-->

الفصل الثامن والأخير - غرف فندقية

 



الفصل الثامن




« أن تحدد مقدار تضرر شخص من سلوكك، هو المعادل النفسي لـ: أن تُغرق أحدهم وتحدد له صراخه المناسب، أن تشعل النار في أحدهم وتحدد له مساحة الفوضى التي يخلفها رماده، أن تطعن أحدهم وتحدد له مقدار ما ينزف. لا يحق لك تحطيم شخص ثم تقرير ما يستشعر من خراب. »

- نيكيتا جيل

❈-❈-❈

وقفت أنظر بأعين متوسعة حتى كادتا تصبحان مستديرتان بالكامل، أحدق في الرجل الذي يتحدث مع مانويل ويضم إمرأة ما إليه، تسلم المفتاح من مانويل بابتسامة وبينما استدار ليذهب إلى غرفته نظر لي، رآني، ولم يبدِ أي ردة فعل، ابتسامته تجمدت وعينيه نظرت إليّ ببرود دون أي نوع من المشاعر، ثم نظر إلى المرأة التي بجانبه وعادت ابتسامته للتألق وسار معها إلى غرفته.

شعرت بأنفاسي تضيق تدريجيًا وأن أتابعهم، ستيفان لم يهتم، نظر لي ببرود ولم يهتم، لم يفكر في أن يتحدث معي، لا شيء!

اقتربت من مكتب الاستقبال وقفت أمامه، وضعت يدي على حافته، الكثير من الذكريات تندفع في عقلي، وذلك اللقاء البارد يؤلمني بشدة، لم أعد أريده، ولم أعد أحبه، ولكني لم أعتقد أن لقاءنا بعد كل شيء سيكون بتلك الطريقأكن خطيبته وحسب بل كنت صديقة طفولته الوحيدة، أم أنني من كنت أتوهم وعقلي هو من اختلق هذا؟ ضممت يديّ معًا وضغطت على شفتي السفلى بأسناني كمحاولة مني لمنع رغبتي في البكاء، وفي تلك اللحظة عاد مانويل الذي كان مشغولًا بنقل أغراض ستيفان، استدار خلف المكتب ونظر لي مقطب الجبين، مد يده ووضعها أسفل ذقني وأدار رأسي لأنظر له، قال بلطف:

- ما الذي يقلقكِ، دافني؟

كان لاسمي الذي يلفظه بنبرته تلك وقع خاص عليّ، شيء أشبه يجعلني مخدرة لدقيقة من الوقت، حتى أستوعب ما أفعله وابتعد قليلًا مثلما فعلت الآن، وأجبت بارتباك:

- لا شيء، الحرارة تؤثر عليّ اليوم كثيرًا.

مسحت جبيني بظهر يدي لأبرهن له صدق حديثي، ولأول مرة اليوم لا يوجد عرق على جبيني، يالحظي العثر، ابتسم مانويل بتفهم وقال موافقًا:

- أنتِ محقة، الطقس شديد الحرارة.

رفعت نظري له وقُلت ما كان يشغل بالي متجاهلة ملحوظته:

- من الذين أتوا اليوم؟

نظر لي نظرة لم أفهمها وأجاب بعملية:

- السيد والسيدة ويكفيلد.

شعرت بقلبي ينتزع بقسوة بعد أن سمعت ما قاله، نظرت له بتيه وسألت بتلعثم:

- هما متزوجان؟

- أجل، لقد أتيا ليمضيا شهر العسل هنا.

ضغطت على شفتي السفلى بقوة حتى نزفت وأنا أستوعب ما يقوله، لقد تركني وحيدة، مدمرة، ومشتتة، ترك بداخلي جرح غائر ومئات الأسئلة عما ينقصني وجعله لا يريدني، تركني أتقطع بين تلك الأسئلة والشعور بالحزن والذنب حيال نفسي، تركني وأنا أشعر أني أسوأ مخلوقة وُجدت على هذا الكوكب، وذهب ليتزوج؟!

الآن أفهم لماذا قال لي أنه لا يحبني، لأنه كان يحب غيري وتزوجها الآن، لم يمضِ على فراقنا سوى ستة أشهر وها هو قد تزوج، أنا ما زلت أتعافى من تلك العلاقة وهو يمضي شهر عسله!

- شفتك

قال مانويل مشيرًا نحو شفتي التي أضغط عليها والتي بدأت تنزف، سحب إحدى المناديل الورقية من العلبة الموضوعة على المكتب وشرع في ازالة قطرة الدم عن شفتي، ولكني ابتعدت عنه وأنا أنظر إليه في لوم مما جعله يقطب جبينه، فقُلت زاجرة:

- لا تتصرف معي بلطف، لا تكون لطيفًا معي.

كانت نبرتي ضعيفة وسرعان ما ركضت نحو السلم لأهرب منه للمرة التي لا أعرف عددها.

❈-❈-❈


مر يومين انعزلت بهما عن الجميع عدا كارين، كانت رفيقتي الوحيدة ومهربي بعيدًا عن الجميع، كنت أستيقظ مبكرًا مثلها وأساعدها في إعداد الفطور، نتناول فطورنا في المطبخ وأذهب للعمل، ثم عندما أعود أساعدها في العشاء وأصعد إلى غرفتي.

كان ستيفان مشغول مع تلك الحمقاء خاصته يأخذها في جولات حول الفندق، هذا ما قالته لي كارين، وكان مانويل مشغول مع الضيوف الجدد، كل يوم يأتي زوار جدد وبدأ يمتلئ الفندق، هذا طبيعي مع اقتراب الصيف ولكن احتفظ الفندق بهالته الهادئة التي تعلقت بها كثيرًا.

