الفصل الرابع - مريد
وجد راضي نفسه مقيداً بأغلالٍ تشع حرارةٍ كادت تحرق يده ممتدة من وراء ظهره إلى الأسفل تنتهي عند قدميه، على كرسي أمام لوحٍ مغطى بقماشةٍ سوداء، ضحك راضي بخبث رفع رأسه وهو يردد
-لقد أرسلوك أنت هذه المرة، ألم تنتهي الحرب بيننا أبداً.
وقف رجلٌ أمامه بشعرٍ طويل أسودٍ كالليل يرتدي زي المحاربين، استند على ذلك اللوح أمسك برأس راضي
-نعم أتيت لأخذ منك ثأري، ولن تنتهي الحرب أبداً.
دفع رأسه بقوة ووقف يتأمل ملامحه، نظر إليه
-أتعجب لأمرك اليوم، لم تأتي على هيئة مروعة كما اعتدوا أن يرسلوك، وأتيتني اليوم كالمحاربين القدامى، الذين سعوا لتحرير أوطانهم، والدفاع عنها بشرف، فلأجل لماذا أتيت لتحارب اليوم أيها الجندي.
دفع قدمه بغضب وأنزل الستار عن ذلك اللوح فبدت المرآة واضحة
-تستهزأ بي أيها العبد، لقد أتيتك هكذا حتى لا ترى ماذا فعلت بي، أنظر إلى المرآة لترى ماذا فعلت بي، كيف نحرت نيران إيمانك وتلاوتك جسدي
رفع راضي عينيه نحو المرآة فرأى جسداً متعري تماماً بقرنين أحدهما قد كسر وجلداً متساقط، وينزف سائلاً أبيض
-ليتك قد قضيت علي دفعة واحدة حتى أستريح من تلك النيران التي تنحر كل كياني، لكنك تركتني ميتاً على قيد الحياة ولن أدعك تفلت منها ثانية، أتعتقد بأنني سأغفر لك فعلتك، وأستسلم كما فعل باقي إخواني، إنك بائس ضعيف، لا يمكنك حتى أن تحمي نفسك.
هز رأسه، وهو يطقطقأ بفمه
-لا، أتعلم حتى بعد ما رأيت ما حل بك لم تحرك بي ساكناً، لم يحزن قلبي لأجلك، كل ما حل بك أنت وإخوانك ليس إلا قطرةً في بحر من عانوا بسببكم، حيوات دمرت، ملايين يهلك المرض أجسادهم، وبيوتا تهدم، وأطفال مشردون، وأمة أفسدتم قلوبهم بسبب نزعتكم الفانية بأنكم من نار
صرخ بغضب
-لا تطاول على أسيادك يا مخلوق الطين، نحن أول خلقٍ نزلنا إلى الأرض من السماء، وقد كان جدنا الأكبر هو طاووس الملائكة.
ابتسم راضي في نصر
-النار تهلك، تدمر، بينما الطين هو أصل كل شيء، نزلتم إلى الأرض بسبب معصية جدكم للخالق، وتم النفور منكم، وبعث الله خلقاً جديدا لأنكم أفسدتم الأرض، فبعث الله الحياة بنا.
❈-❈-❈
عاد مسرعاً إلى هيئته القديمة، وامتدت أظافره لتصل لنصف المتر، دفعها بقوة نحو المرآة، حتى تهشم زجاجها بالكامل، أغلق راضي عينيه من قوة الزجاج المندفع نحوه، جُرِح معظم جسده، كاد يبكي من شدة الألم لكنه تماسك، همس بداخله علي ألا يرى ملامح الخوف على وجهي، هذا نصر مؤقت، ومعاونوه ليسوا بقوة خالقي.
اقترب منه في كبر
-الآن صرت خائفاً صحيح، مت في جلدك، وصرت خائر القوى.
ابتسم غير آبه
-وكيف لي أن أخاف من عبدٍ مثلك.
أجاب متحيراً
-لست بعبدٍ أيها الأبلة
-لا بل عبدٍ، لا تخرج من جحرك إلا بطلاسمٍ يتم استدعاءك بها، لتصبح عبداً عند من استدعوك.
-ماذا تقول، أنا من أفعل هذا حتى ألقن بشريتكم درساً قاسيا يدركوا حجم وجودهم في هذا الكون.
-أي كون، هذا الكون قد خلق لأجلنا بكل ما فيه حتى نجومه وكواكبه قد خلقها الله حرساً لسماءه منكم.
-راضي لقد بلغت الحلقوم لدي، والآن عليك أن تختار طريقة مناسبة كي تفنى بها نحو السماء.
