-->

الفصل الرابع - منزل الدمى

 




الفصل الرابع


ثلاث دمى و رأس اليقطين!

.

.


تتسلل إلى أعماقنا مشاعر غريبة، لا نعلم عادةً ما هي، لكننا نتقبلها بصدرٍ رحب، بل و نرغم أنفسنا على التعايش معها من أجل أن تبقى على قيد الحياة..


قد يوقظ تلك المشاعر حادث بسيط، كلمة عابرة، أو حتى كابوس مخيف، جميعهم قادرين على انتشالها من أماكن دفنها في داخلنا إلى الأعلى حيث تبث مشاعرنا التي تأتينا بغتةً ..


في لحظة من تلك اللحظات و أنت تسير حياتك بشكلٍ اعتيادي، يحدث أمراً غير اعتيادي يعيدك إلى نقطة قد تخطيتها و أنت تسير على خطى دربك، أو قد توقظك من حلم كنت تظنه واقعاً ..


لم تكن إيما تفكر بتلك الطريقة قبل يوم واحد فقط من اختطافها و دخولها إلى هذا العالم المنفصل تماماً عن عالمها، منذ أسبوع و هي في حالة صدمة، تحاول تفسير ندمها على ثقتها بالمهرجة و دخولها للصندوق بأنه غفلة أو فعل هدفه نسيان المبادئ التي تربت عليها، و أنها لا تثق بأحد البتة، لكنها كانت مرتها الأولى التي تثق بها بشخص ما و المرة الأولى التي تخذل بها ..


لم تكن ترى العالم بتلك الوحشية قبل يوم واحد من حضورها لعرض المهرجة، لطالما وضعت التبريرات لمن حولها، لكنها الآن ترى كل بشري أمامها في هذا المكان على حقيقته، ترى كيف تكون الروح غالية لمجرد أنك في خطر، و أن بعضهم مرغماً على فعل ما لا يطيق لأجل أن تبقى تلك الروح حية ترزق ..


تشكلت ابتسامة جانبية ساخرة على وجهها، كان كل ما يجول في خاطرها الآن، أتستحق الحياة أن نرغم على حماية روحنا بكل ما أوتينا بالقوة فقط من أجلها؟ ..


تنهدت بعمق، لقد كثرت تنهيداتها العميقة في آخر فترة، فنحن عادةً ما نتنهد بعد موجة ضحك عالية، بعد ساعة بكاء طويل، بعد ملل شديد، أو حتى عندما نشعر بأن ما بيدنا حيلة لفعل شيء ما حيال أي كان ..


أرادت استذكار ما حدث بجدية، فمنذ أن استيقظت و الأفكار تتضارب في رأسها، ثم إن الصداع الشديد يعيق مسيرة تفكيرها بهدوء، أرادت استذكار ما حدث لأجل معرفة لم هي في هذه الغرفة الآن؟ ..


انسابت المشاهد الكثيرة أمام ناظريها، منذ أن استيقظت أول مرة في هذا المكان، إلى تلك اللحظة التي انطفأ بها النور عندما كانت تتناول البيتزا إلى جوار سيرينا و تلك الطفلة ..


مازالت لم تتمكن من النهوض، و لم تستطع تذكر ما حدث بعد ذلك، كل ما تذكره أنها غفت بعد موجة خوف شديد، على نفس تلك الوضعية التي كانت ترفع بها يدها و تربت على كتف سيرينا، فقد تجمدت يدها على كتف الأخرى لمدة طويلة إثر تهديدهم بالقتل إن تحركوا، و ما انتهى الأمر حتى سقطت نائمة ..


بدون أن تكلف نفسها بالنهوض، تجولت ببصرها في أرجاء الغرفة، كانت مستلقية على سرير ذو بطانية بيضاء اللون و جدران الغرفة كانت زرقاء أقرب إلى لون السماء..


لم تكن وحدها، كانت الغرفة مكونة من ثمانية أسرة، و لكل سرير شخص نائم عليه، حتى ملابسها لم تكن نفسها التي كانت ترتديها في القاعة السابقة ..


