الفصل الخامس والعشرون- مرآة مزدوجة
الفصل الخامس والعشرون
دلف سليم غرفته ليجد علي يجلس على فراشه ويحمل قلمه القابل للتعبئة وبدا كأنه ينتظره، ضحك سليم بتوتر عندما علم أن علي اكتشف أمره وأنه في مأزق كبير، حك مؤخرة عنقه وقال بطريقة مسرحية:
- علي! أخويا الكبير حبيبي اللي أكيد يعني مش هيستخسر فيا حاجه، صح؟
نهض علي وتوجه نحوه بغضب، ثم قبض على قميصه وصاح به:
- ما أنت لو مش مهزق كان هيجي لك واحد زيه.
حاول سليم التملص من بين قبضته وقال بتذمر:
- يا علي متبقاش قفوش كدا، احنا أخوات وحاجتي هي حاجتك.
صاح علي بتهكم:
- ده عندها!
شهق سليم وقال مدعيًا الصدمة:
- مش معقول! علي شريف المحترم يقول كدا، لا لا لازم دكتور شريف يشوف الموضوع ده بنفسه.
كان على وشك الإفلات منه ولكن علي شدد من قبضته على قميصه، ثم لكمه ليسقط سليم على فراشه، فنظر له علي بازدراء وقال:
- نفسي أعرف ماما وبابا كانوا فين وأنت بتتربى.
ثم توجه نحو باب الغرفة وفتحه وخرج، تحسس سليم موضع اللكمة بألم بينما صاح بسخط:
- هو أنا كيس ملاكمة أي حد معدي يضربني!
اعتدل وجلس فوق الفراش وتحسس وجهه مجددًا، في تلك اللحظة أصدر هاتفه صوتًا معلنًا استقباله لمكالمة، فأخرجه من جيب بنطاله ورأى من المتصل ليجده زين، تأفأف وأجاب على المكالمة ليرى ماذا يريد، هذا ما كان ينقصه حقًا، لكمة من علي وجدال مع زين حول الشيء الوحيد الذي لا يتحدث عن سواه، هاجر، وكأن شخصيته ستنتهي ولن يجد ما يقوله إن لم تكن هي محور الحديث، يتعجب سليم منه بحق، فهي تستولي على عقله بالكامل ويدعي كونه ليس متأكدًا من مشاعره، حقًا؟ هذا يبدو كمحاولة إقناع أحدهم أن الطيور تلد، تنهد سليم بينما استمع لما يقوله.
❈-❈-❈
« كان الأمس من ألطف الأيام التي مرت عليّ بالفترة الأخيرة، فقد عادت ليليان وقد ابتاعت العديد من الوجبات الخفيفة التي تمثل العدو الأكبر لأمي، ولكن لشدة دهشتي لم تمانع، بل تناولت القليل منهم معنا! جلسنا وتمازحنا، تحدثنا في كل شيء وكيف يسير يوم كل واحدة منا، كليلة سهر للفتيات كما يُقال، أخبرتنا ليليان أنها إعتادت أخيرًا على بيئة العمل، واستمرت في الحدية عن مديرها الذي لا تتحدث لسواه هناك، أخبرتنا الموضوعات الفلسفية التي كانا يطرحانها بينما تبادلت أنا وأمي نظرات ذات مغذى، فقد لاحظت كلتانا الشغف الذي تتحدث به ليليان عن عمر، والطريقة التي تلمع بها عينيها عندما تخبرنا ما يتحدثان عنه، رغم أنها موضوعات لا تمت للشاعرية بصلة أو حتى لكونها شخصية، ولكن أحاديث كتلك تبني علاقات كاملة. في تلك الليلة كانت ليليان بالنسبة إليّ كتابًا مفتوحًا للمرة الأولى، تمكنت من الإطلاع على دواخلها والتعرف على بساطتها ولطفها الطاغيان، كل هذا كنت أعلمه ولكنه تجلي بشكل أكبر بالأمس، وكأنها قررت أن تنفتح على العالم أخيرًا، مما زاد من سعادتي، كانت ليلة أمس أشبه بليلة للاعتراف، بليلة لمواجهة خوفنا، فقد سردت لهما ما أخبرني به سليم، وكلتاهما كانت لهما آراء متشابه، كانتا تريان أني عليّ مساعدته، رغم أنهما في البداية فضلتا أن ابتعد، ولكن الآن رأيت كلتاهما أن الآوان قد فات، وأنني عليّ مساعدته على الأقل بالاستماع إليه، رأي صائب وقد تقبلته بالفعل، فقد كان هذا ما عزمت عليه، هو بحاجه للاستماع لكل ما سجنه بداخله، وأنا سأقدم له هذا، رغم أنه أقل شيء يمكن أن أفعله له، أشعر تجاهه أنه طفل صغير بحاجه للرعاية وبحاجه لسماعه، فقد صرخ هذا الطفل متذمرًا بالأمس من إهماله، وأشعر أنه واجب عليّ أن أقدم له هذا، لأني أنا من أقحمت نفسي بحياته وجعلته يعتاد على وجودي، ولكني لم أعلم أنه وحيد، فقد بدا لي شخصًا كثير العلاقات بشكل عام وليس مع النساء فقط، ولكني أخطأت في التحليل وجرحته نتيجة لهذا الخطأ، ولكني سأصلح كل هذا، فقد اعترفت أخيرًا أنني أخطأت، وقد جعلني حديثه والأحداث الأخيرة أفكر بعدة أشياء محورية في نفسي وشخصي، ويمكنني الاعتراف الآن أنني أخاف، أخاف من الوحدة، فعندما اختفت هاجر وابتعدت ليليان مررت بأسوأ فترات حياتي، والتي لا أريد العودة لها مجددًا وأخاف أن أجبر على أن تكون روتين حياتي بالمستقبل، فعندما ستنتهي الأربع سنوات المتبقية في الكلية سرعان ما ستنشغل هاجر بحياتها وربما قد تتزوج ولن تعود للتحدث معي مثل السابق، كذلك الحال مع ليليان، ولكن الفارق أن ليليان قد تتزوج وترحل قبل هاجر، فهي لم يتبقَ لها سوى عام واحد وتنهي دراستها، وهنا سأكون وحيدة، وأنا لن أتحمل هذا!، كل تلك الأفكار جعلتني أفكر بشكل جدي في الزواج وبدأت أقتنع به نوعًا ما، على الأقل هذا لا يجعلني وحيدة، ولكن من سأتزوج وكيف سأختاره هذا يبقى في علم الغيب.
أعلم أنني أتحدث في عدة مواضيع، وكل ما أقوله غير متجانس، ولكني أريد أن أتحدث عن عدة موضوعات ولا وقت كافي لهذا، فأنا عليّ الذهاب للجامعة الآن، لذا سأقول إلى اللقاء الآن حتى أعود وأبدأ بتنظيم أفكاري داخل هذا الدفتر. »
تركت ليلى القلم والدفتر وركضت نحو الخارج، فقد تأخرت مجددًا وهي لا تريد أن تتأخر على محاضرتها.
❈-❈-❈
بعد أن انتهت المحاضرة وضعت ليلى دفترها بحقيبتها وتركت المدرج، كانت تشعر بانتصار عظيم كونها وصلت الجامعة على الموعد وتمكنت من حضور المحاضرة، ولكنها لديها مهمة أخرى، عليها أن تتحدث مع سليم؛ لهذا لحقت به بخطوات أقرب للركض، فهو يسير بسرعة وبطريقة غير مفهومة.
- سليم
صاحت عندما عجزت عن ملاحقته عله يتوقف، وقد فعل بالفعل، استدار لها بأعين مستجوبة فرأت ليلى الكدمة على وجهه لتضحك وتقول بسخرية:
- هو حد مفهمك إنك كيس ملاكمة يا ابني؟
نظر لها سليم بغيظ وقال:
- معاكِ حق للأسف، ما هو أنا مفيش حد على الكوكب ده مضربنيش.
كبتت ليلى ضحكتها بصعوبة بينما وضع سليم يديه في جيبي بنطاله وقال:
- سيبك من الحوار ده وقولي لي كنت بتنادي عليا ليه؟
صمتت ليلى وتحولت ملامحها للجدية، مسحت وجهها لتخفف من التوتر الذي سيطر عليها دون سابق إنذار وقالت:
- كنت عايزة اتكلم معاك في حاجه.
ابتسم سليم وعدل من نظارته، فقد شعر أنه فهم ما تريده وتمنى من كل قلبه أن يكون ظنه صحيحًا، عبث في شعره ليزيد من مظهره الفوضوي وقال:
- طب تعالي ورايا.
قطبت ليلى جبينها باستفهام، ولكنها أزالت تلك التعقيدة وتبعته بصمت، توقف سليم عند إحدى الأشجار وأشار لها وقال:
- أنتِ هتقعدي هنا.