استيقظت من شرودي وتابعت سيري في الرواق، حيث كان عليّ الذهاب إلى إحدى السيدات التي تصرخ منذ أن أتت إلى هنا، قيل أنها مصابة بجرح في ذراعها ولكنه لم يكن عميقًا، لهذا طُلب مني أن أضمده بنفسي دون الحاجه إلى طبيب، ورغم هذا لم تتوقف تلك المرأة عن النواح الذي سمعه جميع من بالمستوصف، تنهدت بنفاذ صبر ودلفت إلى الغرفة التي قالت لي إيميلي أنها تركتها بها، توقفت عند باب الغرف قليلًا ما إن وجدت أن تلك المصابة لم تكن سوى زوجة ستيفان اللعين، والذي كان يجلس يربت على ظهرها ويواسيها، تقدمت منهما وعلى وجهي تعبير جامد عكس ما كنت عليه عندما رأيته بالمرة الأولى بعد فراقنا، ربما لأني أدركت مقدار كرهي له الآن، فأنا لم أعد أكن له سوى الكره والغضب، حتى الألم لم يعد ينتابني عندما أتذكره، لم أعد أحزن من ذكرى فراقنا وهذا ما وجدته في اليومين الذي ابتعدت فيهم عن الجميع.

وقفت وامسكت بذراع المرأة لأرى عمق الجرح وسألت وأنا لا أنظر لأيًا منهما:

- كيف أصبتي بهذا الجرح، آنسة؟

تعمدت أن أقول «آنسة» لأثير غيظها، وبالفعل نظرت إليّ بغيظ وهي تجيب:

- كنت أنا وزوجي نستكشف الغابة وأصبت نتيجة لارتطامي بإحدى الفروع.

أومأت وقد وصلتني رسالتها جيدًا عندما تعمدت لفظ كلمة «زوجي» ببطء، أحضرت المعدات اللازمة وبدأت بتضميد جرحها، أثناء قيامي بهذا ضغطت على جرحها بقوة، فصرخت بألم وصاحت:

- ماذا تفعلين أيتها الغبية!

ضغط ستيفان على ذراعها الأخرى برفق، وقال بخفوت:

- لا مشكلة ليزا، مؤكد أنها لم تقصد.

ثم نظر لي نظرة ذات مغذى، قُلت ببرود وأنا أضع الضمادة على ذراعها:

- لقد انتهيت بالفعل.

تركتهما وذهبت، شعرت بحاجتي للهواء المنعش بعيدًا عن البيئة الطبية فخرجت من المستوصف، سرت نحو الغابة ووقفت عند حافتها، عندها قاطعني ستيفان قائلًا:

- دافني انتظري.

وقفت واستدرت لأنظر له بجمود، انتظرت حتى تقدم مني ووقفت بجانبي يحدق في الأشجار الكثيفة وقال:

- كيف حالك؟

أجبت بجمود:

- بخير

نظر لي مطولًا وقال:

- مرت ستة أشهر.

أومأت وقُلت بتهكم:

- أجل، حدث الكثير في حياتك على ما يبدو.

تنهد ستيفان وقال:

- اسمعي دافني، لم يحدث هذا بعد فراقنا بل قبله.

نظرت له بجمود وقُلت بسخرية:

- هل تريد أن تقول أنك كنت تخونني بدلًا من أنك تخطيت علاقتنا بسرعة؟ هكذا تصلح الأمور؟

حدق بي للحظة بدهشة وقال بارتباك:

- مهلًا دافني، ليس هذا ما قصدته أنا..

قاطعته بحدة:

- لا داعي لهذا الحديث يا ستيفان، أنت الآن رجل متزوج، رجاءً اذهب إلى زوجتك مؤكد أنها تنتظرك.

سرت بخطوات سريعة للداخل تاركة إياه يحدق في طيفي، ما إن دلفت تنفست بقوة، لم يكن حديثًا جامدًا كما بدا وكما ادعيت، لقد كانت العواصف من المشاعر والذكريات تعصف بي، ولكن لحسن الحظ أني تمكنت من أظهر أمامه متماسكة وغير مبالية.

أتت إيميلي وهي تقول:

- أين اختفيتِ يا فتاة؟

استيقظت من شرودي وأجبت باختصار:

- خرجت لاستنشاق القليل من الهواء، هيا لنعود إلى العمل.

أمسكتها من ذراعها ودفعتها برفق لتسير إلى الأمام، ففعلت بصمت دون أن تسأل.

❈-❈-❈

عندما عُدت إلى الفندق لم يكن هناك أي ظهور لكارين، بحثت عنها بعيني فعادة تكون متفرغة في هذا الوقت من اليوم ولكنها لم تكن موجودة، أجاب مانويل عن تساؤلي الصامت:

- ذهبت لتتنزه في القرية.

نظرت له بانتباه وأومأت بصمت، توجهت نحو السلم ولكنه أوقفني قائلًا:

- مهلًا لقد وصلتك رسالة صباحًا.

قال سريعًا ليمنعني من المتابعة، تنهدت وعُدت إلى مكتب الاستقبال وخذت الرسالة من بين يده ولكن قبل أن أبتعد أمسك بيدي وقال:

- هل يمكننا أن نتحدث قليلًا؟

حاولت أن أنزع يدي من قبضته وقُلت بارهاق:

-مانويل أنا متعبة.

تنهد وترك يدي بينما قال باستسلام:

- حسنًا استريحي وعندما تصبحي أفضل حالًا سنتحدث.

نظرت له برجاء وقُلت أغرب شيء قد يُقال في هذا الموقف:

- لماذا تستمر في معاملتي بتلك الطريقة؟

ربت على يدي الموضوعة على المكتب وقال برقة:

- نتحدث في هذا الشأن في وقت لاحق.

ترقرقت الدموع بعيني وأنا لا أعرف السبب، ربما لأني أرهقت أعصابي، لم تكن مواجهة ستيفان سهلة، وكذلك مقابلة مانويل، لعبت المشاعر المتناقضة دورها في ارهاقي، والآن أقف عاجزة لا أعرف ما أفعل سوى البكاء للتعويض عما أشعر به، البكاء كان بمثابة علاج لي في تلك اللحظة، شيء أجدد به روحي.