بل كانت ترتدي قميص أحمر مخطط باللون الأبيض، كشفت الغطاء قليلاً و هي مازالت مستلقية، لتجد أنها ترتدي بنطال أبيض مخطط باللون الأحمر..


- ملابس غريبة!


التفتت مجدداً تتفحص الأسرة من حولها، لتجد أن هناك سريريين فارغين، عبست باستغراب و أرادت النهوض مرغمة نفسها على أن تبذل بعض الطاقة، كي تبث القوة في جسدها المرهق، لكنها عادت بسرعة عندما لمحت ذاك العجوز جالساً على الكرسي في مسرح كبير كان يأخذ النصف الآخر من القاعة و لم تتمكن من رؤيته لأنها انشغلت بالأسرة و الملابس التي ترتديها ..


-فرصة مناسبة لمراقبة ذاك العجوز الغريب من تحت الغطاء


همست بمكر و دست رأسها تحت الغطاء ثم رفعته قليلاً لتظهر عينيها فقط حتى تتمكن من رؤيته، و راحت تراقبه باهتمام شديد و تحليل كل حركة يقوم بها ..


كان جسده يستقر فوق كرسي خشبي قد وضع على أرضية المسرح، و يده اليمنى على الطاولة يرفعها قليلاً ليسند بها ذقنه ..


بعد عدة دقائق من جلوسه هكذا شارداً، أتت الطفلة ماريا إليه و وقفت تحدثه بنبرة منخفضة لم تتمكن إيما من سماعها، ليربت هو على رأسها و يبدأ بالتحدث إليه ممثلاً حركات غريبة في يديه و كأنه يحك قصة خيالية ..


عبست إيما تنظر له و تحاول أن تفهم قدر الإمكان ما تراه، لكنها لم تتمكن من فهم أي شيء، كانت ماريا تمسك بيدها لعبة قد انتشلتها من فوق أرضية المسرح و عانقتها ثم ذهبت حيث ذاك العجوز ..


بعد مدة ليست بقصيرة، انتهى العجوز من كلامه ثم نهض و عاد إلى سريره لتتحول ملامح ماريا فجأة إلى أكثر حدة من ذي قبل، و تمسك الدمية ثم تقلع رأسها بكل ما أوتيت من قوة و بكل عنف، ثم تضعه فوق الطاولة و ترمي بجسد الدمية بعيداً عائدة إلى سريرها ..


قررت إيما أن تذهب إلى الفتاة و تحدثها بل ترغمها على إشباع الفضول الذي يتسلل إلى قلبها ناحيتها، مما دفعها لأن تنهض بسرعة من فوق السرير متجهة ناحيتها ..


لولا أنها قد شعرت بالدوار و بدأت أطرافها ترتجف فجأة فلم تعد قدميها تحملها و سقطت على الأرض و هي تشعر بالارتعاش يسري في أطرافها ..


اقترب العجوز مسرعاً و حاول أن يحدثها لكنها لم تجيبه إلا بعد عدة محاولات..


- أنا بخير، يحدث هذا عادةً لي عندما أنهض فجأة


هز العجوز راسه بهدوء، ثم اقترب منها و همس في أذنها بنبرة متزنة ..


- كفي عن مراقبتي، ليس لدي ما أخفيه


توسعت عيناها بصدمة، و شعرت بانخفاض حرارة يديها، لتبدأ نبضات قلبها بالتسارع، لكنها فضلت ألا تجيبه، و همت بنفسها للنهوض متجهة إلى ماريا، التي كانت تجلس على سريرها تحدق بالطاولة حيث رأس الدمية يستقر هناك..


- ما ذنب تلك الدمية المسكينة؟


أتاها صوت قد تمكنت من تمييزه إذ أنها تتمكن من تمييز الأصوات بسهولة، لترفع ماريا رأسها و تحدث بإيما التي تقف أمامها و نظراتها الغاضبة تكاد تخترق وجه ماريا ذو الملامح الباردة ..


