-->

الفصل الثالث - مُريد






الفصل الثالث




هرول بعده أشعب ليجدا الطفل جسده ينتفض، وتنقلب عيناه ويخرج من فمه دماً، لا يستطيع التوقف، لا أحد يمكنه الاقتراب منه، كاد قلب والده أن يتوقف، لكنه أغلق عينيه، تمسك بسبحته وتقدم نحو ولده مَريد، أمسك بيداه الاثنين،

-توقف لا تجعله يغلبك، أحضر من يتلو القرآن حتى تحرقه، ردد آية الكرسي حتى لا يتمكن منك.

ووجه الطفل تتلون ملامحه، يتحول نصفه لملامح الطفل، والنصف الآخر لوجهٍ كأنه محروق، يتساقط منه الجلد كأنه قد حُرِق للتو، يحاول أن يحادث والده، أن يستفيق، لكن محاولاته في البداية باءت بالفشل.

حتى صاح راضي بصوت مرتفع، وهو يرفع يده إلى السماء

-يا الله هم عبادك، ليس بيدهم قوة إلا ما منحتهم، وبيدك وحدك أن تسلبهم القوة

ثم نظر إلى ولده وردد في حسم

" إنما صنعوا كيد سحر ولا يفلح الساحر حيث أتى"

سبع مرات متتاليات، فر جميع الأولاد، وخاف أشعب من تلك الرياح التي هبت، وتلك الرمال التي حاوطت راضي وولده وكأنها دائرة رسمت بدقة في محيطهم، يرتفع منها دخان كاد أن يشتعل من شدته نار، كأن أحدهم ينفث فيه ليزداد قوة.

فر، ووقف وراء النافذة يتابع ما سيحل بهما، دخان يتصاعد ورمال تحيط بهم حتى كادت أن تصنع بهم نفقا أو حفرةً هابطة عن أرض المدفن، راضي يمسك بالولد بيقين، ينظر بصمود، ويردد

"إن الله سيبطله"، "إن كيد الشيطان كان ضعيفا"

يدفع جسد الطفل الذي كان كفاقد الوعي، وهو يردد

-أنت الأقوى يا ولدي، لا تدعهم يتغلبوا عليك، أتلو القرآن، قل حسبي الله، قل لا إله إلا الله، كي ينفكوا عنك، لن يتمكنوا منك إذا رددت الذكر

وجهه تتبدل ملامحه يحاول أن يتخلص من ذلك الوجه الذي يحاول السيطرة عليه، ترتسم ملامح الاستنجاد عليه، يشير إلى والده بلسانه أنه غير قادر على تحريكه

يهز جسده بقوة، " لا تستسلم، وتذكر، إن كيد الشيطان كان ضعيفاً، اتلو الصافات صفا، ردد بقلبك، لينفك لسانك، ردد"

يحاول أن يبدو عليه الصمود وقلبه يخفق بشدة، لا يدري كيف لطفلٍ لم يتعدى السابعة من عمره أن يحتمل ما يحدث له، لكنه لم يفقد الأمل، ربما ليست المرة الأولى، لكنها اليوم مختلفة، شديدة للغاية، تماسك مرة أخرى

-ربي أعلم أنني مخطأ، لكنه طفل، وأنت حافظه، وإذا أردت أن ترده إليك، رده سالماً غير عليل بذلك الداء

حينها شعر بكلمات غير مفهومة تخرج من فم ولده، وكأن صراعاً دائراً بين صوتين

-لن..

-لكني، لا ..

-أكمل يا ولدي، أنت على صواب، هيا

-والصافات صفا

-لا لا، لن تستطيع التخلص مني

-بل سأفعل

كان الدم قد انقطع عن الخروج من فمه منذ أن ذهب الجميع مهرولاً، وبدأ وجه الطفل بالصمود على ملامح متماثلة له، لكن صوتاً غليظاً قد ارتفع بصداه من فمه ليردد

-أيها الأبله أبعد يدك عني، حتى لا أقتل الطفل.

تمسك راضي اكثر بالولد، وهو يقول

-إن مات فهذا قدره، وليس بأمرٍ منك ستقبض روحه، بل بأمرٍ من خالقنا تقبض روحك أنت.

-لا تتحداني أيها الأبله، فلتتركني وشأني

-لن أفعل

بدأ يشعر برجفةٍ في جسد الولد، وديدان بيضاء تخرج منه، قلبه يتمزق من أجل ولده، لكنه يخاف أن يتركه فيصيبه أذى، ضغط بشدة على يده، اقترب من أذنيه وردد

-وقدمنا إلى ما عملوا من عملٍ فجعلناه هباءاً منثورا، وما هم بضارين به من أحدٍ إل بإذن الله.

