-->

الفصل الأول - روسالكا



الفصل الأول


هذه رسالتي الأولى، ولن تكون الأخيرة

انا التي وصلت، فمللت، فأدبرت

ثم عاودت الكرة .. فأيقنت وسكنت.



-١-

15 مارس 2014

أضواء كثيفة آتية من كل صوَبْ أحالت الليل نهار، لتكشف عن طاولات عالية مُوزعه بحديقة إحدى البيوت الفاخرة .. أثواب من بريقها اللاذع تشع ثراء، وكؤوس كريستال تصطدم برنين عالٍ يُخالطه ضحكات صاخبة، تسبغ على الأجواء رونق رفيع، لا يليق سوى بالطبقة الذهبية..

باقتراب عقارب الساعة من العاشرة، انطفأت جميع الاضواء عن الحفل، وتمركز عند رنين معلقة فضية ضربت جانب كأس، كان يمسك به أحدهم، بينما يعتلي منصة عالية نوعًا ما من الجميع وهو يقول بصوتًا جهوري يشوبه الابتهاج:

- Attention .. attention please!!

تحمحم حينما حصل على انتباه الجميع ثم قال بلباقة بالغة:

- طبعا أنتو عارفين مناسبة النهارده اللي كلنا مجتمعين عشانها .. النهارده يوم مميز وغالي عليا .. ١٥ مارس، من 3 سنين اجتمعت مع توأم روحي بدون مبالغة .. واللي عايز أقولها في عيد جوازنا التالت، كل سنة وانتِ معايا يا قلبي .. كل سنة وأنتِ ملكة قلبي يا "كاميليا"!!

وفورًا، تحولت الأضواء جميعها لتتركز على ذلك القوام الممشوق والآسر للأنظار، بينما تعتلي المنصة بدلال كعبها العالي .. تفارق إحدى ساقيها الشِق الواسع بفستانها المخملي قاني اللون، فيظهر بياضها العاجي، ويتلألأ مع عُريّ صدرها وكتفيها المرصعَيّن بالنمش، وكأنه الأحجار الكريمة .. تجلى هذا كله وأكثر مع تصفيفة شعرها الأسود القصير ذو الإطلالة كلاسيكية التي زادت من استدارة وجهها، وبروز شفتيها المطلية بحمرة صارخة كاشفة عن ابتسامه مُهلكة، خاصة مع طابع الحسن المكنون بذقنها.

مَن يعرف أفروديت آلهة الحب والفتنة، التي ولدت في البحر وجاءت شواطئ قبرص في محارة.. كيف لا يعرف كاميليا..؟!

بشغف وحبور عالٍ، عانقت كاميليا زوجها بقوة، بينما تتأرجح في حضنه بغنج مثقل يُشعل قلوب بعض الحاضرين غيرة وحقد .. ابتعدت عنه بعدها لتتأمل حدقتيها المشبعة بزُرقة نيّلية ملامحه الوسيمة المنمقة، وتنحدر إلى زيتونية عينه وشعره الأسود المصفف بعناية، وحتى بنيته المنسقة داخل تلك البدلة الكُحلي من طراز "سيزار أتوليني".

هذا قبل أن توزع كاميليا أنظارها بين الحضور بنظراتٍ تغالب فيها استنفارها من زيفهم، لتردف بعدها بطريقتها المُعتقة بجرعة من الغنج:

- ميرسي جدًا على الحفلة الروعة دي .. كان كفاية وجودك جنبي، أنت عندي بالناس كلها يا 'سليم'.

طبع سليم قبلة حنونه على وجنتها قبل أن ينحني راكعًا أمامها برقي ويرفع بيدها، بينما يخرج من جيب سترته علبة وردية صغيرة ويهتف بولّه:

- تقبلي تكملي معايا اللي جاي من عمري يا 'كاميليا'؟؟

تدللت ملامحها أكثر واتخمت بالزهو والشغف قبل أن تومئ برأسها مؤكده بحماس مُتقد:

- طبعا Sure يا بيبي من غير ماتسألني!!

وضع بإصبعها خاتم ذو حجر ألماسي ثقيل ثم أتبعه بقبله أخرى، وهو يرمقها بلهفة جارفة من موضعه هذا .. وباللحظة التالية كانت كاميليا ترتمي بين ذراعيه، ليتلقفها ويدور بها عده دورات وسط تصفيق جاليّ من الحضور.

وعلى طاولة مُنطوية، كانت تقف امرأه باهية الطلّة بنهاية عقدها الرابع، ذو جسد كأجساد عارضات الأزياء، وثوبها الذهبي يؤكد هذا .. يتدفق من عسل عينيها انهارًا من الحقد، لتطفئه بارتشافها جرعات كبيرة من كأسها .. تمتمت وهي تتابع ما يحدث أمامها بغيظ مشتعل:

- لعنة وحَلّتْ على عيلة "سَحاب"!! .. انا مش عارفة هي عامله له ايه بالظبط عشان يحبها الحب ده كله؟!

أجابها الشاب العشريني الواقف إلى جوارها:

- فَرسة .. وشكلها مروقاه لحد ما عمياه؛ فمش شايف غيرها!!

التفتت بحده لنبرة الإعجاب التي قفزت من صوته:

- فَرسة إيه وحب إيه؟! .. دي مُومِس!! .. ولولا غُشمية "سليم" أخويا وقلة تجاربه ماكنتش زبالة زي دي عرفت توقعه!! .. انا عارفة كويس، اللي زيها داخل على طمع، مش تقولي حب!! .. طبعا، دخلت علينا زي القطة المغمضة وفي ظرف سنة كان فتح لها بتلت ميراثه قناة، ومخليها مديرة عليها كمان، بعد ما كانت حتة مذيعة جربوعة ما حدش يعرف شكلها ولا اسمها .. ودلوقتي بقيت مديرة ﻷكبر مجموعة قنوات في مصر!! .. ومين عارف ايه كمان؟! .. لكن لأ، اصبر بس عليَّ، إما وقعتها في شر أعمالها وظهرتها على حقيقتها، وخدت منها كل قرش صرفه عليها، بفوايده كمان، مابقاش "سالي سَحاب"!!

