-->

رحلة مع القدر - قصة قصيرة


رحلة مع القدر للكاتبة سمر إبراهيم- قصة قصيرة


 رحلة مع القدر - قصة قصيرة


و لكن كيف يمكنك أن تعيش،

 وأنت لا تمتلك قصص لترويها.

    دوستويفسكي


❈-❈-❈


لا توجد حياة بدون عقبات، فالعثرات هى التى يولد من خلالها أعظم الرجال.



فى ليلة عاصفة ممطرة من ليالى الشتاء الكئيبة كانت تسير سيارة أجرة يستقلها أسرة مكونة من أب وأم يظهر عليها آلام المخاض وطفل لم يتجاوز الثامنة.


كان الزوج يحتضن زوجته ويربت على ظهرها وهى تتألم.


- آه مش قادرة استحمل يا أحمد حاسة إنى هموت المرادى مش قادرة بجد.


- متخافيش يا حبيبتى إن شاء الله هتقومي بألف سلامة والست ندا هتشرف على خير خلي ثقتك فى ربنا كبيرة.


كل هذا على مرأي ومسمع من إبنهم الصغير سيف الذى لم يكف عن البكاء وهو يرى  أمه تتألم بهذا الشكل.


كانت السيارة تسير بتخبط نظرًا لهطول الأمطار الغزيرة، وحاول السائق الإسراع بقدر الإمكان لنجدة المرأة التى قاربت على وضع مولودها داخل سيارته، وأثناء سير السيارة ظهرت فجأة أمامهم سيارة أخري، حاول السائق تفاديها بكل الطرق ولكن، هطول الأمطار، وإنزلاق السيارة فى  مياه المطر، لم يساعده أبدا على ذلك، وفجأة وبدون سابق إنذار وقع الحادث الذى أقل ما يقال عنه أنه مميت.

 

❈-❈-❈


بعد مرور ما يقارب الشهر، ظل خلالها سيف يرقد فى غيبوبة كاملة، بذل بها الأطباء أقصى ما عندهم لإنقاذ حياته، لكى يكتب لهذا الطفل عمر جديد فنجاته من هذا الحادث كانت معجزة إلهية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.


فاق سيف من الغيبوبة لا يعلم ماذا حدث، أو أين هو، وفجأة بدأ يستعيد ما حدث ليصرخ بكل ما أوتي من قوة مناديا على والديه.


هرع إليه الأطباء ليتفقدوه فور إبلاغهم باستيقاظه من غيبوبته وبدأوا بفحصه وحاصروه بأسئلة لا حصر لها.


- إنت كويس يا حبيبى؟ حاسس بحاجة بتوجعك؟ فيه زغللة فى عينك أو وش فى ودانك؟ قول كل إللى حاسس بيه؟ متخافش إحنا كلنا جمبك.


لم يجب سيف على أي من هذه الأسئلة ولكنه قال شيئا آخر:

- ماما وبابا فين؟ أنا عايز ماما لو سمحتوا، لو هما برا نادوا عليهم، أنا عايز أشوفهم وماما،  ماما كانت بتولد جابت ندا ولا لسة؟ إنتوا محدش بيرد عليا ليه؟ أنا عايز ماما وبابا.


ظل الأطباء ينظرون لبعضهم البعض ولا ينطقون بشيئ، فكيف يمكن أن يقولوا لطفل فى هذا العمر أنه فقد كل شيئ؟ كيف يخبرونه أن أمه والطفلة التى كانت تحملها فى أحشاها ووالده توفاهم الله فى الحادث ولم يعودوا على قيد الحياة؟


خرج الأطباء من الغرفة دون قول شيئ، واستدعوا الطبيب النفسى الخاص بالمشفى لكى يتعامل مع الطفل حتى يستطيع أن يخبره بما حدث.


نظر له الطبيب بتيه لا يعلم كيف يخبره بما حدث؟

- بص يا سيف أنا عارف إن إللى هقولهولك ده صعب أى حد يستوعبه أو يتحمله بسهولة بس ده قضاء ربنا وقدره.


سكت الطبيب لبرهة من الوقت ثم تكلم بصوت متحشرج مليئ بالتعاطف على هذال الطفل الصغير.

- والدك ووالدتك توفوا فى الحادثة البقاء لله يبنى.


كانت صدمة كبيرة عندما علم بما حدث وكأن صاعقة نزلت على رأسه دون سابق إنذار.

- يعنى إيه الكلام إللى إنت بتقوله ده؟ يعنى إيه ماتوا؟ وليه هما يموتوا وانا اعيش؟ واعيش لمين؟ ومع مين؟

- يعنى مش هشوفهم تانى ليه أنا إللى يحصلى كدا؟ انا عملت إيه علشان كل حاجة تروح منى فى لحظة كدا؟


ودخل فى نوبة إنهيار مما اضطر الطبيب أن يعطيه حقنة مهدئة حتى لا يصاب بإنهيار عصبي.


كان سيف يرفض التحدث منذ أن علم بما حدث لوالديه، حاول المعالج النفسى أن يجعله  يتحدث بكل الطرق لكى يتخطى ما حدث إلى أن استطاع شيئا فشيئا وخلال ثلاثة أشهر متتالية أن يخرجه من صدمة فقدان والديه واستطاع سيف أن يتقبل عدم وجودهم فى حياته.


تعجب الطبيب كثيرا من قوة تحمل وجلد هذا الشبل الصغير فما مر به من الممكن أن ينهار أمامه أعتى الرجال ولكن هكذا هم الأطفال يستطيعوا أن يتحملوا مالا يمكن أن يتحمله أقوى الرجال.


خرج سيف من المشفى عندما اكتمل شفاؤه ولأنه لا يوجد لديه أقارب تم إيداعه فى دار رعاية.