سمعت مانويل يلعن بخفوت ويستدير حول المكتب، وقف أمامي وقال بجدية:

- هل تريدين تفسير؟

مسحت الدمعة التي سقطت دون أن أشعر وهززت رأسي بمعنى نعم، لم أرفع نظري لأقطع التواصل البصري بيننا، ولكن جائتني نبرته الجادة وهو يجيب:

- حسنًا دعيني أسألكِ شيئًا أولًا.

- تفضل

همست متنهدة وانتظرت سؤاله الذي سأله بعد صمت قصير:

- ماذا يفعل الرجل الذي يجد نفسه منجذب لفتاة بشدة ويهتم لأمرها كثيرًا؟

رفعت رأسي أنظر له بتعجب وأنا لا أفهم ما سبب سؤاله هذا ولماذا يسأله الآن، وقبل أن أستفسر عن السبب قال:

- عندما تجدين الإجابة نتحدث، الآن اذهبي لترتاحي قليلًا.

تركته والمزيد من الأسئلة تدور برأسي، اللعنة عليه جعلني أفكر أكثر من السابق، الآن رأسي ستتخلى عني من كثرة التفكير ولا ألومها، تجولت في غرفتي ذهابًا وإيابًا وأنا أفكر، لماذا كل شيء يتطلب التفكير؟ لماذا شعرت كأن أحدهم يعتصر قلبي؟ هل يتحدث عن نفسه؟ ولكن من التي يعنيها؟ ولماذا يسألني أنا؟ الكثير من الأسئلة بلا إجابة، ولكن ما أخرجني من بؤرة أفكاري هي تلك الرسالة التي بين يدي، ليست من عائلتي فأنا أهاتفهم بشكل يومي، قلبت الرسالة لأجد اسم ميلاني مكتوب عليها، ابتسمت بخفة وجلست على فراشي، فتحت الرسالة أقرأ خط ميلاني المنمق:

« عزيزتي دافني

أعتذر عما فعلته بآخر لقاء لنا، وعن تجاهلي لاتصالاتك، ولكن كانت حالتي ترثى لها ولم أستطع أن أتحدث مع أحد.

وسأخبرك القليل عما حدث لي لأني بحاجه لأن أتحدث مع أحد، لقد كنت في حالة من الضياع، لا أفهم شيء ولا أستوعب شيء، فبعد رحيل أبي لم يتبقَ لي سوى أمي، فشقيقتي الوحيدة مشغولة بحياتها وأبنائها، لقد تحدثتي مع أحد أبنائها قبلًا، على أية حال ما قصدت قوله أنني بدون أمي سأصبح وحيدة في العالم، ويمكنني أن أخبركِ أن مجرد التفكير في هذا الشعور جعلني أختنق، كنت قبلًا أظن أنني أستطيع أن أعيش وحيدة ولكن عندما تعرضت لهذا الموقف وعرفت كيف هو الشعور بالوحدة لا أريد أن أحياها مجددًا، اكتشفت أنني أضعف من أن أواجه هذا العالم وأنا وحيدة، كانت تلك الأفكار تدور برأسي في اللحظة التي علمت بها بمرض أمي، ولم أظن أبدًا أنني قد أفكر بتلك الطريقة ولكني الآن أفكر بشكل جدي بالزواج، ألن يكون هذا جيدًا؟ أن يكون لي زوج محب وأطفال مشاكسين يركضون بكل مكان، فكرة لطيفة بحق، فأنا قد أدركت أن أمي لن تعيش إلى الأبد وسرعان ما ستلحق بأبي، وأنا لن أستطيع مواجهة هذا بمفردي، سأحتاج إلى شخص أستند إليه، وعناق أبكي فيه، ما رأيكِ في هذا الشأن؟

أوه لقد تحدثت كثيرًا عن نفسي ونسيت أسأل عنكِ، كيف حالكِ؟ أخبرني ريتشارد أنه أقنعكِ بالعمل بالمستوصف، أنا سعيدة بهذا الخبر، هذا سيبعدك عن أفكارك السلبية التي أتمنى أن تتخلصي منها، في هذا الشأن هل استطعتِ تخطي أمر ستيفان هذا؟ آمل أنكِ استطعتِ، راسليني في أقرب وقت.

تحياتي

ميلاني ب. »

ابتسمت وأنا أغلق الورقة، وقررت أن أهاتفها لأتحدث معها قليلًا، ولكن سأخذ حمامًا يريح أعصابي أولًا.

❈-❈-❈


قررت أخيرًا أن أذهب لتناول العشاء في غرفة الطعام، يكفي ثلاثة أيام من التهرب، على أية حال لقد واجهت ستيفان مرة بالأمس ولم أشعر بشيء، لهذا لا بأس من تناول الطعام في نفس الغرفة التي يجلس فيها ستيفان وزوجته، على الأقل هذا لن يجعله يظن أنني جبانة وأتهرب منه، أنا أفهم طريقة تفكير ستيفان وأعرف أنه سيفكر بتلك الطريقة.

حرصت على أن أظهر بمظهر أنيق الليلة، فارتديت فستانًا بلون الفيروز بلا أكمام نظرًا لحرارة الطقس اليوم، انتعلت حذاء بلا كعب ونثرت عطري المفضل، شعرت بالانتعاش، وكأنني عُدت دافني القديمة، أنا بالفعل عُدت، أتحدث بحرية مع الغرباء مثل السابق، عاد لي حبي وشغفي لمهنة التمريض، تخطيت ستيفان ولم أعد أشعر بشيء تجاهه، ومظهري في تلك اللحظة جعلتني أعود بالذاكرة إلى حفلات الشواء التي كان يقيمها أبي والتي كنت أرتدي بها واحد من فساتيني التي أختارها بعناية، ابتسمت بزهو معجبة بنفسي وأنا أهبط السلم، دلفت الغرفة لأجد ستيفان وزوجته يجلسان على أحد الطاولات، كان يوجد عددًا جيدًا من الضيوف بالغرفة ولكن بسبب مساحة الغرفة الواسعة لم يبدُ عددهم كثير، جلست وحيدة على الطاولة الاعتيادية بجانب الشرفة، قُدم العشاء وتناولته بشهية لم تزورني منذ وقت طويل.

