-->

الفصل الثالث -كيان مستغل

 



 الفصل الثالث 


جالسة على المقعد الملحق بمرآتها ترمق هيئتها الشاحبة بنظرة متفحصة مقارنة بين صورتها الموضوعة أمامها وبين تلك التى تراها فى خلفية المرآة، فمن يراها الآن لن يصدق أنها هى "كيان" الفتاة المليئة بالحيوية والمفعمة بالحياة ذو الملامح الهادئة الشبيهة إلى حد كبير بوالدها الراحل، تلك اللمعة التى لطالما اتسمت برماديتيها اللتين ورثتهما أيضا عن والدها اختفت وتبدلت بسحابة من دموع تتلألأ بعينيها بين الحين والآخر، تنظر فى الفراغ بعينين ساهمتين زائغتين يندلع منهما ذلك الحزن الذى استوطن قلبها بل وكيانها أجمعه، تنهدت وهى تكاد تختنق من كم المصائب التى لا تنفك تقع فوق عاهلها وتكدر حياتها نهايةً بعمها ذاك وأكاذيبه التى أتى بها إليها لكى يصل لأطماعه من خلالها أيستهون بذكائها !، هل يعتقد أنها لا تفقه كل ما يدور من حولها !، فاقت من شرودها على صوت مدبرة البيت تلك السيدة الحنون التى قد أتت منذ قليل لتعيد ترتيب الغرفة لها وانتهت لتوها وهى تتساءل باهتمام وبنبرة حانية :


- فكرتى هتعملى ايه فى الكلام اللى عمك قالهولك يا بنتى ؟


سحبت نفسا عميقا وزفرته على عجالة ثم أجابتها بفتور بعد أن استدارت موجها نظرها إليها :


- هعمل ايه يعنى يا دادة !


فغرت "كريمة" عينيها بتفاجؤ من ردها اللامبالى ورددت مستفسرة بشىء من عدم التصديق :


- يعنى هتوافقى يا بنتى على جوازك من راغب ؟


تنهدت ونهضت من فوق المقعد وسارت حتى شرفتها واقفة أمام أعتابها وهى منفتحة والنسمات الصباحية الشتائية الباردة التى تخلف ارتعاشة فى الجسد خلاف ارتعاشة بكائها التى تتحامل على نفسها كى لا تنخرط به قالت بقلة حيلة ونبرة صوت هادئة وهى ناظرة أمامها :


- فى قدامى حل تانى غير ان انا اسكت واسيبهم يعملوا اللى يعملوه


شعرت تجاهها بالآسى فهى مازالت فى مقتبل عمرها ولا ينبغى لأمثالها بروحهن النقية أن تنطفأ روح الحياة بداخلهن هكذا، توجهت نحوها ووضعت يدها على كتفها رابتة عليه بحنان لم تكف عن الغظق عليها به ذلك الحنان الذى لم تجده مع والدتها وتمنت كثيرا أن تشعر بطيفه يوما رفقتها بينما استمعت لقول تلك العاملة الطيبة التى ترعاها منذ طفولتها وكأنها ابنتها :


- سمية هانم مش موافقة سيبيها هى تتعامل معاه وتعرفه انكوا رافضين


ابتسمت للجانب بسخرية طفيفة على ما قالته فهى أكثر من يعرفها وتعرف أنها لا تهتم سوى لأمورها هى فقط ليس إلا لتردف بكلمات تيقنها "كيان" بشدة وهى عاقدة ذراعيها أمام صدرها متكأة على عاتبة الباب بجانب جسدها ومازالت موجهة نظرها أمامها :


- ما هى عرفته، ومش عمي اللى هيسمع كلام ماما وهيصرف نظر عن الموضوع عشان هى رافضة، طالما حط حاجة فى دماغه هيعملها، انتى يعنى مش عارفاه يا دادة 


زمت شفتيها للجانب بتهكم عندما أتى بذهناها أفعاله المليئة بالشر وطريقة تعامله الغير طيبة على الإطلاق وغمغمت :