                                       

 ❈-❈-❈





كانت دار الرعاية كغيرها من هذه الدور؛ مظلمة، باردة، يتعامل الأطفال بها معاملة قاسية لا توجد سبل للترفيه، من يخطئ يعاقب بالحبس فى غرفة منفردة لا تدخلها الشمس، وأحيانا يكون العقاب البدنى هو سيد الموقف.


لطالما أمضى سيف ليالي طويلة في هذه الغرفة المظلمة، الباردة، الكئيبة، كان كل ما يستطيع فعله هو البكاء محتضن قدميه إلى صدره ويعيد ذكرياته مع عائلته فهذه الذكريات عي كل ما تبقى لديه منهم.


لم يكن يخفف عن سيف ما يراه فى هذه الدار البغيضة سوي التعلم فلقد لاحظ أنه بعد الحادث أصبح لديه قدرة إستيعاب أكبر مما سبق وخاصة فى العمليات الحسابية إلتى لاحظ انه أصبح يستطيع حلها مهما بلغت صعوبتها بمجرد النظر.


لم يكن يعلم أن ذلك من تأثير الحادث حيث أنه كان قد أصيب في رأسه إصابة بالغة وبعد المعافاه تركت أثر على المخ ولكن لحسن حظه كان أثر ايجابى وليس سلبى كما هو الغالب في مثل هذه الحوادث ولك يعلم الأطباء السر وراء ذلك فهي إرادة الله ليس إلا.


بعد مرور ما يقرب العام عل مكوثه فى تلك الدار استيقظ سيف ليجد أن حالة الطوارئ تضرب كل ركن من أركان الدار فالكل يعمل عل  قدم وساق، هناك من ينظف المكان وهناك من يزينه وهناك من يلبسون الأطفال الملابس الجديدة الأنيقة التى لا يحصلون عليها إلا إذا حدث تفتيش على الدار.


لكن ما لم يعلمه أن هذه المرة كان التفتيش من لجنة من حقوق الطفل ووفد من وزارة التربية والتعليم فى مبادرة لإختيار الطلبة المتفوقين فى الدار لالتحاقهم بمدرسة جديدة تم إنشاؤها حديثا لكى تضم أفضل طلبة على مستوى الجمهورية كتجربة جديدة للإرتقاء بمستوى التعليم فى البلاد فلو نجحت التجربة سوف يتم تعميمها على مستوى الجمهورية.


وصلت اللجنة ولم يكن أعضاؤها يشعرون بكثير من التفاؤل، فهذه الدار هى الدار العاشرة التى يذهبون إليها ويخرجون خاليين الوفاض فمستوى الطلبة سيئ جدا معظمهم لا يجيدون القراءة والكتابة إلا بصعوبة شديدة نظرا لتردي مستوى التعلم فى هذه الدور وعدم إهتمام أحد من المسؤولين بها.


بدأت اللجنة عملها بتقييم الطلبة وكادوا يصابوا باليأس فهذه الدار كغيرها لا يوجد جديد إلى أن دخل سيف وبدأوا بسؤاله وفجأة ظهرت عليهم علامات الدهشة بل والذهول أيضا من هذا الطفل المعجزة الذى يسبق سنه بأعوام فلو كان هذا الطفل موجود فى إحدى الدول الأوروبية لكان الآن فى المرحلة الجامعية وليس الإبتدائية.


فجأة تحول اليأس إلى أمل وإحساس الفشل إلى نجاح وتهللت أسارير اللجنة وشعروا وكأنهم حصلوا على كنز ثمين فهذا الطفل عبقري بكل ما تحمله الكلمة من معني.


خرجت اللجنة ومعهم سيف الذى كان لا يعلم ماذا يحدث ومن هؤلاء والى أين يأخذوه.

                         

     ❈-❈-❈
 

سبحان مغير الأحوال من حال إلى حال فجأة  وجد سيف نفسه داخل مبنى أقل ما يقال عنه أنه فريد من نوعه فلا يعلم هل هذه مدرسة أم فندق.


المبنى كان عبارة عن مدرسة داخلية ولكن مبنية على أحدث الطراز المعماري وبها كل وسائل الراحة والترفيه التى من الممكن أن يحصل عليها الإنسان.


كانت تتكون من فصول للدراسة، وغرف لسكن الطلاب، وصالة ألعاب، وملاعب لممارسة كل أنواع الرياضات.


كانت نموزجًا لما يمكن أن يحلم به طفل في يوم من الأيام.


ظل سيف ينظر حوله بذهول لا يصدق أنه ترك الدار الحقيرة ليستبدلها بهذا المكان المذهل.


إستقبل اللجنة مدير المدرسة الذى أخد سيف وسلمه للأستاذ فريد الأخصائي الإجتماعى والنفسي فى المدرسة لكى يوصله إلى غرفته لكى يستريح علي  أن ينتظم فى الدراسة من الغد.


كان الأستاذ فريد بشوش الوجه دائم الإبتسام نظر لسيف نظرة أبوية وقال له:
- تعالى معايا يا بطل أوريك أوضتك وإن شاء الله تحب المكان هنا وتتأقلم معانا بسرعة أنا إسمي أستاذ فريد عثمان إعتبرني هنا زي والدك بالظبط وأي حاجة تحتاجها تعالالى علطول.


وأشار إلى غرفة فى طريقهم.

دا مكتبى هتلاقينى موجود علطول لو احتجت أي حاجة.

ودا الكلاس بتاعك الساعة ٨ بالدقيقة تكون موجود علشان يبدأ اليوم الدراسى.

مقولتليش إسمك إيه؟

- أنا إسمي سيف، سيف أحمد نور الدين.

مد يده لمصافحته وقال له تشرفنا يا أستاذ سيف.


لم يشعر سيف بهذه الراحة منذ وفاة عائلته أحس وكأنه أخيرًا وصل بر الأمان.


