-->

الفصل التسعون والأخير - الجزء الأول - شهاب قاتم

 


 


- الفصل التسعون والأخير - 

الجزء الأول

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢


~ الرجل الصلب والمرأة الصلبة.. الرجل المتأبي المتعفف المتمنع الذي يغلي في داخله ولا ينطق.. ولا يفصح عن شيء مما يعتمل بقلبه..

وقد تجد اثنين من هذا النوع يتحابان من الداخل دون أن يتبادلا كلمة أو نظرة صريحة أو لقاء.. وإذا تكلما فهما يطرقان كل الموضوعات إلا الموضوع الذي يشغلها..

ومثل هذا الحب الذي يولد مخنوقاً.. يموت غريقاً في النهاية.. غريق الواقع والضرورات وينتهي أمر الاثنين إلى زواج تقليدي عن طريق الخاطبة.. أو الأم أو الأب .. ويفشل الزواج كما فشل الحب.. وينتحر الكبرياء على مذبح الغباء والجهل..

هل يكون هذا حباَّ.. لا .. إنه مزيج من عدم الثقة والحب والخوف والتردد.. وميراث عتيق من التقاليد الميتة..

إنها عفة ضالة ملعونة مثل الحرية العابثة تماماَ.. ونهاية الاثنين الضياع في سلة مهملات واحدة..

(مصطفى محمود)


⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

جلست تتفقده أثناء تناولهما للطعام سويًا وقال بإعجاب:

- يعني اليخت ده بتاعك وعدينا جبنا أكل من واحد من احسن المطاعم في الولاية كلها والحجز فيه بيبقى بصعوبة اوي.. جاية تقدمي على شغل ليه بقى؟

ابتسمت له وهي تتفقد ملامحه الجذابة واجابته بثقة:

- مش معنى إن بابا مدلعني يبقى مبنيش حياة ليا في المجال اللي بحبه.. أنا لسه عارفة واحد عنده اربعة وعشرين سنة حب يدخل مجال بحاله في شركة أهله وباباه وخاله وجده وافقوه.. إيه رأيك في الكلام ده؟

ابتسم لها وهو ينظر لها معبرًا بعينيه أنه فهم ما ترمي إليه فهي تقصده تمامًا لتردف قائلة:

- شكلك طيب يا سيف.. وشكلك كده مش هتكون مديري بس.. ده لو مش هترفض بسبب قعدتي معاك النهاردة

رفع حاجباه في تعجب ليتسائل مضيقًا ثاقبتيه وسألها:

- وإيه الثقة الجامدة دي اوي؟

رفعت كتفيها ثم اخفضتهما كدلالة على التهاون واجابته:

- ماما مربياني على الصراحة وبابا عودني اني اوصل للحاجة اللي عايزاها.. تقدر تقول طبع..

قلب شفتاه في اعجاب بكلماتها ليباغتها متسائلًا بإبتسامة بها قليل من المكر:

- وانتي عايزة ايه بالظبط؟

ابتسمت له بثقة شديدة ثم اجابته:

- يعني.. نفس اللي المدير التنفيذي الجديد عايزه وساب المقابلات علشان يتعرف على بنت في الاسانسير..

توسعت ابتسامته إليها وهو يهمس لها:

- لا فعلا اختياري كان صح من الاول.. قولت إنك هتفهميني..

أومأت له بالتفهم ثم احتست من كوب العصير بعض الرشفات وتحولت ملامحها للجدية الشديدة وتخلت عن دلالها وابتسامتها المشرقة وبدت عينيها في ضوء الصباح عسلية مما جعله يقع في عشقهما على الفور وترقب كلماتها التي اوشكت على التحدث بها:

- طيب.. بص يا سيف بدر الدين.. لو انا عجبتك فأنت كمان عجبتني.. بس أنا مبحبش اللف والدوران، ومع إني متربية طول حياتي هنا الا إن ماما شربتني العادات بتاعتنا وكمان الدين يعني هتحس إني مصرية اوي.. فأنا مش هخبي عن أهلي حاجة.. موعدكش

عقد حاجباه في تعجب ليتسائل:

- وهو فيه حد قالك تخبي عنهم حاجة؟

ابتسمت له ابتسامة لم تقابل عينيها وردت مجيبة بمنتهى الثقة:

- لا محدش يقدر يقولي اعمل إيه ومعملش إيه.. بس بوضحلك الدنيا هتبقى ماشية ما بينا ازاي.. وعلى فكرة..

تفقدته بنظرات جعلت خفقات قلبه تتعالى تأثرًا بتلك المقلتين بصحبة خصلاتها المتطايرة بفعل النسيم الهادئ لتهمس له بإبتسامة حقيقية متحدثة بالإنجليزية:

- لقد اعجبت بك، منذ الوهلة الأولى التي تحدثت بها إلي.. حتى قبل أن أعرف من أنت! 

اعجبته جرأتها الشديدة بل وبساطة تعبيرها عما تشعر به ورمقها متابعًا ملامحها التي شعر وكأنها فريدة من نوعها لم يرها بفتاة قط سواها ليستمع لها وهي تُكمل:

- وبما اننا عدينا بالمقدمة بتاعة روعة البدايات اللي بيقولوا عليها شوف هتيجي وتكلم اهلي امتى لإني مش هافضل أشوفك من غير مسمى ما بيننا كده كتير.. وعلى فكرة أنا مكونتش بفكر لا في ارتباط ولا حوارات من دي بس شوفتك بقى واللي كان كان.. لو موافق تمام.. 

لمعت عينيه وهو يتابع تفاصيلها التي تجعل اعجابه لها بداخله يزداد دون تريث وكأنه يندفع بكل ما به نحوها ليبتسم بهدوء وقال بنبرة ساحرة:

- ولو مش موافق؟

تنهدت وهي تنظر له ثم قالت:

- يبقى خسرت حد عجبني والحياة هتكمل وكل واحد فينا هيعيش حياته، وفي يوم هتفتكر المجنونة اللي عزمتك على الغدا من أول يوم وهتضحك عليها بينك وبين نفسك كل ما تفتكرها! بس هو ده أنا، ماليش في العلاقات المعقدة.. عندي حساسية منها شويتين! 

عبث في لحيته بأنامله مُفكرًا بكلماتها ثم سألها:

- دي حساسية زي اللي بتيجي من الفراولة كده؟

ابتسمت على مزحته السخيفة ثم اجابته بمنتهى الصراحة:

- لأ.. حساسية زي اللي بتيجي من أب وأم متطلقين من يوم ما عرفت يعني إيه بابا وماما ولغاية دلوقتي اصحاب اوي.. تشوفهم من بعيد تقول إنهم بيموتوا في بعض وتقرب تلاقي ماما رافضاه بمنتهى الإحترام وهو بيحاول يرجعلها بقاله أكتر من عشرين سنة وهي مش موافقة! عقد وكلاكيع كفاية والله تعبت.. هما مش وحشين بالعكس دول هما الاتنين اجمل حاجة في حياتي بس تعبت انهم بعيد عن بعض وهما يستحقوا يكونوا سوا.. 

ابتسم لها بعذوبة ثم حدثها بتساؤل:

- تمام.. خلصتي كلامك؟

أومأت له بالتفهم لينظف حلقه وتحدث بثبات وجدية:

- زي ما عجبتيني وزي ما فعلًا كنت قاصد افتح معاكي كلام، زي ما عجبني صراحتك معايا وشخصيتك.. أنا كمان هصارحك..

تنهد وشرد قليلًا بإبتسامة ثم استطرد:

- أنا كمان أهلي قريب منهم جدًا.. مش بس ماما وبابا وأختي.. لأ احنا عيلتنا كبيرة جدًا وكلنا قريبين من بعض.. تيتا وجدو وخلاني وأولادهم ومراتتهم وعمتي وجوزها وولادها وعمات بابا تحسي بيتنا دوشة كده على طول لغاية افتكر من فترة قريبة اضطرينا نوسع الفيلا علشان تكفينا احنا والناس اللي بيساعدونا..

تفقدها بثاقبتيه وتابع بمصداقية ونبرة حنونة:

- أنا أهلي ليهم فضل كبير عليا.. مش هاقدر اخد خطوة رسمية إلا على الأقل وأنا بابا وماما معايا.. جدو كبر اوي ومش عارف هيقدر يجي معانا يقابل باباكي ولا لأ بس لازم اعرفهم الأول! هنا مفيش غير خالي وعم بابا زياد.. غير كده الباقين كلهم في مصر.. لازم اعرفهم إني هاخد خطوة زي دي..

همهمت في تفهم ثم سألته:

- ويا ترى أنت شبه مامتك ولا باباك؟

توسعت ابتسامته ليزداد جاذبية جعلتها تلعن نفسها ليجيب مستفهمًا:

- اشمعنى؟ 

قلبت شفتاها واجابته بإبتسامة:

- يعني سؤال عادي.. 

اجابها وقد لانت شفتاه متفقدًا اياها في اعجاب واضح:

- أنا شبه جدي.. أبو بابا.. أبو ماما مات وأنا كنت صغير مفتكرهوش أوي.. وانتي شبه مين؟ باباكي ولا مامتك؟

ابتسمت ورفعت احدى حاجبيها في ثقة واجابته:

- شكلًا ماما، تفكيرًا بابا.. 

رفع حاجباه متعجبًا وتمتم ليقول:

- شكل كده هعاني مع باباكي لو بنفس تفكيرك ده!

أومأت بالرفض ثم عقبت:

- ده زي العسل، متقلقش، هو بيخاف عليا زيادة عن اللزوم بس أنا همهدلك الطريق.. عيب وراك راجل زي ما بيقولوا في الأفلام القديمة!

تبادلا الإبتسامات وأكملا موعدهما ليبدأ كلًا منهما بالتعرف على الآخر، وأكثر ما جذب كلاهما لبعضهما البعض هو الصراحة الشديدة بينهما، طاقتها التي لا تنتهي، وهدوءه وثقته الشديدة التي ماثلت خاصتها! 

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

استمعت لإغلاق باب منزلهما وقبل أن تنهض لترى ما الذي جعلها تتأخر كل هذا الوقت وجدتها تهرول نحوها وهي تعانقها بشدة ثم قالت:

- قبلت يا روزي قبلت..

تعجبت عاقدة حاجبيها عمل ماذا الذي يُقبل فيه شخص من أول يوم، ويا ترى تلك اللمعة بعينيها وسر سعادتها الشديد لتقول:

- مبروك يا حبيبتي ربنا يسعدك دايمًا يارب ويعملك اللي فيه الخير..

نظرت لها بفخرٍ وابتسامة ثم همست لها:

- شغل وعريس في يوم واحد.. أظن أنا كده مفيش بنت تفرح اهلها فرحتين في يوم واحد بالشكل ده!