ثم أشار على نقطة أخرى من الشجرة على الجهة الموازية وقال:
- وأنا هقعد هنا، ونتكلم وبكدا هنبقا خدعنا نفسك ووهمناها إننا مش بنتكلم مع بعض.
ثم رفع سبابته التي كان يشير بها وأشار بها نحو رأسه بمعنى أنه ذكي، ضحكت ليلى باستنكار وقالت:
- بالبساطة دي؟
أومأ مبتسمًا بغرور، فضحكت ليلى مجددًا وجلست حيث أشار بينما فعل هو المثل، فأصبح ظهرهما متواجهان يفضل بينهما الشجرة فقط، لا تستطيع ليلى منع نفسها من الشعور بأنه طفل برئ نقي حتى في أفكاره، وكأن هذا هو شخصه الحقيقي، مما جعلها تتيقن أن جميع البشر بداخلهم أطفال سجنوا نتيجة لقسوة العالم وللخذلان الذي تعرضوا له حتى أصبحوا قساة القلوب بدورهم، وسليم لم يختلف عن هذا، فهو طائش وعنيد ومتمرد وهذا ربما قد حدث له بسبب الظروف التي وضعته بها الحياة وعندما رفضها أصبحت تلك عادة لديه، ولكنه في الحقيقة طفل في داخله، مثلها، بحاجه للإطمئنان، وليجد أحد يستمع إليه، بحاجه ليتوقف قليلًا عن الجدية وأن يكون أحمقًا بريئًا لبعض الوقت، وأهم شيء لا يريد أن يكون وحيدًا، في تلك اللحظة بدا لليلى أنهما متشابهان رغم اختلافتهما، بدا تشابههما في الاحتياجات، ولأنها تؤمن بمقولة اخترعتها بنفسها وهي « فاقد الشيء يعطيه بسخاء. » فقد شعرت أن سليم المناسب لها بالفعل، وتصالحت مع مشاعرها تجاهه ولم تواجهها بالرفض كما العادة.
جذب سليم انتباهها قائلًا:
- كنت عايزة تقولي ايه؟
أجابت ليلى بخفوت:
- أنا عايزة أسمع لك يا سليم، لو عايز تحكي اتفضل.
سمعت ليلى تنهيدته التي حملت الكثير والكثير، صمت للحظة ثم قال بجمود:
- مفيش كتير يتحكي، عيلتي زي ما قولت لك قبل كدا كلها دكاترة وكدا، فـ كانوا كل تركيزهم على الشغل وبس، وعلي الفرق بيني وبينه عشر سنين، فـ كان بعيد وكان بيعتبرني طفل، عيشت أول سنين من عمري لوحدي، لأن بابا وماما مشغولين في المستشفى وعلي في دراسته، وفضل الحال على كدا لحد ما دخلت ثانوي، أنتِ عارفه بقا حوارات المراهقة والمصايب اللي بتتعمل في الوقت ده، ومن هنا بقا بدأ حوار الارتباط والصحوبية وكدا، كنت بعوض وحدتي بالعلاقات دي، ورغم إني كنت عارف إنه غلط ومكنتش ببقا مرتاح في العلاقات دي بس كانت أفضل من إني أبقا لوحدي، وعلشان كان عندي أمل إن واحدة منهم ممكن أحكي لها كل ده في يوم من الأيام بس ملقيتش، كل اللي كنت عايزه طول حياتي إني ألاقي شخص أحكي له كل ده وأقعد اشتكي زي العيال ويستحملني، صحيح إن علي بقا مصاحبني دلوقت وبيحاول يبقا قريب ليا، بس هو في النهاية أخويا ولو قولت له كل ده كان هيقعد يبرر ويدي أعذار لبابا وماما، لأنهم أهله في النهاية، علشان كدا مفكرتش أحكي له، وبس كدا، صحيح إنه ممكن يبان حوار تافه بس كان مسبب لي حزن كبير.
تنهدت ليلى وأخذت نفسًا عميقًا وقالت بنبرة بدت متأثرة وحزينة:
- لا يا سليم مش تافهه، الوحدة عمرها ما كانت تافهه.
