-->

قصة قصيرة - توأم روحي







توأم روحي "قصة قصيرة"

 سمر إبراهيم


عند لقائنا الأول 

لم يخطر ببالي قط 

أنك ستكون أهم من بحياتي


أشرق نور الصباح، وأرسلت الشمس أشعتها الذهبية على الأرض؛ لتبعث الدفيء في قلوب البشر.


خيوط من نور تتسلل من شرفات المنازل؛ تعطي في النفوس أمل جديد، يتجدد كل صباح، ينير القلوب ويحث على التفاؤل.


في شقة متوسطة في حي من أحياء وسط القاهرة استيقظت ملك في الصباح الباكر لتستعد للذهاب لعملها.


"ملك سعيد الصاوي" فتاة في الثلاثين من عمرها متوسطة الطول ذات بشرة برونزية مع عيون خضراء في مزيج غريب يضفي عليها جمالا من نوع خاص، تعمل مترجمة في مكتب ترجمة كبير لم تتزوج بعد وليست لديها نية لذلك.


خرجت من حجرتها لتنضم لوالدتها على طاولة الإفطار.


ابتسمت في وجه أمها وتحدثت معها بمرحها المعتاد:


- صباح الخير على أحلى سوسو.


ردت عليها أمها بابتسامة:


- صباح الورد يا ملوكة تعالي افطري يا حبيبتي قبل ما تروحي الشغل.


جلست ملك وتناولت الإفطار مع والدتها وأخذا يتبادلان أطراف الحديث.


كانت والدتها مترددة في إخبارها بأمر ما، ولكنها حسمت أمرها في النهاية، لتخبرها إذن، فهي لا تريد سوى مصلحتها، وأن تراها سعيدة:


- عندي ليكي خبر بس يارب متكسفينيش زي كل مرة.


عقدت ملك حاجبيها في استغراب من حديث والدتها، وقالت لها:


- خبر إيه يا ماما اللي ممكن يزعلني؟


ثم استطردت مكملة بعد أن فطنت لقصد أمها:


- أوعي يكون عريس تاني، قصدي عاشر، فيه إيه يا ماما؟ انتي مش هتبطلي بقى الكلام في الموضوع ده؟ قولتلك ١٠٠ مرة أنا مش عايزة اتجوز.


حدثتها والدتها بقليل من الحدة:


- لحد امتى يا بنتي هتفضلي مضربة عن الجواز؟ انا مش هعيشلك العمر كله نفسي اتطمن عليكي زي ما اتطمنت على اخواتك، وأديكي شايفة اختك، وأخوكي اللي أصغر منك اتجوزوا وعاشوا حياتهم وسعدا الحمد لله.


ثم ربتت على ظهرها بحنان أموي وأكملت حديثها:

- صوابعك مش زي بعضها يا ملك يا بنتي متخليش اللي حصلي يأثر عليكي مش علشان جوازتي أنا وبباكي فشلت،  أو علشان هو مكانش زوج، وأب كويس يبقى كل الرجالة كدا الدنيا فيها الحلو، وفيها الوحش.


نظرت إليها ملك بعيون تلمع بها الدموع ولكن تأبى أن تفرج عنها وقالت بصوت مخنوق:


- انتي لسة قايلة صوابعك مش زي بعضها ومش علشان مها لقت حد كويس يبقى أنا كمان ممكن ألاقي حد طيب وابن حلال زي مجدي.


مالك ومها كانوا لسة صغيرين لما بابا طلقك وطلقنا معاكي ميوعوش على اللي حصل بس أنا فاكرة وفاكرة كويس جدا كمان، ومعنديش استعداد أعيد التجربة، أو أسيب نفسي علشان أبقى تحت رحمة حد، وخصوصا لو كان الحد ده راجل.


قالت ملك كلماتها، وأخذت حقيبتها، وغادرت لعملها، وتركت والدتها غارقة في بحر ذكرياتها، لتتذكر كل ما عانته هي وأبناءها الثلاثة مع زوج مستهتر، أناني، لا يعرف عن المسؤولية شيء.


لطالما عانت من سوء اختيارها لقد وقفت أمام والديها وأجبرتهما على الموافقة على سعيد الذي كان في نظرهما غير كفؤ لابنتهما، فهو ينتمي لبيئة غير التي تربت بها وكانا على يقين أنه يطمع فيها وفي منصب والدها وكيل الوزارة ولكنها أبت أن تستمع لهما ومضت في زواجها منه وبالرغم من رفض والديها لكنهما رضخا لرأيها، ففي نهاية الأمر فهو اختيارها فلتتحمله للنهاية.


عاشت معه سبع سنوات تحملت خلالهم مالا يتحمله بشر؛ من ضرب، وإهانة، وتقليل منها سواء فيما بينهما أو أمام الناس خاصة أهله.


لطالما عنفها أمام أبناءها ولم يهتم بهؤلاء الصغار وما الذي يمكن أن يحدث لهم جراء ما يعايشوه في بيئة غير سليمة بالمرة لتربية أطفال مثلهم، وها هي ملك ترفض مجرد التفكير في الإرتباط، ولا تعلم كيف يمكنها أن تغير فكرتها عن الرجال، وتجعلها تقدم على تلك الخطوة.


تنهدت سعاد بحزن فهي لا تملك سوى الدعاء لابنتها بأن يرزقها الله بالزوج الصالح الذي يستطيع أن يزيل كل أثر سيئ تركه والدها عندها.


❈-❈-❈


ذهبت ملك لعملها في غضب جلي على وجها، فدخلت مكتبها، وقامت بإلقاء حقيبتها على سطح المكتب، وجلست في مقعدها، وسط استغراب يمنى زميلتها في العمل، وصديقتها الوحيدة.


تحدثت إليها يمنى في محاولة منها لإخراجها من تلك الحالة.


- إيه يا ملوكة مالك عالصبح مين اللي زعل الجميل قوليلي بس وأنا أروح اخرب بيته.


نفخت ملك مخرجة الهواء من صدرها بغضب، وحدثتها بقلة حيلة:

- مفيش يا يمنى العادي بتاع كل يوم، والتاني.


فهمت يمنى ما ترمي إليه صديقتها، وحدثتها محاولة إخراجها من هذه الشرنقة التي تحيط نفسها بها:


- إيه الحكاية بس؟ طنط فتحت معاكي موضوع الجواز تاني ولا إيه؟


نفخت ملك مخرجة الهواء من صدرها مرة أخرى وتحدثت بلهجة يشوبها الغضب:


- هو فيه موضوع غيره ممكن يفور دمي، كل يوم والتاني جايبالي عريس، إشي ابن واحدة زميلتها في المدرسة، وإشي ابن واحدة قريبتنا، لما زهقت مش عارفة هتفهم امتى إني مش هتجوز؟ أفهمهالها إزاي بس؟ أجيب يافطة واكتب عليها مش هتجوز واعلقها على صدري علشان تفهم وتسيبني في حالي، ولا أعمل إيه بس؟ أنا تعبت.