- عارفاه يا بنتى وعارفة شره كان دايما بيقيد فى البيت نار لما ييجى ويتخانق مع بكر بيه اللى يرحمه، والله منا عارفة ازاى كتلةالشر والكره ده يبقى اخو بكر بيه اللى كان كلامه مليان طيبة وحب وكان زى الملايكة


عندما رأت اادموع بدأت تترقرق فى عينى "كيان" على ذكرها سمات والدها الطيبة لاحقتها قبل أن تبدا بالبكاء وتكلمت مسرعة وهى تحرك يديها مع الحديث فى انفعالات تلقائية منها :


- طب بس برضه سيبى امك تقف جنبك جايز تعرف تحل الموضوع وتنهى الجوازة دى 


التفتت إليها وقالت بتعابير وجهٍ معتليه الشجن وبنبرة مستنكرة :


- ماما !، من امتى يا دادة وماما بتقف جنبى ولا بتحللى حاجة، من امتى ماما اصلا معتبرانى بنتها وبتدافع وبتحامى عنى، رفضها ده عشانها مش عشانى، انا فاهمة كل واحد فيهم كويس ومش من دلوقتى، من وقت ماروحنا للمحامى وشوفت فى عينيهم الكره ليا انا وبابا عشان كتب كل حاجة باسمى، وفاهمة كويس ان عمى عايز يجوزنى راغب عشان الورث، وان ماما رافضة عشان برضه الورث، كل واحد بيفكر بطريقته ازاى يمتلكنى ويتحكم فيا عشان يعرف يوصل لأطماعه، إنما انا مش فارقة مع حد كان هو بابا بس وخلاص راح وانا كمان رحت معاه فمش هتفرق إذا اتجوزت راغب أو ماتجوزتوش فى الحالتين جوايا مات


ما إن انتهت من كلماتها التى قالتها باندفاع وتواتر سريع دون حتى ان تلتقط انفاسها وكأنها كانت تنتظر من يدفعها للتكلم وإخراج ما يختلج صدرها، نظرت "كريمة" لأسفل وكأن لسانها قد لُجم مما قالته وبعد برهة رفعت نظرها إليها وقالت بتردد متسائلة :


- وحقك يا بنتى هتفرطى فيه ليهم ؟


احتدمت نظراتها من تطرق تلك الفكرة لذهنها رغم علمها بنواياهم فى سلب ميراثها ولكن رسالة والدها الذى أوصاها بها ألا تترك حقها لأحد وألا تفرط به نهائيا وكأنه يخبرها أنه يعلم بنوايا جميع من حوله والمفترض أن يكونوا سندا وآمانا له وليس بطامعين بما لديه جعلتها تعزم على ألا تترك لهم قرشا واحدا من ميراثها، ليتشنج جسدها بغضب تملك أوصالها وصاحت بحدة عاقدة العزم :


- ده بقى اللى مش هسمح بيه، لو انا ضعيفة وماليش اللى يقفلهم وهما مستغلين ده وبيمشوا حياتى على مزاجهم يمشوها، إنما أملاك بابا اللى تعب فيها طول السنين اللى فاتت مهما عملوا مش هيطولوا منها مليم ولو وصلت انهم يقتلونى مش هسمح بكده


تهدج صدرها بأنفاسا غاضبة من فكرة أخذهم لأموال وأملاك أبيها الذى كونهم بجهده وتعب سنين لا يعلم أحد عن ما كلفه خلالها غيرها هى فهو كان كثيرا ما يخبرها بكل ما مر عليه من شدائد واجهته بعضها تغلب عليه بضراوة أسد والبعض كان يتغلب عليه ليعود بعزيمة لم تتبتعد عنه من جديد ويبنى ما هُدم خلال فترات سقوطه، ورغم ثورتها وشجاعتها التى اظهرتها حيال ذلك هى أضعف من أن تقف وتمنع أحدا من نهب ما لديها وتعلم كل العلم أنهم قادرون على أخذ ما يريدوه عنوة عنها ولكنها تتمنى أن تواتيها القدرة للتصدى لهم أن تستمد القوة من كلماته التى لطالما كان يلقيها عليها منذ الصغر وكلماته التى خطها لها قبل وفاته آملة أن يساندوها فى تلك الحروب التى تعلم أنها ستشن عليها بمجرد رفضها الإنصياع لرغباتهم الدنيئة فى الإستيلاء على حقوقها التى لم تكن لتدافع عنها لولا تلك الوصية التى أوصاها بها والدها والتى ستحاول باستماته و بكامل قوتها التى لم تكن لديها قبلا أن تنفذ كل ما بها