يقيناً يخرج من قلبه أن كلام الله هو النجاة، ومن يأذي الطفل يحاول هز تلك الثقة، لكنه مصر على ما أراد ظل يردد لنصف الساعة حتى هوى جسد الطفل على الأرض، سكنت الرياح، وعادت حبات الرمال كما كانت، أغلق أشعب الباب بعد ما رأى ليجلس خلف النافذة يبكي من شدة الخوف، كاد قلبه يتوقف من القلق، حتى وجد يداً تربت على كتفه انتفض صارخاً

-لا تبكي يا أبي، ربك سينجيك، ما دمت لا تغضبه.

أنت لا تغضبه يا أبي

تردد في الرد عليها، احتضنها بين ذراعيه، باحثاً في حضنها الدافئ عن سكناً يطرد ذلك الخوف الذي تسلل إلى قلبه، يلوم نفسه على ما أراد بها حينما يرحل، كيف له أن يتخلى عن قلبها الحاني، ويدها الدافئة، تلك السكينة التي تغمره بصوتها في المنزل، ظل يجلد ذاته حتى غفت عيناه

راضي حمل ولده بين ذراعيه، نفض عن جسده الغبار وترجل ببطء وهوى بجسديهما فوق ذلك القبر، بكى كما لم يبكي من قبل، يزيح التراب بيديه ويحادثها

-فردوس، لماذا تركتنا، لماذا لم تنتظرِ معي، عودي إلي، قلبي قد أنهكه الفراق الركض وحدي مؤلما دون أقدام، وكيف لي أن أحمل متاعب الدنيا وقد بُتِرَ ساعدي،

بحسرةٍ يُقَلِبُ في جسد مَريد الذي كان كقطعة ملابس بالية، لا يتحرك له ساكناً، وكأن جسده رافضاً العودة بعد ما رأى في تلك الليلة

-انظري، انظري ما حل بنا حبيبتي، لقد كدنا أن نفقد ولدنا الوحيد، ذلك العبير الذي يفوح من حولي، عصفورنا المتغني بالحياة، وآخر ما تبقى منك، لماذا تركتني وحيداً ورحلتي، فلتنهضي، احمليني بين أحضانك الدافئة علي أستعيد حياتي من جديد


أراح جسد الصغير بجانب والدته، ودنا على ركبيته وهو يردد بيدٍ مرتعشة، ودموعٍ تنهمر بقوة

-أنهضي وسأعدك، إن عُدِت سنرحل جميعاً، بعيداً عن هنا، لقد ابتعدت عن كل ما كنت أفعل حين رحلتِ، ولن أفعل ذلك ثانيةٍ، عاهدت الله أن لا أسمح لأحدٍ بأن يفعل كما فعلت مسبقاً، سأظل هنا لأفسد عليهم كل خطتهم كي يقضوا على الطمأنينة التي تسكن قلوب الخلق، وذلك الأمان الذي هو شريان الحياة.

دفع رأسه بقوة في الأرض بعد أن سمع همساً من حوله، وأصوات ضحكاتٍ تعالت من حوله

-إلهي لماذا تفعل بي هذا، ثبتني، احفظ لي عقلي، لا تُمكنهم مني أنا وابني، أعلم بأني قد أخطأت، لكنك حاسبتني، وضاعفت عقوبتي.

رفع رأسه للسماء، بعد أن مسح دموعه في سكينة

-رب لقد اختبرتني في أعز مخلوقة إلى قلبي، فلا تحرمني من ذلك الطيف الذي يهون على قلبي الفراق، رب إني أحاربهم وحيداً، لكنني على يقينٍ بأنك ستعين قلبي على الصمود، إنك تُمكنهم بقدرتك، وبإمكانك منع المنحة والقدرة التي قد وهبت، فاللهم حجم قواهم، وامنحني القوة ما حييت كي أُبطل ما يدمروا به أرواحنا السوية.

اختفى صوت الهمس، توقفت الضحكات، ساد الصمت المكان، وتخللت السكينة إلى قلبه رويداً، حتى شعر أنه في مكان آخر تحيط به أسواراً، يقف عليها حُراس لن يسمحوا لأحدٍ بالدخول.

حمل ولده، حممه بماءٍ دافئ بدل ملابسه، وضعه في فراشه، يعلم بأنه لن يستيقظ إلا عند شروق الشمس، هو الآن في عالمٍ آخر، لن يخرج عن حالة سكونه تلك حتى تحل الشمس ليصيب لهيبها كل طاقة ظلام، فيمحو كل ما بات الليل ينشره من الوحشة والسكون.