وصل لغرفته ووضع أشياؤه فى الخزانة واستغرق في النوم، نام نومًا عميقًا ولأول مرة ينام قرير العين منذ ما يقرب العام تري هل إنتهت آلامه أم سيبدأ رحلة آلام جديدة؟


في الصباح إستيقظ سيف فى كامل نشاطه لكى يذهب لبدء أول يوم دراسى له، اغتسل وبدل ملابسه وخرج قاصد حجرة الدراسة التى رآها أمس.


وصل سيف الفصل ولم يكن أحد من التلاميذ قد أتى بعد فاختار لنفسه مكان فى أول الصف وجلس فى إنتظار باقى زملاؤه.


لم يمر وقت طويل إلا وحضر باقى التلاميذ الذين تعجبوا من وجود هذا الوافد الجديد الذى يجلس مكان وليد.


كان معظم التلاميذ يظهر عليهم علامات الثراء الواضحة التى كان يفتقر إليها سيف.


دخل آخر إثنان ووقفوا أمام سيف ويظهر علي وجوههم علامات التعجب وقال أحدهم باستهزاء:

- ودا مين بقى ده إن شاء الله إللى قدر يقعد مكانك يا ليدو؟


فرد عليه الآخر وعلى ما يبدوا أنه هو المدعو
 وليد:
- شكله وافد جديد وميعرفش لسة القوانين.


وحدثه باستعلاء وهو ينظر إليه من أعلى لأسفل:
- إنت جديد هنا يا......؟


رد عليه سيف بلهجة يغلب عليها التردد:
-أيوة أول يوم ليا النهاردة انا سيف نور الدين.


مد يده ليسلم عليهم ولكن لم يسلم عليه أحد منهما.


نظروا إليه نظرة تقييمية من أعلى لأسفل وقال
 له هذا المدعو وليد:
- وإنت اتحدفت علينا من أنهى حتة بقى إن شاء الله.


نظر له سيف باستغراب من طريقته الفظة التى يتكلم بها ورد عليه قائلا.
- من دار ..... لرعاية الأيتام.


أخذ وليد وصديقه يضحكون بإستخفاف وتبعهم باقى التلاميذ.

- مبقاش فاضل غير يجيبولنا ناس من الملاجئ كمان هى الناس دى اتجننت ولا إيه مش عارفين المدرسة دى بيدخلها مين علشان يجيبوا ناس مالهاش أصل ولا فصل مبقاش فاضل غير كدا كمان.


إسمع يا بتاع إنت المكان ده مكانى إياك أشوفك قاعد هنا تانى  ولا تقرب منه حتى أنا وليد الشربيني إحفظ الإسم ده كويس ولو متعرفش مين وليد الشربينى ممكن تسأل أي حد وهو يعرفك أنا مين كويس أوى إتفضل شيل الزبالة بتاعتك وامشى من هنا.


صدم سيف من هذه الطريقة التى تكلم بها معه وقام بحمل أشياؤه وسط سخرية باقى التلاميذ وذهب ليجلس في آخر الصف.


دخل المدرس لشرح مادة الرياضيات والذى ذهل بدوره من ذكاء سيف الخارق وبدأ يعطيه مسائل حسابية فى غاية الصعوبة وهو يقوم بحلها بسهولة دون حتى أن يحتاج للورقة والقلم.


كل ذلك وسط ذهول وإنبهار من البعض والغيرة والغل من البعض الآخر.


بعد إنتهاء الحصة وخروج المدرس أخذ وليد يسخر من سيف مرة أخرى وحاول إفتعال شجار معه بأى طريقة وكاد أن يضربه بالفعل لولا تدخل الأستاذ فريد فى آخر لحظة وفض الشجار وتكلم مع وليد بمنتهى الحسم:

- إنت بتعمل إيه؟ إنت مش ناوى تبطل طريقتك دى، الطريقة دى متمشيش فى المدرسة هنا لو الموضوع ده اتكرر إنت مش هيبقى ليك مكان هنا، إحنا ميهمناش إنت مين ولا ابن مين، المدرسة هنا ليها أسس وقواعد تمشى على الكل إنت وغيرك، ولو فضلت بأسلوبك ده انا هضطر استدعى ولى أمرك ولو متصرفش يبقى تتفضل تشوف مدرسة تانية.


كان كلام الأستاذ فريد به من الحزم ما يجعل باقى التلاميذ يلزموا أماكنهم دون أن ينطقوا بكلمة وأولهم وليد.


وجه الأستاذ فريد كلامه لسيف مربتا على ظهره بحنان أبوى.

- أنا مستنيك بعد إنتهاء اليوم الدراسى يا سيف خلص وتعالى مكتبى.

رد عليه سيف ناظرًا للأرض:
- حاضر يا مستر.


ذهب فريد وجلس التلاميذ فى أماكنهم مع نظرات توعد من وليد لسيف.


بعد إنتهاء اليوم ذهب سيف لمكتب الأستاذ فريد ودخل بعد أن أذن له.


نظر له الأستاذ فريد نظرة كلها حب وحنان أبوي افتقده سيف من مدة طويلة.

- قولى بقى يا بطل إيه حكايتك متشوق جدا أعرف حكاية الطفل العبقري اللي أبهر اللجنة.


وبدأ سيف فى سرد حكايته على مستر فريد وكيف تحول من طفل سعيد يعيش وسط أسرة سعيدة محبة، لطفل يتيم يقيم فى دار للأيتام.


تعاطف فريد مع سيف جدا وقام بإحتضانه وتحدث إليه بمنتهى الصدق:

- أنا هنا فى مقام والدك لو إحتجت أى حاجة تعالالى علطول، وانا هستناك هنا كل يوم بعد إنتهاء اليوم الدراسى علشان تحكيلي يومك كان عامل إزاى زى ما والدك كان بيعمل بالظبط؛ انا معنديش أولاد ومن النهاردة هعتبرك إبنى إيه رأيك.