تعجبت بشدة مما استمعت له وسألتها:

- عريس ايه يا كامي، ثانية بس علشان المواضيع دخلت في بعض.. ايه اللي حصل فهميني؟

اجابتها بثقة شديدة وقالت:

- بابا زمانه جاي حالًا.. علشان احكي مرة واحدة.. صوته كان بيقول يا خناق بس هديته كده لغاية ما يجي وهحكيلكوا سوا! 

انتظرت مجيء والدها إلي أن آتى وقصت عليه كل ما حدث ولكنها لم تذكر لا اسم الشركة ولا اسم هذا الرجل الذي قابلته لتتو ليتحدث "شهاب" في النهاية بإنزعاج:

- جواز ايه ويتقدملي ايه.. انتي لسه صغيرة واحنا منعرفهوش.. أنا مش موافق على الكلام ده! 

نهض وكلتاهما تتفقداه ليقول بنبرة خلت من المشاعر مودعًا اياهما:

- تصبحوا على خير.. 

نهضت لتوقفه وهي تقول:

- استنى بس يا بابا.. متاخدش الأمور قفش كده.. ده أنا حتى رفضت إني اشوفه تاني ولا حتى نتكلم غير لما يجي ويقابلك وزي ما هو كبر أهله أنا كنت مكبراك قبل أي حاجة.. ولا أنا غلطانة يعني علشان حكيت اللي حصل؟

نادته "فيروز" بنبرة مُرهقة وهي لا تزال هي الأخرى تحمل آثار الصدمة بين تخرج ابنتها وعملها وأمر خطبتها الذي تتحدث به:

- استنى يا راي.. كامي بتتكلم صح! يجي الولد ويتقدم اهلًا وسهلًا.. هي عرفت حد وجت صارحتنا يعني معملتش حاجة غلط!

التفت نحوها بملامح مليئة بالإعتراض الشديد ثم هتف بها بإنفعال هاكمًا:

- طبعًا.. هتتلمسيلها العذر وأنا اللي وحش مش كده!

لأول مرة تستمع ابنته لطريقته تلك في المحادثة خاصةً بينه وبين والدتها لتجداه كلتاهما يتحدث بغضب:

- لو هي بتتكلم صح.. مين ده، ومش مقتنع أنا بحوار انهم من أول مرة كده خلاص عايزين يتخطبوا.. وشركة إيه دي اللي راحتها، وليه مش عايزة تقولي اسم الشركة ولا اسمه؟

اقتربت ابنته منه وهي تهمس بدلالها المعتاد:

- يا بابا ما أنت هتعمل تحرياتك وهتحسسني بحصار، يعني مش واثق في كامي بنتك حبيبتك!

رمقها بإنزعاج شديد ونظرات اخافتها لأول مرة تراها منه لتجد نفسها تلقائيًا تتقهقر للوراء بينما تحدث بلهجة اخافتها:

- كلها مسألة وقت وهاعرف كل حاجة! ولغاية ما أعرف اسمه وكل حاجة عنه وتقوليلي انسي إني موجود زي ما روحتي اخدتي قرارك من ورايا.. غدا وخروج وكل ده وأنا فاكرك أتأخرتي لسبب تاني! أنا غلطان إني خايف عليكي.. متستهليش! 

اندهشت كلتاهما من طريقته ولأول مرة يجعلها تبكي لترمقه في حسرة وانكسار وفرت مبتعدة عنه للداخل حيث غرفتها بينما زجرته "فيروز" بشدة:

- أنت ايه اللي أنت عملته ده؟ أنت عايز تبوظ كل حاجة بكلمتين منك! نسيت فجأة انتو قريبين لبعض ازاي.. حرام عليك تكسر فرحتها كده.. حتى لو واحد مش كويس مينفعش تتصرف كده.. ده يخليها تكرهك أنت مش هو حتى لو طلع أسوأ واحد في الدنيا! اتفضل ادخل اعتذرلها وصالحها! 

نظر إليها بكبرياء شديد ولم يتأثر البتة ثم تحدث بنبرة فارغة من المشاعر:

- لا هي اللي غلطانة مش أنا! 

ابتسمت له بخزي ثم همست: 

- أنا هاروح أشوفها.. إنما أنت، موقف زي ده هتاخدوا عليك طول عمرها ومش هتنساهولك! 

شعر بالتردد بداخله، هل يذهب ويتركها؟ لقد بالغ معها وهو لتوه يدرك فداحة ما فعله، ربما عليه إصلاح الأمر بسرعة وإلا لو كانت تشبه والدتها فربما ستسامحه بعد شهور على ما فعله وهو لا يملك ذرة واحدة من تحمل لأن يخسر واحدة منهما في هذا العمر الآن ولقد خسر واحدة بالفعل ولسنوات لم يستطع استعادتها!

زفر محاولًا تدارك غضبه وفكر في الكلمات التي نطق بها ليجد أنها أسوأ ما قد يقوله والد لإبنته! حسنًا يتمنى بداخله أنها ستكون متسامحة عكس والدتها!

توجه إلي غرفتها ليقف بجانبها متريثًا لدقيقتان ثم طرق الباب لتأتي "فيروز" بعد عدة لحظات ثم اخبرته:

- مش عايزة تشوفك! 

همس لها بلهجة آمرة:

- أخرجي وسيبيني معاها!