ها هى جالسة على فراشها بوجه بائس تتذكر كلمات مربيتها قبل مغادرتها عن مساندة والدتها لها، أى مساندة تلك التى تننظرها منها !، ألا تعلمها !.. ألا تعلم طباعها !، منذ متى ووالدتها كانت لها أمًا بالأساس فهى تتذكر كل شىء فعلته معها وبها منذ الصغر، أغمضت عينيها وهى تتذكر إحدى الذكريات السوداء التى تجمعهما معا وهى طفلة لم تتعدَ السابعة من العمر


❈-❈-❈




تقدمت بخطوات تملأها الحماس نحو تلك الجالسة ترتشف من كوب قهوتها بهدوء ممزوج بغطرسة، بين يديها دفتر الرسم خاصتها وهى تهتف بصوت طفولى :


- بصى يا خالتو الرسمة بتاعتى 


دون قصد منها اصطدمت بجسدها عند اندفاعها بيد خالتها أوقعت فوق ثيابها بعضا من القهوة لتشهق "فريدة" بفزع وأبعدت الكوب عنها لترى بقعة القهوة التى تكونت فوق تنورتها إضافة إلى حرق فخذها موضع القهوة التى سُكبت، وضعت الكوب فوق المنضدة أمامها والتقطت مناديلا من العلبة أمامها واخذت تنظف تنورتها وهى تصرخ بالواقفة أمامها اعترى قسماتها الخوف زاجرة إياه بعنف :


- ايه اللى عملتيه ده يا حيوانة ؟


انتفض جسدها إثرا لصراخها وابتلعت بخوف جم وهى تتراجع للخلف وقالت مبررة بأسف بصوت مهزوز :


- انا مكانش قصدى I'm sorry، ا..


لوحت بيدها فى وجهها وكأنها إمرأة من ذات عمرهاوليست بطفلة ذات سبع سنين وقالت بمزيد من الصراخ نتيجة له ارتعد جسد الصغيرة وأخذت ترتجف :


- يعنى ايه مكانش قصدك امشى ازاى انا كده، شوفتى يا سمية كيان بهدلتنى ازاى


وجهت كلماتها الأخيرة لشقيقتها المتوجهة نحوهما لتحتد ملامحها وبرقت بعينيها لابنتها حتى اصبحت امامها وصفعتها على وجهها  لتصرخ" كيان" من قوة الصفحة التى لن تحتملها فتاة كبيرة وليست طفلة بعمرها ثم قبضت على ذراعها وصاحب بها ناهرة إياها :


- ازاى تعملى حاجة زى كده يا قليلة الأدب، اطلعى فوق ومتنزليش من اوضتك خالص، لو شوفتك النهارده بره أوضتك هحرقلك رجلك انتى فاهمة 


أومأت " كيان" بهلع وما إن تركت ذراعها حتى هرعت من امامها صاعدة الدرج متوجها نحو غرفتها كما أخبرتها والدتها والدموع مغرقة وجنتيها


❈-❈-❈



فتحت عينيها المليئتين بدموع لتذكرها واحدة من الذكريات السيئة المستقرة بذهنها منذ سنوات كثيرة وكأن عقلها يأبى نسيانها ويذكرها بالعديد والعديد كى يؤكد لها أن والدتها لم تكن يوما بوالدة لها


ماددا ذراعه نحو مطفأة السجائر يطفأ عقب سيجارته وهو ينفث دخانها ثم قال بنبرة صوت جادة لابنه الجالس أمامه يتفقد بعض التقارير :


- جهز نفسك عشان كتب كتابك الخميس


رفع نظره إليه وعقد حاجبيه بتفاجؤ وقال بغرابة :


- على طول كده !


عاد بظهره على المقعد وهو يردف ببرود مميت :


- ايه اللى هيخلينا نستنا !