زاد سيف من احتضان فريد ولم يستطع السيطرة على دموعه فبكى، بكى بكاءًا شديدًا لم يبكيه حتى عندما علم بوفاة والديه.


أخذ فريد يربت على ظهره عله يبث فيه شعور الأمان الذى افتقده وتركه يخرج كل ما فى قلبه عل البكاء يريح قلبه الصغير.

                        

      ❈-❈-❈ 



بعد مرور عدة أشهر لم تخلوا من مضايقات وليد لسيف وكذلك عطف وحنان أستاذ فريد عليه ولكنه كان يشعر بأنه منبوذ داخل الفصل لا يحظى بأصدقاء فكلهم لا يريدون التعامل معه إما استصغارا لشأنه وسخرية منه لأنه أقل منهم مكانة وإما خوفا من بطش وليد إذا رأى أحد منهم معه.


كان سيف يجلس وحيدا فى الفصل فى الإستراحة التي في منتصف اليوم الدراسي؛ فهو لا يغادر الفصل إلا مع إنتهاء اليوم الدراسى تجنبا للإحتكاك بوليد وغيره من المتنمرين الذين لا يتوانون فى السخرية والتقليل منه.


بينما هو يريح رأسه على المكتب أمامه شعر بيد تربت على ظهره، انتفض من مكانه ليرى من هذا فوقعت عينيه على أجمل فتاه ممكن أن يراها فى يوم من الأيام فتاه صغيرة شقراء ذات شعر أشقر قصير وعيون زرقاء مثل موج البحر يدها ممتدة نحوة ممسكة بثمرة تفاح تعطيها له بوجه بشوش وابتسامة لم يرا مثلهم من قبل.

- هاى أنا ريم جديدة معاكم هنا ممكن تقبل التفاحة دى مني عربون صداقة أنا بصراحة ماليش أصحاب وأخدت بالي إنك زيي.


قبل منها التفاحة وجلست هي بجواره وقالت له وهي محتفظة بابتسامتها:

- مقولتليش اسمك إيه.
- أنا سيف.
-تشرفنا يا سيف إحنا من النهاردة أصحاب ماشي.
-ماشى أصحاب.


مرت الأيام وريم وأستاذ فريد هم خير  معين لسيف فلولاهم لما إستطاع تخطى تنمر وليد وأصدقاءه عليه ولتأثر نفسيا جدا من هذا التنمر ولكنهم كانوا بجواره.


اليوم هو نتيجة الشهادة الإبتدائية وسيف هو الأول على الجمهورية فلولا النظام التعليمى فى مصر لتخطى سيف المراحل التعليمية ودخل الجامعة مباشرة ولكن هذا ليس معمولا به فى مصر.


إستطاع سيف أن يحصل على أول الجمهورية فى الشهادة الإعادية أيضا وذلك مما دفع وليد أن يحقد عليه أكثر من قبل.


كان سيف وريم يجلسون فى الفصل كعادتهم فى إستراحة اليوم الدراسي عندما دخل وليد وأصدقاءه وذهبوا حيث يجلس سيف وريم وقام بالصفير هو وأصدقاءه وتحدث بسماجته المعهودة.

- الله الله دا إيه إللى بيحصل هنا ده والفصل فاضى كدا من ورانا طب كنت نادى علينا على الأقل نشجعك.


إلى هنا ولم يتحمل سيف هذا الكلام أكثر من ذلك فأمسك بوليد من مقدمة قميصه وهدر به بصوت يملأه الغضب.

- إسمع ياد إنت أنا استحملتك واستحملت سماجتك وطريقتك الوقحة كتير وعديتلك أكتر إنما لحد هنا وكفاية أى كلمة زيادة وهوريك تربية الملاجئ ممكن يعمل فيك إيه فلايمها معايا وخليك بعيد عنى أحسنلك إنت لحد دلوقتى مشوفتش أنا ممكن أعمل فيك إيه.


أنهى سيف كلامه دافعا وليد بمنتهى العنف حتى ترنح للخلف ووقع فضحك عليه كل من حوله وهنا وقف ونظر لسيف بمنتهى الغل وترك الفصل وخرج.


فى نفس اليوم كان سيف وريم يسيرون سويا بين أروقة المدرسة بعد إنتهاء اليوم الدراسى وفجأة وجدوا أنفسهم محاطان بوليد وأصدقاءه وكانت نظراتهم إليهم لا تبشر بالخير أبدا.


أحس سيف بالخطر ونظرات الغدر فقام بإبعاد ريم حتى لا تصاب بأي أذى ووقف أمامهم دون أن يرف له جفن.


تحدث وليد بكل ما يحمله من غل وحقد تجاه سيف.

- بقى إنت يا تربية الملاجئ تقلل منى قدام الناس شكلك نسيت أنا مين بس أنا بقى هفكرك.


بدأ وليد وأصحابه يضربون سيف ولولا مجيئ ملاكه الحارث فى تلك اللحظة لكان حدث له مالا يحمد عقباه.


كان أستاذ فريد في مكتبه عندما وجد ريم تدخل عليه دوا استئذان وهي تلهث وعلامات الزعر بادية على وجهها بوضوح.

تحدثت ريم بصوت متقطع:
- إلحق سيف يا مستر فريد وليد وأصحابه هيضربوه.


خرج معها مسرعا لتدله على مكان وجودهم فوجدهم يتكالبون عليه بالفعل وهو لا يستطيع أن يفعل شيئ أمام كثرة عددهم.


إستطاع أن يخلصه من بين أيديهم وتم أخذهم جميعا لمكتب المدير وأخذ فريد سيف لطبيب المدرسة لكى يطمئن عليه والذى طمأنه بدوره فلم يكن به إصابات تذكر فلقد حضر فريد بالوقت المناسب.


فى مكتب المدير تم معاقبتهم جميعا بالفصل لمدة اسبوع واستدعاء أولياء أمورهم.