تفقدته على مضض ونظرات مشمئزة توجهت نحوه مباشرة بينما قابلها بملامح فارغة من المشاعر تمامًا لتتوجه للخارج ودخل مغلقًا الباب لتنظر له ابنته بغضب وملامح متأثرة بقليل من البكاء ثم حدثته بلذاعة:

- ابتعد عني.. لا أريد رؤيتك! 

تنهد وهو يتفقدها في تصميم ثم تحدث دون الإكتراث لما تريده:

- لقد فقدت واحدة منكما بالفعل، لم أكن أتصور انني سأفقدك بهذه السرعة!

أشرأبت بعنقها نحوه ثم صاحت به حانقة:

- أنت أناني، متملك، وتبالغ في حمايتي، ولا تكف عن فعل كل ما تفعله.. الآن فقط اعرف لماذا لا تريد والدتي العودة إليك!

استمرت في النظر إليه بشراسة ليمط شفتاه ثم عقب قائلًا:

- هذا كان مؤلمًا..

رفعت احدى حاجباها في اعتراض ثم ردت معاتبة اياه بنبرة متحفزة:

- وما تفوهت به منذ قليل كان مؤلمًا أيضًا.. هذا ما تستحقه بعد أن آلمتني بكلماتك!

هز رأسه بالموافقة ثم اقترب آخذًا خطوات نحوها وهو يقول:

- حسنًا كلًا منا آلم الآخر.. هل نحن متعادلان الآن؟!

لاحظت اقترابه الذي يزداد في اتجاهها بخطواته المتريثة لتوقفه بحزم:

- أرجوك لا تقترب!

نظر لها بقليل من المُزاح ثم سألها بصوت مرح:

- لم يتبق لي الكثير من الوقت معك.. حيث أنك ستتزوجين علي أن استمتع بكل وقتك! هذا أقل ما يُمكنك تقديمه لي.. هيا اخبريني عنه، من هو؟ هل يعيش هنا منذ كثير؟ أريد أن أعرف التفاصيل! 

ضيقت ما بين حاجبيها وهتفت به بنبرة مغتاظة:

- مرحك لن يُصلح الأمر.. ولن أخبرك من هو حتى يأتي إلي هذا المنزل.. وأرجوك لا تفعل مثل ما فعلت منذ سنوات.. أنا لست غبية.. أنا اعرف جيدًا أمر تلك التبرعات التي قمت بها للجامعات التي قدمت بها! لقد ورثت ذكاءك أبي!

تجعد جبينه ثم توسعت ابتسامته وأردف بفخر:

- لهذا الأمر اعشقك كامي..

نظر لها بإعتذار اتضح على ملامحه ولقد تمرن كثيرًا أن يدعي الملامح المناسبة في المواقف المناسبة خلال سنوات عدة وهمس بمصداقية:

- أنا آسف.. أنا بس حسيت إنك فجأة هتروحي مني.. انتي عارفة غلاوتك عندي قد ايه! اتعصبت ومكونتش حاسس أنا بعمل إيه!

أشاحت بوجهها عنه في دلال مصاحب للإنزعاج منه ولا زالت عاقدة ذراعيها بينما غمغمت:

- حسنًا.. 

اقترب ليجلس على الفراش أمامها ثم سألها:

- مش ناوية بقى تقوليلي اسمه ولا اسم شركة اهله ولا أي حاجة تصبرني كده؟ 

نظرت لها بإبتسامة رافعة احدى حاجبيها:

- واسيبك تطلع فيه عيوب الدنيا وفجأة تفركشلي الموضوع! انسى يا حبيبي.. لما يبقى يجي هنا هو وأهله ابقى اسأل عنه واعمل تحرياتك.. أنا عارفة كويس إنك مبتطيقش زمايلي الولاد .. هتيجي كده في ثواني تطيق واحد عجبني! استحالة!

ابتسم بغيظٍ شديد لتلاحقه مسرعة:

- أرجوك لا تسأل عنه.. احترم صراحتي معك.. لقد اخبرتك بكل شيء بمنتهى الوضوح.. لا تحزنني أبي أتوسل لك! 

تنهدت لتهتف به بمزيدًا من التوسل:

- إنه يبدو رجلًا جيدًا بحق.. أرجوك لا تفسد الأمر!

تفقدها مليًا وشعر بالتردد بداخله بين الإستجابة لمعرفة من هو وبين فعل ما تريده ثم تحدث في النهاية بقلة حيلة:

- حسنًا.. ولكن لم اعرف كامل التفاصيل.. أم أنها حصرية لوالدتك فقط؟

توسعت ابتسامتها له ثم هتفت به بحماس:

- سأخبرك مرة أخرى.. وليس هناك الكثير على كل حال..

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

بعد مرور اسبوع. .

نظر له في حالة من الدهشة الملازمة للصدمة الشديدة ثم غمغم متسائلًا:

- جواز إيه؟ جواز إيه يخربيتك؟ 

أردف والده بنبرة يتضح عليها الإرهاق:

- سيبه بقى يا سليم.. أنا كنت متجوز قده متجراش حاجة يعني..

التفت نحوه بمزيد من الإندهاش وأردف بنبة منزعجة:

- يا بدر الكلام ده كان اكتر من خمسين سنة.. وبعدين رايح يجيبلي واحدة من امريكا! ضاقت عليه الدنيا في مصر!

ابتسم "سيف" وهو يلاحظ اقتراب جدال وشيك بينهما وقال:

- حبيت اغير شوية ونجدد بدل عيلتنا اللي بتتجوز من بعض دي واجيب حاجة استيراد.. 