تأثرت بشدة مما قاله لأنها قد ذاقت مرارة الوحدة مؤخرًا وأدركت كم هو مؤلم هذا الشعور وأمكنها الآن أن تتفهم دوافعه السابقة بشكل أكبر، مرت فترة من الصمت قطعتها صوت الرياح الباردة رغم سطوع الشمس في هذه الأجواء الخريفية الهادئة وكأن تلك الشجرة قد ابتعدت كثيرًا عن الحرم الجامعي والضوضاء والأصوات الكثيرة الاعتيادي، كانا كلاهما يشعران بالسلام الداخلي بعد أن انفتح على عيوبه وتقبلها، ولكن ليلى بقى لها تساؤل وحيد لم تستطع كبته في تلك اللحظة؛ لهذا خرج صوتها مخترقًا الصمت قائلًا:
- طب أنت ليه اخترت تحكي لي أنا من بين الكل؟
كانت تشعر بأنه ميزها عن الجميع وأنها مميزة في عينيه مما جعلها سعيدة تحلق عاليًا وتسبح داخل عقلها بارتياح شديد لتلك الفكرة، بينما ابتسم سليم وعقد ذراعيه أمام صدره وأجاب:
- علشان أنتِ كنتِ عامل مساعد إني أتغير، صحيح إني كنت من جوايا مش مرتاح ولا مبسوط وكنت عايز اتغير، بس كنت خايف، مش عارف ليه بس كنت خايف من ده، لحد ما بدأنا نتكلم وحسستيني بكلامك إن التغيير عادي وإن الإنسان بطبيعته بيتغير وده ساعدني كتير كل ما كنت بحس إني مش هتغير في الشهور الأخيرة، بس اتغيرت!
ابتسمت ليلى بسعادة وهي ترى أنها قد ساعدت أحدهم بالفعل، لقد قدمت الشيء الذي أرادت أن تقدمه منذ وقت طويل، لن تدرك أن الإحسان والعطاء قد يجعلانها سعيدة بتلك الطريقة، خاصة عندما نجح الأمر مع سليم الذي دائمًا ما رأته شخصًا نقيًا في داخله، بعد برهة من الصمت رفعت نظرها نحو السماء وقالت:
- أنا كنت بحاول دايمًا أساعد الناس وأدي لهم دعم معنوي، علشان كدا كنت عايزة أبقا دكتورة نفسية، بس عمري ما حسيت إني بتدخل في حياة حد ومتطفلة زي دلوقت، أنا اكتشفت إني كنت بتطفل أكتر ما بساعد، بس أنت خلتني سعيدة جدًا لما قولت لي إني كنت عامل مساعد إنك تتغير.
توسعت ابتسامة سليم وقال بلطف:
- أنتِ جميلة أوي يا ليلى، كفاية إنك فكرتِ تساعدي.
تنفست ليلى بسعادة ولم تجد ما تقوله، فقالت:
- سليم أنت بتصلي؟
قطب سليم جبينه بتعجب وأجاب:
- أه، بس بتسألي ليه؟
عدلت ليلى من وشاحها وأجابت بحرج:
- أصلي مش لاقية حاجه أقولها بس.
ضحك سليم بخفوت وقال:
- ليلى تعالي نحضر بقية محاضراتنا.
نهضت ليلى مبتسمة وهمست:
- طيب
❈-❈-❈
مر شهر بطيئ عليها، شهر لم يخلو من محاولات زين لاسترضائها وإلحاحه الشديد لتسامحه، حتى إنه أتى للتحدث لوالديها وقد حصل على رضاهما مجددًا، ولكنها ما زالت لا تستطيع مسامحته، فرغم كونها بدأت تستجيب له وهذا يجعلها تغضب من الجميع حتى من نفسها، فهي لا تستطيع تقبل أنه لوهلة ظن أنها لا تكفيه، وهو لم يحاول أن يبرر لها، وربما لأنها عادت للانفتاح للحياة مجددًا وعادت لنشاطاتها القديمة وحديثها المستمر مع ليلى بدأت تتجاوب معه، كل هذا كان يجعلها مشتتة وعرضة للتسليم تحت الضغط من والدتها وزين، جذبت انتباهها ليلى التي نظرت لها نظرة ذات مغذى وقالت بعتاب مستتر:
- ورغم يعني إنك كنتِ بتبقي موجودة ومش عايزة تعرفيني بس مش مشكلة.
نظرت لها هاجر بندم وقالت:
- معلش يا ليلى، كنت متلغبطة جامد ومش عايزة أتعامل مع حد، ولو إني لسه متلغبطة يعني.