بعد ذلك وعندما علم والد وليد بما فعل قرر نقله إلى مدرسة أخرى.

                        

     ❈-❈-❈




 

مرت ثلاث سنوات واليوم نتيجة الثانوية العامة وسيف هو الأول عالجمهورية كما إعتاد فى المرحلة الإبتدائية والإعدادية وها هو اليوم فى لقاء تلفيزيونى ومعه وزير التربية والتعليم وزملاؤه من أوائل الجمهورية.


سألته المذيعة الأسئلة المعتادة فى هذه المناسبات.


كان سيف يطمح لدراسة الطب بالرغم من محاولات أستاذ فريد وريم لجعله يدرس الهندسة نظرا لعبقريته فى الرياضيات ولكنه صمم على رأيه فهو يريد أن يصبح طبيبا يعالج المرضى لعله يستطيع فى يوم إنقاذ أسرة من الموت وإنقاذ أطفال صغار من شعور اليتم.


حصل سيف على منحة من جامعة ألمانية كبيرة لدراسة الطب بها، كان لايستطيع أن يصف شعوره وقتها كان كمن يطير فوق السحاب بهذه المنحة بالرغم مما شعر به من غصة بقلبه لفراق ريم وأستاذ فريد ولكنه كان سعيد لإقترابه من تحقيق حلمه.


هما أيضا كانا يشعران بإحساسين متناقضين بين الحزن على فراقه والسعادة لما إستطاع أن يصل إليه فهم يتمنون له السعادة فى كل الأحوال حتى لو كان الثمن أن يفترقوا عنه.


سافر سيف لألمانيا بعد أن ودعهم فى المطار مع وعد أن يتواصلوا سويا.


وداعهم كان شاق جدا على نفسه كمن يفارق عائلته فهم بالفعل كل عائلته فطوال الأعوام الماضية كانوا هم ملاذه الآمن الذي يحتمي به من كل شرور العالم فلولاهم لم يكن ليعلم أين كان سيصل ولكنه كان متيقن أنه لم يكن ليصبح ما هو عليه الآن.


أخذ طوال الرحلة والتي استغرقت أكثر من خمس ساعات يتذكر الأحداث المواقف التي مرت به معهم وكيف ساندوه إلى أن وصل لبر الأمان فلولاهم لصار مجرم أو مريض نفسي يصعب علاجه.


لكم سيشتاق إليهم خاصة ريم ملاكه الصغير التي أتت لتنير عتمة حياته لقد أحبها من أول لحظة وقعت عيناه عليها ولكنه لم يصرح لها أبدا بحقيقة مشاعره بالرغم من إحساسه أنها تبادله نفس المشاعر ولكنه رفض أن يخبرها بشيئ قبل أن يصبح رجل جدير بحبها.


نعم هي مجازفة كبيرة ألا يعترف لها بمشاعره ولكنه على يقين من أنها ستنتظره لو كانت فعلا تحبه وهذا ما كان يراه واضحا في نظراتها إليه حتى وإن لم تصرح له بشيئ.


لم تكن الحياة فى ألمانيا سهلة أبدا فقرر سيف أن يعمل إلى جانب الدراسة ومع ذلك كان متفوق جدا كان يحضر أكثر من فصل دراسى لكى يختصر سنين الدراسة بقدر الإمكان حتى يستطيع العودة بأسرع وقت لمن اشتاق لهم القلب فهو لم يكن لديه القدرة المادية التى تمكنه من  أن ينزل مصر فى العطلات الدراسية.


كان دائم التواصل مع أستاذ فريد وريم عن طريق مواقع التواصل الإجتماعي مهما بلغت درجة انشغاله فكان دائما يجد لهم الوقت لكي يتحدث معهم ويطمئن عليهم ويطمئنهم على نفسه.

                            ❈-❈-❈ 


أما عن ريم فقد حققت حلمها بدخول كلية الهندسة التي كانت تحلم بدخولها منذ أن كانت طفلة، وبالرغم من حياة الجامعة الصاخبة وحصولها على العديد من الأصدقاء إلا أن سيف ظل صديقها المقرب بل وحبيبها الخفي الذي تخفي حبه في قلبها ولم تبح به لأحد حتى الآن.


هي أيضا تشعر بحبه لها ولكنه مثل التمثال لا ينطق بشيئ مما يثير غيظها حتى عندما سافر كانت كلها أمل أن يعترف لها بمكنون صدره ولكنه لم يفعل ولا حتى تلميح بسيط.


لطالما انتظرت أن يبدأ هو بالمبادرة ويعترف لها بحبه أو حتى بإعجابه بها خارج نطاق صداقتهم ولكن لم يفعل ولا مرة واحدة.


حاولت هي أكثر من مرة أن تعترف له ولكنها كانت تتراجع في اللحظات الأخيرة فكبرياؤها يمنعها من أخذ هذه الخطوة.


كما تخشى أن يكون ما تشعر به ما هو إلا وهم من نسج خيالها  ويكون كل مشاعره نحوها مشاعر إخوة وصداقة ليس إلا وباعترافها له بمشاعرها تكون خسرت صداقته وكرامتها في نفس الوقت فآثرت الصمت على أمل أن يتحرك لوح الثلج ويذوب قليلا ويروي ظمأ قلبها الذي دام طوال السنوات الماضية.

        

 ❈-❈-❈ 



اليوم وبعد مرور ١٠ سنوات أصبح سيف أصغر طبيب حاصل على درجة الدكتوراه وأصغر جراح للقلب يحمل الجنسية المصرية.


حصل سيف على عروض للعمل فى كبرى الجامعات العالمية ليس فى ألمانيا فقط ولكن على مستوى العالم ولكنه قرر الرجوع لمصر مرة أخرى.