تجرعت ما بقيَّ من كأسها، ثم استدارت تواجهه بكامل جسدها:

- وبعدين تعالىَ هنا .. أوعي يكون البيه واقع في غرامها هو كمان وانا معرفش!! .. لأ، فوق كده يا حبيبي واعرف أن مش "سالي سحاب" اللي يتبص لغيرها وهي واقفه!! .. ده انا بإشارة من إيدي أرجعك تاني للزريبة اللي جبتك منها يا "حمزه".. أنت فاهم!!

عض الآخر على شفته وتلفت حوله يتفقد اذا كان هناك مَن التقط ما قالته، ثم عاد إليها وهو يسحق أسنانه قائلا من بينها بهدوء مزيف:

- طب يا حبيبتي، ممكن تهدي وتوطي صوتك عشان بَينّك تقلتي في الشرب!!

نفضت سالي يده التي حاولت تحجيم جموها، وهي تقول بانفعال مفرط:

- أوعى ايدك دي، انا ما سكرتش .. والأحسن أنك تاخد كلامي ده جد، عشان ما تلومش غير نفسك بعد كده!!

قالت ما قالته وفرت كالعاطفة من أمامه، ليغمغم حمزة بسخط:

- فاكراني هابقى زي اللي اتجوزتيهم قبلي، ده انتي تبقى عبيطة أوي .. يا انا يا انتي يا سالي، يا بنت عيلة سحاب!!

ثم مسح على خصلاته البنية وهو يتأمل ما حوله من نساء وفتيات من مختلف الأطياف والطبقات ليحدث نفسه:

"كويس انها غارت بدري .. أما ألحق بقا أعوض الجفاف اللي جايبهولي!!"

❈-❈-❈

-٢-

همسًا خافت وضحكات أنثوية كالسحر كانت تتخلل رقصتهما الافتتاحية .. الكثير من الأعين والكاميرات ترصد أدق حركاتهما الحميمية وتتابع كل شاردة منهم بمبالغة .. لنكن أكثر صراحة، قلّما تجد هذه الأيام زوجان يستمر زواجهما وحبهما معًا، بل يزداد ويصبح حديث الوسط الفني، و(تريند) بين الشباب يُضرب به الأمثال الرومانسية!!

 مثال نموذجي نادر يسير عكس التيار السائد هذه الأيام .. فدائمًا ما يعرف الملل طريقه إليهما سريعًا، لتتعطل بهما مجسّات الرغبة، وينضب شريان شغفهما، ويصبح الطلاق دوائهم الوحيد!!

إذًا، كيف فعلوها؟!

ما إن شارفت الرقصة على الانتهاء، حتى تقدم منهما رجلاً تناثر الشيب برأسه، وحفرت سنوات الجدية قسمات وجهه .. أوقف رقصتهما قائلًا برقي:

- تسمح لي سعادة السفير أشاركك الرقصة الأولى مع نجمة الحفلة؟؟

رسم سليم بسرعة وبراعة تعابير الترحاب على وجهه، وهو يسلمه يد كاميليا بتلقائية:

- طبعا معاليك!!

وعلى الفور احتضنت يده الخشنة خصرها بجرأة، واقتحمت رائحته القوية أنفها حتى حفزت معدها على القيء، قبل أن تتمالك نفسها وتغتصب ابتسامه صفراء على شفتيها .. فوجدته يبادرها الحديث:

- أتمني ما كنش أزعجتك بطلبي 'كاميليا' هانم؟؟

- لا أبدًا .. ده شرف ليا أني أرقص مع معالي رئيس الوزراء بنفسه .. ومن فضلك، ما فيش داعي لهانم دي!!

حسنًا، ماذا يقولون بمثل هذه المناسبات؟؟ .. أها، بعضًا من التملق بالأهبل لن يقتلك!! .. وهذا ما حدث، فقد انفرجت شفتي الرجل ببلاهة لا تناسب سِنه ولا مركزه، ولكن هذا ما يُسمى بتأثير 'الكاميليا':

- الحقيقة من ساعة ما شوفتك يا 'كاميليا' وانا بحسد سعادة السفير عليكِ .. جمالك مميز، مش بس يُقدر بخاتم ألماس كل سنة، لأ، ده كل يوم وحياتك .. انا عن نفسي، لو زوجتي كانت بقدر جمالك، كنت وزنتها ألماس!!

لم تُزَلْ عينه عن ما بين نهدها خلال كلماته التي يلفح وجهها بها من بين أنفاسه المعبئة بالسجائر والكحول .. في حين أخذت يديه فالانحدار عن خصرها بتلصص، متلمسًا في طريقه تضاريس جسدها ومنحنياته، حتى وصل إلى أعلى فتحة فستانها الكاشفة عن فخذها بسخاء .. وهنا، وصلت كاميليا حدها من انتهاكه السافر لجسدها، ودون أن تدري قبضت على يده بقوة، ليعاجلها قائلًا بتبجح:

- أرجو إنك ما تفهميش إعجابي بيكي غلط!!

تجعدت شفتيها بابتسامه سوداء تاركه يده، لتحين منها التفاته باحثه بعينها عن سليم الذي بدى مندمجًا في الحديث مع عدة رجال .. لتزفر عائدة لذلك ذو الأنفاس الكريهة:

- لأ، طبعا ازاي؟؟ .. ده انا يزيد جمالي لما 'ناصر' باشا اللي معاه الوزارة بحالها يعجب بيا!!

