت الساعة على التاسعة صباحاً ولكنه لم يُدرك أنه سيخبره بما حدث لأروى!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

"يارب عدي اليوم ده على خير" توسلت فيروز بداخلها وهي تنهض لتطوي بساط الصلاة وخلعت رداءها وتوجهت للخارج حيث والدتها تُضع الأطباق على المائدة

"صباح الفُل يا فيروزة" أخبرتها والدتها بإبتسامة مُشرقة

"صباح الخير يا ماما.. أساعدك في حاجة؟" بادلتها الإبتسامة

"لا يا حبيبتي خلاص أنا ناقص بس أجيب العيش، أندهي بابا وفريدة علشان يفطروا"

"يا سلام.. عيوني يا ست الكل" كادت أن تذهب لتوقفها فيروز "ماما.. أدعيلي النهاردة يعدي على خير"

"حبيبتي ربنا يوفقك وينصرك ويجعلك في كل خطوة سلامة ويريح بالك" توسعت إبتسامة فيروز بينما شعرت بالإطمئنان وأقتربت منها لتقبل رأس والدتها فربتت الأخرى على ابنتها في حنان "يالا روحي اندهيهم"

"حالاً يا جميل" وهي واقفة مكانها صاحت بصوت مرتفع "يا دكتور يالا الفطار هيبرد.. فريدة.. أنتي يا بنتي يالا الفطار" ضحكت والدتها من على مسافة بخفوت فيبدو أن تلقائية فيروز لن تتغير أبداً حتى ولو أصبحت بالستون من عمرها

"صباح الخير يا حبيبتي.."

"صباح الجمال يا دكتور" أخبرته وهي تجلس لتشرع في تناول الطعام

"يا بنتي استني مامتك وأختك"

"ورايا حوارات كتيرة أوي النهاردة بصراحة.. لازم أكل وشكلي هاخد سندويتشات كمان" أخبرته بينما تلتهم الطعام في استعجال ليبتسم والدها في راحة وهو لأول مرة منذ مدة يراها عادت لجزء من طبيعتها عدا ذلك اللون الأسود الذي لا زالت ترتديه منذ فراق زوجها

"يووه يا فريدة.. يا بنتي يالا" صاحت مرة أخرى بينما لم تستمع لأي إجابة من أختها

"شغل النهاردة ولا إيه؟ رجعتي المصحة ولا المدرسة؟" سألها والدها

"لا ده ولا ده، موضوع كده كبير هابقى أحكيلك عليه" رمقت ساعتها ثم نهضت لتذهب لغرفة أختها ليتعجب والدها ولكنه سيرضى بأي شيء قد يُساعدها لتُكمل الحياة بشكل طبيعي مرة أخرى..

"يا بنتي بتهببي إيه كل ده.. ما تنجزي وتيجي علشان الفطار" دلفت غرفة أختها لتراها تجمع أشياءها في هرجلة

"أستني بس يا فيروز أحسن أتأخرت ومعاد المحاضرة عشرة"

"طيب طيب.. أنا هاعملك ساندويتشات وخديهم معاكي"

"لا مش هالحق.. أطلبيلي أوبر بسرعة" أخبرتها وهي تجمع أشياءها

"حاضر" قامت مسرعة بالتوجه للخارج ثم قامت بطلب أحدى السيارات وأخذت تعد لها بعض الطعام كي تتناوله بينما خرجت فريدة من غرفتها

"معلش يا جماعة ملحقتش الفطار.. العربية نمرها إيه يا فيروز"

"م ج س هيونداي النترا سودا"

"طيب سلام" أخبرتها مسرعة ثم توجهت للخارج

"يا بنتي استني بعملك السنـ"

"مش هالحق يا فيروز والله أتأخرت، يالا سلام" أخبرتها وتوجهت للخارج لتزفر فيروز ولكنها تابعت ما تفعله وصممت أن تذهب خلفها وسيكون الحظ حليفها إذا لحقت بها

"إيه يا فيروز رايحة فين بالسندويتشات"

"يمكن الحقها يا ماما" أخبرت والدتها وفرت للخارج مهرولة وتسلقت الدرجات للأسفل بسرعة ولم تكترث أنها ترتدي بقدميها حذاءها المنزلي لتعدو نحو أختها التي كادت أن تدلف السيارة "الحمد لله لحقتك" تقطعت أنفاسها

"تسلم إيدك يا حبيبتي"

"يالا ربنا معاكي" أخبرتها لتبتسم لها فريدة ثم ذهبت بالسيارة لتتابعها فيروز وهي تلتقط أنفاسها ثم تفقدت الساعة بيدها لتجدها سبقت العاشرة بعشرين دقيقة لتتوجه عائدة للمنزل وهي تُفكر بذلك الموعد الذي أقترب للغاية ولم ترى من كان ينظر لها في تعجب وأستخفاف..

لم تكن ترى أنه منتظراً بسيارته يتابعها بعينيه الداكنتين، ولم يكن هو ليتوقع أبداً أنه سيتعامل مع فتاة مثلها، أحقاً كانت تعدو بالشارع بهذه الطريقة وحاملة طعام لما يبدو أنها أختها! هذه الفتاة غريبة! وما تصفيفة شعرها تلك! جديلتان؟! أهي محقة؟!

قرر أن يُداهمها وترجل من سيارته ليذهب بإتجاهها وبداخله يريد أن يتسلى قليلاً بتحدثه عن مظهرها الغريب ولن يدعها قبل أن تشعر مثلما تركته أمس بعد مواجهته بتلك الطريقة! أأمرأة تُفكر بتجرأها على شهاب الدمنهوري؟! هي تحلم بالتأكيد! عليه أن يضعها بمكانة تجعلها تدرك أنها لا تليق بمستواه أبداً، هذا إن كانت تُفكر بأن طريقتها الساذجة ستجعلها تحصل عليه.. بل إن كان هذا هو مقصدها! أمّا إن كان وراءها شيئاً آخر فسيعلمه بالتأكيد!

"صباح الخير" ابتسم لها إبتسامة ساحرة ليوقفها ونظرت له بتعجب

"صباح النور" لانت ابتسامتها في رسمية

"مش يالا علشان نروح نشوف الأرض؟" حدثها بهدوء وإبتسامته البشوشة التي أدعاها بحرفية واتقنها بشدة جعلتها تندهش بداخلها لتغيره الملحوظ ولكن لم يظهر هذا عليها هذا الإندهاش ثم رمقته مضيقة عينيها لثوانٍ

"مش معادنا الساعة عشرة؟" سألته بنظرة مستفسرة

"وليه مش دلوقتي؟ ولا أنتي وراكي حاجة؟" أجابها سائلاً لينظر لها ملياً حتى نظر لقدميها "آه لسه مش جاهزة يعني؟" أطنب بسؤال آخر لا يحتاج إلي إجابة بينما وقف بمنتهى الثقة وهو يستعرض مظهره المبالغ في تكلفه فكل ما يرتديه ينم على الثراء الفاحش، بداية بساعته الفخمة التي تُكلف ثروة مروراً بملابسه الواضح أنها تنتمي لبيوت أزياء شهيراً ونهاية بحذاءه وعطره بل والمستحضرات الخاصة بشعره التي تفوح رائحتها بغزارة..