لم ينقطع عن مراسلة أستاذه أو ريم كل تلك السنوات فأستاذ فريد قد خرج على المعاش أما ريم فهى قد تخرجت من كلية الهندسة وتفتح الآن مكتب ديكور.


عاد إلى مصر وكانوا فى إنتظاره فى المطار في نفس المكان الذي ودعهم فيه من عشر سنوات.


لم يتغيروا كثيرا فقط بعض التجاعيد التي ظهرت في وجه أستاذ فريد ولكنه لازال يحمل نفس البشاشة المحببة إلى النفس والتي تبعث في النفس الشعور بالأمان.


أما بالنسبة لمحبوبته فلقد ارتدت الحجاب والذي زادها جمالًا فوق جنالها الأخًاذ.


ركض نحوهم عندما رآهم وقام باحتضان فريد بقوة عله يستطيع أن يروي ظمأ اشتياقه له الذي دام لهذه السنوات العجاف واكتفى بمصافحة ريم التى ود أن يحتضنها هى الأخرى ولكن ما باليد حيلة.


تحدث إليهم بصوت يملأه الشوق إليهم:
- وحشتونى أوى أوى بجد مش مصدق إننا اتجمعنا تانى بعد السنين دى كلها.


ردوا عليهم في نفس الوقت وبنفس الشوق واللهفة:

- وانت كمان وحشتنا أوي يا سيف.


خرجوا من المطار وأخذه أستاذ فريد لكي يقيم معه فمنذ وفاة زوجته وهو يعيش بمفرده ولكم أسعده أن يقيم سيف معه.


بعد شهرين من عودته كانت ريم تجلس فى مكتبها يتآكلها الغيظ فلقد انتظرت عودته بفروغ الصبر وكان عندها أمل أن يعترف لها بحبه ولكنه لم يفعل إلى الآن.


فبالرغم من نظرة الحب التى يشملها بها هى لا غيرها إلا أنه لم يعترف لها بحبه أبدا  لطالما إنتظرت منه أى مبادرة ولكنه لم يفعلها أبدا حتى بدأت تشعر باليأس وأنه حب من طرف واحد  وأنه لا يبادلها تلك المشاعر وأحست إنه بالفعل يعتبرها أخته لا أكثر ولكن ما كان يحيرها حقا أنه لم يحدثها أبدا أنه معجب بفتاة أخرى ولا حتي أثناء سفره.


لطالما خصها هى بالحديث فى وقت فراغه كل تصرفاته تقول أنه يحبها ولكن لسانه لم ينطق بها أبدا.


كانت تمنى نفسها أنه سيفعلها عند عودته ولكن هاهو فى مصر منذ شهرين، إستلم عمله فى الجامعة ويجهز عيادته الخاصة، بل وإشترى شقة أيضا فماذا ينتظر.


لقد رفضت الكثير والكثير من العرسان وأرهقت من ضغط والديها عليها وتعبت من إنتظاره ولكنها لا تتخيل أبدا أنها من الممكن أن تكون لأحد سواه فإن لم تكن له لن تكون لسواه.


فاقت من شرودها على رنين هاتفها لتعلوا ثغرها إبتسامة حالمة عندما رأت إسم المتصل وأجابت بلهفة.

- إيه يا عم فينك خلاص بقيت مشغول ومبقيتش تسأل فينا.

- لا والله يا ريمو غصب عنى صدقينى إنتى عارفة مقدرش استغني عنك أبدا بس مشغول جدا ما بين الجامعة، وتوضيب العيادة، الشقة بقى أنا سايبهالك يا باش مهندس تعملها على ذوقك أنا عايز استلمها عالمفتاح ماليش دعوة بحاجة ومتسألينيش على حاجة.

- من عنيا إنت تؤمر أنا عندى كام سيف يعنى.

حمحم ثم صمت لوهلة وقال لها بصوت متردد:
- احم طب هو ينفع نتقابل النهاردة يا ريم عايزك فى موضوع مهم.


استغربت كثيرا من لهجته ومن نطقه لإسمها بتلك الطريقة لطالما ناداها بإسم ريمو ولا يقول لها ريم إلا لو كان الموضوع جاد ولذلك ردت عليه بتردد مماثل لتردده:

- مفيش مشكلة شوف الساعة كام أنا فاضية.

تهللت أساريره وقال لها:
- خلاص يبقى بعد ساعة إن شاء الله فى مطعم......... عارفة المكان؟

- أيوة عارفاه تمام هكون هناك فى الميعاد إن شاء الله بس إنت قلقتنى خير فيه حاجة.

- خير إن شاء الله لما نتقابل هحكيلك على كل حاجة.


لا تعلم كيف مر الوقت فلو عليها لذهبت للمطعم منذ أن أغلقت معه الفضول والقلق لا يرفقون بها أبدا.


وصلت للمكان فى الميعاد المحدد لتجده ينتظرها بطلته المهيبة وإبتسامته المشرقة التى كل ما تراها تقع فى عشقه أكثر وأكثر.


جلسوا ما يقرب من نصف ساعة وهو لم ينطق بشيئ يقوم بفرك أصابعه من شدة التوتر ولكن لا ينطق بكلمة.


قطعت هي الصمت متحدثة بنفاذ صبر:
- مالك يا سيف مقولتش حاجة من ساعة ما قعدنا قلقتنى فيه حاجة ولا إيه.


تحدث وهو يحك أسفل رأسه كمن يجد صعوبة
 في الحديث:
- لا أبدا مفيش أنا كنت بس عايز آخد رأيك فى موضوع كدا.


قالت مندهشة من طريقته الغريبة عليها فهي لم تعهده هكذا من قبل:
- خير موضوع إيه.


نظر لعينيها بطريقة أسرت القشعريرة في جسدها وارتجف قلبها خاصة بعد سماعها لكلماته:
- ريم أنا أنا أنا قررت اتجوز.