تهللت أسارير ناصر ليكشف عن اسنانه المتهالكة ودون استباق رمى بأوراقه دفعة واحدة:

- يعني نقول اتفقنا؟؟

عندها شعرت كاميليا بأصابعه تزحف من جديد على جسدها بجرأة، لتنحدر عينها على موضع يده ومن ثم ترمقه هو بنظرة يتخللها دهاء لا يليق بملامحها البريئة، بينما ترخى عينها بتلك النظرة التي تُذهب ذهن العاقل .. لثواني، ضبطت جسدها فيها على وضع التجميد، تدعي التفكير وتستمع خلالها بدقات العجوز اللاهثة شبقًا .. قبل أن تقاطعه وتُلّجم يديه متشدقه بتأني ممتزج بوعود متوارية:

- اتفقنا .. بس بالأصول .. كله اللي انت عاوزه يا باشا، بس بالأصول!!

وبنفس اللحظة انتهت الموسيقي لتعلن عن نهاية الرقصة الأولى، فأضافت كاميليا على عجالة ولم تنسى أن تمرر لسانها على حُمرة شفتيها كي تؤكد على تأثيرها عليه:

- أستأذن معاليك، دقايق ورجعالك .. خد راحتك please!!

❈-❈-❈




-٣-

بحثت بعينيها على شخصًا محدد حتى عثرت على تلك الصهباء بفستانها الأخضر الذي يتلاءم مع عُشب عينيها الواسعة، بينما كانت على وشك مراقصة أحدهم .. فهَمتْ كاميليا أن تحدثها، لولا ذراع أحدهم التي اعترضت طريقها، بينما يهسهس صوتٍ أجش من خلفها:

- عيد جواز سعيد يا استاذتنا الكبيرة .. عقبال العمر كله!

تعرفت إلى صوته من قبل أن تستدر وتتعرف إلى ملامحه، التي لم تُغيرها السنوات كثيرًا، على عكس ما فعلت معها .. وكيف لا تفعل، وهو مَن وهبته قلبها للمرة الأولى .. مثلما تركته، عينه الكحيلة وبشرته السمراء، حتى رائحته .. لم يتغير به شيء سوى لحيته، وقد اطلق لها العنان لتزيده وسامه على وسامته التي طالما حركت قلبها .. هذا خطأ .. لا ينبغي تصادم الماضي بالحاضر .. قاعدتها الأثيرة تتهدم، وهذا خطأٌ جسيم لابد من تلافيه .. وبسرعة!!

زيفت ابتسامة مرتعشة وهي تقابله قائلة من بين تلاحم أسنانها:

- "مالك" .. بتعمل إيه هنا؟!

عَلت شفتيه ابتسامة مستهزئة من حالتها، ليفرد صدره أمامه بانتشاء:

- بتعمل ايه هنا؟! .. و"مالك"؟! .. الله يرحم أيام "مانو"، اللي كان مرحب بيه فأي زمان ومكان!!

سَرى طرف لسانها سريعًا على على قواطعها بابتسامه متوترة، بينما تحصي بذهنها كل الاحتمالات والعواقب لإنهاء هذا الموقف السخيف .. وعندما تضايقت، احتدت نبرتها معه بطريقة تحذيرية:

- أديك قولتها .. الله يرحم!! .. خلي اللي مات في حاله، وقولي بتعمل إيه هنا؟؟ .. انا مش فاكره اني حطيت اسمك ضمن قوائم المدعوين!!

- يا سلام على هزارك التقيل يا "كيمي"، هو انا يعني محتاج عزومه!! .. وبعدين نسيب الميت في حاله إزاي واحنا اللي قاتلينُه؟!

قشعريرة سرت بعينها لدي جملته الأخيرة وتأهبت حواسها في وضع دفاع .. فدس كلتا يديه بجيبه وهو يستطرد بجدية عدائية هذه المرة:

- اللي ما تعرفهموش اني بقيت ضمن فريق المحاماة تبع سعادة السفير جوزك .. وانا حاضر النهارده نيابة عن المكتب عندي .. يعني بقيت قريّب أوي، والمرة دي مش هاتعرفي تخلصي مني يا "كاميليا"!! .. اعتبريه وعد!!

اعتصرت قبضتها حتى تتمسك بثباتها أمام تهديده السافر، ثم سحبته ليختفوا عن الأنظار خلف مبنى الفيلا .. ومن ثم انقلبت زُرقة عينيها بلحظة للون داكن وهي تغمغم بعصبية:

- اخلص .. عايز ايه؟؟

تملّت عينه من قزحيتها باشتهاء، قبل أن تسافر على طول جسدها الذي زادته السنوات إغراء وانوثة قاتلة .. ليقترب منها بلحظة ويزفر انفاسه الساخنة بأذنها:

- أبدًا .. مش آن الأوان بقا نصفي اللي بينا يا "كيم" .. وكل مِن له حق ياخده؟؟

- وحقك ده إن شاء الله عايزه أزاي؟؟

المزيج بين الحدة والسخرية رغم ارتعاش صوتها جعله يدرك أنه قد اقترب من هدفه .. فطالما عهدها لا تجيد التحكم في انفعالاتها، ويعترف انه كان قلقًا من ثباتها منذ قليل، أما الآن، فها هي بدأت تخرج من قشرتها!!

لعق شفته بوقاحة:

- يعني .. على اتفقنا زمان يا "كيم" .. بالأصول زي ما قولتي .. وإلا ورحمة ميّتنا، لاطلع قديمك يا .. يا حرم سعادة السفير المُبجل!!

- وهو من الأصول يا استاذ "مالك"، اننا نصفي حسابتنا هنا، وفي حفلة عيد جوازي؟!

باغتته .. ذلك الرنيم المميز بصوتها كان نقطة ضعفه .. خاصة، وطريقتها المعبئة بالغنج في نطق مخارج الحروف بتأني، تخمش عقله وتعبث بجوارحه .. تلك الشفاه اللامعة بحمرة صاخبة، كيف يتسنى له نسيان نكهتها المميتة، وتأثيرها الدامي عليه .. مذاقها كـتفاحة آدم المحرمة، تسلب الراهب لُبه .. وهو ليس براهب، فإلام تنوي أن تُودي به؟!