ربتت يمنى على ظهر ملك في مؤازرة حقيقية، وحدثتها بصدق:


- ملك يا حبيبتي هي معذورة نفسها تفرح بيكي اخواتك الأصغر منك اتجوزوا وعاشوا حياتهم وانتي اللي حياتك واقفة زي ما هي مفيش جديد اللي تباتي فيه تصبحي فيه.


حاولي يا حبيبتي تنسي اللي حصل زمان وعيشي حياتك ولو حابة ممكن نشوف دكتور نفسي تتابعي معاه علشان تقدري تتخطي اللي حصل، مش معقول هتفضلي كدا طول عمرك.


على العكس تماما فلم يهدئها كلام يمنى بل زادها غضب فحدثتها بحدة:


- أنسى إيه؟ وأعيش حياتي إيه؟ يا يمنى انتي معيشتيش اللي عيشته اخواتي نفسهم مشافوش حاجة كانوا صغيرين، أنا اللي فاكرة كل حاجة لما سعيد طلق ماما أخيرا وساب البيت، كان مالك عنده أربع سنين، ومها سنتين، أنا اللي فاكرة كل حاجة كل خناقة بينهم، وكل مرة ماما انضربت فيها، واتهانت، وسمعت كلام زي السم.


أنا فاكرة كويس خناقُه معاها، وكلامه ليها، وهو بيلومها إن إزاي جدو الله يرحمه مرضاش يساعده بنفوذه علشان يشتغل في وظيفة هو مش كفؤ ليها، وإزاي مش عاملها مصروف شهري تصرف منه على البيت، مع إنها كانت بتشتغل وكل مرتبها بتصرفه في البيت، بس هو مكانش عاجبه كان عايز جدو كمان يديها فلوس.


ازداد نحيبها وهي تتذكر هذه المواقف التي تأبى ذاكرتها أن نتساها وأكملت في قهر:


- عارفة يا يمنى مع إني كنت طفلة بس كنت بزعل من ماما أكتر ما بزعل منه كنت بكره ضعفها وقلة حيلتها قدامه وخضوعها ليه كرهت سلبيتها وعدم دفاعها عن نفسها تعرفي إنها عمرها ما خدت القرار إنها تسيبه بالعكس كانت ساكتة ومستحملة لحد هو ما طلقها ورماها ورمانا معاها أول ما لقى واحدة غنية هتحققله كل أحلامه.


تصدقي إن ده أحسن حاجة حصلت لنا أنا مبكرهش الست دي أبدا بالعكس هي بالنسبالي طوق نجاة مش عارفة لو مكنتش ظهرت في حياته كان مصيرنا هيبقى إيه وماما كانت هتستحمل لحد امتى.


حتى لما جالنا خبر مرضه متأثرتش ولا روحت زورته مع إن اخواتي راحوا وشافوه بس أنا لأ.


نظرت إلى صديقتها وعيونها تأبى التوقف عن ذرف الدموع، وأكملت حديثها:


- هتصدقيني لو قولتلك إني مزعلتش لما مات بالعكس حسيت إنه هم وانزاح من على قلبي كان عندي هاجس ديما إنه ممكن يظهر في حياتنا في أي وقت ويحاول يخربها تاني كان عامل زي الكابوس اللي مصحيتش منه إلا بموته.


تعرفي إني عمري ما اترحمت عليه ولا فكرت أعملها أصلا ولا خطرت على بالي.


لم تتحمل يمنى مشاهدة صديقتها وهي بهذه الحالة من الانهيار وسارعت باحتضانها في محاولة لتهدئتها بأي طريقة ممكنة وتحدثت إليها علها تخرجها من هذه الحالة:


- طب ممكن كفاية عياط بقى خلاص الأيام دي خلصت خلاص وهو معادش موجود في حياتكم من سنين إنسي بقى يا حبيبتي ولو على موضوع الجواز اعملي اللي يريحك محدش هيجبرك على حاجة ومحدش عارف بكرة مخبي إيه.


ثم حاولت يمنى إخراجها من هذه الحالة فحدثتها بمرح مغيرة مجرى الحديث:


- لا بقولك إيه فرفشي كدا وسيبك من النكد ده وتعالي نشوف شغلنا لحسن لو حد دخل علينا واحنا حاضنين بعض كدا هيقول علينا كلام مش لطيف أبدا وأنا واحدة عندي عيال عايزة أربيها أبص في وش العيال إزاي لو اتقال على أمهم حاجة كدا ولا كدا.


أتبعت يمنى كلامها بغمزة من إحدى عينيها لتفرغ ملك فمها في ذهول من كلام صديقتها غير مصدقة ما تقوله وبالفعل لم تعد تبكي لتقول لها باستغراب:


- كلام إيه اللي يقولوه؟ انتي اتجننتي يا يمنى إيه اللي انتي بتقوليه ده؟


ردت عليها يمنى بجدية مصطنعة:

- أيوه يا بنتي اسكتي انتي مش عارفة حاجة دول ملوا البلد وخلوا الناس كلها تشك في بعض.


لينفجرا الاثنتان في موجة من الضحك متناسيتان حالة البكاء التي كانا بها منذ قليل وذهبت كل واحدة منهما على مكتبها لتبدأ بعملها.


❈-❈-❈



كان يجلس شاردا في محاولة منه للتفكير في رواية جديد فهو "إياد إسماعيل" روائي وقصاص شاب في الخامسة والثلاثون من عمره طويل القامة أبيض اللون ذو عيون داكنة وشعر أسود كثيف وذقن خفيفة تزيده وسامة.


دخل عليه شقيقه وهو غارق في التفكير ليشاكسه كالعادة:


- الباشا سرحان في إيه؟ اللي واخد عقلك.


لينتبه إياد لحديث شقيقه ويرد عليه مستغربا من طريقة حديثه:


- باشا؟ وواخد عقلك؟ انت بتجيب الكلام دا منين يبني أومال لو كنت متربي في العشوائيات مش في الزمالك كنت قولت إيه؟


رد عليه آدم وهو يحرك حاجبيه لأعلى ولأسفل:


- كنت قولتلك ١٠٠ مسا يا كبير.


ليهز إياد رأسه في يأس من طريقة شقيقه التي لم ولن تتغير.


تحدث إليه آدم بجديه على غير عادته:


- مش هتقولي بقى كنت سرحان في إيه؟


تنهد إياد وقال له:


- أبدا فكرة رواية جديدة بس لسة مجمعتش الأفكار في دماغي.


شعر آدم بإحباط من رد شقيقه فهو كان يتمنى شيء آخر ليلوي شفتيه  باستهزاء ويقول له:


- وانا اللي افتكرت إن فيه حاجة كدا ولا كدا أتاري الموضوع رواية جديدة.


عقد إياد حاجبية بعدم فهم:


- حاجة كدا ولا كدا تقصد إيه؟


رد عليه من بين اسنانه وهو يتآكله الغيظ:


- مش عارف يعني إيه حاجة كدا ولا كدا، والله انا ما عارف انت بتألف الكلام اللي بتكتبه ده إزاي اللي يقرأ كلامك يفتكر إنك ياما هنا ياما هناك، وانت ما شاء الله عليك مييييح اللهم صلي عالنبي.


