-->

الفصل الأول - منزل الدُمى


 

المدخل
.
.

صوت صراخ تخترقه نبرة أشبه بالاختناق، أحدهم يحاول النجاة يطلب النجدة لعله يفر خارج الصندوق، و لون أحمر لزج يتسرب من أسفل ذاك الصندوق يرسم خطوطاً على طول الطريق!

.
.

|منزل الدُمى|

❈-❈-❈


الفصل الأول: لاعبة الخفة!


في زمن باتت فيه الحياة تملؤها الكآبة، كآبة ممزوجة مع الكثير من الحزن الذي يملأ القلوب الميتة التي قد دفن فيها الشعور، لم يعد للإحساس معنى و الأحضان الدافئة قد اعتراها برد قارص و ذبول، فالنفاق قد قيد القلوب الخشنة و لشدة قسوة ضغطه أصبحت سوداء و الآلام فيها لينة..


في زمن أصبحت الثقافة، كلمة مضحكة و الكلام الفارغ جوهر يحتذى به و يستحق الجلوس بالساعات للاستماع له بكل ثقة، في زمن أصبحت فيه المتعة عبارة عن التحديق لساعات متواصلة في شاشة هاتف و السعادة لم تعد تأتي لقلب صادق ..


في زمن باتت الضحكات مجرد مجاملات سطحية لفكاهة حمقاء ذات معنى فارغ أو بالأحرى بلا معنى، كان للناس ملجأ وحيد لأجل الترويح عن النفس على المدى البعيد، محاولة بائسة منهم أن يخرجوا أنفسهم من تلك الدوامات المظلمة التي وضعوا انفسهم بها، و التي تزيدهم ظلمة كلما مرت الأيام في داخلها، فما كان منهم سوى الجلوس في إحدى صالات الاستعراض تلك، في دعوة أتتهم من العدم، و انتظار مجهول يضحكهم بنهم ..


حيث خشبة المسرح و الاستعراض الفارغ الذي يحمل مهرج هو الأحق من بين الجميع بالجلوس مكانهم و الضحك فهو الأكثر كآبة من بين الكثير من البشر، الذين يأتون لهنا و يحدقون به فيزيدون في قلبه القهر، ظناً منهم أنه قد ينتشلهم من جوف الواقع المرير هذا، و إذ أنهم قد وجدوا بالجلوس ها هنا هو أفضل حل للتخلص من سيطرة التكنولوجيا على عقولهم، فهم هنا سيضحكون و يستمتعون و ينسون أنفسهم ..


على الرغم من أن في البداية أثناء الترويج لحضور حفلة الاستعراض تلك قد هوجمت بالرفض، إذ أن البشر لم تروق لهم فكرة كهذه و وصفوها بذاك الفعل التقليدي الذي قد انتهى عصره منذ زمن، و أن العالم الآن في تطور مستمر ..


لكن ذلك الشخص المجهول، صاحب تلك الحفلة و الذي يبدو و كأنه معلول، قد أصر على الترويج بشكل هستيري لحفلته تلك و وضع عدة شروط، حتى يتخلص من هذا العالم الذي سيطرت عليه القيود، قيود الانترنت و الهواتف النقالة ..


من ضمن الشروط تلك هي ترك الهاتف خارج المسرح قبل الدخول و عدم إحضار أي مشتتات، و مليهات، سوى الطعام، و كل شخص سينتهك الشروط سيلام، و سينتهي الأمر بطرده بلا احترام، فتلك الحفلة هي بمثابة أخذ إستراحة من عالم التكنولوجيا هذا..


و في اليوم الذي أقيمت فيه الحفلة، ذهل الجميع من كمية الجمهور الكبيرة، و تجمع الناس في صالة مستديرة، كان يوماً من إحدى أيام تموز الحارة التي تتطلب الكثير من المقاومة لأجل تخطي موجة الحر و الضجر،  حتى ينقضي الشهران المتبقيان من هذا الفصل ..