ليته لم يُفرّط بها من البداية!!

ازاح افكاره الغبية جانبًا، فلم يكن وقتها على كل حال، ما يهم الآن انه استطاع الوصول لها أخيرًا، ولن يتركها مجددًا مهما كلّفه الأمر!! .. حك رقبته بينما لايزال غارقًا في تأثيرها:

- في دي عندك حق .. لكن أعمل ايه، انتي اللي غدرتِ بيا، وخلايتي باتفقنا، واختفيتِ زي الملح يا 'كاميليا'!!

ابتسمت بكسل لسذاجته .. الرجال .. جميعهم أغبياء!! .. أمالت جسدها عليه بإيحاء ودنت بخطواتها أكثر خطورة منه:

- انا شايفة انك تستمتع بالحفلة دلوقتي من غير شوشرة .. وبعدين انا بنفسي هاجيلك وأرضيك .. بالأصول!!

انحنت رأسه بحميمية يستشعر دفئ عنقها وعطرها المثير، وما إن لامستها شفتيه حتى ابتعدت وعيناها توبخه بزيف:

- تؤ تؤ .. أكيد مش هنا!!

زفر بحنق وبصعوبة ارتجع عنها، ولكن هذه المرة قد أفاق من سحرها، ليزجرها مهددًا:

- كاميليا .. مش محتاج أقولك..

- عارفة يا بيبي .. عارفة .. enjoy أنت دلوقتي!!

قاطعته مُنهية ذلك الحوار اللزج، وهي تدفعه للرحيل دفعًا .. وباللحظة التي أبتعد بها، اقتربت من تلك الصهباء التي كانت تبحث عنها منذ قليل .. قالت بنبرة مستنكرة:

- مش ده "مالك عثمان"؟! .. ايه جابه هنا ده؟!

- أنتِ كنتِ فين يا "صافي" كل ده؟؟

سألتها كاميليا بانفعال جمّ، لتجيب الأخرى بعين متقدة بالحماس والانبهار:

- كنت برقص مع piece مستوردة .. إنما ايه يا "كيم"، حاجة ااا...

- سيبك من ده دلوقتي وصحصحي معايا، عشان فيه شغل جديد!!

أردفت بجدية، وهي تحاول استعاده السيطرة على اعصابها التي اُهلكت في الدقائق المنصرمة، لتسألها صافي بحنكة:

- مين المقصود المرة دي؟؟

- "ناصر السيوفي" .. عايزاكي تظبطيه الليلة مع واحدة من الـ players بتوعك، وهقولك العنوان .. بس بصي، عايزاها تكون صغيرة و Pure Face، عايزاها تنسيه الوزارة وتنسيه نفسه .. وأهم حاجة تنسيه 'كاميليا'!!

عضت الاخرى على شفتيها بثقة ويقين وهي تتناول منها العنوان المدون ببطاقة صغيرة ثم سألتها:

- Done.. طب وأخِينا اللي مِشيّ ده، تحبي نعمل معاه إيه؟؟

تنهدت كاميليا بصدر مثقل قبل أن تجيبها مدعية اللامبالاة:

- لأ، ده انا اللي هاتصرف معاه بنفسي .. مش هاينفع حد غيري!! .. المهم دلوقتي، انا هظبط الشغل، واتسَحّب من غير ما حد ياخد باله .. ولو شوفتي سليم، قوليله يعتذر للناس لأني تعبت وطلعت استريح..

قالت ما قالته كاميليا لتستدير مغادرة هذه الاجواء الخانقة، فقد باتت اعصابها على المحك، واذا نفخ أحدًا في وجهها ستنفجر بالتأكيد.

❈-❈-❈

-٤-

هل سـبق أن استيقظت ذات صباح وتراودك رغبة مريرة في البكاء بفجعة؟؟ .. حسنًا هذا كان شعورها هذا الصباح، تشعر باختناق في حلقها وشيء يطبق على انفاسها، كذنب يلّح عليها بالتوبة .. الحقيقة انه شعور لازمها لسنواتٍ وسنوات دون كلل .. ماذا حدث أو إلى أين تسير، ليس هناك وقت للتوقف وتفقُدْ ما عَزَفَ منا وسلبنا إياه الزمن؛ الحياة تسحلّنا في كل هذا الزغب كحبات العِقد المنفرطة، ما إن ينقطع وصلها، ليس ثمة أمل في رطأه من جديد!!

 لذا جلست بتكاسل في فراشها الخاوي ببرودة قد ألفتها، وأمسكت بهاتفها لتتصفحه قليلًا قبل أن تبدأ يومها بنفس رتابة الإيقاع .. حفل أمس كان له الصدارة في العديد من مواقع التواصل .. حسنًا، هذا هو المتوقع وإلا لمَّ كان هذا الحشد من الصحافة البارحة؟! .. فتحت حسابها على أحد تطبيقات المراسلة، لا شئ جديد، العديد من التهنيئات الزائفة، حتى التقطت عينيها رسالته الاخيرة:

"ما تتاخريش على الغدا!!"

جملة باردة من جُمَلُه المقتضبة، لا يُستشف منها أية مشاعر أو نوايا .. لا بأس، هذا هو المعتاد كاميليا .. برودته، لا تكون شيء مقارنةً بخاصتك .. لا بد أنه يريد مناقشة أحداث الليلة الماضية، وبالأخص اختفائك دون إذن منه، ويكفي أنه قد أنعم عليكِ وترككِ تنامين دون الخوض في واحدة من جدالاته الارستقراطية التي تنفخ صدرك وتُخرج روحك!!