"بصراحة آه، ولسه مكملتش فطار.. تحب تتفضل تفطر معايا؟" أخبرته برسمية غير مرحبة بوجوده تماماً قاصدة أن تريه عدم ترحيبها به ليدهشها من جديد ولكنها حافظت على هدوء ملامحها

"أنا فعلاً مفطرتش لسه.." أخبرها وهو ينظر إلي عينيها مباشرة وكان من اللباقة أن ترحب بإستضافته لتفعل في النهاية

"أتفضل" أشارت له بيدها ليدلفا سوياً تلك البناية التي يقع بها شقة والدها وأخذت خفقات قلبها في الإرتفاع قليلاً وهي تحاول أن تجد بسرعة تعريفاً لائقاً له أمام والديها وعلاقة منطقية تجمعها بشهاب وفي نفس الوقت عليها ألا تتحدث بأمر قد يدفع الإرتياب إلي عقله

"شهاب!" همست بأسمه منادية قبل أن أوشك كلاً منهما على الدخول للمنزل لينظر إليها بملامح رائقة للغاية مهمهماً "أنا.. أنا مقولتش لبابا وماما على موضوع الأرض!" أخبرته بنبرة هادئة ليقطب جبينه بإستفسار "أنا وماهر مكناش بنحب حد يتدخل في أمور حياتنا وقراراتنا، ومن ساعة ما أتوفى .. ويعني .. الكل حواليا بيحاول ميكلمنيش في أي حاجة تخصه لأن ساعتها حالتي كانت بتسوء أكتر .. ومجتش مناسبة أقولهم على الموضوع"

أطلقت تنهيدة عميقة وحُزنها الذي سيطر على ملامحها كان حقيقياً لتذكرها ماهر من جديد وتضرعت بداخلها أن ينطلي عليه الأمر ولم تحصل من ملامحه على أي تعبير قد يوضح ما يُفكر به الآن وما قد يدور بعقله وارتفع توترها الشديد عندما وجدت والدها يفتح باب الشقة ليباغت كليهما ليلتفت شهاب إليه وابتسم له بوقار لتقع هي في موقف لا تحسد عليه!

"شهاب الدمنهوري" قدم يده ليصافح والدها الذي ظهر عليه نظرات التعجب

"أهلاً وسهلاً.. أحمد عبد الحي" صافحه هو الآخر لتحمحم فيروز

"بابا، بشمهندس شهاب.. صاحب شركات DRE.. و .. وكان فيه مشروع خيري"

"طيب يا بنتي اتفضلوا، هنتكلم على الباب ولا إيه؟" شعر والدها أنها بمأزق شديد ولكنه بالطبع لن يطالب بتفسير أمام رجل غريب ليبتسم لكليهما "أتفضل" أخبره ليدلف شهاب وتبعته فيروز التي تفكر سريعاً كيف ستختلق قصة مقنعة أمام والديها

"احنا كنا بنكمل فطار.. أتفضل معانا" أشار له والدها نحو المائدة

"اتأخرتي كده ليه يا فيروز؟" صاحت والدتها التي كانت تتحدث بتلقائية ثم صمتت عندما وجدت رجل غريب يدلف نحوها

"صباح الخير" أومأ شهاب برسمية لوالدتها بينما جلس على كرسي مجاور لوالد فيروز بينما جلست فيروز بجانب والدتها وكادت أن تتحدث ولكن لاحظ شهاب توترها بنظرته التحليلية الشديدة فبادر هو بالحديث

"أنا طبعاً آسف مكنتش أحب آجي كده من غير معاد وفيروز قالتلي أتفضل وبصراحة كنت مفطرتش فمقدرتش أقولها لأ" ابتسمت والدتها بوقار إليه بينما نظر له والدها

"أهلاً وسهلاً بيك في أي وقت" أخبره بإبتسامة

"بصراحة أنا كنت طلبت من الـ HR عندي Charity Planner على أساس إنه يمسك جزء المشاريع الخيرية وكان من ضمن الأسئلة في المقابلة إن اللي بيقدم يقول على فكرة مشروع خيري وأعجبت جداً بالفكرة اللي قالتها فيروز" تحدث شهاب أثناء تناوله للطعام وقد خدع الجميع بوقاره ورسميته وكذلك جلسته التي ظهرت مدى أريحيته ثم تابع

"أتكلمت عن فكرة لمستشفى كبيرة بتقدم خدمات وعلاجات مجانية للستات إللي عندهم مشاكل في الإنجاب والولادة بشكل عام، بصراحة كانت فكرة جديدة ومش منتشرة في البلد، ولمّا عملت تصفية بين خمسة من اللي قدموا إنهم يعملوا دراسة جدوى للمشروع وازاي هيقدروا يقدموا مساعدتهم في فكرة المشروع ده عجبني جداً النتايج اللي فيروز قدمتها، وكمان بدل ما المشروع يكون خيري بس هي قدمت دراسة جدوى فيها هامش ربح في المستقبل.. فاقتنعت جداً بالفكرة وشايفها هتضيف كتير للشركات عندي"

أنهى تحدثه لينظر لها نظرة سريعة بثقة شديدة ثم وزع نظراته بين والدتها التي ظهر الإندهاش عليها وبين والدها الذي هز رأسه في تفهم تام

"ربنا يقدرك على فعل الخير" ابتسم له بلباقة ولم ينظر نحو فيروز أبداً وكذلك لم يقتنع بتلك القصة برمتها "مشروع كويس جداً وهيفيد ناس كتير" أخبره بينما تابع تناول قهوته

"طيب أنا كده هتأخر.. محتاجين حاجة؟" نهضت والدتها التي نظرت لفيروز وزوجها

"لا يا حبيبتي شكراً" اجابها زوجها

"شكراً يا ماما" وكذلك فعلت فيروز

"فرصة سعيدة وتنور في أي وقت" صافحته والدتها لينهض شهاب وصافحها بمنتهى الوقار وفيروز بداخلها تكاد تنفجر من تلك التمثيلية السخيفة التي هي أحد أبطالها

"أنا أسعد يا فندم"

"مع السلامة" ودعتهم وتوجهت لتُمسك بحقيبتها ثم ذهبت للخارج

"تحب تشرب قهوة؟!" نهضت فيروز التي لاحظت عدم إهتمام والدها بها كالمعتاد فقررت التراجع

"ياريت" ابتسم لها شهاب بلباقة لتريد هي أن تلكمه بوجهة، ما الذي يفعله حقاً؟ أهذا هو الرجل الذي لم يرد يتحدث سوى عن العمل؟ ما الذي يريد فعله اليوم؟ أي جانب من الشخصية السيكوباتية يريد أن يُظهره إلي الجميع؟!

توجهت للداخل وهي تسمع لشبح حوار ما يدور بين والدها وبين شهاب بينما كل ما فكرت به هو إختلافه اليوم عن أمس.. متأنق للغاية، يبتسم، يتعامل بمنتهى الوقار والإحترام، شخصيته اليوم تتنافى عن ذلك الرجل الفّجِ الذي قابلته أمس..

أيُمكن أنه يهتم بها من أي ناحية لذلك يُمثل ذلك الدور؟ أم أنه يرتاب بشيء ما نحوها؟

أطلقت تنهيدة عميقة وهي مُدركة أنها ستصل إلي ما يُفكر به بمنتهى السهولة فقط عندما تجلس اليوم معه! ولكن ليس عليها أن تجعله يثق بها وحسب حتى تبدأ بمشروع علاجه الذي يبدو أنه طريقاً شاق، بل عليها كذلك أن تُقنع والدها بهذه التمثيلية، ففيروز لم تخفِ عنه أمراً بحياتها من قبل.. وهي في فترة لن تستطيع أبداً أن تواجه فقدان ثقة والدها بها!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

"بص.. أنت بعد العملية الأخيرة ودماغك الشغالة خلتني أتأكد إنك كده هتنفع أوي معانا"

"عملية!" عقب على كلماته متمتماً في تعجب "وإيه الجديد! ما أنا دايماً بأتصرف في مكان تحط في الصناديق علشان الضـ.."

"لا لأ! بلاش اللهجة دي، أنا عارف إنك فاهم كويس إن اللعبة اللي فتحت بيها سكة معاك مدخلتش عليك.." قاطعه وليد بنصف إبتسامة ليواجهه شهاب بملامح غير مدركة لما يعنيه "اعشان أجيبلك من الآخر، للي أنت بتساعدنا فيه ده شحنات سلاح!"