بعد الانتهاء من العشاء لم أحبذ أن أحتسي القهوة، دلفت إلى الشرفة ولكني لم أشعر بالخصوصية بسبب تواجد الكثيرين بها، هبطت الدرجات القليلة وسرت في الظلام على الحشائش الرطبة.

- ليلة مليئة بالنجوم.

سمعت صوتًا مألوفًا يأتي من خلفي فاستدرت لأجد مانويل يتأمل السماء، ابتسمت وأنا أراه يتقدم ليسير بجانبي وقُلت:

- في وقتك دائمًا يا مانويل.

نظر لي بعبث وقال:

- لماذا هل تشعرين بالوحدة؟

أومأت مجيبة وأنا أتابع سيري، بينما قال برقة:

- أنا متواجد في أي وقت.

تنهدت بنفاذ صبر وغمغمت متهكمة:

- ذلك اللطف مجددًا.

أجاب بتلقائية:

- أنتِ لم تعطيني إجابة على سؤالي؛ لهذا لن أتوقف عن التصرف بتلك الطريقة ولن أفسر لكِ السبب.

أخذت نفسًا عميقًا بعد أن شغلت تفكيري بهذا السؤال النهار بأكمله وقُلت:

- الإجابة هي أن يعترف لها بما يشعر، إن كانت تهمه بالفعل، فالفتاة لن تقرأ أفكاره لتعرف أنه يهتم بها ويحبها.

ابتسم وقال:

- إجابة منطقية.

صمت انتظر إجابته وكبريائي منعني أن أسئله مرة أخرى، ولكن بدلًا من أن يجيبني سألني سؤال آخر:

- هل لكِ علاقة بستيفان هذا؟ لا أريد أن أكون متطفلًا ولكني لاحظت أنه ينظر إليكِ كما لو كان يعرفكِ.

زفرت بقوة وسردت له باقتضاب شديد:

- أجل نحن على معرفة، كان والده صديقًا لوالدي وقد ترعرعنا معًا، عندما كبرنا عُقدت خطبتنا ومن بعدها حدثت عدة مشاكل بسبب أنه كان يغازل الكثيرات، وانتهت بأنه ما عاد يطيق تلك العلاقة وقام بهجري، والآن هو متزوج فقط.

صمت مانويل طويلًا وكأنه يحترم أنني أبحت له بشيء شخصي كهذا، لم أعترض على صمته فقد كنت أشعر بالضيق، لأنني شعرت أنني مغفلة حمقاء صدقت جميع أعذاره الواهية.

توقف مانويل بعد دقائق من الصمت وقال:

- حسنًا الآن أفهم كل شيء، لا أستطيع مواساتكِ بالكلمات لأني لست جيدًا في تلك الأشياء لذا..

بتر عبارته ثم عانقني ودفن رأسي في صدره في حركة فجائية وقال:

- ربما هذا يجعلكِ أفضل حالًا.

كان محقًا، أردت عناق كهذا أدفن فيه نفسي وأنسى كل شيء، حاوطت ظهره بذراعيّ، دفنت وجهي في كتفه وأغمضت عينيّ، زفرت براحة وأنا بين ذراعيه، شعرت أنني أتلاشى وأختفي داخل جسده، تمكنت من اشتمام رائحة عطره وسمعت دقات قلبه المنتظمة، كان عناقًا مواسيًا ربت على قلبي وأزال عنه وحشة الوحدة، فصلنا العناق بصمت وحاولت ترتيب شعري الذي تبعثر.

عدنا للسير في الظلام نتأمل النجوم المتألقة في السماء، عندها قال مانويل:

- هل تستطيعي مساعدتي في أمر ما؟

-نظرت له مستفسرة لأحثه على المتابعة، فقال:

- الأسبوع القادم عيد ميلاد كارين، اتفقت أنا وعمها أن نقوم بشيء يفاجئها وبما أنه سيكون في عطلة نهاية الأسبوع، هل تستطيعين أن تساعديني في التحضيرات؟

أومأت بابتسامة خفيفة قُلت:

- أرى أنك تهتم بصديقتك الصغيرة.

- إنها فتاة طيبة، تذكرني بشقيقتي الصغرى.

- جميل

همست وعُدت أراقب النجوم ولأول مرة أبهر مظهرها، فأنا لم أعتد على أن أراقب النجوم وأعجب بيها.

وفي حركة متهورة خلعت حذائي وجلست على العشب رغم معرفتي أن الفستان سيتسخ ولكني لم أهتم، فعل مانويل المثل وجلس بجانبي، فقُلت:

- ستتسخ ملابسك هكذا.

أشاح بيده بحركة تنم على عدم اكتراثه وقال:

- اعتدت أن أجلس أنا واخوتي في حديقة منزلنا الصغيرة ونشاهد النجوم والشُهب.

- إذًا هذا يبعث في نفسك العديد من الذكريات الجميلة.

أومأ وعم الصمت إلا من صوت الحشرات والضفادع حتى قطعه مانويل وهمس:

- إنها ليلة جميلة، كل شيء فيها مثالي.

وقد كان محقًا بالفعل.