- أنا فقط شعرت بأن جسدها لا يناسب رأسها


- ما الذي كنت تتحدثين عنه أنت و ذاك العجوز؟


التفتت ماريا إلى العجوز الذي عاد إلى سريره و جلس يحدق بإيما و ماريا ..


- هذا ليس من شأنك


حدقت إيما بماريا و اللؤم يتطاير من نظراتها لتقترب من ماريا و تمسك بعنقها هامسة في أذنها..


- أيتها الصغيرة، لا تتدعيني أفقد أعصابي، أخبريني من أنت؟


قهقهت ماريا بأسلوب ساخر و رفعت يدها لتغرز أظافرها في يد أيما التي كانت قد قيدت عنقها بها، مما دفع إيما لأن تصرخ و تبعد يدها عن الأخرى ..


- طفلة عنيفة!


- حاولي التهجم علي ثانيةً و سترين ما يمكنني فعله.


عبست إيما و هي تحدق بالطفلة الغريبة، ودت لو تصفعها في وجهها فتلك الطفلة تستفزها لدرجة كبيرة، إلا أن الموسيقى الصاخبة التي علت أصواتها فجأة دفعتها للابتعاد إذ أن جميع من في القاعة قد استيقظ  على ذاك الصوت..


❈-❈-❈



فتح باب القاعة الكبيرة و دخلت المهرجة مرتدية فستاناً أحمر كلون النبيذ، و في يدها تستقر عصا طويلة و على رأسها تاجاً مرصع بالكثير من الجواهر اللامعة، بدت و كأنها إحدى الساحرات في قصص الأطفال ..


- اصطفوا جميعاً بانتظام، فمستوى لعبنا قد تقدم للأمام، و أنتم الفئة التي إن فازت ستعيش هنا بسلام.


اصطفوا من الأقصر إلى الأطول، لا تعاندوني  فتلحقون بمن سبقوكم، فأنا لا أريد أي جاهل مذل، لأن ألعابي لا يلعبها سوى المحترفين الذي لا يعرفون معنى الملل.


و لأول المرة لا يتمرد أحد على قرارات المهرجة، بل يقومون بما طلبت بكل هدوء على الرغم من أنهم يفتقدون  للحماس و يخافون مما سيأتي بعد قليل ..


بعد مدة قصيرة كان الصف قد اكتمل، فتقدم أربع رجال آليين اثنان قد قيدا الصف من الخلف و أخريان قد قيدا الصف من الأمام، أما المهرجة فقد تقدمت الصف و سارت بهم بكل اهتمام ..


كانوا يتبعونها بخضوع تام، و بلا تذمر أو بالأحرى بكل اهتمام، بل إن ملامح الهدوء كانت تعتلي وجوههم على الرغم من أن بعضهم كان يشعر برغبة عارمة في تناول الطعام ..


فالجوع لا يرحم، لكن إن كنت مرغماً فلن تقوى على الكلام، في ممر طويل شبه مظلم و جدرانه قد أخذت رسومات مخيفة، كانوا يسيرون محدقين بكل ما يمرون به بذهول تام، فلم يكونوا يعتقدون أن المكان سيكون بهذه السوداوية، بل ظنوا أن في خارج القاعة سيكون كل شيء على ما يرام ..


توقفت المهرجة فجأة فاشتدت عضلات أقدامهم و تسمروا في أمكنتهم، حاملين الفضول لم ينتظرهم ..


- ادخل إلى القاعة يا تعسائي، لكن بلا فوضى يا أصدقائي


نبست المهرجة تاركة لهم الطريق أمام باب قاعة كبيرة، هموا بالدخول لتتوسع عينيهم بذهول، كانت القاعة أكبر ممن سبقتها، أكثر غرابة من قرينتها، محاطة بالكثير من الآلات التي تزيد من روعتها ..


كان هناك طاولتين و حول كل طاولة أربع كراسٍ خشبية، و إلى جانبهم ساعة فضية، أما في الجانب الآخر فكان هناك مسرح كبير يعلوه خط سيرك رفيع مريع، و في الأعلى علقت ثلاث كرات حديدية يتفرع منها سكاكين تلمع من شدة حدتها ..