كانت تلك الكلمات مثل الصاعقة على شهاب الذي أنعقد لسانه وشعر بالذهول ولم يجد الكلمات المناسبة حتى يعقب بها على كلمات وليد، هو يُدرك أنه لم يدقق خلف المعلومات التي أخبرها به وليد، ولكن سلاح!! لم يتوقع هذا أبداً..

"ما هو برضو مفيش راجل أعمال في إيطاليا بيهرب من الضرايب، وواحد بذكاءك فاهم ده كويس.. وأنا هاجيبلك من الآخر، يا تدخل اللعبة بمزاجك، يا إما لسه معاك وقت تجيب ورا وتقول أنا مش لاعب" نظر له شهاب في حيرة وتملكته البلاهة

"فاكر الحداية بترمي كتاكيت ولا إيه؟ مين اللي معاه يصرف كل الفلوس دي غير المافيا!" ابتسم وليد له بخبث ليندهش شهاب أكثر وسيطرت عليه الصدمة الشديدة

"أنا بديلك فرصة على فكرة.. كلها شهر وكام يوم، كليتك هتخلص، وبدل ما تطلع السلم لسه من أوله وتحوش في فلوس من المصالح اللي بتقلبها وتبعت حبة لأبوك وحبة بتبعزقهم على حبيبة القلب على عربية الأكل اللي بتقلب عيشك عليها بعد الضهر وبليل المخزن أنا هسهلها عليك وبديلك فرصة على طبق من دهب، وكل الفلوس اللي أنت أخدتها متجيش نقطة في بحر من اللي ممكن تكسبه من شغلك معانا"

كاد شهاب أن يتحدث ولكن وليد أطنب بمزيداً من الكلمات التي علم أنها ستقنعه جيداً

"مظنش واحد بذكاءك مش عايز يخلص من عيشة الفقر، وأنت كده ولا كده مش هيبقالك تعامل بشكل مباشر في الأول، الموضوع محتاج سنين علشان تبقى تقيل، وأنا معاك وهساعدك.. وأنك تكسب ثقة الناس دي مبتجيش بالساهل بس متقلقش أنا في ضهرك.. فكر بقى لما غادة تلاقي فلوسك كترت، ساعتها هتسيبها من هيثم وتبقى زي الخاتم في صباعك، إيه فاكرني مش فاهم ولا إيه؟"

توسعت ابتسامة وليد في مكر بينما أنفعل شهاب وأتضح على ملامحه العصبية الشديدة ما إن آتى على ذكر علاقته بغادة بمثل هذه الطريقة

"عموماً أنا واثق كويس جداً من إجابتك، بس برضو هسيبلك لغاية بليل.. فكر ورد عليا.." نهض من مقعده ثم نظر له بمنتهى الجدية "وأوعى تفكر إن الطالب المثالي لو راح وبلغ مش هنعرف نوصله.. اللي زينا بيوصلوا للي عايزينه حتى لو كان ورا الشمس"

تنهد وليد وهو يتناول مفاتيح سيارته من أمام شهاب الذي وقع في حيرة شديدة وشعر بالخوف وقتها

"هكلمك بالليل!"

تركه وذهب ليشرد شهاب، هو لطالما أراد الثراء، آتى إلي هنا بعقل مكتظ من الأفكار للثراء الشديد الذي حلم به، ولكن أن يكون فرداً من عصابات المافيا! هذا لم يخطر بباله أبداً.. ولكنه يحتاج إلي المال.. ولكن أيضاً ليس بمثل هذه الطريقة!

شعر بالتخبط الشديد وقتها، شعر بأنه أراد أن يُفكر بهدوء، عليه أن يأخذ القرار قبل أن يقرر مصيراً لا يستطيع التراجع عنه، كما أنه لا يود أن يتخذ قراراً ويندم على تفريطه بفرصة لن تتكرر أبداً..

وبين التخبط وذلك التشويش وجد نفسه وحيداً، أراد بأي شكل من الأشكال أن يهرول ذاهباً كي يختفي بين أحضان غادة.. ربما هذا هو الوقت المناسب أن يعترف لها بعد سنوات بكل ما يشعر به، وربما هو الوقت المناسب أن يبحث بين أحضانها على بعض الراحة التي لا يجدها سوى بالقرب منها.. فلقد توطدت علاقتهما للغاية ولكنه لم يجرؤ على إعترافه بعشقه الجارف لها.. والآن يعلم أنه لن يستطيع الإنتظار أكثر!

تناول هاتفه ليتفقد الوقت الذي وجده لا يزال مبكراً ثم فكر بإقتراح أن يقضيا الوقت سوياً بعيداً عن كل شيء، همّ فقط بمفردهما، سيخبرها بمكنونات قلبه إليها، فلقد أصبح الوقت مناسباً أكثر من السابق، يملك من الأموال أكثر، ذلك المشروع الذي بدأ به إيراداته جيدة ومن السهل أن يمتلك من وراءه في المستقبل سلسلة من المطاعم، تلك المسابقة لتصميم احدى المباني يعلم أنه يبني عليها الكثير من الآمال وإذا فاز بذلك المبلغ المالي الضخم سيستطيع بسهولة الزواج من غادة دون تردد من أنه لا يليق بعائلتها الثرية..

تأكد بعد تفكيره أنه لا يوجد وقت مناسب أكثر من الآن ولن يدعها تذهب وتعود إلي مصر دون أن يعترف لها بعشقه وإرادته من الزواج بها!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

لا تصدق أنه جلس يتحدث لوالدها لساعة بأكملها!! بداية بقصصه عن هذا المشروع الخيري ليتنقل بين السياسة إلي أحوال الشرق الأوسط إلي الإقتصاد!! هو يمزح بالتأكيد، أهذا هو الرجل الذي أبدى إرادته بأنه لا يكترث حتى للعمل ولا لذلك المشروع الخيري.. يأتي الآن ليتناول الطعام ويتسامر مع والدها بإستعراض شديد لتلك المعلومات اللانهائية التي يملكها! هذا ليس بطبيعي أبداً.. ما الذي وراء كل ذلك؟!

حمحمت فيروز في لحظة صمت بها كلاً من والدها وشهاب لتنطلق هي مسرعة في الحديث وهي تنهض

"طيب بابا هنستأذنك علشان نلحق نروح نشوف الأرض، وأحنا آخرناك عن العيادة أكيد"

"لا يا حبيبتي، أنا اتبسطت جداً بكلامي مع شهاب" ابتسم لها ثم نهض ليتبعه شهاب فصافحه "أتبسطت بمعرفتك وأكيد هنستناك تاني"

"لا أنا اللي ليا الشرف، أنا لو كنت أعرف إني آخرتك مكنتش طولت كده" ابتسم له وصافحه بوقار

"لا ازاي متقولش كده، فرصة سعيدة" تركه في هدوء ثم التفت لفيروز "ممكن ثواني يا فيروز؟"

"آه طبعاً يا بابا"

"بعد إذنك" تركاه في غرفة الإستقبال ثم خرجا وأوقفها والدها على مقربة وكان من حظه هو أن يستمع لكل ما دار بينهما بسهولة

"بابا أنا كنت هقولك بـ.."

"أنا كنت هسألك لو محتاجة حاجة، معاكي فلوس؟" قاطعها سائلاً لتتعجب فيروز

"لا يا بابا شكراً يا حبيبي الحمد لله أنا معايا وبزيادة كمان"

"طيب يا حبيبتي، لو احتاجتي حاجة ابقي قوليلي" ابتسم لها ثم كاد أن يذهب لتوقفه فيروز

"بابا أنا بجد كنت هاعرفك بس ملحقتش أحكـ.."

"لما ترجعي بالسلامة نبقى نتكلم.. يالا علشان متسيبيش الضيف كتير لوحده، ميصحش برضو.. سلام يا حبيبتي" قاطعها بهدوء مجدداً ثم تركها لتطلق هي زفرة طويلة وهي بداخلها تعي جيداً أن والدها منزعج بإخفاءها ذلك الأمر عنه..