صدى قهقهات راضي رجت الجدران، لم يتمالك نفسه، والآخر يقف مندهشاً من فعلته
-أنت متخيل بأنك يمكنك أن تهلكني أنا، أنت موهوم، رغم كل القدرة التي منحك الله إياها، فكل ما يمكنك فعله هو الوهم، أن تُخيلُ إلينا فقط، كل مرض أو خراب قد قدر الله له أن يحدث وكنتم أنتم الأسباب
-أنت مجرد عبدٍ لرغباتهم، وبقرآنٍ يتلي يمكن لبشريٍ مثلي أن يلحقك بنار الجحيم في الحال
كل ما أنا عليه الآن مجرد وهم، أغلق عينيه بقوة، حتى فك ذلك القيد الذي أحاط بجسده، وقف على قدمه مسح عن وجهه ذلك الدم المتناثر
-انظر قد عاد كل شيء كما كان
تسرب الخوف إليه، تسارعت أنفاسه بقوة، شعر بأنه كاد أن يتمكن منه، عليه أن يباغت في هز كيانه حتى يتراجع عما يفعل، لكنه يدرك جيداً أن قوة إيمانه بمن خلقه هي من تمنحه تلك القدرة على مواجهته دون أن يخشى شيء.
التف إليه بعينين حمراء، أشعل دائرة نيران نحوه، النيران تقترب منه حتى كادت تمسك بجلبابه، لكن لسانه لم يتوقف عن الترديد، آيات التحصين التي اعتاد أن يرددها قلبه قبل لسانه، فتنطفئ النيران في لحظه
دفع النيران نحوه بقوة فينفخ فيها راضي فتتراجع إليه مرة أخرى
اقترب منه بغضب
-من ماذا خُلِقت أنت، لم أرى بشري يقف أمامنا مثلما فعلت أنت أبداً، كيف لك أن تنقلب علينا هكذا، ألم تكن معنا يا راضي، كنت تنفذ أوامرنا، وتطيعها دون توقف لماذا أعلنت علينا الحرب هكذا.
توقف عن القراءة لبرهة والتقط مسبحته من جيبه الأيمن، نظر في عينيه دون أن يهاب الشرارة التي تنطلق منهما
-أغراني بريق المال، دفعني أن أهرول نحو حياة افتقدها هنا بين جدران تهالك من رائحة الموت، لكن مرض حبيبتي، وزوجتي ووفاتها كانت بمثابة حالة إنعاش لقلبي الذي كاد أن يتوقف عن الإيمان
لكني لم أكن أنفذ أوامركم، كنت أنفذ أوامرهم، من يستعبدونكم حتى من دون مقابل، أنتم فقط من يحتمل كل شيء نيران في الدنيا، وجحيم في الآخرة، وهم يعيشون كما أرادوا دون أن يلوثوا أيديهم، يدفعون لنا المال، وأنتم لا تنالوا شيء سوى الخذلان
-أنسيت أيها الأبله عهد سليمان، لقد تعهد بحمايتنا، لكنهم خانوا العهد، وتوارثوا الكتب التي تمكنكم جيلاً وراء جيلٍ من التواصل معنا، ونحن لسنا عبيداً لأحد
-ولا لله حتى.
أدار ظهره عن ذلك الحديث، حاول أن يتمالك نفسه ليبحث عن مزيداً من الكلمات يدافع بها عن بنوا قومه، يعلم يقيناً أن كل فعله سيذهب هباءاً منثورا، لكنه فكر في النهاية أن يتلاعب بقلبه ذلك الخوف الذي يهز وجدان البشر يُذْهِبَ عقولهم.
التف نحوه بثقة
-جميعنا عبيدٌ للرغبة، نحن نرغب بهلاككم وأنتم ترغبون في أن يُهلِك بعضكم البعض، نحن نتحد على هدفٍ واحد، أن تنضموا إلى أحزابنا في النار، كما أخرجنا أبويكما من الجنة، أم أنتم فيتمنى كل فردٍ منكم أن يهلك الجميع ويحيا ليتنعم بمفرده
-لن أنكر ما تفوهت به، لكن ليس جميعنا بقلوبٍ مقبورة، الكثير منا بقلوبٍ ينيرها الإيمان، لا ظلمة فيها، لا شر، كما أنتم، منكم المسلمون ومنكم القاسطون، وحينما تنشروا نيران غيرتكم علينا
فيأتي أناسٌ اختارهم الله لدحضكم، لتتعذبوا بالقرآن، وقوى الذكر، والصدقات، والصيام، كل هذا يهلككم شيئاً فشيئا، ثم يستدعون آخرون من قبائلكم لتعاد بكم الكرة من جديد دون أدنى اعتراض على ما يفعلون بكم.
قاطعه بسخريه
-وهل تظن بأنك من هؤلاء يا راضي ؟
-ولما لا، انظر إلى نفسك لتعرف هل منحني الله بالمدد أم لا؟
وجد نفسه مكبلٌ بمسبحة ضخمه حباتها كثمر الخوخ، تشعر نوراً، حاول أن يدفعها بعيداً لكنها أبت.