تنهدت بزفير أخرجت معه ما عكر مزاجها الصباحي، ثم نهضت من فراشها بتثاقل .. عند تمام العاشرة، كانت قد أنهت حمامها وارتدت إحدى البدل النسائية ذي اللون الرمادي .. وقفت أمام المرآة لتصفف شعرها في ذيل فرس وتضع بعض المكياج تضفي الحياة إلى وجهها، ومن ثم مضت في طريق مغاير لطريق المجموعة على غَيرّ العادة.

فيما بعد، تتوقف السيارة لدى صرح عملاق يحتله لافته تحمل اسم (مستشفي جلال البدر للصحة النفسية والإدمان) .. ترجلت بتهاديٍ من السيارة وهي تتأمل المكان من حولها .. مضى وقتًا طويل لم تطأ قدماها هنا ولم يتغير شيء .. هل ثمة أمل في حدوث تغيّر في الداخل؟؟

خطواتٍ ذات إيقاع من حديد، يفصح عن قوة صاحبته وجديتها الغَيرّ مستهانه .. توترت الأجواء في الاستقبال من قدومها دون إنذار، واندفعوا نحوها يعاجلوها بالترحاب قبل أن تصد كل هذا بجملة باردة غير سلّمية:

- عايزة أشوفها .. بسرعة!!

تحركت لحديقة المستشفى بخِيلاء، وكأنها تتحرك بأملاكها .. الحقيقة أن كلمة -حديقة- تظلمها؛ فهي أقرب للمنتجع وصفًا .. اختارت طاولة بعيدة نوعًا ما، تطل على بحيرة اصطناعية يملأها أسماك الزينة الزاهية، وجلست في الانتظار.

مضت دقائق طويلة عزفت على أعصابها التوتر، فتحركت أصابعه لحقيبة يدها وسحب علبة سجائرها لتقتل الانتظار بواحدة .. كانت تعلم جيدًا أن هذا الانتظار لا يشير إلا لشيء واحد .. الإهمال .. حسنًا، وقت الحساب سيجدون كل شئ مدون لديها!!

أطبقت سيجارتها بالمطفأة ما إن لمحت طيفها يقترب .. بشرة شاحبة، شفاه مزمومه، وكأنها لم تخلق للتحدث .. عين فيروزية، فقدت بريقها منذ أمد، وشعر بني مجعد محزوم بإهمال .. لا ترى أمامها سوى أطلال أنثى عَفيَّ عليها الزمن، وطحنتها الصدمة حتى طمست معالم تلك الشابة ذي الثامنة والعشرين من عمرها، لتحل محلها امرأة وُئِدتْ حياتها من قبل أن تبدأ!!

- "كريمان"!!

هتفت باسمها ما إن اقتربت منها، فتقابلت الأعين لثواني غير كافية لاطمئنان وهج قلبها .. رمقتها مرة أخرى بشجن، وهي تذكر يوم كانت تنظر إلى ملامحها وترى بها الحياة في أبهى حُلَّلها .. لترى بها أيضًا نسختها وقسماتها التي طالما تمنت أن تكون لها.

كانعكاس المرآه، كانت "كريمان" بالنسبة لها .. اعتادت أن تنظر لانعكاسها، كصورة مُفلتره لعيوبها ..أما الآن، أضحت مرآتها مشوهه، بها عُطبٍ صدأ، وشروخ غير قابلة للإصلاح، لا تعكس الصورة أبدًا واضحة!!

أجلستها الممرضة مقابلها ثم تركتهما، قائله جملتها المعتادة:

- وقت ما تخلصوا يا فندم، أطلبينا!!

لم تعطيها أي اهتمام، كانت تصب اهتمامها على تلك التي تسحب أكمامها لتعتصرها بين راحتيها .. تعرف ما يعنيه هذا، وليس ذلك لأنها قد تشاركت معها الرحم ذاته فحسب، إنما لكونها اعتادت فعل هذا فيما مضي .. رغبة في الاختفاء، في التلاشي حد الموت، ولا شئ غير ذلك!!

شحذت كاميليا صوتها بعدما امتد الصمت بينهما طويلًا .. لو سأل أحدًا الآن فيما ترغب، ستخبره الرحيل، ولا تعرف لمّ قد تعبت نفسها وأتت بالأساس .. ربما هو فعل تأنيب الضمير!! .. أردفت بعدها:

- كريمان، عامله إيه؟؟

انكماشها أكثر كان هذا هو جوابها الوحيد .. فاستطردت كاميليا بعاطفة غريبة تجد تعاني في تحجيمها، فأكثر ما تأذت بسببه هو عاطفتها .. وخاصة مع تلك الجالسة أمامها:

- كريمان .. طمنيني عليكي ولو بكلمة طيب؟؟

لم تبد وكأنها قد سمعتها .. زفرت بسقم محاولة التمتع بالصبر وأن تضع في الاعتبار أن الاخرى لا تتقصد تجاهلها .. لذا كررت قولها بطريقة أخرى:

- طب هما بيعاملوكي كويس هنا؟؟ ..أقصد مستريحة؟؟ فيه حاجة ناقصاكي؟؟

- لأ..

زفرتها كريمان بمشقة وهي تعقد ذراعيها كحاجز دفاعي لصدرها، وتغوص في ثنايا الكرسي أكثر .. تنهدت كاميليا بشيء من الراحة وكأنها قد أدت الواجب المطلوب منها، واعتبرتها علامة تجاوب وتقدم في حالتها .. وذلك ما شجعها على الإكمال لتدنو أكثر منها حتى لا يسمعها أي مارٍ:

- انا عايزاكي تخرجي من الحالة اللي انتي فيها دي، وتطمني .. خلاص يا كريمان مافيش داعي للخوف تاني .. انتي ماتعرفيش أختك بقت إيه دلوقتي .. انا اقدر احميكي .. مش مصدقاني مش كده؟؟

باندفاعية فكرت ودافعها الاساسي حسن نيتها .. كانت تتلهف أي نتيجة وتستعجل أي تقدم في حالة الأخرى .. لذلك مررت طرف لسانها على حافة قواطعها سريعا، تلك الحركة العصبية المرتبطة بها لتجمع شتات جأشها، ومن ثم أردفت بجدية:

- طب اقولك على حاجة وتوعديني انك تتصرفي كويس؟؟

تشددت يديها على هاتفها بتفكير خاطف وملامح متجهمة ثم في ثانية قد اتخذت القرار .. متأمله أنها بذلك تساعد الأخرى، فتحت هاتفها دون تردد لتقوم بتشغيل فيديو مكتوم الصوت، وتوجه الشاشة جهة كريمان.