أخفض نظره لثانية وكأنه يفكر بأمر ما ثم عاد بنظره إليه وهو يتساءل باستشفاف :


- يعنى كيان وافقت ؟


امتعضت ملامحه واحتد نظرته وهو يهدر بتجهم :


- وهى تقدر ترفض !


آثر ابنه الصمت رغم ما يعتريه من ضيق طفيف بداخله لا يعلم مصدره، بينما كان "نوح" يطرق بإصبع السبابة فوق سطح المكتب منتبها لدلوفها لذا أردف قائلا عن عمد :


-على العموم اعمل حسابك انك هتعيش فى الفيلا معايا بعد الجواز 


اعترى الغضب وجهه من تحكمات والده التى تخنقه وهدر بحنق :


- برضه يا بابا مصم...


قاطع متابعة حديثه صوت حذاء انثوى كان على مقربة منه علم انه ل"داليدا" شريكته وابنة صديق والده والتى تجمعها علاقة قوية ب"راغب" والكثير ممن يعرفونهما يعلمون أنهما سوف تتوج علاقتهما بالزواج عن قريب، ليست بعلاقة حب القائمة بينهما ولكنهما تجمعهما علاقة صداقة وطيدة إضافة إلى علاقة عملهما والتى تجعلهما شريكى عمل رائع يكملان بعضهما فى تلك الأمور الخاصة بالعمل، والتى استمعت للآخير الذى قاله "نوح" لتضيق ما بين حاجبيها وهى تفرق نظراتها بين "نوح" و"راغب" وهى تتساءل بعدم استيعاب :


- جواز ايه !، مين اللى هيتجوز ؟


لم يستطع "راغب" الرد على سؤالها المباغت والذى لم يرتب له ردا مسبقا بينما رمقها "نوح" بنظرات ذات مغزى وهو يجيب على سؤالها بثبات :


- راغب، هيتجوز كيان بنت عمه


غصة مريرة تكونت فى حلقها عند استماعها لرده ولكنها تحاملت على نفسها وأدارت وجهها ل"راغب" الجالس شاعرا بحرج بالغ منها بينما هى ابتسمت له باقتضاب وقالت بهدوء ونبرة صوت جادة :


- مبروك، الإجتماع فاضله خمس دقايق عن إذنكوا 


غادرت فور إنتهائها مما قالته ليشعر "راغب" بقليل من الذنب حيالها بينما كان "نوح" يشعر بانشاء سرى بعروقه كونه قد تخلص من تلك الفتاة التى كانت تحوم حول ابنه شاعرا بانتصار لنجاح جميع مخططاته وسريان الأمور بحذافيرها كما رتب لها مسبقا


❈-❈-❈



تنظر بسخرية إلى ذلك الفستان أبيض اللون الذى جلبه لها "راغب" وكأنهما خطيبين طبيعين وأهدى لها خطيبها فستان خطبتهما أو إذا صح القول فى ذلك الحين فستان زفافها الذى لن يكون بزفاف بتاتا، أي زواج ذلك الذى يعقد من أجل أطماع العم فى ابنة أخيه، والأسوأ أنه إذا لم يُعقد فهناك طرف آخر يطمع فى أخذ حصته فى تركة ليس له بها بقرش ألا وهى والدتها التى من المفترض أن تقوم بحمايتها ولكن فى حالتها هى من يجب أن تأخذ حذرها منها ومن نواياها الخبيثة التى لطالما عاهدتها عليها واستمعت منذ الصغر إلى مخططات عدة كانت ترتب لها دائما مع شقيقتها الكبرى الشبيهة بها بدرجة كبرى ليرتسم فى ذهنها أسوأ صورة قد تُرسم فى ذهن فتاة لوالدتها


وجهت نظرها فى حالة تفاجؤ من دلوفها غرفتها فى مثل ذلك الوقت فهى لم تأتى غرفتها منذ وفاة والدها بل لم تتحدث إليها أيضا منذ ذلك اليوم وكأنها ليست بإبنتها ولا تعنيها بشىء على الإطلاق، تابعت توجهها إليها بهدوء لتستمع إليها تهدر بجمود بعدما أصبحت قبالتها مباشرة :


- انا عارفة انك مش عايزه راغب


نظرت لها فى جدية وأومأت لها برأسها بتأكيد وقالت بكلمات ذات مغزى :


- فعلا مش عايزاه، تقدرى ترفضى وتمنعى الجوازة دى !


