-->

الفصل الأول - مريد

 



الفصل الأول

شمس تحتضن الأفق، وخيط أبيض ينفلت إلى السكون، ونسيمٌ عليل، يحفنا بالنشوة، ويطرب قلوبنا بعبير الذكريات، يجول إلى الجميع حتى يحل ضيفاً هناك، يوقفه صفير موحش، يربك قطرات نداه، فيفر مهرولاً خلف الأسوار ليُخلف وراءه صقيعٌ يُجمد أطراف الحضور.

ربما قد اعتادوا على فراره دوماً، أجسادهم قد ألِفت ذلك الصقيع كدبٍ قطبي، يترجل فوق الثلج، دون أن تتورم أطرافه من التجمد.

كل شيءٍ مُحاوط بهالةٍ من البرودة، تدخل على القلب فتتسارع نبضاته، لا يمكن أن تفرق بين نهار وليل، ظلمةٍ لا يمكن للشمس أن تشق بنورها سوادها الشاحب، ولا أن تعيد حتى لأزهارها ألواناً طبيعية بعيداً عن أبيض وأسود كاد أن يَكُفَ أبصار الناظرين.

أسوارٌ بالية، لا يحتاج أصحابها لتمديدها أكثر من ذلك، أو حتى في التمسك بوجودها، لن يجرؤ أحد على التقدم خطوة واحدة نحوهم، هيبتهم تصد كل من يريد الاقتراب، فلن يقترب إلا من مات قلبه، أو أراد له أن يحيا من جديد.

ربما يشق ظلمة نهارها أطفالٌ تهرول مرحةً، وقرآنٌ يُتلي فيبعث في النفوس بعض الطمأنينة، ومخبوزاتٍ لا ملامح لها توزع على الحضور، وكأنها صُبغت بألا روح فيها كما أصحابها.

مريد هو طفلٌ لم يتعدى عمره أربع سنوات، يلعب كثيراً أمام منزله، يعاند والده كل يومٍ، لا ينصت إلى حديث والده بألا يفتح الباب، ويتجول بالخارج ليلاً، لديه شغفٌ أن يعرف ماذا يفعل والده حينما يخرج.

وكعادته في كل ليلة، يترجل بهدوء على أطراف أنامله، يخرج نحو الباب وهو ينظر نحو والده ليرى هل غلبه النعاس، أم أنه لم ينم، تقدم وأمسك بمقبض الباب فتحه برفق وتركه دون أن يغلقه، نظر نحو تلك الظلمة لم يأبه إليها، حاول أن يترجل نحو الباب المجاور لهم كي ينادي روضة لتلعب معه لكن صوتاً جهورياً قد ناداه بغضب

-مريد، ألم نحذرك من اللعب هنا ليلاً، أم تريد أن يصيبك الأذى.

تسمر مريد في مكانه، وصوت الصفير كاد أن يسد أذنيه، تجمد الدم في عروقه، وذهب مهرولاً إلى الداخل، دفع الباب بقوة، اندفع نحو حضن أبيه، أغلق عينيه، وهو يردد المعوذتين، يبكي بصوتٍ خافت خوفاً من أن يستيقظ والده، غلبه النعاس سريعاً كما يفعل بالأطفال.

حل الصباح وهو لازال يخشى الخروج، يقف عند الباب فيتردد صدى ذلك الصوت في أذنيه فيتراجع مهرولاً مرة أخرى، لكنه عزم على التقدم والحديث مع والده.

تقدم متردداً نحو والده، وهو جالس على تلك الأريكة المتهالكة، يتأمل تلك الزهور المنثورة أرضاً

-أبي.

-تقدم يا ولدي ماذا تريد " أمسك بيده ليتقدم فوجدها باردة، فسأله" ، ماذا بك لماذا يرتعش جسدك هكذا.

حمله على قدمه، ومريد يجول برأسه وعينيه وملامح الخوف تنبعث من وجهه، ردد بصوتٍ مرتعد

-إني آسف لأني لم أنصت إلى كلامك، ولولا صوتك وأنت تنادي علي لما عدت مسرعاً، وربما أصابني مكروه.

نظر إليه والده راضي بدهشه

-متى ناديت عليك، وكيف خرجت وأنا أغلق الباب.

-بالأمس يا أبي، حينما ناديت بصوت غاضب، وأمرتني بالدخول.

-أي أمس، لقد نمت وأنت بين أحضاني، ولم أتحرك منذ ذلك الحين

حاول أن يُخفف مما يشعر به الطفل فبدأ يداعبه

-ربما تركت لخيالك العنان، فرسم لك شخوصاً أخرى، ستصير كاتباً بارعاً أيها الولد.

كان يقولها، وقلبه يرتجف من الخوف، لكنه لا يريد أن يتسرب الخوف إلى قلب الطفل فيطلب منه الرحيل، وراضي لا يستطيع أن ينفلت من ذلك العهد الذي أقسمه على نفسه حتى مماته.