توجهت للداخل وهي حزينة تجاه أمر والدها وفي قمة إنزعاجها مما فعله شهاب، فها هو الرجل ذو الجدول الذي لا يتحمل موعد لعدة دقائق يستطيع أن يُضيع ساعة ونصف بعدة أحاديث مع أُناس لا يعرفهم!

"يالا" حدثته بإقتضاب بعد أن دلفت ووجدته يتفقد هاتفه ولم تعلم أنه أستمع لكل ما دار بينها وبين والدها ولا يستطيع سوى التفكير بذلك الحديث البسيط الذي دار بينهما

"يالا"

نهض شهاب ليتبعها وقد تأكد من الكثير من خلال حديثه مع والدها، هي لا تزال متأثرة برحيل زوجها، ولكن إلي الآن لا يجد إجابة واضحة لماذا تريد هذه المرأة أن تتعرف عليه! أتظن مثلاً أنه سيُصبح زوجها؟ ربما الأمر بأكمله مسألة أموال تريد الحصول عليها من خلال هذا المشروع المزيف؟ لم يصل بعد لغرضها الحقيقيي لأنه إلي الآن لم يقتنع بتلك الفكرة السخيفة!

دلف السيارة الرياضية التي تُكلف ثروة من الأموال لتتبعه فيروز بمنتهى الصمت الممل الذي أستمر منذ أن تركا شقة والدها وهي تحاول أن ترتب أفكارها، هي بدأت بكل هذا الأمر ووافقت على خوض هذه التمثيلية فقط لعلاج هذا الرجل، عليها أن تترك مشاكلها الخاصة جانباً، نعم كانت تعلم أن إقترابها منه بهذه الطريقة غير الصريحة في محاولة علاجه ستؤثر على نوعاً ما على حياتها الشخصية، ولكن منذ ثاني أيامها معه يتناول الطعام مع أسرتها، لم تتوقع هذا!

هدأت من نفسها وتناولت نفساً عميقاً ثم التفتت إليه برسمية وستحاول أن تبدأ معه سلسلة طويلة تعلم أنها لن تكون هينة أبداً..

"معلش مكنتش عايزانا نتعطل كده"

"لا بالعكس أنا اتبسطت جداً" ابتسم إليها ليتسلل الجنون بين طيات عقلها من تصرفاته التي أختلفت للغاية عن أمس

"مش لازم تجاملني على فكرة، أنا عارفة قد إيه أنت مشغول ووقتك ضيق"

"مش مشكلة، ممكن أأجل مواعيدي عادي"

أدهشتها إجابته، أحقاً تقوم بتأجيل مواعيدك لتقوم بزيارة بيتنا المتواضع، يا لك من كريم!! وغد!! وغد يتلاعب بأعصابها وبما تعرفه عنه ولن ينجو منها أبداً..

"غريبة! أنت امبارح مكونتش طايقني، دلوقتي عادي تأجل مواعيدك علشان فطار مع بابا وماما.." حدثته بسخرية

"مين قال إني مكونتش طايقك؟" التفت إليها بإبتسامة رائعة لو رآتها أي إمرأة أخرى لا تعرف حقيقته لكانت وقعت فريسة لها دون تفكير

"نسيت.. أنت قولتلي إن مشروعي مرفوض" ضيقت عينيها وهي تنظر له وتتفحصه بعناية بينما التفت إليها لوهلة وقد كره عدم معرفته للون حدقتيها الصافيتان

"بلاش قلبك يبقى أسود أوي كده، المشكلة بس إنك جيتيلي في وقت مش مظبوط" حدثها بثقة وبنبرة هادئة لتقسم أنها لولا رؤيتها لما يفعله بالنساء لكانت صدقته!!

كاذب لعين وممثل مخضرم ولن تصدقه أبداً!! ماذا وراء كل ما يفعله اليوم؟ عليها أن تعرف وبسرعة!

"مظنش إن راجل أعمال ومهندس شاطر زيك يغير رأيه بالسرعة دي ما بين ليلة وضحاها! بجد فيه حاجة غريبة حصلت من امبارح للنهاردة" حدثته بسخرية شديدة وهي تؤكد له أنها لا تُصدقه

"تقدري تقولي فكرت بهدوء في الموضوع اللي عرضتيه عليا ولقيته هينفعني في حاجات كتير، وأنا أكيد مش هاخد الفكرة وأروح أنفذها لوحدي مع إني أقدر على ده.. ما دام دي فكرتك يبقى أكيد مش هاروح أعمل ده من وراكي"

"ده بيلف ويدور وبيبعد عن الموضوع" يا لمكارم أخلاقك أيها الوغد! فكرت والإستفزاز يتملكها ولكنها هدأت تماماً

"بس والله أنا كمان مبسوطة إنك اتبسطت النهاردة بموضوع الفطار ده، وأظنك كمان دلوقتي عرفتني كويس أنا وأهلي" كانت تُرمي إلي ليس هناك ما يجعله يقلق في حقيقة أمرها لينظر لها بملامح متهللة

"أنا مكلمتش غير باباكي، حتى مكلمتكيش قد ما كلمته" حدثها ورغماً عنها حلقا حاجبيها في تعجب "لسه محتاج أعرف عنك حاجات أكتر

"لا والنبي إيه!! هو مين فينا اللي عايز يعرف عن التاني حاجات! صبرني يارب" صرخت بعقلها لتبتسم له برسمية

"زي إيه مثلاً!" كانت سؤالها له بمثابة تأكيد في نظره بأنها لاتمانع التحدث عن نفسها بينما همست هي لنفسها "خليك ورا الكداب"

"زي أختك، أصحابك، شغلك!"

"أختي مالها، في سنة رابعة أهى السنادي في كليتها، وأصحابي من الشغل كتير جداً، وأنتمتي هبة أخصائية نفسية زيي، شغلي أنت تعرفه وحكيتلك عنه" أخبرته ليومأ بإهتمام "وأظن بابا أنت اتكلمت معاه كتير النهاردة بنفسك" همهم بإهتمام "بس اشمعنى يعني بتسأل الأسئلة دي؟"

"يعني، ممكن نكون أصحاب بره الشغل" التفت إليها لوهلة بينما هي كادت أن تقهقه ولكنها أستطاعت السيطرة على تلك الضحكة

"طيب لو هنكون أصحاب، أنا معنديش مانع" أستغلت تلك النقطة جيداً "بس أنا فعلاً معرفش عنك غير الكلمتين بتوع جوجل" ضحكت في النهاية بخفوت ليلتفت إليها وقد أدرك أنها تتمتع بذاكرة جيدة

"قوليلي عايزة تعرفي إيه؟" رفع كتفاه ثم أخفضهما بمنتهى التلقائية لتتابع هي تلك اللعبة السخيفة

"أصحابك مثلاً.."

"ماليش أصحاب"

"وباباك ومامتك؟ عايش معاهم كده زي ما أنا عايشة مع بابا وماما؟"

"لا، وأظنك عرفتي من جوجل إن والدي أتوفى من قريب"

"أنا آسفة نسيت، ربنا يرحمه" تريثت لوهلة وهي لم تلاحظ أي ملامح للتأثر على وجهه "ومامتك؟" سألته وهي لا تنسى هدفها الأساسي

"هو احنا المفروض هانكمل على طول ولا هنلف ونرجع؟" لم يسأل على الطريق منذ ما يقارب الساعة والآن يسألها، والدته إذن!!