❈-❈-❈

استيقظت في اليوم الذي تلاه منتعشة وكأني وُلدت من جديد، كان من الجيد أن أكون دافني، أجل تلك الفتاة الساذجة التي تدمرت حياتها بسبب علاقة فاشلة، تلك الفتاة التي تركت وطنها وعائلتها لتنسى وتتخطى ما حدث لها، تلك الفتاة عديمة الخبرة، كان من الجيد أن أكون تلك الفتاة، أنا أحبها وأحب عيوبها، وأتقبل جميع أخطائها، يبدو الأمر مريبًا قليلًا ولكني بالفعل أحبني، وفي هذا الصباح الهادئ الذي أتى بعد أمسية لطيفة كان عليّ الاعتراف بهذا، كما كان عليّ الاعتراف باشتياقي لعائلتي ووطني، فأفكر في عدد الاشخاص الذين يغتربون ويتركون وطنهم وأهلهم مكسوري الفؤاد في رحلة طويلة من النسيان، ويمكنني الجزم أنهم كُثر، لقد رأيت المئات منهم بوطني، الوطن؟ إن الوطن يحتضن أولاده الغير راضين عن حياتهم به ومكسوري القلب برحلة النسيان والذين بتلك الحالة يُعرفون باسم السائحين، إن تأملنا هذا الهيكل الذي يسمى وطنًا، بكل حيادية وبدون خيال أو مشاعر شخصية سنجد ألا أحد يكترث حقًا للوطن مهما كان موقعه ومساحته، لا أبنائه الذين يدافعون عنه ويمجدونه بالأناشيد والشعر ولا السياح الذين يدعون اهتمامهم الشديد بحضارة تلك البقعة من الأرض، ولكن رغم هذا أنا أشتاق إلى تلك البقعة من الأرض التي ترعرعت بها.

تنفست بقوة ونهضت من فراشي لأستعد للذهاب إلى العمل، لا وقت للتفكير والمشاعر الآن.

❈-❈-❈

انتهى دوام العمل سريعًا، لم أشعر بالارهاق اليوم بل على العكس، أخذت أسير عائدة إلى الفندق في خطوات رشيقة، ارتسمت ابتسامة خفيفة على فمي عندما تذكرت أنني كنت أسير بتلك الطريقة عندما كنت بالثانوية، كانت أيامًا جميلة بحق.

عندما دلفت إلى الردهة اختفت الابتسامة عن وجهي واحتل التعجب ملامحي، تقدمت بضعة خطوات لأري ستيفان يجلس على الأريكة يتحسس وجه المتورم بألم، تجلس بجانبه زوجته ويقف أمامه رجل وإمرأة غريبان وبجانبهما كارين التي نظرت لي ما إن دلفت.

❈-❈-❈

كنت قد شاهدت كل شيء قبل قدوم دافني، كنت أعمل كعادتي بالمطبخ حتى سمعت أصوات صاخبة وكأن هناك شخصان يتجادلان، فخرجت من المطبخ لأرى ما يحدث، وجدت مانويل وذلك الضيف الجديد يتحدثان بحدة عن شيء لم أستطع تمييزه، ازداد النقاش حدة فقام ذلك الضيف بدفع مانويل لينهال عليه مانويل باللكمات، وبعد عدة لكمات تركه ملقى فوق الأريكة وتوجه نحو الشرفة، في تلك اللحظة وصل عمي وزوجته التي قالت ما إن رأتني:

- ماذا حدث كارين؟

رفعت كتفيّ وأخفضتهما دليل على عدم معرفتي، فتوجهنا ثلاثتنا نحو ذلك الضيف الذي جلست زوجته بجانبه وأخذت تصيح وتنوح.

وبعد الكثير من الصمت الذي كسره صوت نواح تلك السيدة المزعج، بينما رفض الضيف التحدث في هذا الشأن وأصر على أن يتم طرد مانويل لتعديه عليه بالضرب، وبعد حديث قصير مقتضب بينه وبين عمي عم الصمت مجددًا حتى أتت دافني لتكسر حدة الأجواء، نظرت للجميع بتعجب فقررت أن أخرج عن سكوني وأقوم بشيء ما، اقتربت منها واخذتها في إحدى الممرات بعيدًا عنهم وقُلت:

- لقد حدث شجار بين هذا الضيف ومانويل وانتهى بلكم مانويل له، لا أحد يعرف السبب فالضيف يرفض أن يقول أي شيء ويصر على أن يتم طرد مانويل.

حدقت فيّ دافني ببلاهة وقالت:

- ألا يمكننا بكل بساطة أن نسأل مانويل عما حدث؟

- لا أحد يحب أن يقترب منه وهو غاضب.

زفرت بقوة وعقدت ذراعيها أمام صدرها، كان الوضع بأكمله غريب وشعرت أن هناك شيء لا أعرفه يحدث بين مانويل ودافني وهذا الضيف، لهذا جعلتها تعرف ما حدث، أو ما نعرفه نحن على الأقل.

- حسنًا عليّ الذهاب إلى عمي لنسوي أمر هذا الضيف.

كانت تقف شاردة ولم تستمع لعبارتي الأخيرة على أية حال، لذلك انصرفت دون أن أتفوه بشيء.

❈-❈-❈


هل على ستيفان اللعين أن يفسد يومي دائمًا؟ لقد كان اليوم جيدًا وهادئًا حتى أتى ستيفان وعكره كصوت الغراب المزعج في أول النهار، تُرى ما الذي حدث بينه وبين مانويل؟ هل عليّ أن أذهب إلى مانويل وأسأله؟ أجل، ولكن ماذا عن تحذير كارين؟ أشعر أنها تُبالغ قليلًا، ربما عليّ فعلًا أن أتحدث معه أعرف ما الذي حدث.

توجهت بخطوات بطيئة إلى الشرفة حيث يقف مانويل وقفته الاعتيادية مستندًا إلى الباب الزجاجي، اقتربت بحذر ووقفت خلفه، وضعت يدي على كتفه فاستدار ليرى من خلفه، وعلى عكس ما أوهمتني به كارين بدا هادئًا وغير مباليًا، نظر إليّ متسائلًا، فنظفت حلقي وقُلت:

- سمعت أنك قُمت بضرب ستيفان.

قلب عينيه بملل وأومأ موافقًا، ثم عاد لوقفته الأولى وأعطاني ظهره، استدارت لأقف أمامه وقُلت بخفوت:

- ولكن لماذا؟

رفع كتفيه وأخفضهما وأجاب:

- كان متكبرًا وعاملني وكأني عبد له، لهذا استحق ما تلقاه.