توضأ وصلى ركعتين، اثنتين، فأكثر ظل يُصلي حتى لم يعد بإمكانه أن يُحدد العدد، هداه فكره إلى الذهاب إلى صديقه أشعب، ولكن كيف له أن يتعظ بما حل به، دون أن يرى وجه الطفل، الذي كان ينير حياته كنور الملائكة، عليه أن يحمله مرةً أخرى، عله يرجع عما هو عليه، ترجل نحوه، كان نائماً

وانتفض من مجلسه مرةً أخرى على دفعةً قوية على الباب، ليجد راضي حاملاً ابنه بين ذراعيه، بجسدٍ متهالك، ووجهٍ باهت، يشير إلى ولده ويحادثه في أسى

-أرءيت يا أشعب، ماذا حل بولدي، أترى هذه هي النهاية لكل ما بدأنا.

ارتمى بجسده على الأرض ولازال يبكي، اندفع من جلسته، دفع روضة أرضاً، وهو يصرخ في وجهه

-ماذا نفعل، تحدث عن نفسك فقط، أنت من تقف في طريقهم لذا يقوموا بمحاربتك في أعز ما تملك، أما أنا فأحيا بينهم أنا وعائلتي ولا يمسنا منهم سوء.

اندهش راضي من حديثه، همس إلى نفسه، وهو يفكر أن يتراجع خطواتٍ بعيداً عنه

كيف له ألا يحاول حتى أن يساعدني، يطمأن على ولدي، أو حتى يواسييني، يربت على قلبي وإن كان من وراء قلبه، ألا يستطع أن يصطنع المواساة، أن يُشعر الناس بالمشاركة في محنهم

لكنه بعد أن تراجع خطوة للخلف صمم على أن يُكمل الحديث، رفع ولده على كتفه في حزم ووقف أمامه

-هل تخدعك بصيرتك بأنك قادراً على تفادي أذيتهم، إنك مُخطأ، لن يتركوك حينما تريد الرحيل، لقد مضيت معهم عهد كعهود الدم، لا ينفض إلا بقبض الأرواح

أسند يده على الباب وردد ساخراً

-أيقنت الآن بأن ما حدث لزوجتك قد أفقدك عقلك، لن يستطيع أحدهم أن يفعل لي شيئاً، والآن عليك الرحيل إلى غرفتك، قد استكفينا اليوم منك ومن ولدك، ولا نريد رؤيتك مرة ثانية

كاد يغلق الباب في وجهه لكنه دفعه قائلاً

-لا تسعد بقوتك الهشة التي وهبتها إياك قسوة قلبك، مصيرها للإنهيار أمام أول موقفٍ يفقدك السيطرة.

دفعه في وجهه بقوة غير آبهٍ لكلماته، غسل وجهه وآوى إلى فراشه، راضي يضحك ساخراً، يتعجب من عدم الاكتراث، ليس بيده من الأمر شيء، عليه الآن أن يُفكر في حاله وولده وألا يكترث بمن حوله.

ترجل نحو غرفته بخطواتٍ متراجعة، قلبه يدفع للخلف، وعقله يردد عليك بالقدوم حتى نُمنح قسطاً من الراحة، كي يصبح بإمكاننا أن نُكمل المعركة حتى النهاية، فتح باب الغرفة وقلبه يخفق بشدة لا يدري لماذا، لكنه اعتبر أن ذلك طبيعياً بعد تلك الليلة التي قضاها.

وضع ولده في مضجعه، وعدل غطاؤه، جلس يتأمله قليلاً غلبته دموعه، وظل يحادث نفسه وهو يمسح على شعر الولد

-أعلم يا ولدي أن كل ذلك بسببي أنا، لكن للحق ومن يحمونه ضريبةً عليهم أن يدفعوها، وأنا دفعتها في أعز ما أملك، لا تخدعك قوتي، هشاشتي هي من تدفعني لاصطناع القوة خوفاً من أن أتحمل المزيد، مزيداً من الفقد، والألم، إضافةٍ إلى رصاصات قاتلة من الخذلان، أن تحارب بمفردك، دون أن يُسمح لك أن ترتاح قدمك، أو حتى أن تتكأ يداك.

لازالت الحرب متواصلة بيني وبينهم، ما دمت أتنفس، مادامت قدمي تطأ أراضيهم النجسة لتفسد خطتهم لإفساد حيوات البشر، أتمنى عند وفاتي أن تكون في حالٍ أفضل يا ولدي، تصير عالماً، أو تخرج لمنحة بعيداً عن هنا، بعيداً عن تلك العقول التي هدمت الآخرة، ودفنتها في قلوبها، ولمعت في عينيها بريق الدنيا الزائف فجعلته يحيا في قلبها، حتى ازدادوا طغياناً، وسلط الله عليهم قرنائهم، فعمت بصيرتهم، وباعوا كل شيء من أجل فقط أن يتحكموا في مستقبل من حولهم، لا يدركون بأنهم ضلوا الفكرة، والرغبة وأن كل ما صنعوا هو إرادة الله تُفعلُ بأيديهم.

تنهد بحسرة، رفع ولده بين ذراعيه وغلبه النعاس، لكنه شعر فجأة بصوتٍ أجش يحاول أن يوقظه من نومه.


يتبع