زاغت عين والدتها عنها للحظة ثم عادت وقالت باندفاع وكأنها وجدت ضالتها :


- ممكن اكتب كتابك على هادى النهاردة وبكده نبقى قفلناها على نوح و... انتى بتضحكى على ايه ؟


قالت الأخير بغيظ من ضحك ابنتها المفاجئ والذى لمحت به طيف سخرية، لترمقها ابنتها بنظرة بها بعضا من اللوم وقالت هاكمة :


- هادى ! ده انا اوافق على راغب ارحملى


نهضت من مقعدها تاركة الأخرى تشعر بغليان دمائها من سخريتها على حلها الذى عرضته عليها، لترفع نظرها إليها بملامحها المشدودة و"كيان" تخبرها بطريقة مليئة بالبرود لم تكن عليها يوما وهى شارعة فى الخروج من الغرفة :


- على العموم يا ماما عايزه ترفضى انا معنديش مشكلة بس ده لو عرفتى تمشى كلمتك على عمى


تنهدت فور خروجها من الغرفة محاولة تهدئة حدة أنفاسها التى ازدادت من بعض كلمات استمعت إليها من والدتها وكأنها آتية لتخبرها وتأكد على عدم أهميتها بالنسبة إليها وأنها لا يعنيها شيئا سوى نفسها فقط ليس إلا، إتية إليها تعرض عليها أن تتزوج بابن خالتها "فريدة" التى لطالما تلقت منها المعاملة السيئة منذ كانت طفلة أم ذلك المتحرش ابنها الذى حاول تلمس جسدها بطريقة بشعة من قبل


❈-❈-❈




شعرت وهى نائمة على أحد جانبيها مغمضة العينين ما بين النعاس واليقظة بيد تتحرك فوق خصرها بطريقة غريبة لتنتفض فى نومتها وأسرعت فى إضاءة الغرفة لتجده ابن خالتها جالس بجانبها ويبدو بحالة مريبة، لتعود بجسدها للخلف لعدم قدرتها على النهوض حيث أنه ساددا عليها الطريق بجسده وتكلمت بهلع وهى تشعر بدقات قلبها تخفق فى صدرها بعنف :


- ايه اللى بتعمله ده اخرج برا 


اقترب اكثر من وجهها لتشتم رائحة غريبة تفوح من فمه واستمعت لصوته الغير متزن :


- كيان انتي حلوة اوى وانا معدتش متحمل اسلوبك معايا وصدك ليا 


تلك النظرات الثاقبة لمعالم جسدها من عينيه الحمراوتين إثرا لسكره الذى لم يتبين ل"كيان" بعد تشعرها برجفة فى سائر جسدها لتتكلم بخوف بالغ وهى تحاول أن تتحرك مبتعدة عنه :


- بقولك اخرج برا يا هادى


ازداد وجيب قلبها على الأخير وأصبح صدرها يعلو ويهبط من هرجلة  انفاسها المتلاحقة بخوف جم خاصة وانه قد اقترب منها بغتة وقام بمحاوطة جسدها بعد أن اعتلاه وأخذ يقرب وجهه من وجهها وهو يقول بخمول وعينيه قد غامتا بالشهوة والرغبة بها بطريقة مخيفة :


- مفيش واحدة قدرت تعمل معايا زيك كده ولا تقف قصادى، انتى اللى خلتينى احطك فى دماغى وابقى عايزك بالشكل ده


دفعت به من صدره بكامل قوتها التى لا تقارن بجانب قوته الجسمانية وقالت بصوت قارب على البكاء :


- انت أكيد مجنون 


ضحك باتساع مظهرا اسنانهبطريقة مقززة على هيئتها وانفاسه تفوح منها تلك الرائحة القذرة التى جعلتها على وشك القئ ليتلمس خصرها بتروٍ ثم قبض عليه لتندلع صرخة منها وهى لا تكف عن المقاومة ليقول وهو يحاول تقبيلها رغما عنها :