لكزتها ليلى وقالت بمرح:
- يا بنتي بهزر بقيتِ قفوشة كدا ليه؟
صمتت للحظة ثم تابعت بنبرة عملية:
- وبعدين أنتِ مش هتتأكدي من حاجه وهتفضلي متلغبطة طول ما أنتوا الاتنين مش متصارحين مع بعض، لازم تتكلموا يا هاجر وتفهمي سبب كل اللي حصل.
تنهدت هاجر بثقل وأسندت ذقنها فوق ذراعيها على الطاولة ونظرت نحو الطاولة التي جلس عليها سليم وزين يتحدثان حول أمر ما، كانت عيناه توجه نحوها من وقت إلى آخر، تنهدت هاجر مجددًا وما زالت تشعر بالحيرة ولكنها وجدت أن رأي ليلى الأفضل حتى الآن، اعتدلت في جلستها ونظرت لها وقالت لتغيير مجرى الحديث:
- وأنتِ أخبارك ايه مع سليم؟
جفلت ليلى وشردت للحظة ثم أجابت بتلقائية:
- عادي يعني، آخر مرة اتكلمنا كانت من شهر، قعدنا نتكلم مع بعض كتير ومن ساعتها بقا نفذنا اتفاقنا وبطلنا كلام فعلًا بس بينا ود يعني كأصدقاء بس اللي هو مينفعش علشان حرام وكدا بس.
أومأت هاجر وابتسمت وهمست لها:
- على فكرة بيحبك.
توترت ليلى وحامت عينيها في المكان بأكمله، هل هو حقًا يشعر بشيء تجاهها أم أن هاجر تقول هذا لتوترها؟ هل يبدو الأمر واضحًا بتلك الطريقة وهي من تتجاهل جميع الإشارات؟ لا تعلم، ولكن إن كان حقًا يشعر تجاهها بشيء فليتحدث بشكل رسمي وإلا فلا، فالمشاعر المهدورة دون أن توجه للطريق الصحيح لا فائدة منها، زفرت ليلى وقالت بتلقائية:
- لو فيه يتكلم رسمي، لو مفيش هنفضل زي ما احنا، إنما شغل الاستعباط ده ميلزمنيش.
ابتسمت هاجر وقالت بفخر:
- جدعة بالله
أتى سليم لطاولتهما وقال:
- أنا رايح محاضرة دكتورة منة، حد هيجي معايا؟
كان ينظر نحو ليلى بشكل خاص، نظرة فهمت ليلى معناها جيدًا فأومأت وقالت:
- أيوه أنا جاية.
ثم حملت حقيبتها وتبعته نحو المدرج، كانت ليلى قد فهمت من نظرته أن زين يريد أن يتحدث مع هاجر على إنفراد؛ ولأنها أخبرت سليم مسبقًا أن هاجر لا تحب تلك الأستاذة ولا تحضر محاضراتها، فهمت أنه تعمد قول اسمها حتى ترفض هاجر الانضمام لهما.
نظرت هاجر لهما بتعجب من ردة فعل ليلى، ولكنها فهمت ما فعلته عندما وجدت زين يتقدم نحو طاولتهاويجلس أمامها وقال بجدية:
- هاجر، أنا سعيت إني أصلح كل اللي عملته في الشهر اللي فات وصلحته فعلًا، وأنتِ بردو مش راضية، فـ ممكن تقولي لي ايه أسبابك؟
زفرت هاجر بثقل وأسندت ظهرها إلى ظهر الكرسي وقالت مطبقة ما قالته ليلى:
- عايزة أفهم ايه اللي خلاك للحظة متبقاش متأكد؟ ايه اللي فكرت فيه ساعتها؟
تنهد زين وقرر أن يتصارح معها علها تصفح عنه، فهو قضى شهرًا صعبًا في محاولة استرضائها واسترضاء عائلتها، تعرضته للإهانة المستمرة منها، واستماعه للكلمات السامة من والديها وحتى تعرضه للضرب من شقيقها، كان شهرًا متعبًا ورغم هذا هو لم ييئس، بل في الواقع هو يشعر أنه متمسك بها بشكل أكبر، وكأن تلك التوجسات وهذا الخوف بداخله عندما تبدد جعلت مشاعره تجاهها أقوى وتمسكه بها أشد؛ لهذا بدأ يقول بنبرة هادئة:
- في الحقيقة يا هاجر أنا كنت خايف وده خلاني متردد، كنت خايف العلاقة تفشل وخايف إني أبقا بحط مشاعري في وعاء مثقوب ومشاعري تروح هدر، ومكنتش حابب إني أعترف إني خايف فـ قولت إني متردد، وأفكاري فضلت مسيطرة عليا لحد ما عمر جه واتكلم معايا وبدأت أفكر بطريقة صح وأدركت اللي عملته فـ قررت أصلح كل حاجه بوظتها، وأقدر أقولك إن المشكلة دي خلتني متمسك بيكِ بشكل أكبر.