رمقه والده بمزيد من الإنفعال وعدم قبول لما يقوله بينما ضحك جده بخفوت على ما قاله وابتسمت والدته "زينة" في سعادة بأن ابنها قد كبر والآن يريد الزواج ليزجره والده بنبرة حادة:

- مفيش جواز من واحدة منعرفهاش كده من برا.. أكيد طباعها غير طباعنا..

نظر له الجميع في استياء ليقول "سيف" متهكمًا:

- طباع!! دي مجنناني.. دي مقفلة اوي ولما بكلمها في الموبايل مصممة يا نروح ونقابل والدها ووالدتها يا إما مفيش علاقة من اساسه..

همس "بدر الدين" بخفوت:

- جدعة! 

التفتت له زوجته بإبتسامة مشرقة ثم تحدثت إلي ابنها:

- وماله يا سولي ما نروح ونتعرف عليهم.. والبنت واضح مستواها كويس، وكمان من البداية كانت واضحة معاه.. نروح ونشوف الناس ولو حصل قبول نقرا فاتحة يعني ونحدد ميعاد الخطوبة!

عقب على حديث والدته بإنزعاج:

- يا سلام! وهو يعني لازم نسافرلهم علشان نتعرف عليهم! ما يجوا همّ مصر، إيه ملهومش أهل هنا خالص.. 

تنهد والده بإرهاق وأردف بنبرة خائرة القوى:

- الأصول يا حيلتها يا ابن الكلب.. وبعدين ما قالت أهلها ماتوا.. نعرفهم ونسأل عنهم ونزورهم ونشوف الناس دي..

نهض بصعوبة متجهًا نحو غرفته:

- تعالي يا يا ابن حيلتها احكيلي عنها شوية هي واهلها واللي عرفته عنها.. 

نهض "سيف" في تأهب نحو جده ليساعده بينما اندهش "سليم" الذي لم يعجبه ما يفعله والده واتجه كلاهما ليذهبا لغرفته بينما تحدث بصوت مسموع عندما تريث لبرهة:

- ابقى قول لأبوك إننا هنروح نخطبهالك الجمعة الجاية.. نسافر الخميس والجمعة نبقى عندهم.. هحاول استحمل السفر علشان خاطر عيونك ياض..

ابتسم له بعذوبة ثم قال بإمتنان:

- ربنا ما يحرمني منك يا جدو..

أكمل كلاهما طريقهما نحو غرفة "بدر الدين" بينما نهض "سليم" ليتبعهما وهو يُصيح مغلوبًا على أمره:

- يا بابا.. استنى بس يا بابا.. خطوبة إيه اللي بالسرعة دي؟

صاح بمشقة من على مسافة ثم قال:

- اخرس يا حيلتها.. متنكدش على الواد!

همس نحو حفيده بإبتسامة متسائلًا:

- احكيلي يالا.. إيه اللي عجبك في ست كاميليا دي خلاك تتشعلق فيها في ثواني؟

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

بعد مرور يومين. . .

انتظراجابتها على مكالمته بفارغ الصبر إلي أن فعلت وآتاه نبرتها التي تحمل بعض الإنزعاج:

- وأخيرًا.. سيف بدر الدين يحدثني.. يا تُرى هذا لتحديد موعد مع والداي أم أنك مثل العشاق التافهين الذين يريدوا التحدث ببعض التفاهات الرومانسية؟

رفع حاجباه وفي اندهاش ثم اجابها بإبتسامة استشعرتها خلال كلماته:

- ربما القليل من هذا والكثير من ذاك! 

ابتسمت وهي تهز رأسها في إعجاب بإجابته التي لم تُفيد بما تود معرفته فقالت بنبرة حازمة:

- بقولك إيه.. لو على الرومانسيات مش هتلاقيها معايا دلوقتي خالص.. ولو على إنك لسه معرفتش اهلك هيجوا يقعدوا مع أهلي امتى فأظن مكالمتنا ملهاش لازمة! معنديش استعداد اضيع وقت ومشاعر مع حد بيلعب!

همهم في تفهم ثم كرر كلمتها بهمس ساخر:

- بيلعب!! هو مش فيه عيلة طويلة عريضة بتجهز نفسها!

تنهد بغيظ وهو يتذكر محاولات من بكامل المنزل لإقناع والده بمجرد فكرة زواجه ثم أردف:

- الجمعة الجاية يكون مناسب؟ أنا وماما وبابا وتيتا وجدو! حضرتك فاضية ناخد من وقتك ساعة!

ابتسمت بدلال وأطلقت همهمة مطولة من بين شفتيها ثم ردت لتقول:

- هفكر في الموضوع!

زفر بمزيدًا من الغيظ ولكنه أردف متصنعًا التلقائية:

- تمام.. ممكن أقولهم يخلوها بعد العيد الكبير على ما كامي تفضى!

هتفت بإندهاش ثم قالت بتلهف:

- لا لا.. العيد الكبير ايه؟! وبعدين كنت بتدلع عليك يعني..

ابتسم بفخر وعقب بنبرة منتصرة:

- أيوة كده اظبطي!

لم ترقها تلك الكلمة لتتسائل بجدية:

- ايه اللي اظبط ده! ما تتكلم كويس..

اطلق زفرة متهكمة وقال بثقة:

- ما احنا بنتدلع بزيادة وأنا اكتر حاجة شدتني فيكي انك مش زي باقي البنات!