ثواني عَبَرَ فيها طفيف من مشاعر الاستنفار وجه كريمان، مما تراه في الفيديو أمامها الذي يعرض بوضوح تعذيب مخزٍ لثلاثة شباب مكبلون في سقف غرفة ما .. الحقيقة أنه لم يكن تعذيب فقط، بل كان اغتصاب بالمعنى الحرفي!! .. وذلك ما أجج بداخلها كل ما تم كبته من مشاعر وذكريات، وتحاول كل ثانية أن تنساه..!!

وقبل أن يغادر حرفٍ من فمها، اقتربت الكاميرا من لتكشف عن الوجوه .. وجوه قد حفرت معالمها ثنايا ذاكرتها ولم تغادر أحلامها قط!! .. وهنا تجمدت تعابيرها بصدمه وكأنه أحدهم سيلتقط لها صورة حتى أتمتها بصرخة هستيرية مفجعة.

صرخة تلتها عدة صرخات متقطعة وهي تحاول الحصول على الهاتف وتحطيمه .. وبلحظة تجمع عدد من التمريض لمحاولة تحجيم هياجها بينما كانت تعافر بقوة مجهولة المصدر للنيل من كاميليا وتمزيق وجهها .. لم تكن المرة الأولى التي تشهدها بمثل هذه النوبات، جمود تعابيرها، وثباتها المستفز أوضح هذا .. فقط تقف متسمرة تراقبهم وهم يدفعوا بالمهدئ إلى وريدها ويحملوها ما إن تراخى جسدها.

❈-❈-❈

-٥-

- ممكن تفهمني يا حضرة الدكتور المحترم إيه اللي حصل تحت ده؟؟ .. ثلاث سنين وأختي عندكم حالتها بتسوء أكتر، مش بتتحسن!!

هدرت بها كاميليا بصوتًا جهوري وهي تصفع المكتب أمامها، حتى تسببت في سكب القهوة الموضوعة عليه وإغراق الاوراق.

جز دكتور جلال على أسنانه وقد أدرك أن الأخرى التي قف أمامه ما هي إلا مختلة كأختها، قبل أن يرفع الهاتف من جانبه ويأمر:

- ابعتي حد من الـOffice boy حالًا على مكتبي!!

إرتجع بكرسيه بعيدًا عن المكتب ليستقيم ويجلس مقابلًا لها:

- مدام كاميليا .. ممكن تهدي شوية عشان نعرف نتكلم .. سبق وشرحت لحضرتك حالة أختك، دي حالة Trauma (صدمة) ومش أيTrauma ده اغتصاب جماعي لو حضرتك مدركة!! .. ٣ سنين مش مدة خالص في وضعها، خاصة وهي غير متجاوبة بالمرة مع العلاج، وعندها سلوك تدميري نحو نفسها بيخليها ترفض حتى تقوم بالـDuty (الواجبات اليومية) بتاعها وبترفض كمان النظافة الشخصية .. ده ساعات بتوصل بيننا إننا نخدرها عشان التمريض يعرفوا يقوموا بشغلهم!!

علّت ابتسامة ساخطة جانب ثغرها:

- والله .. ما كنتش أتصور أنكم بتعبوا أوي كدة!! .. دكتور جلال، واضح أن حضرتك نسيت الملايين اللي بتتحول لحسابك كل سنة عشان الخدمة الفندقية اللي المفروض أنها بتنافس مصحات باريس!! .. وفي الآخر النتيجة إيه؟؟ ، حالتها ماتقدمش خطوة واحدة .. فهمني بالظبط، انت فاتحها شفاط فلوس وانا ماعرفش؟! .. مصلحة بتسحب بيها الفلوس من جيوب الناس؟؟

امتعض وجه الآخر من حديثها الذي يهدم بنيان سُمعته وكرامته:

- يا كاميليا هانم انا ما سمحش بالإهانة دي!! .. وأظن حضرتك تعرفي كويس اسم جلال بدر، ووزنه جوه البلد وبراها .. ثانيًا العلاج النفسي عمره ما بيتقاس بوقت و..

قاطعته بلهجة حادة لاذعة:

- لا .. يبقا اسمعني أنت يا دكتور كويس!! .. انا فعلا مافهمش حاجة في العلاج النفسي، لكن أفهم كويس انك سحبت مني ملايين لو كنت أدتها لـ"كاريمان" في إيديها بس وهي قاعدة في بيتها، كانت خفت من غير علاجك!! .. واحب اقولك حاجة يا حضرة الدكتور المشهور .. اسمك اللي أنت فرحان بيه ده مش هايجي حاجة جنب أسم "كاميليا سحاب" يوم ما تطلع على الهوا، وتعمل حلقة بعنوان فضيحة أكبر مستشفى للنفسية في مصر .. بين قوسين (الدجل والشعوذة في ثوبها الجديد) .. وابقى سلملي على اسمك بعد كده!!

كلام من رصاص، تهديد لا يُستهان به .. هو يعلم جيدًا مَن هي كاميليا سحاب، ويعلم أنها إذا أطلقت تهديد، فهي قادرة على تنفيذه، وإذا نفذته، ستقضي على سعي سنوات من الجد والعمل!! .. كانت معالم الصدمة جالية على ملامح جلال، رجفة عينه البائنة تفضح خوفه، الصدمة أعجزته عن الرد .. ولسوء حظه لم يشفع ذلك له عند كاميليا؛ لأنها أكملت وهي تأخذ حقيبتها بتعابير تتعلم منها الثبات واللامبالاة:

- قدامك ﻵخر الشهر ده، دي أقصى مدة ممكن اسمحلك بيها .. لو عدت من غير ما اشوف نتيجة، هاتزعل يا دكتور!!