دخلوا بخطوات مترددة و أقدام مرتجفة، و دخلت هي في الأخير لتقف على المسرح و تضرب الأرضية بعصاها الكبيرة، مما دفعهم لأن ينصتون باهتمام بينما هي أضافت بمرح ..


- اللعبة اليوم سأطلق عليها عنوان لطيف، ' ثلاث دمى و رأس اليقطين '، يفضل أن يكون الرأس سمين!


قهقهت بسخرية و أضافت بعد ذلك..


- لديكم أوراق لعب تستقر فوق كل طاولة، على كل فرد منكم اختيار فريقه، و كل فريق مكون من أربع لاعبين، يمكنكم اختيار بعضكم، لكن كونوا حذرين على أرواحكم.


في البداية لم يلبو طلبها بل وقفوا يحدقون ببعضهم بنظرات غامضة، و ما قطع تلك السلسلة من التحدق سوى تقدم ألكسندر و جلوسه على إحدى الكراسي أمام الطاولة بكل ثقة و بصمتٍ تام ..


كان على إيما مهمة العثور على أقوالهم لكي تتمكن من هروبها و إنقاذهم، فالتفتت شاردة بهم، كانوا ست أشخاص و السابع كان ألكسندر الذي ذهب إلى الطاولة هناك ..


نبست تحدث نفسها..


- ماريا، ذاك العجوز، سيرينا، ألكسندر، و ذاك الرجل الأربعيني الذي يبقى طوال وقته مع تلك الشابة، و ذاك الشاب الضعيف هناك، من علي اختياره ليكون فريقاً معي؟ مهمتي لم تنتهي بعد، و لكن روحي أولى من كل هذه الترهات


ذهبت ماريا لتجلس على الكرسي الذي يتسقر عند الطاولة الأخرى، فأصبح هناك شخصان، ألكسندر على الطاولة من جهة اليمين و ماريا على الطاولة من جهة اليسار ..


بعد قليل تشجع العجوز و تقدم للجلوس بجانب ألكسندر، ثم تبعته سيرينا، فلم يبقى سوى كرسي واحد على طاولة ألكسندر..


حينها هرولت إيما و جلست عليه، لتتقدم الشابة مع ذاك الرجل و تجلس على الكرسي بجانب الطاولة المقابلة و الرجل يستقر بجانبها، مما استدعى الشاب المرتجف لأن يجلس معهم أيضاً كونه لم تبقى له فرصة لاختيار شركاءه ..


مع بدء الصافرة انطلقوا للعب، كانت نقاط اللعبة أمامهم واضحة، كل واحد من إحدى الفريقين كان عليه أن يرمي بورقة أمامه على الطاولة و الورقة صاحبة الرقم الأكبر من نفس النوع يفوز صاحبها و يأخذ جميع الأوراق ..


من المتوقع أن يكون هناك خاسر واحد لهذه اللعبة، و الخاسر مصيره مجهول بالنسبة لهم، إلى حد الآن، لهذا كانت اللعبة تدفعهم للتوحش و استملاك الورق بكل ما يملكون من قوة، فكل واحدٍ منهم كان يحاول ألا يكون خاسراً ..


❈-❈-❈



بعد ساعة كاملة من اللعب ببطء، انتهت اللعبة بخاسرة العجوز من فريق إيما الأبيض و خسارة ذاك الرجل صديق الفتاة من الفريق الأزرق ..


حدقت إيما بالعجوز، لم تكن تريده أن يموت كونها بحاجة لإشباع فضولها و معرفة قصته الغامضة لكي تجد طرف الخيط على الأقل، الخيط الذي سيقودها للهروب من هنا ..


- تعاليا إلى هنا، أيها المسكينان، التعيسان


تقدم العجوز بكل هدوء و بلا أي اهتمام لكن يد إيما التي تشبثت به فجأة أوقفته، التفت إليها عابساً و نظرة تساؤل قد طغت على عيناه ..


- إنني خائفة أن تموت، و أنا بحاجة لأن أتحدث إليك بأمرٍ مهم.