- في هذه الحالة أنت محق.

رفع إحدى حاجبيه باستنكار وسأل:

- في هذه الحالة؟ هل أتيتي إلى هنا لتحاسبينني عما بدر مني؟

حدقت به بدهشة وأنكرت بقوة:

- كلا بالطبع، هل أنا ولية أمرك؟

- ليس هذا المقصد الوحيد من حديثي.

ضيقت عينيّ وأنا أنظر له، أحاول أن أفكر في قصده، ولكنه اقترب مني خطوتين وسأل:

- هل ما زلتِ تحبينه؟

- لا

أجبت هامسة، لا أفهم سبب هذا السؤال في هذا الوقت تحديدًا، والذي كان سيثير الكثير من الأفكار برأسي لولا أنه أخرجني من دوامتي وقال:

- هل هذا يعني أن في استطاعتكِ دخول علاقة جديدة؟

ذُهلت للحظة من سؤاله وبقيت أحدق فيه بأعين متوسعة دون أن أتفوه بشيء كأن لساني قد شُل، وعندما وجد الصمت يلازمني قال:

- هل تذكرين عندما سألتك عما إذا كان هناك رجل معجب بفتاة ما ماذا يفعل؟

أومأت بصمت، فتابع:

- عندها أجبتِ بأنه يتعين عليه الاعتراف لها بهذا، أليس كذلك؟

أومأت مجددًا، فقال:

- حسنًا أنا هذا الرجل وأنتِ تلك الفتاة.

شعرت بالاختناق، وكأن هناك من يسحب الأكسجين من رئتي وقبل أن أستطيع أن أهرب وجدته يمسك يديّ ويقول:

- أعلم أن في حالتكِ تلك لن يكون القرار سهلًا، لهذا سأتركك تفكرين جيدًا الأمر وسأنتظر.

مجددًا يستخدم تلك النبرة اللطيفة التي تجعلني أشعر بازدياد ضربات قلبي، أردت الهروب حقًا، وبالفعل عندما ترك يديّ ركضت نحو غرفتي.

❈-❈-❈

- متى ستعودين عزيزتي؟

كان هذا السؤال من أمي على الطرف الآخر من الهاتف، كان قد مر يومين منذ ما حدث بيني وبين مانويل شغلت نفس بهما في العمل حتى كنت أعود في الليل مرهقة تحلم بأخذ قسطًا من الراحة، استيقظت من أفكاري على صوت أمي فجفلت وأجبت:

- لا أعلم أمي.

صمت للحظة ثم عُدت أقول بنبرة قاتمة خالية من الحياة:

- صحيح هل تعلمين أن ستيفان تزوج؟

تنهدت أمي وقالت:

- أجل أعلم، دافني أنتما لم تكونا جيدين معًا، هذا كان مجد حلم عابر بين والدكِ ووالده ولم يتحقق فقط.

صحت باستنكار:

- أمي هل تدافعين عنه بعد كل هذا؟

- إلهي، لم أقصد هذا، أردت فقط أن أهون عنكِ.

زفرت بتعب وقُلت:

- زدتِ الطين بلة.

- لا تحزني عزيزتي ستتخطينه سريعًا حتى يصبح اسمه بالنسبة إليكِ مثل اسم أي غريب.

- آمل هذا حقًا.

انهيت المكالمة ووضعت سماع الهاتف في مكانها، وقبل أن ابتعد كان مانويل -الذي كنت اتهرب منه- قد عاد للجلوس خلف مكتب الاستقبال وهو يرمقني بنظرة لطيفة، أعلم أنه ينتظر مني إجابة، وأنا بالأصل بحاجه إلى إجابة على سؤال سؤال راودني طيلة اليومين الماضيين، لهذا أخذت خطوتين بشكل عامودي لأقف أمامه مباشرةً وقُلت:

-بما إنك تنتظر ردي هل يمكنني أن أسألك في ذا الشأن؟

هز رأسه موافقًا، فأخذت نفسًا عميقًا محاولة استجماع شجاعتي ومنع نفسي من الهرب إلى غرفتي، هذا وقت المواجهة أمامكِ قرار مصيري عليكِ اتخاذه دافني! صحت في نفسي داخليًا فوجدتني أقول فجأة:

- ما الذي جعلك تعترف بشيء كهذا الآن؟ أعني لماذا اخترت هذا الوقت تحديدًا؟

تنهد واعتدل ف جلسته بهيئة الرثة المعتادة وأجاب بجدية:

- أخبرني ستيفان ذاك أنكِ على وشك الرحيل وأن والدتكِ قد اقنعتكِ بالعودة.

- فشعرت أنك ستخسرني إن لم تعترف لي بمشاعرك؟

أكملت بدلًا عنه بنبرة متسائلة، فأجاب:

- أجل شيء من هذا القبيل.

في تلك اللحظة ظهر ستيفان وزوجته يحملان متاعهما ويتوجهان إلينا حيث مكتب الاستقبال وقالا في صوت واحد:

- سنرحل اليوم.

تركت مانويل مشغولًا معهما وصعدت إلى غرفتي لأجمع شتات عقلي، كنت حائرة، تائهة، وفاقدة لبوصلتي، تلك البوصلة التي تساعدني على اتخاذ القرارات، ولكن الآن ولسبب مجهول أشعر أنني لم أمتلكها يومًا، استلقيت فوق فراشي لأريح جسدي المرهق من العمل، إذًا مانويل اعترف لأنه ظن أني راحلة، وظن هذا الظن لأن ستيفان أخبره أن أمي تحاول إقناعي بذلك، وأمي بالفعل تخبر والدة ستيفان بكل شيء ومؤكد هو علم منها، وهذا يعني أنه قد أتى إلى هنا عن قصد لإغاظتي ليس أكثر، لتحل لعنة الله عليه!