تمر الأيام على قلبه، ولا زال ينبض بالحياة لا يعكر صفوه ذلك الغبار الذي يفوح منه رائحة النهاية، لازال يراها، بنفس ابتسامتها، لازال متيقناً بأنها سبيل سعادته في الدنيا، وسبيل توبته إلى الله، ما مر بينهما ليست ذكريات، بل هي حياة يقضيها كما كانت هي، يأم بها في صلاة الفجر كما كانا، ويوقظ الصغير، يُحممه، ويبدل ملابسه، يحضر الفطور لهم، ويضع الطعام ليلتفوا حولها على الطبلية.

لا يقص على أحدٍ ما يراه حتى لا ينعته بالجنون، لعلها غابت، بل ابتعدت قليلاً كي تظل بصمتها محفورة في قلبه.

يُفطرُ قلبه حينما يسأله مَريدٌ عنها، لكنه يؤكد للطفل أنها لازالت نائمة بالداخل، لحداثة سنه يصدقه مرة، ويضحك في نفسه مرة أخرى، يتركه ويعود إل اللعب مرة أخرى.

لا يحب الضجيج، فهو يمثل له سجناً لا يريد أن يقيده، حينما يشعر بهم يقتربون، يهرول جميع أصدقائه وهو يتراجع كما أمره والده، يعود إلى الخلف حيث باب منزلهم الصغير، حتى ينفضَ الجميع، ينظر إلى تلك الحلوى التي في أيدي الأطفال ويترقب والده من بعيد، ينتظر أبيه ماذا سيفعل ابنه.

فيبعد مريد أيديهم المليئة بالحلوى بعيداً، ويظل يلعب حتى ينهك جسده الضئيل، ويعود أدراكه بين أحضان أبيه مرة أخرى، لم يجد الطفل طريقة أخرى يعبر بها عما يريد معرفته سوى اللعب، الانصهار بين الجموع، وبذل مجهود مضني، حتى لا يأتي عليه الليل فيفكر، ترك ذلك الصراع ربما للمستقبل القريب، والآن ظل الانتصار للنوم فقط.

انهمك جميع زملاؤه في اللعب وفي الحلوى، وظل هو ينصت بإمعان لذلك القرآن الذي يُتلى أمامه كل يوم، يشعر حينها بأن عيناه تغلق، وكأن روحه تسرح بعيداً، لكنه يبتسم بثبات ويردد عن صدر قلبٍ ما يتلى حوله.

لم يقص مريد ما كان يشعر به، ظن أنه مجرد وهم أحاط به، أكمل لعبه بين الأطفال كعادته وغلبه النعاس بين أحضان أبيه، يتجافى جنبه عن مضجعه، يتقلب يمنة ويسرى، يتعرق بشدة، ينتابه نوبة من جسدٍ مقيد لا يمكنه التحرك، لكنه قلبه يردد قبل لسانه أواخر سورة البقرة، فبدل لسانه نهاية الآية الأولى ليجد صوت ولده يردد بجانبه " فيغفر لمن يشاء، ويعذب من يشاء والله على كل شيءٍ قدير"، حتى نهاية السورة.

انفكت قيود جسده وانصعق حينما نظر إلى وجه الطفل ليجد النوم يغمره بين سكونه، جافاه النوم، فجلس مستنداً على الجدار المجاور للسرير يتأمل طفله في عجب.

-أيعقل أنه مُنِحَ بعضاً منها، كيف، ومتى في هذا السن، هل يعلم ما قد حل به، وهل بإمكانه تحمل تلك الهبة، كاد رأسي يُجن، كلما فررت من هاوية التفكير، تعود بجاذبيتها لتحاصرني مرة أخرى، لا تمل من انهاكي، لم تتركني لما أراه نائما ومستيقظاً، لا ترى بأنه يكفي ما يحل بي، والله لو صُعِقَ به شخصاً آخر لفقد عقله.

رفع بيده الغطاء، وتنحى عن مكان نومه، ينظر لطفله بحسرة، تغلب عليه ذلك الشعور وكأنه يحيا بسجن مكبل اليدين، يُخيل إليه بأن طفله يُعَذَبَ كُلْ يوم، وهو تحفه الملائكة، نيران تحيط بهم من كل جانب، وأفاعي فحيحها يصارع صوته نبض القلوب.

أمسك بقُلة شرب بنهم، كأنما لم يشرب منذ زمن، وضعها جانباً، وجلس على ذلك الكرسي، يتأمل مريد، يتساءل

-هل بجسده الهزيل سيتمكن من خوض تلك الحرب، أم أنه سيهوى بسهولة إلى بئر الاستسلام ليبقى حبيسه طيلة العمر.