تناولت نفسًا مطولًا ثم زفرته ببطء وغمغمت بتحفز:

- ما أنت اللي أتأخرت على ما رديت عليا.. اتدلع براحتي.. مش دخلت دغري معاك، سيبني اعيش دور البنت شوية..

فكر قليلًا للحظات بكلماتها ليهمس بقلة حيلة:

- شكلي هتعب معاكي اوي.. من اولها حاسس إن المواضيع بتخرج من ايدي وانا مش متعود على كده!

ردت بنبرة منتصرة:

- مش أنت لواحدك يا سيف.. غيرك وقعوا برضو وواقعة وحشة اوي..

لانت شفتاه بإبتسامة حقيقية وحدثها شاردًا في ملامحها التي لم تغب عن عقله ولو لثوانٍ منذ أن تقابلا وحدثها بجدية:

- أنا مكنتش اتصور إني اكون عايز أقرب من بنت أو اني اخد خطوة الإرتباط دي بدري، بس مش عارف أول ما شوفتك إيه اللي حصل وخلاني عايز اعرفك وأقرب منك بأي طريقة.. 

قضمت شفتاها وهي تتذكر تلك اللحظة التي بدأ بها بالحديث إليها وهما بالمصعد ثم حدثته بصدق:

- أنا كمان، أول ما شوفت الرجل الغامض الطويل ده غصب عني وعن كل مخططاتي وكاريري وكل الكلام ده خلتني اعزمك.. وادي اهو قراية فتحتنا الجمعة الجاية، العلاقات والمشاعر اسهل من كده بكتير.. لكن مالوش لازمة نخرج ونتفسح ونستنى شهور على ما حد يتحرك ويقول بحبك للتاني وبعدين ضد مبادئي بصراحة موضوع العلاقات بدون مسمى رسمي.. ماما ربتني على كده.. واتعلمت كويس أوي يعني إيه معاناة الحب من طرف واحد.. ومعنديش أي استعداد أكرر القصة الحزينة دي! 

قد فكر يومًا ما أن يرتبط بفتاة، ربما بعد الثلاثون من عمره، أمّا تلك الفتاة التي يتحدث لها الآن وهي تجعل أصعب الأمور تبدو سهلة للغاية لم يكن يتصور مثل هذا الشيء أبدًا! 

شعر كم هو محظوظ لتحدثه لتلك الفتاة الذكية الواضحة التي لم تشبه سوى نفسها ليسألها:

- وباباكي قِبل الموضوع عادي؟

زفرت بضيق وأردفت بنبرة مُرهقة:

- يوووه.. ده طلع عيني.. هاحكيلك..

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

بعد عدة أيام . .

وقفت أمام المرآة وهي تتفقد مظهرها بينما طرقت والدتها باب غرفتها ودخلت إليها بإبتسامة سعيدة وقد فرغت والدتها من إرتداء ملابسها التي ستستقبل بها عائلة "سيف" الذي للتو عرفت اسمه منذ ساعات قليلة وأخبرتها عندما التفتت لها ابنتها:

- شكلك زي القمر بجد..

تعجبت لها بنظرات واثقة من خلال المرآة ثم التفتت لها لتقول بنبرة غاية في الثقة وملامح ممازحة:

- طبعًا يا روزي.. مش بنتك وشبهك الخالق الناطق ولا إيه! لازم ابقى زي القمر!

توسعت ابتسامتها لمجاملتها اللطيفة المازحة ثم اردفت:

- لأ أنا بتكلم بجد.. وبعدين كان زمان بقى..

غمزت لها في مشاكسة ثم اقتربت منها لتحيط منكبيها بذراعها وهمست مداعبة إياها:

- زمان إيه، ده أنا اعرف واحد هيموت كده وترجعيله!

زفرت بضيق ثم زجرتها برفق:

- مش هاخلص منك يا بنت ابوكي انتي! بلاش السيرة دي واتبسطي وافرحي.. سيبك مني أنا وهو!

همهمت في تفهم ثم قالت:

- نخلص من النهاردة ونشوف ناوية تحني على الغلبان ده امتى.. زمانه هيخبط خلاص.. هاروح افتحله!

أومأت لها بإبتسامة بينما تفقدتها وهي تذهب في اتجاه باب منزلهما، لا تصدق أن السنوات مرت بتلك السرعة الشديدة وفي لمح البصر هناك من سيتقدم لخطبتها اليوم.. هل حقًا سيكون عليها أن تعيش بهذا المنزل وحدها يومًا ما دونها؟ ذلك المنزل التي عملت بصعوبة على صنعه وتوفير حياة سوية هادئة به قدر الإمكان، هل سيصبح مهجورًا ولن يتبقى سوى جدرانه لتبقى بينهم وحدها؟

آتاها صوتهما وهي تتفقدهما يثرثران سويًا بعد أن فرغت من معانقته فاقتربت لتستمع لهما:

- مخلتيش يجوا عندي البيت ليه؟

ضيقت عينيها متفحصة اياه بملامح مرحة واجابته:

- علشان ده بيتي أنا وروزي.. وعلشان ده البيت اللي قعدت فيه اكتر من عندك.. وحياتي كلها هنا.. صحيح مدلعني بس الحق حق.. لازم يجوا ويشوفوا بيتي هنا! وقدام بقى نعزمهم في بيتك مش قضية، بس هنا الأول!