قبل أن تَسِمْه بآخر كلمة، دق الباب ليدخل عامل المكتب ويشرع في تنظيف الفوضى التي أحدثتها .. لتتركه كاميليا مشدوهًا في تهديدها، وتمضي لتستكمل باقي أعمال يومها.

❈-❈-❈




-٦-

مضي اليوم سريعًا دون أن تشعر بعد انخراطها في العمل، وخوضها في عدة اجتماعات إدارية روتينية، خرجت منها مع منتصف النهار، لتعود بعدها إلى المنزل كما ينص اتفاقها مع سليم.

عندما وصلت وجدته ينتظرها في غرفة الطعام، لم تكن بمزاج لتبديل ملابسها، بالأساس لم يكن هناك وقت لذلك .. تُنهي هذا اللقاء الحتمي سريعًا، ثم تذهب للمكان الذي سيُهدئ اعصابها الثائرة .. أما الآن، فعليها أن تبتسم، وتشد العزم..

ألقت عليه التحية وكان جلّيًا أنه ليس بمزاجٍ جيد هو أيضًا!! .. حسنًا، هذه من اللحظات النادرة التي تلمح بها عصيبة سليم .. دائما ما عوّدَها على برودة أعصابه التي تنافس جليد القطب الشمالي والجنوبي معَا!!

لمحها بزاوية عينه تتقدم منه بدلال خُطاها، فازدادت جهامة وجهه .. الآن ستأتي، وتبدأ في ممارسة طقوس الكاميليا خاصتها، تُلقي بسحر كلماتها، وتطوق عنقه بغنجها، تنسج حبال مكرها حيث لا نجاة منه .. زفر بعمق، ليس اليوم كاميليا من فضلك، ليس اليوم!!

- اتأخرتي!!

تشدق بها بنبرة فظة جعلتها تقوس فمها بسخرية بينما تسحب مقعدها على يساره، لتجيبه:

- الساعة لسه ماجتش أربعة!!

- الغدا ثلاثة ونص يا هانم، ولا ده كمان الحفلة اللي عادي تسيبيها وتمشي على مزاجك!!

ابتلعت عصبيّته بصعوبة، فهي تعلم جيدًا ما تكبده ليلة أمس من حرج بعد أن تركته دون إنذار .. لذا تمتمت مضطرة من بين أسنانها:

- آسفة..

- آسفة؟! .. انتي عرضتي شخص في مركزي الحساس ده للإحراج قدام كل الناس اللي كانت معزومة على اسمنا!!

”تنهدي كاميليا، تنهدي وأخرجي الأنفاس الغاضبة، لا تنفعلي وتفسدي كل شئ الآن“

أغمضت عينها لثواني تَعدّ بها للعاشرة بشكلٍ عكسي حتى تمالكت أعصابها ومن ثم حدثته بتأني:

- عارفة، معاك كل الحق انك تتعصب .. لكن انا فعلا كنت تعبانة ومحتاجة أرتاح .. خصوصًا بعد ما خلصت دوري اللي اتفقنا عليه!!

التقم حديثها وهو يرمقها بنظرة حاجة من خلف زجاج نظارته الطبية .. اعقب هذا دخول الخادمة لتبدأ في رصّ أصناف الطعام أمامهما، وهي حريصة أشد الحرص على ترتيب أدوات الطاولة بشكلٍ محدد حتى لا تثير انفعال السيد ويفرغ غضبه بها هي..

لكن مع ذلك، لم تلق رضاه، فأشار لها بعد اهتمام لتترك كل شيء وترحل .. راقبته كاميليا وهو يُخرج أحد المحارم الجديدة من غلافه كعادته، ليبدأ طقوس تنظيف أدواته التي غالبًا تنتهي بعد ميعاد الغداء بساعتين .. كل هذا وهو لايزال محتفظ بارتداء قفازه الجلدي الأسود، لم يخلعه .. وعادةً هو لا يخلعه إلا لو كان هناك كاميرات تصور!! .. كحفل أمس مثلًا!!

”اللعنة على الوسواس القهري وطقوسه ومرضاه أيضًا“

لعنت كاميليا بغيظ داخلها وهي بالكاد أعصابها تتحمل الدقائق التي تجمعهما .. صدقًا منذ أن عرفته وتزوجا وهو يخرج روحها بوسواسه القهري تجاه التنظيف والتنظيم الذي كان يصل به في بداية الأمر حد المكوث بالحمام طيلة اليوم!! .. يغتسل مرة تلو الأخرى وومن ثم يغسل كل ما تقع عينه عليه في الحمام .. وفور أن يُنهي كل هذا ويلمس مقبض الباب كي يخرج، غالبًا ينتهي به الأمر يعيد كرّة الغسيل من جديد!! .. وهكذا دواليك .. وتبًا لحياتها اللعينة ألف مرة!!

الآن، وبعد أن ضغطت عليه كي يخضع للعلاج قد خف الوضع كثيرًا، ولولا خوفه من الإعلام والعامة وأن الأمر بدأ يؤثر على عمله كان ليخبرها ببرود سمكة ..

”حيطان البيت كتيرة زي مانتي شايفة .. لو مش عاجبك اختري اللي تريحك واخبطي دماغك فيها!!“

وليت أن الأمر كان ينتهي عنده ويكتفي بتنظيف نفسه، بل كان يمرر عيشتها وحياتها ونومها ولا مانع بموتها بطقوس التنظيف اللعينة خاصته .. حتى العاملات بالمنزل لم يتركهم لحالهم، وقد تسبب في تسرب أغلبهن من العمل .. عمل، عن أي عمل تتحدث ؟! ما كان يفعله بهن سُخرة وليس مجرد عمل!! .. وبالكاد استطاعت إيجاد واحدة ترضى بهكذا شقاء مقابل راتب خرافي!!