ابتسم إياد بسماجة عند إدراكه لما يرمي إليه شقيقه وحدثه بلامبالاة:


- عايز توصل لإيه بكلامك ده قول اللي انت عايز تقوله وبرضو مش هتجوز إلا لما ألاقي اللي بدور عليها حتى لو متجوزتش خالص مش مشكلة بالنسبالي.


دون أن يشعر آدم علا صوته وحدثه بغضب واضح:


- توأم روحك إيه وزفت إيه انت هتفضل تردد الكلام الأهبل ده لحد امتى استحملنا كلامك ده وانت شاب صغير وكنا بنقول يمكن يكبر ويعقل وافكاره تتغير بس مفيش فايدة داخل عالأربعين ولسه اللي في دماغك في دماغك.


ثم اخفض صوته  وحدثه بلين عله يستطيع إقناعه هذه المرة واستطرد بحنان أخوي قائلا:


- يا حبيبي دا كله كلام روايات مش موجود في الواقع مفيش حاجة اسمها حب من أول نظرة ولا واحدة تخطفك من أول ما تشوفها والكلام الفارغ ده ادي لنفسك فرصة تتعرف على حد ماما جابتلك بدل العروسة ١٠٠ وكلهم ولاد ناس وعلى قدر من الجمال وانت حتى مكلفتش خاطرك تبص على صورهم بس مش تتعرف عليهم.


إحنا خايفين عليك وماما نفسها تطمن عليك مفيهاش حاجة لو مشيت ورانا مرة واحدة بس يمكن نكون على حق ما انت ماشي ورا دماغك طول عمرك إيه اللي حصل؟ ولا حاجة.


تنهد إياد بقلة حيلة فهو يعلم أن شقيقه محق لقد أمضى عمره في البحث عن سراب لا وجود له فنظر له نظرة فارغة وقال بنبرة يملأها اليأس:


- ماشي يا آدم سيبلي يومين كدا وربنا يسهل أوعدك إني هفكر في موضوع العروسة اللي ماما جايباها ده.


نظر له آدم لا يصدق أذنيه هل اقتنع شقيقه بالفعل أم يقوله له ذلك ليتخلص منه ليس إلا فحدثه بنبرة محذرة:


- انت بتتكلم؟ بجد ولا بتاخدني على قد عقلي علشان تخلص من زني وخلاص؟


رد عليه بهدوئه الذي يعهده:


- لا وعد المرادي صدقني أنا كمان تعبت وحاسس باليأس وإن مفيش فايدة يمكن تكونوا انتوا الصح وانا اللي ضيعت عمري بدور على حاجة مستحيلة.


❈-❈-❈


أنهت ملك عملها واستقلت سيارة أجرة لكي تعود للمنزل، فهذا روتينها اليومي تخرج صباحا للعمل، وتعود مساءًا، ويوم العطلة تقضيه بالمنزل لا تخرج منه إلا للعمل فقط، تحيط نفسها بشرنقة ولا تعطي لنفسها فرصة للتعرف على أشخاص جدد خارج محيط أسرتها، وصديقتها يمنى، لا تعرف سواهم، ولا تريد أن تعرف.


أثناء سير السيارة ظهرت الغيوم في السماء شيئا فشيئا وبدأت الأمطار في الهطول؛ أمطار ديسمبر الجميلة والمحببة لقلبها فهي تعشق فصل الشتاء وخاصة حين تمطر السماء.


انتهزت الفرصة أنها اقتربت من الوصول للمنزل وأوقفت السيارة وترجلت منها لكي تقف تحت المطر وتشاهد الناس وهم يركضون كي يحتموا منه، ولكنها عكسهم ظلت تسير تحت المطر بسعادة، وابتسامة مرتسمة على وجهها، تسير ببطيء تارة، وتركض تارة، وتدور حول نفسها كالأطفال تارة أخرى.


كل هذا كان على مرأى من إياد الذي كان يستقل سيارته ذاهب لإحدى دور النشر الشهيرة التي تقع في وسط القاهرة عندما هطلت الأمطار واضطر أن يقلل من سرعة السيارة وفجأة رآها أمامه، أفروديت ترتدي ملابس عصرية، وحجاب يغطي رأسها، وتسير تحت المطر بسعادة، لم يستطع رفع عينيه عنها لا يصدق أنه وجدها بعد هذه الأعوام خطفت قلبه ببراءتها وعفويتها.


ظل يحدق بها ودون أن يدري وجد نفسه يوقف السيارة ويترجل خلفها لا يعلم إلى أين هي ذاهبة؟ ولا من هي؟ ولكن قوى غريبة تجذبه نحوها دون إرادة منه.


ظل يسير خلفها كمن ندهته النداهة لا يدري أين هو؟ إلى أن وصلت لعقار ما ودخلت فيه وإلى هنا لم يعلم ماذا يفعل؟ لا يستطيع الدخول خلفها، كما أنه لا يستطيع الذهاب دون أن يعرف من هي؟


بدون تفكير ذهب لحارث العقار لكي يسأله عنها.


كان الحارث رجلا في الخمسين من عمره تظهر عليه معالم الطيبة، وبشاشة الوجه، فدخل عليه إياد بابتسامه وحدثه برزانة عله يخبره بما يريد:


- السلام عليكم يا حاج.


رد عليه حارث العقار وبادله التحية:

- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته أؤمرني يبني.


- الأمر لله يا حاج مقولتليش اسم الكريم إيه؟


أعقب سؤاله بإخراج ورقة مالية من محفظته واعطاها للرجل في يده الذي رفض أخذها في البداية ولكنه خضع لإصراره وأخذها في النهاية معقبا على سؤاله.


- محسوبك عيد يا بيه.


- تشرفنا يا عم عيد.


ثم حمحم معقبا:


- أنا كنت عايز أسألك عن البنت اللي لسة داخلة قدامي دلوقتي دي.


تعجب عيد من سؤال هذا الغريب وخشي أن تكون ملك واقعة في مشكلة فرد عليه بلهفة:


- خير يبني فيه حاجة ولا إيه دي الست ملك طيبة وبنت حلال وعمرنا ما سمعنا عنها أو عن والدتها وأخواتها حاجة كدا ولا كدا.

ردد إياد اسمها بينه وبين نفسه وتحدث بابتسامة تملأ وجهه:


- متخافش يا راجل يا طيب كل خير ان شاء الله أنا بس كنت عايز أعرف معلومات عنها يعني اسمها بالكامل، بتشتغل إيه، مرتبطة ولا لأ، حاجات من دي.


واختتم حديثه بإخراج ورقة مالية أخرى أعطاها للرجل الذي فهم جيدا ما يصبوا إليه هذا الشاب ورحب بإجابته عن أسئلته بصدر رحب متمنيا أن يكون عريس بالفعل فهو يتمنى لها كل الخير.


❈-❈-❈


بعد مرور عدة أيام

علم إياد كل شيء بخصوص ملك وبالرغم من سعادته بكونها ليست مرتبطة إلا أنه وقع في حيرة من حبها للعزلة وعدم الاختلاط بأحد خارج محيط عائلتها.