- صرخى براحتك أمى وأمك تحت ومحدش سامع حاجة


أخذت دموعها فى الإنهمار فوق صدغيها وهى تتلوى بجسدها أسفل جسده المعتلى إياها ومازالت لم تكف عن محاولة تحرير جسدها من بين حصاره وقالت بصراخ ممزوج بنشيج بكائها بتهديد :


- انا هعرف بابا بكل ده هخليه يوديك فى داهية 


ضحك للجانب بسخرية وغمغم وهو يتحسس وجنتها بصوت يشبه فحيح الأفعى :


- وايه الدليل يا قطة، وبعدين انتى فى بيتنا هقول انتى اللى جتيلى لحد عندى وغاوتينى 


أزدادت محاولتها فى ابعاده عنها وهى تشعر باختناق من قربه ذلك ولا تصدق كم القذارة التى اندلعت من بين شفتيه ليخرج تلك الكلمات المليئة بالإنحطاط وصرخت بها ساببة إياه :


- انت حيوان وقذر 


دلفت والدتها العرفة بغتة لينتفض من فوق جسدها بينما هى نظرت له شزرا وأردفت بجمود وهى ناظرة تجاه ابنتها التى انكمشت على نفسها فور ابتعاده عنها : 


- برا يا هادى


خرج من الغرفة دون نقاش فهو يعلم خالته عندما تغضب إضافة إلى إنه ليس بوعيه بشكل كامل كى يختلق أكاذيب حول تلك الوضعية التى رأتهما فيها نتيجة لسكره بينما توجهت "سمية" نحو ابنتها التى انهارت باكية فور خروجه ودمدمت بتسلط وتحذير :


- مش عايزه كلمة من اللى حصل تخرج لابوكى وده احسنلك يا كيان 


فغرت عينيها صدمة مما قالته وهى ناظرة إليها بعدم تصديق وقالت بنحيب :


- انتى عايزانى متكلمش ده كان بيحاول يعتدى عليا ومش أول مرة


رمقتها بنظرات حادة ودنت منها وأخبرتها بنبرة قاسية تحمل التهديد :


- لو نطقتى بحرف هقوله انك انتى اللى كنتى جايباه اوضتك وانا دخلت عليكوا وانتوا فى وضع مش كويس وبتقولى كده عشان تدارى على قلة أدبك، وحطى فى حسبانك انك انتى اللى عندهم مش العكس يعنى بكر حتى مش هيصدقك وخصوصا انك بتقولى مش اول مرة،  أبسط حاجة بكر هيقولها ايه اللى موديكى إلا إذا كان الموضوع عاجبك، فاعقلى كده والاحسن ليكى وللكل انك متتكلميش


استمعت بحزن بالغ لتوالى كلماتها المثيرة للاشمئزاز والتى لا ينبغى أن تتفوه بها أم لابنتها التى لم تبلغ من العمر بعد سوى الخامسة عشر بمرحلة مراهقتها وهى أكثر مرحلة عمرية تحتاج فيها الفتاة لوالدتها، ولكن هى ما الذى فعلته !، بدلا من أن تحتويها وتهدئ من روعها من هول ما تعرضت له قامت بتهديدها وكل ذلك من أجل شقيقتها وماذا عنها هى أليست ابنتها !، ألا يوجد بداخل قلبها ذرة حب لها !، نظرت لها بنظرات انكسار تتابع خروجها من الغرفة والتى نهضت مسرعة فور مغادرتها وأغلقت الباب عليها من الداخل وانهارت جالسة على الأرض تبكى بقوة ونهنهات بكائها إن استمع إليها أحد سيرق قلبه لها باستثناء تلك المرأة التى تجزم أن ما بداخلها ليس بقلب مطلقا، ظلت تبكى لوقت طويل حتى خارت قواها وسحبها سلطان النوم لعالمه منتشلا إياها من الظلم المجحف الذى تلقاه على يد أقرب شخص لها ألا وهى والدتها