لم يكن هناك موسيقى ولا حتى أجواء توحي بالاحتفال، إذ أن الناس قد اعتادوا على الموسيقى بل و البعض منهم قد أصبح مدمناً عليها، لشدة إدخالها في كل فيديو ينشر على الانترنت، و لكثرة المغنيين أصحاب الأغنيات السخيفة معتقدين أنهم يقدمون فناً يحتذى به، و محتوى يقتدى به..


وصلت فتاة ترتدي بنطال أبيض اللون تمتزج معه خطوط حمراء، فتاة نحيلة شقراء، و في الأعلى كانت قد ارتدت قميص أحمر اللون ذو زخرفة بيضاء و على رأسها قبعة تشبه البالون، فور دخولها بدأ الناس بالتصفيق بحرارة لكنها لم تبدي أي رد فعل، بل بقيت ساكنة و هادئة حتى اختفى صوت التصفيق و حان وقت العمل، انطفأت جميع الأضواء حينها و بقي الضوء مسلط فوقها فحسب ..


لم تكن ملامحها واضحة بل غطت وجهها الرسومات الكثيرة لكن رغم ذلك  كانت ابتسامتها المريبة تلك تثير القلق في نفس البعض..


أخذت تتمايل بخفة على خشبة المسرح و الأنظار تلاحقها بكل شغف، و وسط سيرها و انتظارهم بحماس توقفت فجأة و أشارت بيدها طالبة متبرع لأجل اللعب بشغف، و وسط الجمهور، نهض عجوز يصارع الشيخوخة، لكنه أتى فالمهرجة قد ألقت في قلبه تعويذة جذبته إليها، و وقف منتظراً مصيره أمام الحضور، يحدق في عينيها..


أمسكت بيده بلطف و ثقة، فأصابت الرعشة قلبه برقة، ثم همست له بكل هدوء و مكر، أن ادخل الصندوق و دع الجمهور ينبهر بك و بكل فخر، تقدم هو بخطى مترددة، و دخل الصندوق و في قلبه نوع من القلق ينخر به كالدودة، ثم بدأت الموسيقى تجذب مسامع الجالسين بل تثير الحماس في داخلهم و تطربهم، و تبث في قلبهم اليقين ..


بعد أن دخل العجوز إلى الصندوق بدأ الهمس ينتشر في المسرح، و الهتافات الحماسية ترتفع بمرح، وقفت الفتاة بوضعية مستعدة، و بدأت بتدوير الصندوق كل جهة على حدى، ثم توقفت بهدوء فتغير صوت الموسيقى، و بدأ صوت يثير في داخل الجمهور مشاعر عميقة، عم السكون في المكان، منتظرين من لاعبة الخفة تلك أن تفاجأهم بأسلوب مميز كما يهوى كل انسان ..


ابتسمت لهم بمكر رافعة حاجبها الأيمن، ثم قامت بفتح باب الصندوق بعد مدة قصيرة من الزمن، و إذ بالرجل العجوز قد اختفى، و أصبح مكانه مكاناً فارغاً، بدأ صوت التصفيق يعلو في الأرجاء، و الأصوات التي تصرخ بحماس بدأت تثير الضوضاء ..


طلبت مرة أخرى من متبرع آخر، لكن هذه المرة قد ودت لو تكون فتاة بعمر الزهر، في البداية لم يكن هناك متبرعة، لكن بعد عدة محاولات أتت فتاة بخطوات سريعة، و وقفت أمام المهرجة بكل ثقة، منتظرة منها تأدية اللعبة بدقة، طلبت المهرجة من الفتاة الدخول، و ودت لو أن تسرع فقد أصاب الجمهور الذبول ..


في اللحظة التي دخلت، قد خلت ملامح المهرجة من الحماس، و بدت نظرتها مريبة، لكن ذلك لم يظهر للجمهور، الذين قد شردوا في خدعها البريئة، ثم عادت الكرة، لكنها قد أضافت على عدد الدورات مرة، ثم فتح الباب، و كانت ردة الفعل كما سبق، ذهول مع الكثير من الصدمة، و مشاعرهم تجاه المهرجة تعلو إلى القمة ..