ظل يفكر كيف يمكن أن يتعرف عليها حتى لمعت فكرة في رأسه، فابتسم، وقرر تنفيذها في الحال، فهو لا يريد إضاعة الوقت، يكفي من العمر ما فات، وهو يبحث عنها في كل مكان، وأخذ قراره، هو لن يتركها أبدا وسيعمل كل جهده حتى تكون له في النهاية.


كانت ملك غارقة في العمل إلى أن آتاها اتصال من صاحب العمل يدعوها للحضور إلى مكتبه.


دخلت المكتب بعد أن أخذت الإذن بالدخول، وألقت التحية على صاحب العمل، ولكنه كان يجلس معه شاب غريب تراه لأول مرة د، فلم تهتم ولم تنظر ناحيته وتحدثت مع صاحب العمل بمنتهى الجدية:


- خير يا أستاذ مراد؟ حضرتك طلبتني.


ابتسم لها مراد وتحدث إليها بمودة:


- تعالي يا ملك أحب أعرفك بالكاتب المعروف إياد إسماعيل طبعا غني عن التعريف.


ابتسم إياد واستقام عن مقعده ونظر إليها نظرة لم ترى مثلها من قبل، نظرة أربكتها، وهزت كيانها، وإن كانت لم تظهر ذلك وحافظت على ثباتها الظاهري.


مد يده لمصافحتها وهو يقول لها:

- تشرفت بمعرفتك يا آنسة ملك.


صافحته ملك بعملية شديدة دون أن تظهر له ذرة توتر وحدثته دون أن تنظر إلى عينيه مباشرة.


- الشرف ليا يا فندم.


لم تنطق بكلمة أخرى وهنا تحدث مراد موضحًا:


- أستاذ إياد عايزنا نترجم له مجموعة من رواياته علشان هتتنشر برا مصر وطلب مني أرشح له أشطر مترجمة عندي علشان تشتغل على الروايات بتاعته وطبعا مش هلاقي أشطر منك للمهمة دي.


ردت عليه ملك برسميتها المعتادة:

- تحت أمرك يا فندم، اتفضل معايا يا أستاذ إياد على مكتبي علشان أعرف التفاصيل من حضرتك.


ذهبا معا إلى مكتبها وجلسا سويا قرابة الساعتين شرح لها خلالهما ما يريد واعطاها نسخ من الروايات المطلوب ترجمتها، ورغم إحساسه بالإحباط من طريقة حديثها معه إلا أنه أحب طريقتها العملية وعدم تجاوزها الحدود مع أي أحد.


هي أيضا أحبت حديثه كثيرا هي تعلم جيدا من هو وقرأت له الكثير من رواياته إن لم يكم جميعهم ولكنها لم تظهر ذلك بل على العكس أظهرت أنها ترى هذه الروايات لأول مرة ولم تبدي أي اهتمام به أو بما يكتب.


بعد انتهاءهم من الحديث طلب منها تبادل أرقامهما لكي يباشر معها العمل ويستطيعا التواصل معا بسهولة إذا جد جديد ولكنها رفضت ذلك وقالت له بلهجة قاطعة:


- حضرتك ممكن تسيب الايميل بتاعك ولو فيه جديد هنتواصل معاك عن طريق إيميل المكتب.


ثم أخرجت كارت به أرقام تليفونات المكتب وأعطته له معقبة:


- لو فيه حاجة مستعجلة دي أرقام تليفونات المكتب ولو حضرتك حابب ممكن تسيب رقم تليفونك.


صدم من ردها ولم يدري ماذا يقول لها فأعطاها بريده الإلكتروني ورقم هاتفه وانصرف.


❈-❈-❈


بعد انصراف إياد من المكتب ظلت ملك صامتة وشاردة تنظر الفراغ على غير عادتها لا تعلم ما حل بها بمجرد رؤيتها له هذه ليست المرة الاولى التي تتعامل بها مع عميل فلقد تعاملت مع من هم أكثر وسامة منه ولم تهتز لها شعرة ولكن الآن هناك شيء غريب يحدث معها لا تدري ما سبب هذا التأثر هل بسبب نظراته التي تشع حب أم الهالة الغريبة التي تحيط به وتستطيع أن تجذب أي شخص وتجعله يدور في مداره دون أدنى مجهود منه.


أخرجها من شرودها تلويح يمنى بيدها أمام وجهها والتي تبين أنها  كانت تتحدث إليها منذ فترة ولكنها لم تستمع لكلمة واحدة مما قالت فقالت لها بنبرة مهزوزة مشوشة:


- ها! كنتي بتقولي حاجة يا يمنى؟


تعجبت يمنى من شرود صديقتها الجديد عليها وحدثتها بنبرة قلقة:


- مالك يا ملك انتي كويسة؟


نظرت إليها ملك بعينين زائغتين لا تدري ماذا تقول لها فهي نفسها لا تعلم ما بها ولكنها أجابتها على أية حال كي لا ترتاب صديقتها في أمرها:


- أيوا كويسة الحمد لله ليه بتسألي السؤال ده؟


ضيقت يمنى عيناها وهي تنظر لصديقتها وردت عليها بشك مما يحدث لها:


- لأ ابدا مفيش كل الحكاية إني بقالي ربع ساعة بكلمك وانتي سرحانة ومش معايا خالص من ساعة العميل ده ما مشي وانتي في دنيا غير الدنيا.


أعقبت يمنى حديثها بغمزة من إحدى عيناها واستأنفت حديثها قائلة:


- إيه الحكاية هي الصنارة غمزت ولا إيه هو بصراحة الواد يتحب شيك وجينتل وطول ما هو قاعد عينه ماتشالتش من عليكي وشكله واقع عالآخر.


صدمت ملك من حديث صديقتها فهي أيضا لاحظت الطريقة التي كان ينظر إليها بها والتي حاولت تجاهلها على قدر استطاعتها وتجنبت بكل الطرق النظر في عينيه ولكنها لا تستطيع أن تعترف بذلك أمام يمنى مهما حدث فقالت لها في محاولة منها لإنهاء الحوار.


- والله انتي شكلك فايقة ورايقة وعايزة تتسلي عليا، ولا فيه أي حاجة من الكلام اللي بتقوليه ده، دي أكيد تهيؤات أو أحلام يقظة أيهما أقرب بالنسبالك يعني.


فهمت يمنى ما ترمي إليه صديقتها وأنها تريد إنهاء الحوار فاستجابت لذلك حتى لا تضغط عليها وحدثتها بلا مبالاة:

- ممكن برضو كل شيء جايز.


ثم غيرت مجرى الحديث قائلة:


- آه صحيح أنا كنت بكلمك علشان أعزمك على عيد ميلاد ليال بنتي النهاردة وأوعي تعتذري زي عادتك انا مش هقبل أي أعذار أنا بقولك أهه.


ضحكت ملك متذكرة ليال تلك الطفلة الجميلة التي ولدت على يديها وكيف تعتبرها ابنتها التي لم تنجبها وأجابت يمنى بحب:


- لأ طبعا هو انا اقدر محضرش عيد ميلاد ليال هانم دي حبيبتي متقلقيش هاجي آن شاء الله.