❈-❈-❈




وهذه أيضا ذكرى أخرى تؤكد لها أنها أصبحت وحيدة دون سند بعد وفاة والدها أمن المفترض من واحدة كتلك أن تصبح سندها وتعوضها عن والدها الذى لن يعوض بالأساس حتى إذا كانت والدتها إمرأة صالحة ذات طباع طيبة، زفرت هواءً ساخنا من رئتيها يحمل اختناق بالغ تحتس به منذ ألتقطت أذنها كلمات عمها حول زواجها من ابنه، لتلتقط القلم وهى جالسة فوق الأريكة بالحديقة عل نسمات الهواء تبعث بعض البرودة لصدرها طاردة تلك السخونة الخانقة من داخلها، قامت بفتح الصفحة التالية بدفترها لتخط مزيدا من الكلمات التى لن تقدر على الإفصاح عنها سوى لذلك الدفتر


مرحبا دفترى آسفة على طريقتى المقتضبة التى سأتحدث لك بها ولكننى لست ببالٍ رائق لأزين كلماتى ولكن على كلٍ أريد إخراج ما يجيش به صدرى وأخرج ما بجعبتى، فلقد أصبت بصداع لعين برأسى من كثرة التفكير فى كل ما يحدث من أمور عدة أرهقت فكرى وشتت وجدانى، تنهيدات متتالية أسحبها لصدرى -تحمل شجنا دفينا يستقر بأعماق أعماقى حيث لا يراه ولا يشعر به غير روحى المهشمة- ألفظها على مهلٍ آملةً أن تغادرنى معها أوجاعى الجمة وجروحى المعنوية التى لا تندمل بمرور الوقت، أوصد عينى بإرغام على النوم رغبة فى محو أزلية شتاتى الذهنى حتى لو بشكل مؤقت، ولكن سريعا ما أصحو وكأن الراحة لم تكتب لي حتى ولو بقسط قليلٍ من النوم


أنهض وأنا أشعر بخمول ساحق مرافقا له ذلك الدوار الذى يجعلنى أحتس بالأرض وكأنها ستميد بي، أجالس وحدتى وأحتضن حزنى لأجدنى أتحدث بإطناب بكلمات لا يُفهم من خلالها شيئا رغم أننى فى الحقيقة أتحدث بحصافة تامة وأصقل حديثى مع الجميع ولكن يبدو ان تلك الكلمات ما هى إلا كلماتى الحبيسة بداخلى لذا عندما أصدر أمرا بتحرريها تندلع بقوة من داخلى لتصبح على تلك الهيئة المذرية التى لا تعطى معنى فى نهاية الأمر، أنَّى لى بكل ذلك التحمل على كل تلك النفوس السوداء التى أزهقت روحى السجية، يتذرعون بأسباب واهية للظفر بمطامعهم فى حقوقى التى لا تعنيني بشىء بالأساس والتى إذا طالبوا بأخذها من البداية لكنت أعطتها لهم طواعيةً


وهذا كان سيحدث حقا لولا وصية والدى التى أوصانى بها ألا أدع أحدا يسلب أملاكى وأناضل للمحافظة عليها، لولا ذلك فقط لكنت تنازلت عن كل شىء دون تفكير مسبق فى فعلها، لقد اضحت تلك الوصية طوقا ملفوفا حول رقبتى يخنقنى ليس إلا ولا أدرى هل سأستطيع تنفيذها أم لا فضعفى الذى جعلنى أخنع لهم فى تسييرهم لحياتى القادمة لا شك أنه سيجعلنى أيضا أخنع لرغباتهم الدنيئة فى أخذ ما هو ملك لى فقط ويريدوا أخذه عنوة، لا أملك سلطانا على أفعال من حوالى وجرائر شرهم ولكن أقله يمكننى الفرار من حصار خانق لكل خلية بجسدى فلمَ لا أمتلك الجرأة إذًا لفعلها، لمَ لا أنأى بنفسى عن كل ذلك البغض