تنهد وهو يتفقدها بإنزعاج يجاهد أن يُخفيه بينما توسلها بنبرة منفعلة:

- ما كنا أجلنا الحوار شوية، ولا كنت شوفته وعرفته قبل مواضيع الأهل..

نظرت له بأعين متوسعة شابهت أعين والدتها تمامًا لتصعب عليه الأمر أكثر بينما رمق "فيروز" من على مسافة ليجدها تحاول أن تمنع ابتسامة ساخرة منتصرة ظهرت بوضوح بعينيها ليزداد انزعاجه بينما قالت ابنته:

- ما خلاص بقى يا بابا.. قراية فاتحة وكل جوازة وأنت طيب وهاخدك تعيش معانا كمان ومش هتحس إنك بعيد عني خالص!

امتعضت ملامحه بينما اقتربت هي منهما وقالت:

- ضحكة بقى علشان العروسة الحلوة اللي عندنا دي.. مش هتقابل الناس وأنت مكشر كده!

زفر بضيق وشعر بداخله أنه يجب عليه التراجع من تلك اللعبة السخيفة، شيئًا بعقله لا يزال لا يتقبل أن ابنته ستأخذ أولى خطواتها لتبتعد عنه بالكامل ولا يظن أن بعد زواجها من رجل يعيش ببلدين سيكون أمرًا هينًا ولكن رغمًا عنه اجبر إبتسامة ليستمع ثلاثتهم لطرقات على الباب ليتصلب جسده بينما نظرت إليه كلتاهما فتحدثت "فيروز" متسائلة بهمس:

- مش هتفتح للناس ولا إيه؟

أومأ بالإنكار لتنظر له ابنته بعدم تصديق بينما انزعجت ملامح والدتها التي زجرته بنبرة خافتة كي لا يستمع من خلف الباب:

- والله أنت بتهزر! ما تفتح الناس برا!

تحدثت ابنتهما بتلقائية:

- انتوا هتتعزموا على بعض وهنسيب الناس برا! أنا هفتح..

اندفعت سريعًا نحو الباب بتلقائية وابتسمت للجميع ليبادلها "سيف الإبتسامة وابتسم لها بقيتهم وبمجرد التفات والدها ليواجههم وكذلك "فيروز" تحولت جميع الوجوه للوجوم والصدمة الشديدة التي لم يعرف أيًا منهما اسبابها، فلقد رآت هي تحول وجوه جميع أفراد عائلته وكذلك رآى هو تلك النظرات التي ليس هناك تفسيرًا لها سوى الصدمة الشديدة المصاحبة لأمر ما لا يعلمه هو نفسه! 

شعر "سليم" بالغضب الشديد ثم تحدث لإبنه:

- هي دي العيلة الكويسة والبنت اللي عايز تتجوزها.. أنا استحالة اقعد هنا ثانية واحدة! سبت بنات الدنيا كلها ورايح تتجوز بنت شهاب!! أنا استحالة اوافق على الجوازة دي و..

قاطعه "بدر الدين" الذي تحدث بصوته الرخيم ليُدلي على الجميع ما عليهم أن يفعلوه:

- نورسين.. خدي سليم وزينة وامشي وسيبو سيف معايا! 

رمقه "سليم" بنظرة اتضح بها الخزي والغضب الجليان وامتعضت ملامحه أكثر وأوشك على الصراخ بوالده ليقابله بملامح ثابتة حازمة وهمس له:

- اسمع الكلام وامشي! 

نظر نحو كلًا من "فيروز" و "شهاب" وابنتهما التي التفتت لهما بملامح متسائلة وظهر عليها الحُزن من تلك الكلمات التي استمعت لها ابنة "شهاب" من؟ هي لا تفهم شيئًا:

- فيه ايه؟ انتو تعرفوهم؟ حد يفهمني فيه إيه؟

نظر لهما وتقدم خطوة نحو باب المنزل بينما كاد "شهاب" أن ينفجر من كثرة غضبه ليقابله بثبات ونظراته االثاقبة التي أصابته بمزيد من الإرتباك ليصدح بصوته الرخيم من جديد:

- فيروز.. خدي بنتك وادخلي جوا.. وسيبيني اتكلم مع والدها!

اندهشت من ذلك الإسم الآخر الذي لم تعرفه بينما كاد "سليم" أن ينفجر غضبًا وقبل أن يتحدث بشيء تحدثت له والدته بهمس:

- اهدى يا سليم وتعالى نروح! معلش.. شوية وهيجوا ورانا! 

تفقد الجميع ليذهب عائدًا للسيارة وتبادلت كلًا من "زينة" و "نورسين" النظرات الحائرة وتبعاه بينما تحدثت "فيروز" لإبنتها وقالت:

- تعالي معايا يا كاميليا 

جذبتها للداخل وهي تشعر بداخلها بإنهيار حياتها أمام عينيها في لحظة واحدة لتتسائل بعصبية:

- فيه إيه يا ماما؟ فهميني اللي بيحصل! مين فيروز ومين شهاب؟ ما تجاوبيني ارجوكي! 

أومأت لها بملامح مرتجفة واجبرت ابتسامة مقتضبة وحدثتها بلين:

- حاضر هفهمك.. تعالي بس معايا!