❈-❈-❈



بعد مرور عدة أيام:


كان إياد يجلس في غرفة مكتبه شارد الذهن كعادته في هذه الأيام فهو لا يجد طريقة لبدء حديث معها فهي لا تعطي لأحد مساحة للتقرب إليها مهما كان هذا الشخص فلقد أغلقت في وجهه كل سبل التواصل لدرجة أنه فكر أن يذهب ليتحدث إلى والدتها مباشرة ليطلب يدها ولكنه تردد خوفا من رفضها فمن الممكن أن ترفضه ويخسرها إلى الأبد وهو يريد أن يضمن موافقتها قبل أن يخطوا هذه الخطوة الهامة.


في هذه اللحظة دخل آدم عليه وهو غاضب منه وبشدة وتحدث إليه بصوت عالٍ يشوبه الغضب


- فيه إيه يا إياد؟ هو كلام عيال ولا إيه؟ انت مش وعدتني إنك هتفكر في موضوع الإرتباط ده وهتشوف عروسة من اللي ماما بتقولك عليهم.


فات اسبوع وانت لا حس ولا خبر فيه إيه مالك فهمني؟ وهتفضل كدا لحد امتى وطبعا لو سألتك سرحان في إيه؟ هتقولي الرواية الجديدة.


تنهد إياد ونظر لأخيه نظرة لم يعهدها عليه من قبل نظرة هو يعرفها جيدا ولكنه أبى أن يستبق الأمور فتحدث إليه بهدوء يعاكس ثورته السابقة:


- مالك يا إياد فيك إيه؟ انت مش طبيعي بقالك كام يوم علطول شارد ومش معانا متقنعنيش إن الموضوع رواية جديدة أبدا.


تردد إياد في بادئ الأمر من أن يقص على شقيقه ما حدث ولكنه حسم أمره في نهاية الأمر فهو يريد استشارة أحد ليخبره ماذا يفعل لعله يجد عنده الحل كما أن آدم يُعَد هو صديقه المقرب الذي لا يستطيع إخفاء شيء عنه فحمحم محاولا أن يجلي صوته وقال له:


- بص يا آدم من الآخر كدا أنا معجب بواحدة ونفسي اتقدم لها هتسألني إزاي؟ وامتى؟ وفين؟ هقولك معرفش بس حبيتها بجد من أول ما شوفتها ومش عارف أعمل إيه؟ أو أفاتحها إزاي؟


لم يصدق آدم حديث شقيقه واعتقد أنه يمازحه أو يقول له ذلك حتى لا يفاتحه في موضوع الإرتباط مرة أخرى فحدثه بشك مضيقًا عيناه:


- انت بتتكلم بجد ولا بتشتغلي؟ يعني بجد انت معجب بواحدة وعايز ترتبط بيها؟


تنهيدة حارة خرجت من صدره، وحدثه بقليل من الجدية:


- هي الحاجات دي فيها هزار يبني انت، تصدق وتؤمن بالله انا غلطان إني قولتلك أصلا.


وضع آدم يده على جبهة إياد ليرى هل حرارته مرتفعة أم لا وعندما رأى أنه لا يوجد به خطب ما تحدث بتعجب شديد:


- الله ما انت كويس مش سخن أهه ولا بتخرف انا مش مصدق بجد طب تعالى احكيلي كل حاجة بالتفصيل الممل وقولي مين ست الحسن والجمال اللي قدرت توقع إياد باشا في حبها.


اخذ إياد يسرد على شقيقه تفاصيل ما حدث وكيف رآها وما دار بينهما من حديث عله يخبره عن حل لمشكلته ويستطيع أن يجد طريق لقلبها.


سمع آدم شقيقه باهتمام شديد يكاد لا يصدق أذنيه فلقد أوشك أن يصاب باليأس من أن يجد فتاته المنشودة ولكنه وقع في حيرة مما استمع إليه فمن الواضح أن الطريق لن يكون سهلا أمام شقيقه أبدا.


سكت لبرهة قبل أن يتحدث لأخيه وبعد تفكير قال له:


- بص طالما هي كويسة وبنت ناس كويسين أنا رأيي إنك تدخل البيت من بابه روح لمامتها واتقدملها ممكن لما تلاقيك دخلت دوغري وملاكش في اللف والدوران توافق.


جعد إياد ما بين حاجبيه مفكرا في حديث شقيقه، وهل ما يقوله هو الخيار الأمثل، أم يحاول استمالتها أولا منعا من أن ينجرح كبرياؤه إذا تقدم لها وهي رفضت، هو بالفعل في موقف لا يحسد عليه يخاف أن يحاول التعرف عليها أولا فتعتقد أنه غير جاد، ويريد التسلية ليس إلا، ويخاف أيضا أن يتقدم لها رسميا، ويتحدث مع والدتها فترفضه دون أدنى محاولة منها أن تعطيه فرصة، وتتعرف عليه، وسواء هذا أو ذاك ستغلق في وجهه كل الأبواب.


❈-❈-❈


بعد طول تفكير قرر إياد أن يمسك العصا من المنتصف يحاول لفت نظرها أولًا علها تلين ولو قليلا ثم بعد ذلك يسعى لمقابلة والدتها.


ذهب لمكتب الترجمة أكثر من مرة وحاول أن يفتح معها حديث خارج نطاق العمل كثيرا ولكنها كانت تصده بحزم وتغير مجرى الحديث لا يعلم لماذا تقفل في وجهه كافة الأبواب مع أنه لمح نظرة إعجاب في عينيها فيكفيه لمعة عيونها التي يراها عندما تنظر إليه ولكنه في نفس الوقت يخشى أن يكون يتوهم كل ذلك ويكون هذا محض خيال لا أكثر وهنا قرر أن يحسم أمره ويحدثها بطريقة مباشرة أنه يريد طلب يدها فإما أن توافق أو ترفض.


كان هذا آخر يوم يذهب فيه إليها فلقد نفذت الحجج وقاربت هي على الانتهاء من ترجمة رواياته ولذلك قرر أن يفاتحها في الأمر دون تردد فهذه آخر فرصة ولا يدري ربما لن يجد فرصة أخرى لمحادثتها فلتكن المواجهة إذن.


عند انتهاءهم من مراجعة آخر رواية بعد أن ترجمتها وقامت بعمل كافة التعديلات التي طلبها كان بداخلها حزن لا تعلم سببه أو هي تعلم ولكنها تنكر ذلك فهي لا تريد الاعتراف ولو بينها وبين نفسها بأنها حزينة لأنها لن تراه مرة أخرى فبدون إن تشعر وجدت نفسها تنجذب إليه دون إرادة منها لا تعلم سبب هذا الانجذاب وظلت تردد بينها وبين نفسها أنها تتوهم فقط فهي لا يمكن أن تعجب برجل مهما حدث وبرغم حزنها الذي لا تستطيع التحكم فيه إلا أنها حاولت إقناع نفسها أنها سعيدة بانتهاء العمل معه علها تتوقف عن التفكير به الذي سيطر عليها في الأيام الماضية.