”على كلٍ، لقد ولّت تلك الأيام كاميليا وأنتِ الآن تعيشين عصرك!!“

تنبهت له وهو يسألها بهدوء بعد فترة ويبدو أن الله قد بارك له وانتهى من طقوسه اليوم سريعًا:

- انتي روحتي المستشفى النهارده؟؟

صوت اصطدام ادوات الطعام بالمائدة كان له رنين عالٍ نمَّ عن استياءها:

- هي لحقت توصل الأخبار؟؟

أمتعض وجه:

- المرة دي مش 'سالي' .. ده دكتور جلال'، بيقول أنك هددتيه!!

- حصل..

بهكذا برود جاوبته وهي تستكمل طعامها، ليزم سليم شفتيه بسخط:

- انتي ليه مصره تمارسي جنانك وتفتحي العيون حوالينا انتي والقوادة اللي ماشية معاها!!

هنا وقد انتفخ صدرها على الأخير، لتفشى ابتسامة صفراء على محياها وهي ترمقه بخبث:

- ما هو لولا القوادة دي كان زمان مراتك هي اللي..

ضرب الكأس أمامه فتناثر زجاجه على الأرض .. سليم قد بلغ حده، إنذار كاميليا، تراجعي .. تحولت عيناه ببريق شرس غير ملائم للونها المسالم:

- إياكي يا كاميليا .. إياكي!!

تلقفت زجرته برحابة صدر، فدائما ما كانت تتقن لعبة البرود:

- يبقى ما تفتش ورايا عشان انا كمان ما خبطش فيك!!

احتدت نبرته وهو يجد صعوبة في مجاراة أسلوبها المستفز:

- انا مافتشتش .. ريحتك هي اللي فايحة يا استاذه!!

- ماكنتش هاتفوح لولا كلاب 'سالي' هانم!!

- يادي 'سالي'!! .. قولتلك أختي مالهاش دعوة بالموضوع!!

اعتدلت بكرسيها لتقابله وقد سقط قناع برودها تلك اللحظة لتظهر بلونها الحالك:

- هي اللي مش طايقاني من يوم ما أتجوزنا، خليها تبعد عني وإلا..

اعتدل هو الآخر ليكمل بتحدي:

- وإلا إيه يا أستاذة 'كاميليا' .. ده أحنا كبرنا وبقينا نعرف كمان نهدد أهه!!

ابتسمت له باستفزاز:

- تلميذتك يا سعادة السفير.

استقام من جلسه مرة واحدة وهو يجمع ستره قائلا وهو ينهي الحديث نائيًا بنفسه عن الانحطاط معها:

- ماشي يا كاميليا .. بس خلي بالك، حسابك تقل!!

نهضت هي الأخرى لتواجهه وترد بجدية هذه المرة:

- ما أنصحكش يكون فيه بينا حساب يا 'سليم'، عشان لو حصل، هاطلعك منه مالطّ ومفضوح!!

بُهت من ألفاظها الفظّة عديمة الحياء، ولم يتمالك أعصابه ليجد نفسه في لحظة يطبق عنقها، ومجددًا قد خسر احترامه لنفسه معها!!

إنها الآثار الجانبية للكاميليا يا عزيزي!!

كان يخنق أنفاسها بينما يضغطها إلى المقعد .. إنها المرة الأولى التي يحاول فيها قتلها، يبدو أنها قد تمادت بالفعل .. لكن بالرغم من هذا لم تهتز بها شعره، نظرات عينيها تنهال منها الكره والاحتقار .. ربتت على يده الممسكه بعنقها بقوة أكثر من مرة، قبل أن يخرج صوتها يحمل نبرة متحشرجه لتأمره بجمود:

- طب سيب!! .. سيب يا سليم!! من أمتى وأحنا بنعامل بعض كده؟! .. أحنا أكيد أتحسدنا أمبارح!!

ابتلع ريقه وهو يجد صعوبة في استيعاب مما خلقت هذه المرأة .. بلّوة، وأُبتليَّ لها!! .. لكن بالنهاية امتثل ﻷمرها وتركها مبتعدًا، تخللت أصابعه في رأسه .. لغمض عينه باستسلام ونفاذ صبر حينما سمعها تتحدث بطريقة ناعمة مغوية وقد أصبحت بلحظة تقف خلفه:

- ليه كده يا 'سليم'؟؟ .. ليه توصلنا للنقطة دي؟؟ .. أحنا أتنين بنحب بعض وبنموت كمان عشان بعض..

أدارته بخفه وقد بدت ملامحه المتجهمة أكثر لينًا ولكنها حذره .. تأثيرها، يبعث على الجنون برأسه:

- مش كده يا 'سليم'؟؟ .. مش دي الصورة اللي أتفقنا أننا نحافظ عليها قدام الناس؟؟ وطول ما أحنا مش بنضر بمصالح بعض وبنحافظ علي الصورة دي نبقا أحرار؟؟ .. مش ده كلامك يا 'سليم'؟؟ مش أنت اللي قولتلي أننا بنكمل بعض وأن علاقتنا ما حصلتش قبل كده؟؟ .. أحنا كل الناس بتحسدنا يا 'سليم' على اللي أحنا فيه، بتحسدنا زي ما أحنا كده .. أرجوك يا 'سليم' ما تسمعش لـ'سالي' أو غيرها، ماحدش يعرف أي حاجة عننا .. يلا، يلا يا حضرة السفير عشان تلحق اجتماعك، وانا هاروح بنفسي للقواا.. أقصد لـ'صافي' عشان أشوف عملت إيه في موضوع امبارح .. ومش عايزاك تقلق .. مع 'كاميليا'، هاتدخل الوزارة من أوسع أبوابها!!


يتبع