- لقد أخبرتك من قبل، ليس لدي ما أخفيه، فلا تفوتي على نفس فرصة الاستمتاع في تعذيبي أمامكم، بالإضافة إلى أنني لستُ من ذاك النوع من الأشخاص، الذين يتشبثون بالحياة بشراهة، في النهاية موعد موتي لم يعد ببعيد فالعجائز يترقبون موتهم مع كل دقيقة تمر.


انتشل يده بكل هدوء من بين يديها، و سار ناحية مصيره المجهول، حيث المهرجة تنظر له بتمعن و انتظارها لهم يطول ..


- و الآن المرحلة التالية من اللعبة، على كل من هذين الخاسرين السير على هذا السيرك خلال نصف ساعة محاولين تخطي تلك الكرات الحادة .


انتبهوا، قد يقطع رأس أحدكما.


لم يكن العجوز يشعر بأي شيء سيء، بل كان هادئاً حتى في أعماقه مشاعره كانت هادئة، شعر برغبة عارمة في الهرول سريعاً حتى يتخطي كل هذا بسرعة، أو يموت فهو لا يهتم ..


بدأت الكلمات تتدفق إلى رأسه و هو يحدث نفسه بكل اهتمام و يناقشها في داخله و كأنه يناقش شخصاً آخر ..


- في عالمٍ رمادي اللون، كنت أتعثر في خطواتي الأولى نحو قمة تتجاوز طول جسدي، الثالثة عشر كانت رحلة فقدان العائلة بسبب مرض فيروسي كان ينهش في أفراد أسرتي المتواضعة، نقلت والدتي الهواء الأصفر إلى المنزل و بدأ ينتقل من فردٍ لآخر ..


توفيت والدتي و قرروا إرسالي إلى عمتي، كانت الثالثة عشر رحلة مليئة بالأحزان و الخوف، جاءنا خبر وفاة والدي بعد أشهر فانطفأت ابتسامتي المعتادة ..


لقد أصبح منزلنا فارغاً الآن، ضحكات أمي صداهت يتردد في رأسي إلى الآن، صراخ والدي أثناء لعبنا لكرة القدم تحييه الذكريات في رأسي فيسمعني صوته و كأنه أمامي، نحن نتعلق بالكثير من التفاصيل دون أن ندرك أن التعلق يقتلنا بصمتٍ بطيء ..


الحياة غير عادلة، فعمتي لم تكمل معي حتى النهاية و تركتني بعد خمس سنوات، كان للثامنة عشر ذكريات هادئة، عمل كثير من أجل توفير ميزانية للدراسة، ثم ترك الدراسة بسبب الفشل ..


الأمر غريب، كل هذا و لم ينفك ذاك الاعتقاد عن الهلوسة في رأسي، إن بت طفلاً يتيماً، و حيداً، علي أن أكون سبباً في حماية طفلٍ آخر مما أصابني ..


الكتابة أخذت تنتشلني من أحزاني التي كانت تقيدني، قصص كثيرة لأطفال كثر، من بلدانٍ كثيرة، أنا سعيد الآن، يمكنني أن أموت بعد أن شعرت بذاك الشعور، بعد أن أصبحت جزءاً من طفولة هذا و قدوة هذا ..


أذكرك الآن يا ميرنا، لقد سمعت أن المرء في آخر لحظات حياته يتذكر كل ما مر به من سنوات، على الرغم من أنك خائنة و على الرغم من أنك جعلتني رجلاً لا يثق بظله، وحيداً بلا زوجة قد تحميه بحنانها من قسوة الظروف التي مرت به، وحيداً بلا ابناء أعمل من أجلهم غير مبالي لشعور إرهاق يتعبني، لكن أثرك قد شكل الجزء الأكبر من حياتي ..


حتى وفاة أقرب الأشخاص إلي لم يصنع في قلبي تعاسة كالتي صنعتها ..


لكن شكري الأولى و الأخير و امتناني للكتابة، أود أن يقرأ مزيداً من الأطفال قصصي، أود حقاً أن أكون مشهوراً حتى و إن رحلت.