تنبهت من شرودها على صوته وهو يحدثها في بادئ الأمر لم تستوعب شيء مما قاله ولكنها استعادت تركيزها شيئا فشيئا فوجدته كمن يجد صعوبة في الكلام حمحمته الدائمة وحك أنفه وفرك أصابعه جعلها تتعجب من حالته فهي لم تعهده هكذا كان دائما واثق من نفسه يتحدث بثبات يتعمد النظر في عينيها مما كان يربكها كثيرا ويجعلها تحيد بنظرها عنه لكنه الآن يبدوا مختلفًا كثيرا.


أما عنه فلقد كان في موقف لا يحسد عليه لا يعلم كيف يبدأ معها الحديث ولا يدري سبب شرودها هذا فقرر أخذ المبادرة لعله ينتهي من هذا الثقل الذي يجسم على قلبه فحمحم مجددا عله يستطيع إخراج صوته وتحدث أخيرا ببحته المميزة:


- هو انا ممكن اطلب منك طلب ويا ريت تاخدي وقتك في التفكير كويس قبل ما تجاوبيني أنا مش مستعجل أبدا على الرد.


ضيقت ما بين عينيها ونظرت له نظرة متفحصة متعجبة من تلك الألغاز التي يتحدث بها وقالت له بلهجة جادة:


- اسمع كلام حضرتك الأول ووقتها هحدد الكلام يستدعي التفكير ولا لأ اتفضل أنا سامعاك.


لم تسهل عليه الأمر أبدًا بردها الجاف هذا بل ازداد الأمر  صعوبة بالنسبة له فابتلع بصعوبة وتحدث بصوت جاهد ليخرج طبيعيا:


- هو انا ينفع آخد رقم تليفون والدتك؟


تفاجأت من طلبه الغريب بالنسبة لها وسألته رافعة إحدى حاجبيها وكتفت يديها فوق صدرها:


-  نعم! وحضرتك عايز رقم ماما في إيه ان شاء الله؟


أحس إياد بالإحراج وكأن دلو من الماء البارد قد صب فوق رأسه، فحمحم مجيبا إياها دون أن ينظر إليها:


- كنت عايز اطلب إيدك منها.


ألجمت الصدمة لسانها فلم تعي ما تقول لبعض لحظات ولأن بالنسبة إليها الهجوم خير وسيلة للدفاع وهو وسيلتها لحماية نفسها تحدثت بنبرة صوت مرتفعة نسبيا مما جعل يمنى تنتبه لحديثهم:


- نعم! ودا من إيه إن شاء الله؟ معتقدش إني تعديت حدودي معاك أو فتحتلك مجال للكلام معايا خارج نطاق الشغل علشان تطلب مني طلب زي ده.


ثم حدثته بمنتهى السماجة:


- طلبك مرفوض يا أستاذ أنا مبفكرش في الجواز دلوقتي، ولا هفكر، ياريت حضرتك تدور على واحدة تانية، اللي بتدور عليه مش موجود في المكتب ده، وكويس إن الشغل اللي بينا انتهى بعد إذن حضرتك.


اعقبت كلماتها مشيرة بيدها نحو باب الغرفة لكي يرحل.


لم يستطع إياد أن يرد ولو بحرف واحد على هذه الإهانة التي وجهتها له، وغادر المكان دون أن ينطق ولكنه قبل أن يرحل ألقى عليها نظرة أخيرة بعين مدمعة فأحست وكأنها طعنت بخنجر مسموم في قلبها فسم كلماتها وقع عليها هي قبل أن يقع عليه ولكن ماذا تفعل فلقد سبق السيف العذل.


بعد خروج إياد قامت يمنى من مقعدها ولم تستطع التحكم في نفسها وتحدثت بغضب شديد دون إرادة منها:


- تقدري تقوليلي إيه الهباب اللي هببتيه ده؟ انتي إزاي تعملي كدا؟ عملك إيه هو؟ أو تعدى حدوده في إيه؟ علشان تكلميه بالطريقة دي الراجل مشوفناش منه غير كل أدب، واحترام، ولما حب يتقدم دخل البيت من بابه، ولا لف، ولا دا،  يبقى ليه تعامليه كدا؟


أوعي تكوني فاكرة إني مش واخدة بالي إنك كمان معجبة بيه، ولا مبشوفش لمعة عنيكي وانتي بتبصيله، مهما حاولتي تخبي عنيكي فضحاكي، انتي معجبة بيه ومع الأسف ضيعتيه من إيدك، إنسان ناجح، ومحترم، وابن ناس، ومتربي، تقدري تقوليلي متوافقيش عليه ليه؟


حتى لو مش موافقة تكلميه بالطريقة دي ليه؟ لو مش موافقة ردي عليه بطريقة كويسة، مش تكلميه كدا قدام الناس، بس واضح إن عقدتك بقت هي اللي بتتحكم فيكي من غير ما تحسي، يا خسارة يا ملك انتي بجد بقيتي مريضة، ومحتاجة مساعدة، حالتك بقت صعبة، ولو فضلتي كدا هتخسري كل اللي حواليكي، وهتفضلي لواحدك في الآخر، عايشة بين أربع حيطان محدش هيفتح عليكي باب.


قالت كلماتها وتركتها وغادرت المكتب ذهبت للحمام لتغسل وجهها بالماء الذي كان أحمر اللون من شدة الغضب، فلا تدري أهي غاضبة من صديقتها، أم حزينة من أجلها، ولكنها أبدا لن تتركها لنفسها لتفسد حياتها بهذه الطريقة.


أما عن ملك فلقد صعقت من كلام صديقتها الذي كان بمثابة صفعة قوية نزلت على وجهها لتفيقها على كل الحقائق التي كانت تنكرها، أو تحاول تجاهلها، فنعم هي معجبة به منذ أن رأته للمرة الأولى، ولكنها لا تستطيع أن تأمن جانب رجل، وتسلمه حياتها، مهما بلغت درجة تعلقها به، فما فعلته لم يكن لردعه فقط، بل لردع قلبها أيضا حتى تمنعه من التعلق به أكثر من ذلك، فلتقتل هذا الحب من بدايته أفضل من أن يقتلها هو فيما بعد.


أخذت ملك تقنع نفسها أن ما حدث كان أفضل حل له ولها فهي لن تستطيع أن تعطيه ما يتمنى ولن تسمح لقلبها أن يخضع لرجل مهما كان ومهما كانت النتائج حتى لو بقيت وحيدة طوال عمرها فهي لا تبالي بذلك فالوحدة أفضل بكثير من مشاركتها لحياتها مع رجل ما فليحدث ما يحدث فهي لن تتراجع عن موقفها مهما حدث.


❈-❈-❈


كان إياد يشعر بإحباط شديد بعد كلامها معه فكلماتها المهينة لازالت تتردد صداها في أذنه لا يعلم سبب لهجومها عليه بتلك الطريقة فهو لم يخطئ في شيء لقد طلب أن يطلب يدها إن كانت ترفض فكان يمكنها الرفض بهدوء دون هدر كرامته بتلك الطريقة وأمام صديقتها أيضا يا له من أحمق سيئ الحظ فمن بين نساء العالم كله ينجذب لفتاة لا تبادله الشعور بل وتقوم بإهانته أيضا.