سنوات تمر من عمره، يصارع في حربٍ كاد أن يلقى حتفه فيها، لكن أنامله الصغيرة تربت على قلبه ليزداد صلابة، وقوة، يقف كصقرٍ جارح يترقب فرائسه من بعيد، وإذا نصب أحدهم مكيده، حلق بعيداً ليقع فيها من نَصَبهَا ويتجرع آلام الهزيمة.

جاره أشعب جلس اقترب منه وجده شارداً

-لماذا أنت شارد يا راضي.

التفت إليه، وقال في هدوء

-لا عليك، اجلس، لست شارداً.

جلس أشعب وعيناه تلمع على هؤلاء الأطفال، أشار إليهم وهو يردد في سعادة

-ألم يأن لهم بأن يذهبوا للمدرسة كباقي الصغار يا راضي.

أمسك راضي برأسه التي كادت أن تنفجر، يحادث نفسه " هل ينقصني هذا السمين يا ربي، ألا يتركني وشأني، لا يدري بما يحل بي كل يومٍ، وبتلك الهموم الثقال التي اتحملها وحدي، علي أن أهدأ قليلاً، وأحادثه بهدوء، ربما أجد منه حلاً يهون عني ما أشعر به ".

اعتدل راضي في جلسته وحاوره بهدوء:

-وماذا علينا أن نفعل، هل من مدرسة ستقبل بأبنائنا تلاميذ من بين صفوف طلابهم، ألن تدرك ماذا نعمل يا رجل، وحينما يطلبون عناوين منازلهم سنقول لهم، يرقدون في الباب الثاني بجوار قبر المرحوم، إننا دُفِنا أحياءً أيها الغبي، كل ما هو مسموح خارج تلك الأسوار، فهو محرم علينا

صرنا كآدم، إذا كان حُرِم من شجرة واحدة، فأنا قد فُتِنا بها، غير مسموحٍ لنا سوى برفات الأموات الذي يتساقط من بين من يأتوا لزيارتهم، هل لديك حلٌ يا ملك المصاعب.

ضحك أشعب بسخرية

-دوماً تعقد الأمور يا أبا مريد، لماذا تنظر إلى الأمور من ذلك الباب، أغلقت في وجوهنا جميع أبواب الرحمة، لا، أنظر إلي هنا، هل أتينا إلى هنا بمحض إرادتنا، أم أن الحياة أغلقت في وجوهنا كل أبواب الأمل، بثقتنا بعيداً عن ضجيجها، كي نُصعق بضجيج الأموات كل يوم

أنظر إلى نفسك أيها المتعلم، الذي يبحث عن وظيفة لسنوات بعد أن رُفد من شركته ومكانته المرموقة بها، لأن الشركة تمت خصخصتها، وتخلت عن الكثير منهم كنت أنت أحدهم، وأنا مدير عام، نُصِبَ له المكائِد، حتى طُرِدت كي يجلس مكاني أحد أصحاب من يملك الشركة

أليس لنا عندهم حقٌ حتى أن نصعد للسطح نستنشق عبير الحياة ثم نعود أدراجنا للقاع المظلم مرة أخرى، أليس من حق أبنائنا أن يلمع في عيونهم نور الحياة، أن يسطروا في تاريخنا أننا استطعنا أن نمحو ظلام الجهل عن عقولهم، إلى أين سنذهب بهم

ألم يكف كم عانينا هنا وهناك، تلك الأسوار الهشة التي تحاوط مقابرنا لا تصد عنا حتى صراعاتهم، بالله عليك، ألم يكف بنا أن ننام دون سكينة على صرخات الموتى وهم يحاسبون.

نظر إليه راضي في ألم، لا يعرف كيف يمكنه أن يرد على كل ما لفظه لسانه، آلامٌ يُطْعنُ بها قلبيهما، لكن عليه أن يُهدأ من روعه، ويحاول أن يفكرا سوياً بروية من أجل مستقبل أبنائهم.

-وماذا علينا أن نفعل بعد كل هذا، علينا أن نمسك بأيدي أبنائنا، ونذهب بملابسنا المعطرة بعبير الموتى، ونَمُد أيدينا لنتسول لأبنائنا حياة أفضل

وما يدريك بأنهم يدفعونا إلى الخارج غاضبين من رائحة الموت التي تفوح منا، وحتى تلك المقابر التي قد احتضنتنا يأتوا كي يهدموها، ولا يتبقى لأجل أطفالنا شيئاً، ماذا سنفعل لأجلهم حينها، إلى أين سنفر حينما نُطرد من هنا، هل سنحمل جُثث الموتى إلى الأعلى ونجلس نحن وأنبائنا بينهم.

-أهدأ يا رجل لا عليك، ربما هناك حلٌ لن يصل بنا لما بشرتنا به الآن

ثم لمعت عين أشعب، وهو يردد

-أتعلم يا راضي لقد وجدت الحل...

 

يُتبع..