ولكن بالعودة للتفكير في مشكلتي فلا يسعني قول الكثير، إن مانويل يُعاملني بلطف بالفعل، ولكنه يُعامل كارين بنفس الطريقة، وكذلك كان يفعل مع ميلاني، هذه هي طبيعته بالأصل وهذا يجعلني أشعر بأنني لست مميزة، إضافة إلى ذلك أنا لا أشعر بأنه يكن تجاهي أي نوع من المشاعر، لا أثق فيما يشعر به حقًا وأشعر بهالة من الغموض تحيط به وهذا يزعجني، شيء في داخلي يقول أنه لم يتفوه بتلك الكلمات إلا عندما أدرك أنني راحلة بالفعل، ولكن فقط لأنه يريد علاقة عابرة تنتهي عند رحيلي، لا يريد حبًا مستقرًا وشبه أبدي، هذا ما أشعر به حياله، كما أنني خائفة، خائفة من التورط في علاقة مع شخص لا أعرف عنه سوى القليل، لقد أخبرني الكثير عن عائلته وعن طفولته ولكن ماذا عن حاضره؟ أنا لا أعرف شيئًا عن مانويل الحالي، وهذا مقلق، غير أنني خائفة من كوني لم أتخطى علاقتي السابقة، أنا في فترة النقاهة وهذا يجعلني حساسة بشدة وأقع في حب أي مذكر كمراهقة طائشة، صحيح أنني أشعر بمشاعر تجاهه ولكني أرى أننا لم نأخذ وقتًا كافيًا لتكون مشاعرنا تجاه بعضنا البعض قوية، جميع تلك الأشياء بمثابة أعلام حمراء تحذرني من تلك العلاقة، كلا لا أستطيع أن أدخل تلك العلاقة أو أي نوع من العلاقات حاليًا، أنا بحاجة للمزيد من الوقت مع نفسي، وهذا يعني أنني سأبتعد عن مانويل حتى أتمكن من إيجاد نفسي ومعرفة من تكون، بالأحرى سأعود إلى وطني، سأتحدث مع مانويل في هذا الأمر غدًا وأخبره قراري، ولكن الآن سأنام قليلًا لأريح جسدي.

حاولت النوم كثيرًا ولكن لم أستطع، الأفكار تحاصر عقلي، ومخاوفي تزداد، كان الانتظار بضعة ساعات أخرى حتى يأتي الصباح يبدو أمرًا مستحيلًا، فأنا كلما غفوت راودتني الأفكار حول ما سأفعله غدًا، رتبت ما سأقوله بعناية ولكني شعرت أن هناك شيء ناقص أو ربما نسيت شيئًا ما لا أعلم ما كنهه، كنت غارقة في محيط عقلي المظلم حتى لم يبدُ لي نجاة إلا بالرحيل غدًا، لهذا انتفضت ونهضت من فراشي عازمة على إنهاء كل شيء اليوم والرحيل غدًا، أنا لن أستطيع الصمود ليوم آخر مع تلك الأفكار، ربما أجد السكينة في بيئة أخرى، وسعيت لتنفيذ تلك الفكرة لإيماني بها، فانتعلت حذائي المنزلي وخرجت من غرفتي مرتدية رداء النوم الفضفاض والطويل وتوجهت نحو غرفة كارين، طرقت لباب عدة مرات حتى فتحت كارين بملامح ناعسة وشعر أشعث نتيجة للنوم، نظرت لي متسائلة، فقُلت:

- كارين هل تمانعين إن تغيبت عن حفل عيد ميلادك؟

نظرت لي ببلاهة للحظة تستوعب ما قُلته، ثم قالت بخفوت:

- دافني هل أيقظتيني بالثانية صباحًا لتسأليني سؤال كهذا؟ 

تنهدت لاعنة نفسي داخليًا، هي محقة أنا غبية عليّ أن أوضح لها الأمر، فقُلت:

- سأرحل غدًا يا كارين.

- لماذا هل حدث ما يضايقكِ؟

مسمت بكفي على وجهي وأجبت:

- كلا، ولكني اشتقت إلى عائلتي وقد أقنعتني أمي بالعودة.

تنهدت كارين وقالت:

- حسنًا في هذا الشأن لا يسعني قول الكثير، ولكني سأشتاق إليكِ صديقتي المؤقتة.

ابتسمت بتأثر وعانقتها مودعة وأنا أهمس:

- لست مؤقتة، سأعطيكِ عنواني ولنتبادل الرسائل ويمكننا التحدث عبر الهاتف.

أومأت كارين وهي تفصل العناق وتقول:

- لا يسعني التفكير سوى أن هناك خطب ما بكِ، ولكني سأنتظرك لتخبريني في رسائلكِ ومكالماتك.

ابتسمت قُلت بامتنان:

- شكرًا لكِ كارين، شكرًا على كل شيء.

وهكذا ودعت كارين وتوجهت نحو المواجهة الأصعب، مانويل، كنت أسير قدمًا تؤخر الأخرى، لا أريد أن أواجهه، أن أخبره أنني أرفضه، لا أتخيل كيف ستكون النظرة على وجهه، وكيف سيشعر داخل أعماقه، كان التخيل يقتلني ببرود، وهذا ما حثني على التقدم حتى أقطع الشك باليقين، وقفت أمام غرفته لكثير من الوقت مترددة، وبعد أن استجمعت شجاعتي طرقت الباب طرقات خفيفة تكاد تُسمع، وبعد دقيقة فُتح الباب وأطل وجه مانويل الذي لم يكن يبدو عليه آثار النعاس، نظر لي بتعجب فقُلت:

- أتيت للتحدث معك في أمر ما.

اتع عن الباب ليفسح لي الطريق للدخول، دخلت بخطوات مترددة بينما كنت في مواجهة عينيه المتسائلتين، أخذت نفسًا عميقًا وقُلت:

- لقد أتخذت قراري في أمرنا، أمر علاقتنا.