من ميشيل، رسالة أخيرة من رجلٍ العزلة إلى نفسه الفاقدة لظل الأمان منذ نعومة أظافره.. لأنه رجل العزلة.


تقدم العجوز و بدأ يسير بهدوء على طول السيرك، بتوازن شبه جيد و خلفه كان ذاك الرجل، توقف العجوز للحظة و أخذ يتنفس بصعوبة ..


كانت فرصة جيدة للفتاة، مما استدعاها لأن تهرول و تقوم بدفعه أمام الكرة التي اخترقت جسده و اقتطعت رأسه منفصلاً عن جسده ..


-الخاسر هو العجوز


صفقت المهرجة و نزل الرجل بسلام، لتحتضنه صديقته بكل ما أوتيت من قوة..


اصطفوا الست أشخاص المتبقيين خلف بعضهم، و اتبعوا الرجل الآلي إلى القاعة مجدداً، و عندما دخلوا إلى القاعة و أغلق الباب خلفهم هرولت إيما ناحية الفتاة و أمسكتها من ياقة قميصها الزهري باهت اللون ..


صرخت إيما بكل قوتها، بينما اللون الأحمر قد بدأ يعتلي ملامحها لشدة غضبها، كانت دموعها تسيل و هي تحدث الأخرى بعنف ..


- لماذا قمت بدفعه؟ لقد قتلتي نفساً بريئة بفعلتك هذه


دفعتها الفتاة بقوة مما أسقطها أرضاً، ثم صرخت عليها و هي تنظر إلى صديقها ..


- أتريدين مني رؤية حبيبي على مشارف الموت و أن أبقى هادئة منتظرة موعد قتله.


-هذه كانت لعبة، كان سيموت حبيبك هذا إن خسر بعدل.


- إن كنت مهتمة جداً لذاك العجوز، لماذا لم تدفعي نفسك للخسارة و الموت بدلاً عنه.


نهضت إيما مسرعة و صفعة الفتاة بكل قوة، لتمسك الأخرى شعرها و تسحبه بقوة ..


- يكفي أنتما الاثنتان، أترون أن الوقت مناسب للشجار، و نحن مهددون بالقتل في كل ثانية تمر.


ابتعدت الفتاة بعنف عن إيما، و ذهبت لتستلقي على سريرها الأبيض تحدق في السقف، بينما إيما سقطت أرضاً و بدأت دموعها تسيل على خطى وجنتيها ..


شعرت إيما بيد تربت برقة على شعرها، نظرت بجانبية لتجد ماريا تنظر لها بنظرة حزينة و يدها قد وضعتها فوق رأس إيما ..


و لأول مرة كانت الطفلة تنظر بحزن حقيقي، و ملامحها لم توحي بالبرود.


❈-❈-❈


الضباب الأسود كان يطغى الغرفة، و الكثير من الروائح الكريهة المختلطة تنبعث من أرجاءها، كانت المهرجة تقف ممسكة بسيجارتها تحدق بذاك الحائط ذو الرفوف أمامها ..


- القلوب السوداء المتعفنة، و الرؤوس المزينة، تلك التيجان تنفع لرؤوس هؤلاء الموتى.


قهقهت بسخرية، ثم حملت رأس العجوز و وضعته إلى جانب الرؤوس الأخرى و حملت التاج لتضعه فوق رأسه كمن حوله..


تنفست بعمق و استدارت متوجهة ناحية سريرها، صفقت مرتين ليخرج الصندوق المخبأ تحت السرير، اقتربت منه و فتحته بتردد ..


كان يحتوي على صورة واحدة و دفتر متوسط الحجم ذو أوراق عتيقة ..


صورة قد احتوت على ست أطفال و عجوز، ظهرت ابتسامة جانبية ماكرة على الجهة اليسرى من شفاهها، في حين قلبت الصورة لتأخذ تاريخاً قد كتب خلفها ..


- السادس من يونيو لعام ألفين و ستة، ذكرى موت القلوب السوداء، و موعد زيارة القبور المظلمة.



يتبع