لقد أصبحت لقمة سائغة لكل من عمى ووالدتى، ندية بحتة أراها فى أعينهم حول من سيسلبنى حقى فيهما، والآن أنا على شفا حفرة من زواج بشخص لم أتعامل معه قبلا ولا أدرى كيف ستكن معاشرته، هل هو كوالده !، أعلم أننى لطالما تملكتنى الرهبة بحضوره ولكن وعلى الرغم من ذلك لا أرى تلك النظرات المليئة بالشر بعينيه، لا أدرى ما الذى ينتظرنى معه ولكن أيا كان ما سيحدث لن يكون أكثر سوءً من فقدى لوالدى، وأيا كان ما ينوى على فعله بزواجى ذاك لن أتراجع عن حماية حقوقى ولن أجعلهم يهنأون بنجاح مخططاتهم الدونية، فها أنا تحت وطأة ضعفى الذى لا ينتهى أحاول جاهدة بأن أمتلك رباطة الجأش لأتمكن من المقاومة والمتابعة فى تلك المؤامرة الوضيعة


أغلقت دفترها وبداخلها لم يتحسن كالعادة عندما تكتب مكنوناتها، فلقد أصبح الأمر أكبر من أن يكتب أو يُحكى حتى، بنظراتها الساهمة تنظر أمامها تشعر أن الحياة قد انتزعت من داخلها جسدها أصبح كدمية تنتظر من يحركها وهى بكل ضعف قد تركت زمام الأمور لهم وماذا عساها تفعل وهى وحيدة بلا مأوى تلجأ إليه من جميع من حولها الذين فى الأساس وفى الظاهر للجميع عائلتها


❈-❈-❈



توسعت عينا "راغب" -الجالس منتظرا قدوم "كيان" لكى يتم عقد قرانهما- بتفاجؤ من هيئتها الحابسة للأنفاس فهو لم يتوقع أن تكون بكل ذلك الحسن والجمال الأخاذ بذلك الفستان الذى حتى لم يرَه قبل إرساله إليها ولم يهتم لأمر كذلك حتى، إنه لم يتخيل لوهلة أن تكن بكل هذه الفتنة بخطواتها الهادئة وجسدها المرسوم بحرفية بداخل ذلك الثوب الذى احتصن منحنايتها بطريقة تخلب العقول، ابتلع وهو لا يستطيع أن يحيد بنظره عنها وعن عينيها الرماديتين اللامعتين اللتين لتوه لاحظ لونهما والشبه بينهما وبين عينيه مع اختلاف اتساع عينيها قليلا عن عينيه، زينتها الهادئة تلك تزيد من رقة ملامحها وتعطى مظهرا رائقا لبياض وجهها زى الوجنتين المستديرتين، شفتيها المنتفختين قليلا مع ملمع الشفاه الموضوع فوقهما يجعله يريد تقبيلهما إلى أن يكتفى منهما


فاق من شروده بها ونظراته المتفحصة لها والذى لاحظته هى بسهولة على صوت المأذون الذى شرع فى البدء بمراسم عقد القران، بينما كان بداخل كل منهما زوبعة من العديد من الأفكار ف"كيان" تخشى القادم وعلاقتهما التى لا تعلم كيف ستكون المعاملة قائمة بها بينهما شاعرة بتشوش بالغ ورهبة من القادم، أما "راغب" فشعر بانتشاء غريب بداخله كونه على اعتاب زواج من فتاة بكل ذلك الجمال الذى لم يلحظه من قبل والذى كونه زير نساء يقسده تقديسا وجمالها الهادئ مع كونها فتاة عذراء إضافة إلى صغر عمرها مزيجا لم يجربه من قبل ولكن ما يعلمه أنه راقته تلك الزيجة كثيرا يُمنى نفسه بليالٍ مليئة بالمتعة والتنعم بزوجته الصغيرة التى لتوها ستختبر كل ذلك بين يديه وعلى يديه هو لا غيره وهذا أكثر ما ينعشه ويجعله متلهفا للخوض بتلك التجربة المحفزة لوجدانه والجديدة من نوعها عليه ولا يدرى السبب فى ذلك 


لم يكد المأذون ينتهى من عقد قرانهم حتى صدح صوت "نوح" بصوت آجش ناظرا بابنتصار للماثلة أمامه الغضب يتطاير من عينيها والتى لم تكن سوى "سمية" قائلا :


- مبروك


يُتبع...

الفصل الأول

الفصل الثاني