هز رأسه بصمت يحثني على المتابعة، فهمست:

- لا أستطيع، لا يمكنني.

صمت ولم يعلق، كانت ملامح وجهه لا توحي بشيء، ولكن عينيه قالتا الكثير، كانتا تصرخان بلماذا في صمت، ولكنه منع صوت صراخهما من أن يصل إليّ، شعرت بالسوء حياله وأنا أتخيل أنني دمرت شيء في داخلي، وأردت لو تنشق الأرض وتبتلعني، أو ربما تمنيت لو لم أحب ستيفان، أو لو لم أولد، ولكن كل هذا حدث بالفعل وعليّ التحكم بنفسي لأخر ثانية.

قال بعد وهلة من الصمت:

- هل يمكنكِ إخباري لماذا؟

تنهدت وأجبت:

- لأني لم أشفى بعد من علاقتي السابقة.

- ألم تخبريني أنكِ توقفتي عن حبه؟

كانت نظرته تقتلني، تعتصر قلبي وتضيق الخناق على رئتيّ، الشعور بالذنب وتأنيب الضمير يلاحقانني ولكني تماسكت وأجبت:

- أجل ولكني ما زلت خائفة، وما زلت في حالة لا تسمح لي بدخول علاقة جديدة.

زفر بقوة وصمت يدور في الغرفة مفكرًا ثم توقف وقال:

- إذًا ماذا؟

اقتربت منه وأمسكت يديه، نظرت له بأمل وقُلت:

- هل يسعك انتظاري حتى أشفى؟

احتوى يديه بين يديه وضغط عليهما عدة مرات وهو يقول:

- هل ما زلتِ تشكين في هذا؟

صمت ولم أجب وهو لم يطلب الإجابة، بل فقط أسند جبينه فوق جبيني وأغمض عينيه، أغمضت عينيّ بدوري لأحفر تلك اللحظة في رأسي مستخدمة قلبي المضطرب لا عيناي، تلك اللحظة حين دلفت نسمة صيفية لطيفة من نافذته واصطدمت بنا بينما وقفنا صامتين، ممسكين أيدي بعضنا البعض في وضعية أقرب للعناق، ستظل تلك اللحظة محفورة في رأسي حتى مماتي، حتى همست دون أن أفتح عينيّ:

- أنا سأرحل غدًا.

تمتم بانزعاج:

- هل عليكِ هذا حقًا؟

فتحت عينيّ ونظرت له وأجبت:

- أجل، أريد أن أبتعد عنك حتى أجد ذاتي، حتى أعرف من أنا، وحتى أتمكن من التعبير عن حبي لك بالطريقة الصحيحة، عندما أكون متأكدة من كل شيء.

ابتسم بخفة ابتسامة بائسة لم تصل إلى عينيه وقبل جبيني وقال:

- لا يمكنني منعكِ، أنا لا أريدكِ أن تكوني تائهة ولن أسمح بأن تكوني تابعة لي، عليكِ أن تحصلي على كيانكِ الخاص واستقلالكِ، لا أريدكِ أن تشعري أنكِ بسجن في كل مرة تكونين فيها معي.

ابتسمت وأنا أحاول ألا أبكي، نفس ابتسامته البائسة وعانقته، كان عناق الوداع قد شعر كلينا أننا لن نرى بعضنا البعض مجددًا ولكننا حاولنا إنكار هذا، حاولنا أن نتمسك بالأمل ونرى الخيط الرفيع المنير في وسط العتمة، كان عناقًا حميميًا مثل ما يكتبون عنه في الروايات والمسرحيات، عناق رومانسي في الظاهر وحزين كئيب في الباطن.

ما زلت أذكر تلك الليلة وكأنها حدثت بالأمس، وأنا أجلس الآن وأدون عنها في مذكراتي وكأني أسردت شيء ممرت به أمس أو ربما منذ عدة أيام، ليس منذ عام، كان من الصعب قول أنه قد مر عامًا على تلك الليلة التي ما يزال قلبي محتجز فيها، ما زلت أذكر اليوم الذي تلاها عندما أرسلت رسالة إلى ريتشارد أخبره أنني سأترك العمل لأني سأعود إلى بلادي، ورسالة أخرى أودع فيها إيميلي، ثم أعطيت عنواني ورقم هاتفي لكلا من مانويل وكارين ورحلت، لحسن حظي أني وجدت وسيلة للعودة في ذلك اليوم، ظللت أنا وكارين نتحدث حتى يومنا هذا التي عملت بجد حتى أصبحت من أشهر الطهاة الألمان وانتقلت إلى العمل في برلين، كذلك ميلاني التي تزوجت وأنجبت فتاة تشبهها كثيرًا، حدث الكثير في هذا العام، تمكنت من معرفة من أكون وماذا أريد وعملت على أن اطور من مهاراتي في عملي وتمكنت من تخطي أمر ستيفان، شفيت تمامًا وعاد الاستقرار إلى حياتي لتعود كما آلفتها وكم كان هذا مريحًا، لقد كنت ألعن الروتين سابقًا، ولكن بعد ما حدث بالعام الماضي أنا لم أعد أريد شيئًا في تلك الحياة سوى روتيني القديم الاعتيادي، ورغم انقطاع التواصل بيني وبين مانويل، اشتقت إليه كثيرًا، ولكن كلانا كان ملتزمًا بجانبه من الاتفاق، هو ينتظرني حتى أشفى وأنا انتظره حتى يأتي إليّ، والآن وأنا أجلس خلف مكتبي بغرفتي المتواضعة وأنظر من النافذة المواجهة له والتي تطل على حديقة منزلنا، أرى أبي الذي يعمل في الحديقة ويهتم بالشجيرات الصغيرة وأمي التي تقدم له مشروب بارد ليساعده على العمل في هذا الطقس الحار وذلك المشهد الرومانسي بينهما، شعرت أنني يجب عليّ أن أكتب رسالة إلى مانويل، أجل لقد حان الوقت.


-تمت-