"لا على طول زي ما احنا" اجابته ولم تنسى هدفها "مقولتليش بقى مامتك وأخواتك، ومعرفش حتى أنت مرتبط بحد ولا لأ؟"

"أنا ماليش أخوات، ولا مش مرتبط بحد" ألتفت وكأنه يعيرها الإهتمام ثم سلط نظره على الطريق بينما لم يستطع قراءة ملامحها وهذا ما أزعجه

"ومامتك؟" سألته للمرة الثالثة ليتفقد هاتفه

"كويسة" اجاب بمنتهى الإقتضاب لتدرك هي بداخلها أن هناك الكثير خلف علاقته بوالدته "ثواني" أستأذن منها ثم أجرى إتصالاً هاتفياً لتُفكر هي أنه يكفي إلي الآن أنها بدأت تُمسك بأولى الخيوط واستمعت لنبرته التي بدت رسمية غير متأثرة بأي مما ذكرته له وأنتظرته حتى يُنهي المكالمة والتفتت لتنظر إليه حتى لاحظ أنها تحدق به وليست مجرد نظرة فالتفت هو الآخر إليها

"في حاجة؟" سألها بثقة لتهز كتفيها في عدم معرفة

"غريبة، مالكش أصحاب ولا مرتبط وإجابات قليلة أوي، إيه معندكش حياة شخصية خالص؟" ابتسم ثم نظر إليها "على فكرة دي مش بداية أبداً إننا نكون أصحاب" أخبرته بإبتسامة وهي تجاريه في تلك اللعبة السخيفة

"مش مصدقاني، براحتك" أحقاً!! أهو يرمي الكرة في ملعبها؟!

"أنا مقولتش كده، بس أكيد حد زيك أرتبط أو ليه أصحاب أو قرايب مثلاً أو.."

"الشغل لاهيني مش أكتر، وحد زيي بيركز أوي في شغله لدرجة إنه ممكن ينسى ينام مثلاً" قاطعها والتفت إليها ببنيتيه الداكنتين وكأنه يريد الخروج من هذا الحديث بأي طريقة ممكنة

"ما هو ده مش طبيعي، على فكرة الشغل مش كل حاجة في الدنيا"

"يمكن" مط شفتاه بغير اقتناع

"يعني مثلاً مش بعد يوم طويل في شغلك بتروح لمامتك وتتعشوا سوا، أو أنت وقرايبك بتتجمعوا يوم الأجازة؟"

"لا"

بدأ شهاب في الغضب بعد أن مر بمرحلة الإنزعاج والملل ولكنه تحكم في ملامحه ببراعة أخافت فيروز نفسها، هي لا تصدق حقاً مدى براعته في التحكم بأعصابه وأخذت هذا الصمت لتستغله في التفكير، من أين لها أن تبدأ بحياكة أول خيط يتعلق بوالدته لتسمع منه هو شخصياً نظرته لوالدته وسبب كرهه لها، ألهذا السبب هو سادي مع النساء؟!

"احنا عدينا العاشر من رمضان.. هنمشي ازاي بعد كده؟" سألها ليقاطع حديث رأسها مع نفسها

"هنكمل خمسين كيلو بالظبط وبعدين يمين" لوهلة شعرت بالإمتنان لبدر الدين الذي أختار قطعة أرض لا يصعب الوصول إليها

"تمام"

إلي الآن كل شيء يسير بمنتهى الهدوء، لم ير أنها ترمي إلي شيء مثل نساء كثيرات أعتاد التعامل معهن، لم يتبين بعد ما تريده منه، ولكنه سيحاول بلا محالة..

"أنتي ليه خبيتي على والدك ووالدتك موضوع الأرض؟" انتشلها من أفكارها مرة أخرى

"يعني.. أنا وماهر دايماً اتعودنا إن خصوصياتنا مبتطلعش بره، مش من حق حد يعرف أي حاجة عننا بالذات حاجة زي دي، ولما أتوفى مكنش فيه فرصة أقولهم، أنا بالعافية هبة أقنعتني إني أمشي في إجراءات تغير البطاقة والمعاش وكانت بتروح معايا أساساً"

عقد حاجباه ولم تدرك هي أنه كان يقارن تلك العلاقة بعلاقته بغادة عندما أستمع لها وهي تتحدث بمنتهى الإستهزاء عنه وتقص تفاصيل كل ما حدث بينهما وتلك التفاصيل التي لا توجد بين سوى الرجل والمرأة وحدهما أخبرتها إلي صديقتها بمنتهى السخرية لتلاحظ فيروز إنزعاجه

"يعني مثلاً أنت لو ارتبطت بحد قبل كده، كنت بتروح تحكي لحد تفاصيل شخصية أو مادية ما بينكم؟" باغتته بهذا السؤال لينظر لها نظرة سريعة ثم سلط عيناه على الطريق

"لأ!" اجابها بمنتهى الإقتضاب

"علشان كده مقولتلهومش، الموضوع بالبساطة دي" أومأ في تعقيب على حديثها لتتأكد هي أن لابد وأنه يُفكر بماضي جمعه إما بغادة أو غيرها!

نوعاً ما كلامها يبدو منطقياً، ولكن لا يزال يرتاب بالأمر بأكمله، وهي الأخرى تحدثه بمنتهى الصدق عدا فيما يتعلق بالأرض، هي حتى تريده أن يعرف أن هبة هي أخته غير الشقيقة حتى يتأكد أنها تعامله بمنتهى الصدق

"بس اتبسطت إننا أتكلمنا النهاردة، غير امبارح خالص" أخبرته ليلتفت إليها بإبتسامة كادت تصدق أنه صادق بها

"وأنا كمان"

أخبرها ليزداد تعجبها أكثر، إهتمام، هدوء، كذب، خداع، سنكون أصداقاء، يوزع في ابتسامات، قبوله دعوتها اليوم، حديثه لوالدها، لماذا كل ذلك التغير؟ لن يفعل شخص مثله كل ذلك سوى لأنه يريد شيئاً منها! لابد وأنه يرتاب بأمرها إلي الآن، ولكنها لن تتوقف أبداً عن هدفها مهما كان الأمر!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

"وحشتيني أوي، وحشتيني جداً.." أخبرها شهاب وهو يُمسك بيدها وهي لم تمانعه بينما أبتسمت له تلك الإبتسامة التي لها مفعول السحر إليه وتفقدها بداكنتيه البنيتين كالمسحور

"وأنت كمان" توسعت ابتسامتها وهي تنظر له بدلال "بس اشمعنى حبيت تقابلني هنا النهاردة؟" هزت كتفيها بمزيداً من الدلال

"أنا محتاجلك أوي يا غادة، محتاج كمان اقضي النهاردة معاكي، وكمان يوم نفصل قبل الإمتحانات"

"آه صح عندك حق، أنا خايفة من الإمتحانات جداً.."

"مش قولتلك كذا مرة متخافيش، وبعدين انتي كل سنة بتقولي كده وبتطلعي من العشرة الأوائل!"

"ما أنت دايماً بتطلع الأول يعني" نظرت له بمكر ودلال وابتسمت ليقع هو في عشق تلك التفاصيل أكثر ليبتسم هو الآخر إليها

"لو شديتي حيلك شوية وسمعتي كلامي هتطلعي التانية"

"وليه مش الأولى زيك؟" ضيقت عيناها في مزاح

"أنا مستعد أساعدك بكل اللي أعرفه، ركزي أنتي وانتي تطلعي الأولى" أخذ ينظر لها ولم يلاحظ أنها حتى لم تكترث بإحتياجه الذي عبر عنه منذ قليل..

"غادة أنا كنت عايز أخد رأيك في كذا حاجة النهاردة ورأيك يهمني أوي ، وكمان علشان انتي أقرب حد ليا في الدنيا دي كلها"

"احكيلي طيب"

"أنا جايالي فرصة حلوة أوي، وهتكون أحسنلي مادياً كتير، بس مستقبلها ممكن يكون صعب شوية، وفي نفس الوقت قدامي فرصة تانية بس هتحتاج تعب أكتر ولكنها مضمونة.. مش عارف أختار انهي واحدة"

أخبرها لتحدق هي بمنظر الغروب الخلاب الذي يجلسان أمامه وهمهمت في فهم ثم شردت في تفكير لثوانٍ وبعدها التفتت إليه

"أظن إنك طموح وذكي وشاطر، خليك مع الفرصة الأولانية" أخبرته ليعقد حاجباه وساد الصمت بينهما لتشعر غادة بقليل من الملل بينما هو كان يُفكر، أعليه حقاً الإستماع لها ويقبل بما عرضه عليه وليد أم لا!