-لن تستطع فإنها مأمورة.
-لقد تماديت يا راضي، ولن ندعك أنا وإخواني.
-هل جُننت، كل ما يمكنك فعله هو أن تأتيني وأنا نائم، لا يمكنك أن تظهر لي وأنا مستيقظ، هكذا هي حدود قدرتك.
انتفض راضي من نومه على ذلك الظفر الذي كاد أن يخترق قلبه، صرخ ابنه مريد من شدة صوت الآخر، تزحزح والده واحتضنه بذراعيه
-لا تخف بني، لن يتمكن منا أبداً
-أرءيت، أنه بإمكاني، لا تتحداني مرة أخرى
انتقل بسرعة البرق نحو جسد الطفل حاول أن يلمس رأسه حتى يتمكن منه لكن راضي دفعها بقوة
-لن أدعك تتمكن منه أبدا، ولن تبقى على هذا الحال سوى ثواني معددوة، هي دقائق معدودة مأمور بأن تبقى فيها بيننا، محيطنا محرمٌ عليك الظهور فيه، ولن تظهر مرة أخرى
قد خانك الكبر، وتناسيت بأن ذلك الظهور سيتسبب في هلاكك للأبد، اذهب حتى لا تحترق بيننا وتنهار تلك القلاع التي بت تبنها أمامي لساعة كاملة عن قوتك، وقدراتك
شعر الجن بأن جسده كاد أن يهوى الله أكبر تشق السماء لآذان الفجر، هنا صمت الآذان عن كل شيء، لا تسمع سوى قلوبٌ نابضة يشعل النور حماسا لمزيداً من السكينة.
انصرف مسرعاً قبل أن تمر باقي الدقائق، ويفنى دون أن يثأر لما فعله به.
❈-❈-❈
انتفض مَريد، دفع يد والده ونزل إلى الأرض دس وجهه بين يديه وتكور على نفسه أرضاً، بعيداً، بجسد مرتعش يحاول أن يرفض ما رأى أغلق عينيه ، شيئاً بداخله يدفعه أن يقوم، بدأ لسانه يردد بدايات سورة البقرة، لعلها تبث في قلبه بعض الطمأنينة.
نزل إليه راضي بجسد متهالك، استنفذت محاولته للصمود كل قوته، حاول أن يضم ولده إلى قلبه، عل نبضاته المتسارعة تطمأنه بأنه لازال حياً، لكن مريد كان يدفعه في كل مرة، حتى استجاب واندفع في صدر أبيه، بكيا كما لم يبكيا من قبل.
كانت قلوبهم هي من تزفر الدموع، يخشون أن يغلبهم النوم مرة أخرى فينجرفوا إلى تلك الهاوية مرة أخرى، هاوية كمغناطيس لا يكف عن جذب كل شيءٍ إليه، أحلامٌ بنكهة الظلمة، بلون الدم، بلا سكينة، كل من يراها لا يُفكر سوى في الموت، لكن شيئاً ما يدفعهم حتى يكملوا الحرب حتى النهاية، ربما يشاء لهم الله بأشخاص آخرون يتعاونوا معهم على دفع الظلم، فيشدوا من أزرهم.
مسح راضي عن ولده الدموع، كان يتعجب من تلك القوة التي يمتلكها طفلٌ في مثل عمره، لكنه لا يملك أن يفعل له شيئاً إلا الدعاء، بداخله خوفٌ أكبر من أن يحادثه الطفل، أو أن يطلب منه أن يبعدوا عن هذا المكان، لم يكن يعلم بأن هناك قوة أخرى تدفع هذا الطفل إلى ألا يترك هذه المقابر
كلما اقترب من أسوار المقابر كي يخطو خطوة واحدة، يدفعه فضول طفلٍ أن يكتشف العالم من حوله، يهمس في قلبه صوتاً، ألا تتركني، لا تخطو بعيداً، فلتعد إلى هنا، والطفل قواه خائرة مما يراه، ليس بإمكانه أن يدافع عن نفسه، أن يقاوم ما يجذبه إلى المكان، يتراجع إلى مكانه، ينهمك في اللعب مع الأطفال، ينتظر تلك الفاكهة التي تتوزع مع كل نزيل جديد، وتلك الحلوى حينما يمغضها بفمه، سكرها ينسيه كل مُرٍ
كأي طفل، يغفو كالملائكة، وأغلب ما يراه حالماً، يتناثر عن عقله حينما تشرق الشمس من جديد، أصبح مريد في موقفٍ قاتل، لا يهمه ما يحل به، هو فقط يعتصر قلبه من أجل ولده، حاول أن يجعله ينهض من مكانه لكن الطفل قد غفا من جديد، رفعه على سريره، كاد يفرد جسده إلى جانبه حتى صعقه دقات متصارعة على باب الغرفة.
يتبع...