فجأة إختفت ابتسامتها وكأن دلو من الماء البارد نزل على رأسها لا تعلم ماذا تقول أو ماذا تفعل؛؟ هل تصفعه على وجهه؟ أم تبكي؟ أم تتركه وتذهب؟ ماذا تفعل؟ هل بعد كل هذه الأعوام يأتى الآن ويفاجئها بهذه المفاجأة؟ هل أحب إمرأة أخرى؟ كيف؟ ومتى؟ وأين؟ هنا؟ أم في ألمانيا؟

مليون سؤال وسؤال داروا فى رأسها ولا تعلم لهم إجابة.


استغرب كثيرا ردة فعلها وسكوتها المبالغ فيه فلقد تصور رد فعل آخر تصور أي شيئ غير سكوتها هذا الذي يقتله.


لوح بكفه أمام وجهها وقال لها:
- إيه يا بنتى روحتى فين.


كتمت دموعها بمعجزة وأجابته بصوت مرتعش
- ها! معاك مبروك ويا ترا مين سعيدة الحظ دى؟ حد أعرفه ولا لأ؟ وعرفتها هنا ولا فى ألمانيا؟


رد عليها مشاكسًا إياها مع تحريك حاجبيه
 لأعلى ولأسفل مع غمزة من إحدى عينيه:
- من ناحية تعرفيها ف إنتى تعرفيها ونص.


ضيقت عينيها وهى تنظر له وقالت بضيق:

- أعرفها! هى مين يا ترا؟


نظر إليها مليا مضيقا عيناه قبل أن يجيبها:

- إنتى، إنتى يا ريم إللى عايز أتجوزها واقضى باقى عمرى معاها.


كانت تنظر له ببلاهة ولا تعلم ماذا تقول هل ما سمعته حقيقى هلى هو يطلب يدها ليتزوجها الآن أم أنها تتوهم ذلك، لابد وأنها تتوهم.


تحدثت والدموع تلمع فى عينيها:

- إنت بتتكلم بجد يا سيف إنت عايز تتجوزنى أنا، يعنى إنت بتحبنى.


نظر إليها بنظرة تفيض بالحب تعبر لها عن مدى حبه لها وما يشعر به في قلبه وأخفاه عنها طوال هذه السنين وقال:

- بحبك بس كلمة بحبك قليلة أوي علشان توصف إحساسى إيه ناحيتك لو فضلت أتكلم من هنا لعشرين سنة تانيين غير إللى عشناهم مش هقدر أعبر عن حبي ليكي.


نظرت له بذهول لا تصدق أذنها ما سمعته منه وكأنها في حلم من أحلام يقظتها فهي لطالما حلمت بهذه اللحظة ولكن الحقيقة أجمل مما كانت تتصور بكثير.


قالت له بغيظ ضاغطة على أسنانها:
- طب لما إنت بتعرف تقول كلام حلو كدا يا أخي إيه إللى سكتك كل ده دنا كنت قربت أفقد 
الأمل خلاص وأصدق إننا إخوات وبس.

- نعم يختى إخوات إيه إن شاء الله إيه إخوات دى إحنا لا يمكن نكون إخوات أبدا سمعانى.


كانت السعادة تغمرها وهى تسمع كلماته تكاد لا تصدق ما تنطق به شفتاه.

- الله منا أعملك إيه مش إنت إللى كنت عامل زى البجم مش راضى تنطق بكلمة دنا كان ناقص آجى أنا واعترفلك يا شيخ.


غمز لها بعينه وقال:
- إيه ده أفهم من كدا إن الشعور متبادل وإنك واقع في العبد لله إنت كمان يا جميل ولا إيه؟ وبعدين إيه إللى منعك مجيتيش وقولتيلى ليه.


لم تدرى كيف علا صوتها وهى تصيح به.

- نعم يا خويا آجى فين وأقولك إيه لا يا بابا انسي.


التفت يمينا ويسارا وهو يشير لها أن تخفض صوتها وقال:

- هش هتفضحينا يخرب عقلك وطى صوتك.


تحدثت بغيظ شديد خافضة لصوتها:

- مش بقولك بجم وربنا غبي على قد الذكاء العلمى إللى ربنا اداهولك بس إداك قصاده شوية غباء إنما إيه أورجانيك، يعنى إنت بعد السنين دى كلها ولسة مش عارف الإحساس متبادل ولا لأ أمال أنا قاعدة السنين دى كلها حاطة إيدى على خدى ومستنية جنابك تنطق ليه.


نظر لها متحدثا بجدية:
- أعمل إيه بس منا خوفت.


ضيقت عيناها وهى تقول له:

- خوفت! خوفت من إيه.


أجابها دون تردد.

- خوفت أخسرك كصديقة، خوفت يكون شعور من طرف واحد، خوفت اعلقك بيا وانا مش جاهز ومش عارف بكرة مخبى إيه.


قالت له معاتبة:
- وإيه إللى فك عقدة لسانك دلوقتى بقى إن شاء الله.


نظر في عينيها وتحدث.

أولا: أنا دلوقتى جاهز واقدر آخد الخطوة دي.

ثانيا: رفضك لكل العرسان إللى إتقدمولك من غير سبب حسسني إن ممكن يكون فيه حاجة من ناحيتك انتى كمان والموضوع مش من طرف واحد ولا حاجة.

- ها قولتى ايه موافقة ولا نفضل أصحاب.


حدثته من بين أسنانها مستخدمة أقصى درجات
 ضبط النفس حتى لا يعلو صوتها:
- أصحاب إيه دنا مصدقت الصنم إتكلم.

- صنم؟

- صنم وبجم وكل ما تتخيله من صفات دا انت فرستنى يا شيخ ولا تلميحة واحدة تبل بيها ريقى وتخلي عندى أمل.

- غصب عنى والله كنت خايف أخسرك زى ما خسرت كل حاجة حلوة فى حياتى قبل كدا، ريم إنتى ومستر فريد كل دنيتى بجد، معنديش إستعداد أخسر حد فيكم ساعتها ممكن اتدمر بجد.