"غادة.. هو انتي هاتعملي إيه بعد ما امتحانتنا تخلص؟" سألها لتتعجب هي ولكنها اجابته

"يعني.. بابا عايز نرجع مصر شوية فلازم ارجع معاهم"

"ومش هاتيجي هنا تاني؟"

"أكيد هاجي، بس مش قبل الصيف الجاي" أومأ لها ثم التفت بكامل جسده إليها على تلك الأريكة التي كانا يجلسان عليها ليحمحم وهو ينظر إليها بمنتهى الصدق وأقترب إليها أكثر وأمسك بكلتا يديها

"غادة.. أنا.. أنا من يوم ما شوفتك أول مرة في الكُلية وأنا اتشديت ليكي، الموضوع كان إعجاب بس كل ما بنقرب أكتر لبعض بقيت متأكد إني.. بحبك.. أنا بحبك أوي يا غادة ومش هاقدر أكون موجود هنا وانتي بعيد عني"

أخبرها بصدق وبعد صعوبة في نطق تلك الكلمات وأخذ يبحث ببنيتيه في عينيها العسليتين التي انعكس عليها ضوء غروب الشمس على أي إجابة ولكن ملامحها المندهشة لم تعطه أية تفسيرات واضحة.. لم يستطع أن يقاوم كذلك أنفاسها التي شعر أنها اضطربت بعد سماعها لإعترافه الذي حمله بين ثنايا قلبه منذ سنوات وأقترب إليها ليُمسك برأسها مخللاً شعرها بين أصابعه ليُقبلها ولا يدري كيف فعلها ولم يكترث حتى إذا كان يُجيد التقبيل أم لا، وكانت تلك اللحظة له مثل حلم بعيد المنال ولكنه فعلها وهو لأول مرة يُقبل فتاة في حياته بأكملها..

طالت القُبلة مثلما طالت وأخذ وقته بأكمله بألا يبتعد عنها وهو من تمنى أن تبادله نفس تلك المشاعر، ابتعد عنها ببطء ثم نظر إليها مبتسماً لتبادله الإبتسامة في صمت وازداد دلالها ليخفض هو يده لتعود مجدداً إلي يديها وتشابكت أصابعهما ليشعر هو بالخوف الشديد ولكن تبدو من تصرفاتها وعدم رفضها إليه أنها تشعر مثله أيضاً..

قربها إليه لتتوسد صدره وأخذ كليهما يشاهدان الشمس تغيب في أعماق البحر، ليغيب معها عقله في عشق لم يكن يدري أنه لم يكن بعشق صادق منذ البداية..

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

"ها.. شايفها هاتنفع؟" سألته مضيقة عيناها وهي لا تتحمل هذا هواء آب الساخن الذي يُبعثر غُرتها التي حاولت أن تضعها خلف أُذنيها ولكن دون فائدة

تصنع شهاب النظر إلي الأرض وبنظرات خاطفة تحولت بعدها لنظرات مطولة تفقدها، دون مساحيق تجميل، دون كلفة مبالغ بها، فقط بنطال أسود يعتليه قميصاً قطنياً أسود اللون وحذاء رياضي بسيط، شعرها الطويل بني اللون الذي يتناغم مع الرياح بطريقة أزعجته أكثر من إزعاج تلك الشمس اللعينة، وأمّا عيناها التي تدفعه للغضب فقط لعدم معرفته ما لونهما جعلته ساكناً لا يتحرك ولا يستطيع سوى أن ينظر إليها أكثر!

أهي حقاً مثلما تدعي؟ أهناك إمرأة تُفكر مثلها؟ لا تريد منه سوى مشروع خيري؟ كان يستطيع بمنتهى السهولة أن يُخبر والدها بحقيقة الأمر ولكن لماذا لم يفعل؟ تلك المرأة يبدو وأنها تخفي أمراً ما!! لا يوجد إمرأة على وجه الأرض إلا ولها دافعاً خفياً.. ولقد تأكد بنفسه مرات ومرات!!

"شهاب" نادته بعد أن لاحظت شروده بها لتتحول ملامحه للجدية

"هاتنفع" اجابها ثم توجه ليعود لسيارته فتبعته هي الأخرى ليدلفا السيارة سوياً وكاد أن يشرع في القيادة ولكنه نظر إليها وهي تبدو متأففة من تلك الحرارة لتعكس جديلتيها للأعلى على هيئة كعكة ليُطالع تفاصيلها في صمت تام، بداية بشعرها وعنقها ونهاية بملامحها التي لم يجدها بأي إمرأة أخرى من قبل.

التفتت إليه لتجده ينظر إليها لتضيق ما بين حاجبيها ولم تحبذ نظرته تلك لتحمحم ثم تحدثت إليه

"هو ممكن نبقى نقف عند أي بنزينة أو مكان نجيب مياة؟" سألته بنبرة رسمية ولم يظهر بها حتى دلال النساء ولا أية معاناة وكادت حتى نبرتها أن تكون خشنة قاسية

"ممكن" أومأ لها ثم شرع في القيادة مرة أخرى لتلمحههي بطرف عينيها فمنذ قليل كان يتفقدهابنظرةغريبةوالآنهوصامت تماماً ولا يتخلل صمته سوى مرات من تثاؤب لم تدرك أهذا من فرط ملله بصحبتها أم أنه يريد النوم حقاً.

لقد تعاملت مع مرضى سيكوباتيين، ولكن جميعهم كانوا على علم بأن لديهم مشكلة، كانوا على دراية أنها تحاول أن تطور من سلوكهم وتساعدهم بأن يشعروا بالمسئولية تجاه كل ما يفعلوه، توقظ بداخلهم الدوافع الدينية، ولكن جميعهم بالنهاية عرفوا الحقيقة، منهم من كان ساخراً ومستهزءاً بالبداية ومنهم من كان يُدرك أن به أمر ما ولكنه قرر ألا يستجيب، بينما شهاب الجالس بجانبها بطريقته تلك يبدو وأنه لن يستجيب أبداً..

حاولت استعادة رباطة جأشها، طردت العديد من الأفكار التي تثبط عزيمتها تجاه أمر علاجه وأستمدت الثقة بعد أن تذكرت شغفها اللانهائي بإحداث التغيير في حياة الناس ثم التفتت إليه وقررت أن تحدثه

"شهاب.. أنت إيه هدفك في الحياة عموماً؟" سألته ليلتفت إليها أثناء قيادته ثم أعاد نظره على الطريق وتريث كثيراً قبل إجابته على سؤالها الغريب الذي استغربه

"هدفي إني أكون ناجح في شغلي وده أنا حققته" أجابها بنبرة لم يظهر بها أية مشاعر، بالطبع لن يُظهر.. ولو حتى بعد سنوات!