دخل الجميع بينما توجهت ابنتها معها لدداخل حيث غرفتها وهي تتسائل بالعديد من الأسئلة التي لم تتوقف عن التلفظ بها ليتفقد "بدر الدين" ذلك المنزل بنظراته وجلس على أول مقعد قابله ليبتسم بتهكم ثم تحدث بنبرة ساخرة متنهدًا ليقول:

- يااه، الدنيا صغيرة أوي مش كده؟ 

رمقه بنظراته التي لم تتغير بعد تلك السنوات الكثيرة ولم تستطع تلك التجاعيد على وجهه أن تخفيها ليكُز الآخر أسنانه في غضب تملكه بأكمله وهو ينظر له ليتابع قائلًا:

- فين أروى يا شهاب؟ عملت فيها ايه تاني؟ 

تفقده بملامح ثابته ولم يشعر بالتردد بداخله لثوانٍ وهو يكذب مُجيبًا:

- معرفش، شوفوا بنتكوا بتروح فين! 

ابتسم نصف ابتسامة بسخرية بينما تعجب "سيف" الذي يعلم أن "أروى" تكون خالته ولكنه لا يتذكرها وبالكاد يتحدث عنها الجميع ليقابله الآخر بلهجة متهكمة:

- زمان أوي قولتلك إنك صغير ومش فاهم أنت بتعمل إيه وآخرة الطريق اللي أنت ماشي فيه وحش.. مسمعتش يومها كلامي واخدتوا بتريقة.. قولتلك إن ولادي وراهم ضهر عمر ما هيكون عندك زيه، واتريقت!! اديك النهاردة اللي بتوقع.. فاكر كلامنا يومها؟ مع اني حاولت اساعدك بعدها بس انت مقبلتش المساعدة! 

تبادل كلاهما النظرات التي شابهت النيران المستعرة وكأن عراكهما ليس بلفظي فقط ليضيف "بدر الدين" بخفوت:

- حفيدي هيتجوز بنتك.. في مصر.. أمها اللي اتفضحت هتبقى جنبها، هنلبسها نقاب ومحدش هيعرفها، إنما أنت بقى الحق اخر يومين باقينلك معاها.. أنا ولادي دايمًا هيكون ليهم ضهر، إنما أنت، هتفضل طول عمرك لواحدك.. وكمان هتخسر بنتك.. مسألة وقت مش اكتر! 

ابتسم نصف ابتسامة متهكمة لينهض بصعوبة وساعده حفيده على النهوض ليخبره بنبرة متهكمة:

- روح شوف بنتك وطليقتك! وأنا هاروح أشوف ولادي.. ولو مجوزتش حفيدي البنت مقدامكش غير السجن.. يالا يا سيف!

كادا أن يغادرا ليوقفهما بنبرته الجلية متهكمًا:

- ودليلك إيه، قضية شرف كنت هاطلع منها، ولا صفقات ملهاش أي دليل ملموس إلا لو حد راح ودور في ايطاليا وعرف مين ليوناردو بينسوليو اللي سهل اوي نزور شهادات ناس كتير اغلبهم يا إما ماتوا يا إما اتقتلوا.. ولا يمكن الفلوس إلا أصلها كله كان مثبت ومحدش هيقدر يقولي من أين لك هذا!

التفت له بإبتسامة ساخرة متفقدًا اياه بنظرته الثاقبة بينما تابع الآخر:

- إيه! تفتكر مفكرتش إني في يوم اقدر أنزل مصر؟ اعيش تاني هناك؟ 

ضحك بخفوت بإستهزاء ليتسائل بنبرة متعالية:

- تعيش لمين، والدتك اللي ماتت ولا اخواتك من الأم اللي مكنوش طايقينك يوم ما كنت هتموت مراتك بإيديك ولا يمكن اخوك من الأب.. اللي زيه وي اخواتك التانيين أكيد بعد اللي عملته مش هيرضى يقبلك ولا يبص في وشك.. ولا يا ترى بنتك هتقبل مُجرم مُغتصب قاتل زيك؟! فكر بس كده ترجع مصر غير علشان تجوز بنتك، والمرادي القضية عليا أنا! 

هز رأسه في إنكار رامقًا اياه بإشمئزاز ليقول بنبرة حزينة:

- مش قولتلك العيلة دايمًا مهمة ومحتاجين ضهر وإنك صغير ومبتتعلمش.. لو كنت قدرت كلامي زمان كان زمانك حاجة تانية وحواليك ناس بيحبوك وأنت كبيرهم.. بس هتفضل ماشي بدماغك.. عايزك تمشي بيها لغاية الآخر.. هتموت منبوذ ولواحدك! يالا يا سيف!

اتجه كلاهما ليغادرا وبمجرد سماع ابنته اغلاق الباب انطلقت بعد انعدام الفائدة من حديثها مع والدتها فهي لم تستطع التحدث واخبارها شيئًا لتصيح به بلهفة:

- مين شهاب ومين فيروز؟ وإيه الكلام اللي أنا سمعته ده؟ 

رمقت كلاهما بملامح غاضبة لتصرخ بأعين قاربت على ذرف الدموع بعد أن تدمر اليوم بأكمله:

- ما تفهموني فيه إيه!! هتفضلوا ساكتين كل ده؟ لا هي عايزة تقول حاجة ولا أنت! مين الناس دي؟ ويعرفوا إيه عنكم؟ انتوا مين؟!

⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢

#يُتبع.. 

في الجزء الثاني من الفصل الأخير..

بتاريخ 18 أبريل 2021

لو تم الإنتهاء قبل الموعد المحدد سيتم نشره..

لن يكون هناك جزء رابع لكل المتسائلين..

سيكون هناك أكثر من نوفيلا في أوقات متفرقة للأبطال.. 

دمتم بخير..