خرج من شروده على صوت هاتفه معلنا عن ورود مكالمة من رقم مجهول وعندما أجاب وجد صوت أنثوي لا يألفه يقول له:


- أستاذ إياد إسماعيل معايا؟


أجاب المتصلة برسمية:


- أيوة حضرتك مين معايا؟


تحدثت وكأنها تجد صعوبة في إجابته:


-  انا يمنى صاحبة ملك وزميلتها في الشغل.


تعجب كثيرا من اتصالها به وقبل أن يقول أي شيء بادرت هي قائلة:


- أنا عارفة إن حضرتك أكيد مستغرب من مكالمتي بس أنا عايزة حضرتك في موضوع مهم بخصوص ملك أنا عارفة إنك أكيد زعلان من اللي حصل بس لما هتعرف السبب هتعذرها والله، لو وقت حضرتك يسمح ممكن نتقابل في أي مكان عام وأنا هحكيلك كل حاجة.


لم يستطع أن يرفض دعوتها فبداخله فضول قاتل يريد أن يعرف سبب جفاؤها معه الغير مبرر بالرغم من شعوره بالإعجاب المتبادل من ناحيتها، ولذلك أجابها بقبوله دعوتها على أن تقابله بعد ساعة من الآن في كافيه .... المتواجد في وسط البلد.


ذهبت يمنى في الموعد لتجده ينتظرها بالفعل وبعد تبادل التحية جلست لتقص عليه قصة ملك ليجد نفسه يتعاطف معها وبشدة ليس هذا وحسب ولكنه أيضا أعطاها عذر لطريقتها الفظة معه.


عندما انتهت يمنى وجهت حديثها لإياد قائلة:


- أنا عارفة إن اللي حكيته ده مش من حقي احكيه وإنه يخص ملك لواحدها وهي الوحيدة صاحبة الحق في إنها تتكلم عنه أو تخبيه بس أنا توسمت فيك خير وحسيت إنك بتحبها بجد وأنا بجد نفسي ملك تخرج من قوقعتها وترتبط بالشخص اللي يستاهلها علشان كدا حكيتلك كل الكلام ده ياريت متخيبش ظني.


ظهر التأثر على وجه إياد وأجابها قائلا:


- ظنك هيكون في محله إن شاء الل،ه وأنا عمري ما هسيب ملك أو أتخلى عنها مهما حصل، أنا حقيقي بحبها ونفسي أكمل عمري معاها.


ابتسمت يمنى عندما سمعت حديثه عن صديقتها وأحست إنها لم تخطئ بالحديث معه.


في نهاية اللقاء اتفقا أن يذهب لمقابلة والدتها علً ثلاثتهم يجدوا حلًا لما تعانيه.


❈-❈-❈


في اليوم التالي ذهب إياد بالفعل لمقابلة والدة ملك في عملها وطلب منها خطبة ملك وعندما حدثها عن نفسه كانت كمن يحلق في السماء من فرط سعادتها فأخيرًا وجدت من يحب ابنتها كل هذا الحب بل وعلى استعداد لتحمل أي شيء في سبيل موافقتها على الزواج منه.


بعد انتهاء والدة ملك من العمل ذهبت لمقابلة إياد ويمنى لبحث طريقة يقنعون بها ملك بأنها يجب أن تتلقى علاج نفسي حتى تستطيع أن تتخطى ما حدث لها في طفولتها.


اتفقوا ألا يتدخل إياد في الأمر ويظل يراقب من بعيد حتى لا تأتي محاولاتهم بنتائج عكسية وبالفعل استطاعتا سعاد ويمنى إقناع ملك بضرورة الذهاب لطبيب نفسي لتخطي أزمتها وبدأت بالفعل بالتردد على الطبيب.


كانت نتائج الجلسات غير مرضية في بادئ الأمر فملك كانت متحفظة في الحديث مع الطبيب ولا تحكي له عن كل ما يعتمل في صدرها ولكنها مع الوقت ومع اطمئنانها له بدأت في الحديث عن كل ما يؤرقها خاصة ما يخص هذا المسمى والدها ولقد وجدت راحة كبيرة جدا عندما تحدثت عن هذا الأمر.


استمرت ملك في العلاج لمدة ستة أشهر كانت خلالها تتقبل الآخر يومًا بعد يوم وبدأت تتصالح مع نفسها وتعدل عن فكرة عدم الزواج وتقتنع أن ليس كل الرجال سيئون وأنه يوجد الجيد والسيئ هي فقط عليها أن تحسن الاختيار.


كانت طوال تلك الفترة تفكر في إياد فلقد كان يشغل حيز كبير من تفكيرها وأخذت تفكر لو أنها كانت أخذت قرار العلاج مبكرًا لكان من الممكن أن تعطيه فرصة ولكن بما يفيد الندم الآن وماذا يفيد البكاء على اللبن المسكوب فلقد خسرته وانتهى الأمر فمن الممكن أن يكون ارتبط بأخرى ولا يفكر بها وحتى إن لم يرتبط فكرامتها لا تسمح لها بأن تتصل به.


أما عنه فلقد كان يتابع مع والدتها وصديقتها تطورات العلاج أولًا بأول وكان ينتظر على أحر من الجمر اللحظة المناسبة لكي يظهر أماما مرة أخرى ويتمنى من كل قلبه ألا تحرجه هذه المرة وتكسر قلبه كما فعلت في المرة السابقة.


❈-❈-❈


كانت ملك تتناول الغذاء مع والدتها كعادتها ولكم كانت تبدوا مختلفة بعد انتهاء فترة العلاج وكانت والدتها في غاية السعادة من هذا التطور في شخصيتها فلقد أصبحت أكثر انفتاحًا وإقبالًا على الحياة.


تحدثت إليها والدتها بقليل من الجدية:


- ملوكة احنا النهاردة عندنا ضيوف بالليل إن شاء الله عايزاكي تنزلي تشتري طقم جديد حلو زيك كدا ومفيش مانع يعني لو روحتي الكوافير.


بالطبع فطنت ملك لمغزى حديث والدتها ولقد شعرت بقبضة في قلبها ليست لفكرة الزواج كالسابق ولكن هذه المرة لأنها ستقابل عريس آخر غيره فلقد كان عندها أمل أن تجمعهم الظروف مرة أخرى ولكن من الواضح أن الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن.


قامت ملك من على السفرة ومرتسم على وجهها علامات الإحباط ولكنها حاولت جاهدة عدم إظهارها وقالت لوالدتها:


- حاضر يا ماما اللي تشوفيه بس اعملي حسابك لو معجبنيش خلاص مش علشان تقبلت فكرة الجواز يبقى خلاص هوافق على أي حد والسلام.


ابتسمت لها والدتها وحدثتها بحب وحنان أمومي:


- انتي عارفة كويس يا لوكا اني عمري ما غصبتك على حاجة اقعدي معاه لو مرتاحتيش خلاص يجي ألف غيره هو انتي شوية ولا إيه.