"ومالكش أهداف شخصية؟" 

"لا" 

شعرت بالمزيد من الإنزعاج لعدم حصولها على طريقة لجذبه في حوار أطول قد يُحدثها به بكلمات غير مقتضبة ولكنها للمرة الألف ستحاول

"هو أنا ممكن أقولك حاجة؟"

"طبعاً اتفضلي"

"أنت قولتلي إننا ممكن نكون أصحاب مش كده؟" حدثته سائلة بنبرة مرحة

"طبعاً ومنكونش أصحاب ليه؟" التفت إليها مُبتسماً تلك الإبتسامة الساحرة الخادعة 

"لوحبيت تكلمني في أي وقت أنا موجودة وهاسمعك.. وأحب أطمنك إني بقالي عشر سنين في المجال بين تدريب وممارسة وكلامك إستحالة يطلع لحد" أخبرته ليُطلق ضحكة خافتة ساخرة 

"آآه.. ده شغل دكاترة نفسيين بقى.. إيه، شايفاني مجنون ومحتاج العلاج؟" سألها بسخرية

"لاطبعاً أكيد مش مجنون.. وكلنا بنحتاج نتكلم مع حد يفهمنا، وعلى فكرة مفيش حد معندوش مشكلة، ومظنش حد ذكي زيك ومتعلم وواخد دكتوراة ودراسات في الإدارة مش فاهم أهمية الأخصائي النفسي"

"آه مهم.. بس للناس اللي عندهم مشاكل.." أدركت من إجابته أنه لا يوجد إحتمال برأسه أنه قد يعاني من خلل ما لا يراه

"عندك حق، بس ياما ناس كتيرة مكنتش شايفة إن عندهم مشاكل وفاقوا بعد فوات الأوان" 

التفت لينظر إليها عاقداً حاجباه وبنيتيه مليئتين بالسخرية والإستهزاء الشديد ولمحت طرف إبتسامة على شفتاه ولكن ملامحه بأكملها عبرت ووضحت الرفض والإستنكار

"وأنتي شايفة بقى بخبرتك الطويلة إن عندي مشكلة وأنا مش شايفها؟" مرة أخرى يسألها لتبتعد عيناها التي بدت كالزمرد إلي الطريق

"فيه بنزينة اهي ممكن نوقف؟" أستأذنت بلباقة لتجده يتجه إلي محطة الوقود وما إن توقفت السيارة حتى ترجلت هي منها وتبعها هو الآخر 

"أنا هتوضى وأصلي الضهر.. أكيد فيه مكان هنا بيصلوا فيه" أخبرته بثقة "وأنا لسه معرفكش يا شهاب علشان أعرف إذا كان عندك مشكلة ولا لأ!" 

تركته وذهبت مُسرعة بعد أن ألقت له هذه الكلمات بهدوء ليتبعها بعينيه في تعجب وزفر بحنق وهو إلي الآن لا يقتنع بفكرة مشروعها، ولا بأي مما تفعله بشخصيتها التي لم يرها في إمرأة سواها ليذهب عقله مُفكراً في إيجاد سبب منطقي ولكنه كان يحتاج للمزيد من القهوة فتوجه لذلك المتجر المُلحق بمحطة الوقود ليبتاع احدى أكواب القهوة..

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

"أنت مقولتلهاش؟" همست نورسين بخفوت

"لا يا ماما، أنا عارف زينة، ممكن تأجل السفر وتفضل جنب أروى"

"بس يا سليم أكيد هتعرف، وممكن تضايق إنك خبيت عليها" نظرت له بزرقاويتين رافضتين

"وأنا شايف إن كفاية عليها اوي اللي شافته من أختها ومامتها ومن حقها تتبسط شوية، لما نبقى نرجع من السفر بقى يبقى يحلها ألف حلال" أخبرها بإنزعاج وتصميم وإصرار على رأيه 

"أنت حر، بس أكيد هتروح تشوف هديل وهتقولها" أنزعج سليم أكثر من ذلك الإحتمال لينظر إلي نورسين عاقداً حاجباه في إنفعال

"مش هاخليها تشوفها" نظر في غير إتجاه عينا نورسين التي اندهشت من كلماته 

"بس مش هايبقى حلو في حقك على فكرة إنك تخبي عليها إن اختها مشلولة وحالتها زفت ورايح تسافر وتتبسط و.."

"ماما أرجوكي!! كفاية بقى.. أنتي عارفة أروى عملت إيه في زينة؟ لغاية قبل الحادثة وهيكانت بتحاول تمنعني إني أساعد زينة، وكانت شايفاها إنها عملت حاجة تستحق إنها تتسجن فيها! دي كلبة ولا تسوى!" قاطعها وبدأت نبرته في الإرتفاع

"سليم حرام عليك البنت تعبانة واهي اخدت جزاءها، ماينفعش تقول عليها كده، دي مهما كانت بنت عمتك وكانت خطيبتك في يوم" زجرته نورسين لينظر لها سليم غاضباً

"بلاش تقاوحوا معايا في موضوع أروى دي بالذات! وياريت تفتكروا إني نظرتي زي ما كانت صح لشهاب والكل كان رافض كلامي واتأكدتوا في الآخر إني صح، بكرة تتأكدوا من كلامي كويس.. اللي زي أروى دي مبتفكرش غير في نفسها وبس وهتشوفوا"

"طب أسكت علشان زينة جاية" أخبرته في همس ليحاول سليم السيطرة على غضبه وهو رافض تماماً أن تكون هناك علاقة بين زينة وبين أختها وبينه هو شخصياً..

لكنه لم ير أن طبيعة زينة ستجبرها على التواجد بجانب أروى دائماً، ولم يكن يُدرك أبداً ما تُفكر به أروى الآن!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

سار في طريقه إلي داخل الحرم الجامعي ومر على ذلك المكان الذي يُدرك أن غادة دائماً تذهب إليه لتناول القهوة مع صديقتها، شعر أنه يريد أن يراها مجدداً بعد آخر لقاء بينهما، لا يدري لماذا إلي الآن منذ يومان لم تعترف هي له بشيء مثلما فعل هو..

ولكنه أحتاج للمزيد من القرب منها ورؤيتها، يشعر أن الوقت يتفلت من بين يديه، أستطاع بأعجوبة أن يُقنع وليد بإعطاءه يومان إضافيان للتفكير بالأمر حيث أنه قراراً لا رجعة فيه، كان يريد أي دعم قد يتلقاه منها حتى ولو بإبتسامتها التي يعشقها..

أقترب ورآها من على مسافة وابتسم كالمسحور لرؤيتها وكاد أن يقترب منها ولكنه سمع ما أوقفه ليسترق السمع فيما كانت غادة هي وصديقتها تتحدث به..

"يا غادة والله حرام عليكي يا بنتي.. أنتي بتلعبي بالاتنين الكورة.. ما ترسيلك على واحد فيهم" حدثتها صاحبتها بنبرة لوم

"أعمل ايه.. أنا اللي حلوة والاتنين بيموتوا فيا" تحدثت في زهو وغرور شديد ورفعت كتفيها ثم أخفضتهما في تلقائية

"يعني ايه الاتنين بيحبوكي.. وانتي طيب بتحبي مين؟ ما هو مش معقول تقضي ليلة في حضن شهاب وتقوليلي محترم وحنين وحتى ملمسنيش وعمري ما شوفت في احترامه وتقوليلي احلى يوم في حياتي وبعدين تقضي ليلة في حضن هيثم وتقوليلي ده مجنون وتيجي تحكيلي نمتوا مع بعض ازاي!! وبردو تقولي أحلى يوم في حياتي!! مينفعش يا غادة اللي بتعمليه ده" آنبتها صديقتها في عصبية

"يا ساتر عليكي.." تآففت ثم نظرت لها "بصي هو شهاب لذيذ وعسول بس يعني مش عارفة.. مش حساه.. وكمان شكله بيموت نفسه علشان يجبلي اللي نفسي فيه.. على عكس هيثم مثلاً اللي معندوش المشكلة دي، وباباه كمان زي بابايا ونفس المستوى.. أنا بصراحة ميالة أكتر لهيثم.. لما ببص لقدام بشوف نفسي مع هيثم، إنما شهاب ده بتاع الأحلام الوردية وساعتين وأقلب وخلاص، يمكن بستفيد بيه علشان ذكي وشاطر وبيساعدني في الدراسة.. لكن مش شايفة إني ممكن أأقلل من مستوايا علشان فاكرة انه عاجبني.. وساعات أصلاً لما بيبعد مبيفرقش معايا.. بصي!! هو هيثم وخلاص احسن منه!"