أين يختفي المتبرعين؟، الجميع يتساءل و بقلبه يقين، يقين أن ما تلك اللعبة سوى خدعة، و أن المهرجة تفعل ذلك بغرض المتعة، ابتعدت المهرجة عن الصندوق و بدأت تتمايل مع صوت الموسيقى العذبة، ثم انتقلت ناحية الطاولة، و أخرجت عدة أوراق لعب، حركتها بين يديها فأثارت الشغب..


اختارت ثلاث ورقات عشوائية، و وضعتهم فوق الطاولة دون أن تلمح ما في داخلهم حتى لو بطريقة خفية، أرادت من إحدى الشبان أن يتقدم، فهي لن تلعب وحدها كالقلم، كالقلم في يد كاتب

Raghad Zkoor

ماهر، لا يعتقه و يمضي الليل ساهر ..


هذه المرة قد ارتفع صوت طلبات راجية أن تختار أحدهم، لكنها صفقت باحترام، و طلبت الهدوء و السلم، ليصدح صوت قد أوقف الجميع عن الصراخ، و أخبرهم مواصفات الشاب المراد، و ودت لو كان شاباً مقداد ..


صدح الصوت في الأرجاء مردداً، 

-نحتاج إلى متبرع جريء، و هادئ، يمتلك ذكاءاً فريداً 


في تلك اللحظة نهض شاب وسيم، ذو طول باهر و جسد سليم، و سار ناحية المهرجة، أراد أن يخبرها أنه قد شعر بالضجر، من هذه الضجة، لكنه لن يجرؤ، فنظراتها الحادة، أضفت في قلبه التوتر، و جعلت من لون وجهه أن يتحول إلى احمرار، فما كان منه إلا أن أخفى ما بداخله من كلمات و أسرار..


طلبت منه اختيار ورقة من الثلاث ورقات أمامه، فبلع ريقه بصعوبة، و شعر و كأنه طفل صغير بحاجة لأمه، و بعد تردد دام لبرهة، انتشل الورقة الثالثة بدقة ..


طلبت منه المهرجة أن ينظر ما بداخلها و يصمت، ففعل ذلك بكل هدوء و سكت، بعد ثوانٍ معدودة، نبست المهرجة دون أن ترى ما في داخل الأوراق الممدودة ..


-لقد اخترت ورقة قد رسم عليها شاب، ذات لون أحمر


توسعت عيناه بصدمة، و رفع الورقة أمام الجمهور، فصفق الحضور، و تعالت أصوات معجبة بقدرة اللاعبة على الاحتراف، لكنها بالفعل تثق أنها محترفة، ولم تكن تعطي أهمية لكل ما يضاف ..


همس الشاب و هو ينظر في عينيها بتردد 

-أيمكنني تجربة لعبة الصندوق؟


هزت المهرجة رأسها بكل رحب، و طلبت منه أن يدخل إلى الصندوق الصلب، فهرول بحماس و سعادة، و دخل الصندوق كما جرت العادة، ثم تقلب الصندوق يميناً و يسار، و فتحت المهرجة باب الصندوق و أخرجت المسمار، حدق الجميع بصمت، لكن قطع الصمت صوت طفل لطيف، صرخ بحماس ..


-لقد تحول الشاب إلى مسمار، عندما وجهت الصندوق إلى جهة اليسار.


قهقه الحضور لظرافته، و صفق البعض لحماسته، ثم انطفأت الأضواء فجأة، و نطق صوت المذياع بخفة ..


-نشكركم على حضور حفلنا، و سعداء بوجودكم معنا، أما العجوز و الفتاة مع الشاب، ستتناولهم الساحرة على العشاء، و إلى اللقاء!


تعالت أصوات الضحك في الأرجاء، و بدأ الحضور يخرج بفوضى و يصنع الضوضاء..


وفي الجانب الآخر من المسرح، خرجت أنثى تثير بخطوات متزنة، حاملة بيدها صندوق و خزنة، تسير ناحية سيارة سوداء، مرتدية معطفاً و قبعة حمراء، بينما الدماء تتسرب من أسفل الصندوق، هي لم تعطي اهتمام، و جل تفكيرها أن تصل للسيارة بسلام، على الرغم من أنه لم يكن هناك من أحد، قد يرى هذا المشهد.


يتبع ..