أدمعت عيناها من فرط السعادة فلطالما حلمت بهذا اليوم الذى يعترف فيه بحبه لها ولكنها وجدت أن الحقيقة أفضل من الأحلام بكثير فهى لا تصدق حتى الآن أن الحلم أصبح حقيقة.


حدثته أخيرا بمرحها المعتاد:
- ها هتيجى تتقدملى امتى يا أستاذ أنا الناس كلت وشى وبقيت حاسة إنى عنست من كتر ما أستنيت سيادتك.

- دلوقتى لو عايزة.

- لا يا سيدى مش للدرجادى خليها بالليل على ما أمهد للموضوع مع الوالد والوالدة، وبعدين تعالى هنا إنت مش المفروض عازمنى عالغدا ولا هو البخل بدأ من أولها ولا إيه.

- أحلى غدا لأحلى ريمو فى الدنيا تحبى تتغدى إيه يا حبيبتى.


صدمت من نطقه لكلمة حبيبتى فهو أول مرة يقول لها هذه الكلمة.

- حبيبتك!.

طبعا حبيبتى وروحى وقلبى كمان وبالليل أن شاء الله هتبقى خطيبتي ولما الشقة تخلص هتبقى مراتى.

- حيلك حيلك إيه كل ده مش تستنى أما أفكر وأقول رأيي لبابا الأول.


حدثها بصوت عالي إلى حد ما:
- نعم يختى هو انتى لسة هتفكرى لا مفيش الكلام ده أنا هاجي بالليل أقرأ الفاتحة وألبس دبل انتى حرة إتصرفى.


ضحكت بشدة وهي تقول له:

- هشش هتفضحنا يخرب عقلك.

ثم غمزت له بإحدى عينيها وقالت:
- دا انت مستعجل بجد بقى.


أمسك يدها لأول مرة وقال لها:

- مستعجل وبس دنا خلاص جيبت أخرى  كل السنين دى يا مفترية ومش عايزانى استعجل.

سحبت يدها فى خجل وقالت دون أن تنظر له:

- خلاص أنا هكلم بابا وهنستناك بالليل إن شاء الله.

                                 
   ❈-❈-❈    


بعد مرور خمس سنوات.

- فريد يا فريد إنت فين.

تحدث طفل صغير في الرابعة من عمره:
- أنا هنا يا ماما.


تنهدت ريم بارتياح وقالت:
- كنت فين يبنى دوختنى وراك.


حدثها بطفولية:
- كنت مستخبى من ندا كنا بنلعب hide and seek


أمسكت يده وقالت:
- طب تعالى علشان تاكل إنت وأختك على ما بابا يجي.


قفز من مكانه من شدة فرحه وقال:
- بجد بابا جاى من السفر النهاردة.


ربتت على ظهره وقالت بحنان:
- أيوة يا حبيبى جاى النهاردة إن شاء الله.

- طب خلاص أنا مش هاكل إلا لما يجى.

- لا يا قلبى هو جاى بالليل كل إنت وأختك دلوقتى وبالليل هنتعشى مع بعض إن شاء الله.


أجابها فريد بإذعان
- حاضر يا ماما.


قبلته بحب قائلة:
- حضرلك الخير يا قلب ماما.


حضر سيف مساءا ودخل المنزل ليجد المكان مظلم وحالة من السكون تعم المكان فتساءل متعجبا:

إيه ده هما ناموا ولا إيه؟ دى لسة الساعة مجاتش تسعة.


وما أن اقترب من الصالون حتى أضيئت الأنوار ليجد أسرته الصغيرة فى إنتظاره ليركض إليه أطفاله التوأم فريد وندا ويقومون بإحتضانه فيحملهم ويمطرهم بوابل من القبلات ويذهب بهم إلى حب حياته ريم التى لولاها لما وصل إلى ما وصل إليه من نجاح.


أنزل الطفلين واحتضنها بشوق جارف وهم أن يقبلها ولكنها نظرت للطفلين لتنبهه بوجودهم فحك أسفل رأسه بحرج وقال لها:

- أعمل إيه بس ما إنتى وحشتينى أوى.


احتضنت وجهه بكيفيها ونظرت له بحب لم يخبو مع مرور الزمن بل على العكس زاد أضعاف مضاعفة وقالت:

- إنت وحشتنى أكتر يا روحى ربنا ما يحرمنا منك أبدا يارب.

ثم أنزلت يديها وغيرت الحديث قائلة:
- ها طمنى عملت إيه فى المؤتمر.


أجابها وهو يخلع سترته ويجلس.

- عظيم الحمد لله وهيتم تكريمى الإسبوع الجاى فى لندن إن شاء الله.

لتتحدث إليه بطفولية عاقدة حاجبيها:
- إيه ده؟ يعنى هتسافر تانى وتسيبنا.

ليقبلها من خدها ويقول:

- لا المرادى هتيجوا معايا.

ليصفق الأطفال بمرح ليقول فريد:

- بجد يا بابا يعنى هنيجى معاك.

حمله ليجلسه على قدمه وهو يقبله:
- بجد يا روح بابا أنا هاخد إسبوعين أجازة ونقضيهم هناك مع بعض الجو فى لندن اليومين دول جميل هفرجكم عليها حتة حتة.


ثم حمل ندا أيضا ليجلسها على القدم الأخرى ويقبلها مثل أخيها لتقبل عليه ريم هي الأخرى ليحتضنه ثلاثتهم ويقبلوه ليحمد الله على عطاياه ويتذكر شريط حياته ويدرك أن فى كل محنة منحة وكل عثرة يتبعها وقوف ولا تخلوا الحياة من الإبتلاءات ولكن وراء كل بلاء رحمة من المولى عز وجل.


تمت

سمر إبراهيم