شعر بالصدمة الشديدة ولم يستطع حتى تكلمة إستماعه لحديثهما، أهي حقاً كانت تنظر له بمثل تلك الطريقة؟! أكان السبب هو مجرد المستوى الإجتماعي ليس أكثر؟ ولماذا إلي الآن لم تعترف له بما تشعر به بعد أن أعترف لها هو بحبه؟ أكانت تستغله لمساعدتها في الدراسة فقط؟ أهذا كل ما يجمعهما سوياً ولا تحمل له مثل العشق الذي أخفاه بداخله كل تلك السنوات؟

بالطبع لا، هذا مجرد كلمات وثرثرة فتيات.. سيتحدث إليها بعد تلك المحاضرة النهائية.. هي بالطبع لا تربطها مثل تلك العلاقة بذلك الفتى هيثم!! يستحيل!! وإلا لما آتت إليه ولا تنزهت معه ولا درسا سوياً.. لقد شعر بها ورآى الإعجاب في عينيها كلما كانا معاً.. هناك أمراً ليس واضحاً..

لأول مرة بحياته لم يصغ إلي المُحاضر، لم يهتم بدراسته وانشغل عقله تماماً بتلك الكلمات الصادمة التي أستمع إليها تخرج من فم غادة.. لن يترك غيره ليحصل عليها.. هذه هي الفتاة الوحيدة التي خفق قلبه لها، الشخص الوحيد على الأرض الذي جعله ينخرط بل ويُفكر في مصير غير صائب فقط ليكون أمامها رجل ثري.. تحمل تلك العلاقة المشبوهة بوليد وتجارة غير معلوم مصدرها فقط لأجلها.. أكان كل ذلك مجرد سراب يعدو خلفه ليصل إليه؟!

فاق من شروده العميق بالتفكير عندما رآى القاعة خالية بأكملها لينهض في توجس مما هو مقدم عليه وجمع متعلقاته ثم نهض ليبحث عنها، نهض ليتبين أن هناك أمر خاطئ وأن كل ما أستمع إليه كانت حفنة من الأكاذيب..

سار متخبطاً بأفكاره ولا يزال يتعلق بأمل أنها لربما كانت تكذب على صديقته وفقط تتدلل بأن هناك رجلين يريدونها، مشى وعيناه تبحث عن عسليتيها الحيويتين، عن إبتسامتها المُشرقة التي يعشقها، بحث بين سائر وجوه الجميع ولكنه لم يجدها..

أخذ يسير بين التخبط والإحباط وأمل واهي في أنها قد تكون تعشقه ولكنها خائفة، سيبرهن لها أنه يستطيع إحضار كل ما حلمت به يوماً ما، سيخبرها أنه يستطيع إحضار كل شيء لها أكثر من هيثم أو غيره، فقط يتمنى أن يجدها ليُخبرها بأنه يعشقها ولو كان عليه الإنضمام للشيطان نفسه وليس المافيا فحسب، سيفعلها من أجلها!

خلل شعره في توتر وهو يحاول أن يجدها بتلك الأماكن التي تجلس بها ولكن بلا فائدة فعاد مرة أخرى في اتجاه احدى قاعات المحاضرات ليقوم بحضور محاضرة أخرى وسار وقلبه يخفق بجنون ما إن كانت تلك هي الحقيقة، هو يعلم أنها لربما سبقته إلي هناك، ولكن توقف للذهاب إلي دورة المياة، لا يدري لماذا يريد الإختلاء بنفسه بعيداً عن الجميع!

أخذ احدى المنحنيات لإكمال طريقه ولكنه توقف بالقرب من غرفة الخزانات التي يترك بها الطلاب متعلقاتهم عندما أصدر هاتفه اهتزازاً بجيبه ليجد رقماً غريباً وبعد تردد أجابه

"Ciao" 

أجاب بالإيطالية ليجد أن المتحدث يحدثه بالإنجليزية

"Hello, Am I speaking to Mr. Al Damnhori?" 

تعجب من ذلك الصوت النسائي الذي يسأل عنه

"Yes, this is me"

أجابها بالإنجليزية مؤكداً أنه هو من تسأل عنه

"I'm Liza from Foster & partners HR, I would like to say congratulations, your design is selected to rank on the top of our participants, the award as it was announced in the competition will be 500,000 €, we've sent you an email and you'll be able to receive the award on your bank account after you sign the legal documents"

تريثت المرأة بينما وقع شهاب في صدمة أنه للتو قد فاز في تلك المسابقة لأفضل تصميم معماري لواحدة من أكبر شركات المملكة المتحدة، أحقاً هو يملك ما يفوق خمسة ملايين جنيه مصري. هو حتماً يحلم لا محالة!

"Hello, Are you there?"

تعجبت المرأة من صمته الذي طال ليحمحم وقد عاد لأرض الواقع

"Yes, I'm here"

اجابها بأنه لا يزال يتحدث إليها على الطرف الآخر

"Kindly check your email and reply me as soon as possible with the needed signatures and if you need further assistance please call me or send me an email and I'll be happy to help"

أخبرته المرأة بأن يوقع تلك الأوراق الرسمية حتى يستطيع أن يستلم الجائزة على حسابه بالمصرف التابع له، كما أخبرته بأن يتحدث إليها بأي وقت إذا أحتاج المساعدة

"Sure, I will send you the signed documents within one hour"

أخبرها بأنه سيرسل إليها الأوراق الموقعة في خلال ساعة ولم تر المرأة تهلل ملامحه ولا إبتسامته المندهشة بتلك الأخبار التي سمعها

"Thank you, wish you all the best, and congratulations one more time"

هنأته للمرة الأخيرة لينهي المكالمة وبداخله فرحة شديدة، ها هو لا يحتاج إلي وليد، ولا يحتاج إلي أي شيء سوى أن يُخبر غادة أنه يملك الآن الكثير من الأموال، يستطيع الزواج منها الآن إذا أرادت..

دلف بإبتسامة إلي تلك الغرفة التي تحتوي على الخزانات ليضع بها متعلقاته حتى يذهب ويقوم بطبع الأوراق المطلوبة منه لإستلام تلك الجائزة الضخمة ليقف مصدوماً برؤيته لغادة التي جذبت ملابسها بسرعة لتغطي بها نصف جسدها العلوي وابتعد عنها هيثم الذي رآه يُقبلها ويحتضنها بشهوانية تامة..

حمحم هيثم الذي نظر إليه وهو يلتقط أنفاسه ثم نظر إليه بقليل من التوتر من هذا الموقف الذي رآه شهاب به ثم ابتسم إليه وهو يحك رأسه في خجل

"ازيك يا شهاب" حدثه ولكن تلك الصدمة البادية على ملامح شهاب ونظرته لغادة والحزن الذي تعلق بعينيه كان أكبر من أن يلتفت إلي ذلك الفتى المُزعج

"يعني.. يعني كل اللي سمعته كان صح!! يعني أنتي مبتحبنيش؟" تجمعت الدموع بعينتيه وهو ينظر إليها وقد أغلقت أزرار قميصها مرة أخرى ثم نظرت إليه

"شهاب!!" همست باسمه ثم حمحمت ولكنها لم تكترث لنظرته تلك ولا لتلك الدموع بعينيه "أنا.. أنا عمري ما وعدتك بحاجة، وطول عمرنا أصحاب وزمايل وبس!"

"بس أنا قولتلك إني بحبك، طول عمرنا السنين اللي فاتت كنا بـ.."

"أنا مبحبكش يا شهاب، أنت اللي اتخيلت حاجة مش موجودة ما بيننا أصلاً وطول عمرنا أصحاب وزمايل" قاطعته قبل أن يتحدث بالمزيد أمام هيثم "وتقريباً الدفعة كلها تعرف علاقتي بهيثم.. لو أنت فهمت حاجة تانية فدي مشكلتك وأنا ماليش دعوة بأي حاجة أنت كنت بتفكر فيها" أخبرته بتعجرف شديد ثم رتبت من شعرها لتخرج مغادرة لتتركه بصدمته الشديدة، ثم نظر له هيثم بإستهزاء شديد ونصف ابتسامة متفقداً مظهره من أعلى رأسه نهاية بقدميه ليهُز رأسه في إنكار وتبعها دون أن يتحدث إليه!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢


#يتبع...