عدلت ملك من ياقة ملابسها وحدثت والدتها في زهو:


- طبعا يا سوسو مش شوية دا انا بنت سعاد هانم على سن ورمح وتركت والدتها وذهبت لغرفتها لتستعد للخروج


قهقهت سعاد على طريقة ابنتها في الحديث وظلت تدعي لها بأن يرزقها الله السعادة التي حرمت منها ويكون حظها في الحياة أحسن من حظ أمها.


في المساء استعدت ملك للضيف مجهول الهوية الذي رفضت والدتها أن تخبرها أي تفاصيل عنه فكل ما قالته لها:


- مستعجلة على إيه كمان شوية تشوفيه ولو حسيتي انك مرتاحة ابقى أعصريه أسئلة.


توترت كثيرا عندما سمعت صوت جرس الباب معلنا عن قدوم الضيف المجهول وبعد خمس دقائق دخلت والدتها الغرفة لتحثها على الخروج وتقديم المشروبات للضيف.


كان قلب ملك يدق بشدة لا تدري سببا لذلك ولكن كل ما تعرفه أنها متوترة جدا.


خرجت من غرفتها وأعطتها والدتها صينية بها المشروبات والحلوى لتدخل بها إلى الضيف في غرفة الجلوس.


أما هو فكاد قلبه يخرج من بين أضلعه وهو يراها أمامه يقسم انه لم يرى بجمالها من قبل جمال يحبس أنفاس من يراه فمن الممكن أن يراها آخرون متوسطة الجمال ولكنها في نظره فينوس متجسدة في امرأة.


لأول مرة يراها ترتدي فستان كانت دائما ترتدي ثيابًا عمليه أما الآن فهي أمامه الكمال يسير على قدمين بفستانها الزهري الرقيق وحجابها الذي يزيد من جمالها.


وضعت ملك الصينية على الطاولة أمامه وجلست على أقرب مقعد وجدته كل ذلك دون أن ترفع عينيها لتراه.


ظلت فترة تنظر للأرض ولا تجرؤ أن تنظر له برغم الفضول الذي كان يقتلها لترى من هو ذلك العريس المنتظر ولكنها آثرت الإنتظار حتى يبدأ هو في الحديث حتى تنظر إليه.


لحظات وتعجبت بشدة فهي تعرف رائحة العطر هذه مألوفة جدا بالنسبة لها فهي رائحة عطر إياد لطالما لفتت نظرها وهنا سألت نفسها ما هذه المصادفة؟ وقبل أن ترفع نظرها للجالس أمامها سمعت حمحمة هي الأقرب لقلبها وصوت من المستحيل أن تنساه.


- هتفضلي باصه في الأرض كدا كتير ولا السجادة جديدة وانا مش عارف؟


لم تصدق أذنيها عندما سمعته يتحدث ورفعت عيناها تنظر إليه ولوهلة ظنت نفسها تحلم وعندما أدركت أنه هو بالفعل من يجلس أمامها كست الحمرة وجهها ولم تستطع ان تنطق بكلمة واكتفت بالنظر إلى الأرض مرة أخرى ولكن بداخلها كانت تكاد تطير من فرط سعادتها.


ابتسم إياد بمليء فيه وهو يرى هذه الحمرة المحببة إليه تكسو وجهها لكم تمنى أن يحتضنها في تلك اللحظة ولكنه لا يجوز فلعن بداخله على عدم زواجه بها منذ شهور مضت.


تحدث إليها بنبرة مرحة عله يخفف من خجلها قليلا:


- إيه مش هتديني العصير في إيدي وتعزمي عليا أشرب زي باقي العرايس؟ ولا خدت زومبا ولا إيه النظام؟


رفعت وجهها لتقابل عينيها عيناه وقالت متعجبة من طريقته الجديدة عليها:


- زومبا! دنا شكلي أنا اللي خدت زومبا وربنا بذمتك دي طريقة كلام واحد محسوب على الطبقة الراقية.


لوهلة تذكر كلامه مع شقيقه وهو يقول له كلام مشابه لذلك وانفجر ضاحكا فمن الواضح أنه كما تدين تدان.


اعتقدت ملك بأنه يسخر من كلامها فغضبت من طريقته هذه وحدثته بغضب:


- ماكنتش أعرف إن كلامي بيضحك للدرجادي تقدر تقولي بتضحك على إيه؟


تحدث من بين ضحكاته موضحا لها سبب ضحكه:


- لأ مش كلامك اللي ضحكني أبدا أنا بس افتكرت أخويا لأني ديما بقوله الكلام اللي انتي قولتيهولي ده واضح اننا هنتفق مع بعض جامد وأعقب كلامه بغمزة من إحدى عيناه.


ازداد خجل ملك واحمر وجهها بشدة وقبل أن تنظر للأرض مرة أخرى وجدته يكمل حديثه:


- لأ بقولك إيه كسوف بقى ووشك يقلب طماطم تاني أنا مش هستحمل أكتر من كدا.


ثم تحدث بصوت عالي مناديا على والدتها:


- المأذون يا طنط بسرعة لو سمحتي.


لم تستطع تمالك نفسها فانفجرت ضاحكة على طريقته أما هو فشرد في ضحكتها التي يراها لأول مرة ولم يصدق نفسه فما يحدث الآن ضرب من الخيال فلقد ظن انه سينتظر سنوات وسنوات على أن يحصل على تلك الضحكة الصافية.


❈-❈-❈


بعد يومين عاد إياد لزيارتهم مرة أخرى ومعه والدته وشقيقه وتعرفت والدته على ملك وعائلتها وأعجبت بهم جدا وخاصة ملك التي دخلت قلبها من أول لحظة وتم الاتفاق على كل شيء.


أصرت ملك على ألا تقل فترة الخطوبة عن عام حتى يتسنى لهم معرفة بعضهم البعض وقبل إياد ذلك على مضض فلقد كان يريد طمأنتها بكل الطرق مهما كلفه الأمر


بعد مرور العام وفي فندق من أشهر فنادق القاهرة كان يقام حفل الزفاف الذي أقل ما يقال عنه أنه أسطوري.


كانت تشبه الأميرات في ذلك الفستان الرائع الذي صنع خصيصا لها في إحدى دور الأزياء المشهورة في باريس.


لم يصدق نفسه عندما رآها بفستان الزفاف كان كمن يعدوا في سباق لا ينتهي وأخيرا وصل لخط النهاية.


هي أيضا لم تصدق أنها تخطت الماضي بما حدث فيه وعوضها الله بهذا الرجل الذي حنانه يكفي الدنيا وما فيها.


حتى بعد زواجهم ومرور السنوات استطاع إياد أن يعوضها عن كل ما فقدته فاستطاع بحبه واحتواءه أن يمحي كل أثر عاشته في طفولتها من قلبها فكان لها نعم الزوج والسند والحائط المنيع الذي تحتمي به من شرور العالم.


وهي أيضا كانت له نعم الزوجة والحبيبة واستطاعا معا تخطي كل العقبات التي وقفت أمامهما حتى وصلا لبر الأمان حقيقي الحياة لا تخلوا من المشاكل والعقبات ولكن بالحب والتفاهم استطاعا تخطيها ليكملا معا في ود وحب وتفاهم.


تمت


سمر إبراهيم