أخذت هاجر نفسًا عميقًا ونفت برأسها وقالت:
- لا يا زين، أنت مكونتش خايف بس، أنا بردو كنت بلاحظ ترددك، مش شرط في حاجه كبيرة، حاجات زي دي بتبان من أتفه التفاصيل وأقلها، ودي مشكلة عندك يا زين ولازم تحاول تفهم ده وتصلح ده جواك قبل ما تفكر تدخل علاقة.
نظر لها زين برجاء وظن أنها بدأت تتجاوب فقال:
- أنا صلحت بالفعل يا هاجر، وباقي عليكِ ومستعد أعمل أي حاجه علشان خاطرك.
خطرت على بال هاجر شيء ما ليكون بمثابة اختبار شبه أخير له، فابتسمت بمكر وقالت:
- تعمل أي حاجه؟
أومأ وشقت ابتسامة متفائلة وجهه سرعان ما تبددت حالما قالت:
- تتعالج
قطب زين جبينه بتعجب وقال:
- ايه؟
أجابت هاجر بتلقائية:
- تروح لدكتور نفسي وتتعالج من خوفك وترددك ده.
نظر لها زين ببلاهة بينما حملت حقيبتها وتركته ورحلت، حسنًا لقد صدقت ما قاله فقد التمست الصدق من حديثه، ولكنها لا تريد أن تغفر له بتلك السرعة، ليتعذب قليلًا مثلما أحزنها، ولكن هل هذا يعني أنها غفرت له؟ لا تعلم ولكن لتنجرف لبعض الوقت في تلك اللعبة لتحصل على إنتقامها.
❈-❈-❈
أعادت ليليان خصلة من شعرها خلف أذنها بعصبية، بينما ضربت بقوة على لوح الأحرف، كانت تشعر بالإحباط، فعمر لم يظهر منذ شهر! لم يأتِ ولم يتحدث حتى مع محمد، بل جعله يتولى الإدارة بإختفائه المفاجئ، وقعت لفترة طويلة في حيرة من أمرها، ولكنها لم ترد أن تخبر أحد عن أفكارها، يراودها أن عمر ليس فقط شخصًا يتصيد النساء، بل هو لديه استراتيجية معينة، حيث أنه يعتمد خطة الاقتراب والاختفاء المفاجئ، هذا إحدى شكوكها، ولكن تنفيه طبيعة أنهما ليسا متقاربان بالشكل الذي يجعله يلعب تلك اللعبة معها، ربما يكون مريضًا، ولكن إن كان كذلك ألن يتحدث إلى محمد ويخبره أنه سيتغيب لأنه مريض، ولكن مَن سيمرض لمدة شهر؟ ربما أحد والديه مريض، ولكن مهلًا هل سيمرض أحدهم لمدة شهر بالأصل؟
زفرت بتعب بعد أن ارتكبت خطأ آخر وقامت بتعديله، لماذا تفكر وتحلل وتعطيه أعذارًا؟ ليس هناك سبب واضح لهذا، وهو إن أراد أن يبتعد فليفعل، فهو بالنهاية ليس مضطر أن يلتزم لأن علاقتهما ليست رسمية، أي أنه ليس هناك أي واجبات عليه أو حقوق له، مثلها، حاولت تذكير نفسها بهذا بينما عادت للعمل بانتباه، فهو إن أراد أن يعود ليعد وإن لم يرد لا يفعل، هي بالنهاية ستظل موجودة ولن تختفي، وهي لا تمانع تواجد تلك العلاقة الطفولية القائمة على إبداء الآراء فقط، هي لا تخسر شيء من وجوده، بل بالعكس، هي تجد أنيسًا لها ذا عقل راجح ويشابهها في التفكير، ولا تخسر شيء من اختفائه، حتى وإن أشعرها هذا بوحدة عظيمة، وجعلها تفتقد أحاديثهما الفلسفية التي لن يهتم أحد لسماعها.
يتبع