الفصل الثاني - مريد
الفصل الثاني
الفصل
الثاني
-ماذا هو الحل إذاً.
-لماذا لا
تقوم بالتدريس لهم يا راضي.
رفع راضي
قدمه فوق الأريكة، وتنهد بأسى
-كيف ذلك يا
رجل، ألم تكتفي بما حل بي، أليس من حقي أن أجد راحة مما عانيت، هل فقدت عقلك،
أواثقٌ أنت بأني لدي الهبة، والقدرة على تحمل أطفال لا تعرف كيف تكتب الألف.
ضحك أشعب
منه ساخراً
-هل صارت
ذاكرتك معدومة، ألم تتذكر أين ومتى فعلتها، لقد برعت فيها
عقد راضي
حاجبيه وردد في دهشة
-متى يا
أشعب لم أتذكر أني قد فعلت هذا من قبل
تكلم في جد
-لقد فعلتها
لأجل ابن المدير يا رجل، وتحول من تلميذ فاشل، إلى ولد نجيب.
تراجع راضي
للخلف قليلاً، نظر إليه ثم نحى نظره بعيداً حيث تلك الذكريات التي لا تريد أن
تتنحى أبداً، ذلك المدير الذي كان كل ما يطلبه أمرٌ واجب، قام بتجربتهم واحداً تلو
الآخر، حتى استقر عليه ليكون مدرساً لولده، يجلس بعد العمل لساعتين من أجل ولده
دون مقابل.
فقط كي
يتقدم التلميذ، ويصبح نجيباً، ويحصل على الدرجات النهائية، وما كان جزائه على ذلك،
لا شيء فقط كان أول اسم فكر فيه المدير ضمن قائمة المستغنى عنهم من الشركة.
لم ينسى تلك
الليالي التي ظل إلى جانبه حتى الصباح حتى يحين الامتحان، يشرح له، يجيب معه الأسئلة،
وقلبه يرتجف بشدة، يخشى أن يأتى الامتحان مخالفاً لما قد تنبأ به، أو لا يستطع
الولد أن يجيب على الامتحانات فيصاب بنوبة قاسية من التوبيخ، والنعت بعدم
المسؤولية.
لم يكن
حينها يستطيع أن يرفض طلب المدير، كان شاباً طموحاً، لم يمر على زواجه سوى أشهرٍ
قليلة، يريد أن يكافح كي يجعل زوجته تحيا حياة مترفة كما كانت تحيا في منزل أبيها،
يحاول أن يعوضها فقدانه المرير وتلك النيران التي التهمت كل شيء حتى هو.
كان أمر
تعويضها هو ما يشغل باله دوماً، كلما رأته شارد الذهن، باهتة ملامحه من شدة التعب،
تحاول التخفيف عنه، تطلب منه أن يخفف ذلك العبأ، أن يطلب إجازة كي يستريح قليلاً،
لكنه كان يبتسم ويبلغها أن كل تعب يهون لأجل راحتها هي.
هكذا كان
يهون كل شيء من أجل من نبض قلبه لأجلها، لابتسامتها رونق هادئ كشعاع الشمس الأول،
دافئ يشعرك السكينة، يمنحك الحياة.
أغمض عينيه
راجياً أن يراها، يمر طيفها أمام عينه من جديد، يحاول أن يلمس يدها، تخبره فردوس،
كيف تبدو الجنة، كيف انتزعت منه جنة الدنيا ورحلت لتزداد رونقاً ونوراً في فروس
الآخر، كاد يبكي من شدة الشوق لرؤياها، حتى انتفض على أشعب وهو يردد بسخرية
-لماذا لم
تحاول أن تكتسب رزقاً وفيراً من الدروس الخصوصية
كاد أن
يدفعه من شدة الغضب، لكنه ضغط على سبحته مستغفراً، وأجاب ببرود
-كيف لي
بذلك، وأين؟، أيها الأبلة
قام من
مكانه وأكمل
أنظر ماذا
حل بنا، أنظر أنت إلى حالك، من بذلات بماركات شهيرة، إلى جلباب لا يعرف إلا رائحة
الغبار.
ورودٌ تحيط
بنا " أشار إلى تلك الورود الكثيرة المحيطة بالمقابر من حولهم " ، ليس
كتلك إنها زهراتٌ يفوح منها عبير الحياة، لا تصنع بغبارها غشاوة على قلوبنا الهشة،
ذلك النيل المجاور لنوافذنا، صرنا من بعده لا نشرب شربة سوية، دون شوائب وبكتيريا
تطحن بدورها في أمعاءنا، دون هواده، حتى اعتدنا الأمر
كنا نحيا في
أرقى أحياء المعمورة، أمنٌ وخدم، لكن صاحب العقار كان رجلاً يعشق المال، أراد أن
يرفع من تلك الأموال التي يٌحصلها منا كل شهر، وحينما باءت محاولاته بالفشل،
أدخلنا في دورٍ من العند المبهم يأتي بالعمال ليل نهار علنا نرجع عما رفضنا، وعزم
العقد والنية لرفع العقار أدواراً إضافية دون أساس، فانهار بنا جميعاً.
-ليتنا
أطعنا طلبه، كان حالنا سيظل أفضل مما نحن عليه الآن، وريقات بخلنا في دفعها فدفعنا
بدلاً منها عمراً لا زال يزهق من أرواحنا حتى وافتنا المنية وأقدامنا لازالت تطأ
الأرض، ليتنا متنا تحت أنقاضه، كنا قد ارتحنا إلى الأبد.
تنهد أشعب
قائلاً
لا تقل هذا
يا رجل نحمد الله أننا كنا بالخارج، كل شيء قد ضاع، ذلك المنزل الذي آوانا، وذلك
الذهب الذي إدخرناه للأزمات، حتى ملابسنا خرجنا من دونها، ودُفِنَتْ سكينتنا تحت
الأنقاض
ولولا ذلك
البواب لما عرفنا أين نذهب، أتى بنا إلى هنا كي نجد مكاناً يؤوينا ،
بعد أن صرنا
مجهولي الهوية لا تعترف بنا الدولة، عدة مراسلين أرادوا سبقاً صُحفياً فلاحقونا
بالطعام والأغطية صورنا على الصحف الأولى من الجرائد لمدة أسبوع ثم أتى حريق
البنزينه ليحتل التريند، وتناست الدولة أحوالنا، لم تعد تأبه لحال عشرة أسر، ليس
لهم مأوى ولا مكان يناموا فيه.
أكد راضي
على كلام صديقه
-هذا فضلٌ
من الله أننا لم نلجأ إلى الرحيل بعيداً كما فعل الآخرون
ثم التف
إليه، وأكمل حديثه بحده
-لقد نجوا
يا صديقي، أرسلوا حيث النجاة، وأرسلنا إلى الجحيم، حيث نيرانٌ تحيط بنا من كل
جانب، ظلمنا أنفسنا فاتبعنا تيار جارف كلما حل بأرض أطاح بكل أخضرٍ ويابس، أنظر
ذلك السور، نراه متهالك لكنه كقيودٍ تلتف حول اعناقنا لا يمكننا أن نحطمها لنفر
بعيداً حيث النور.
ثم نظر إليه
بحزم
أشعب تنحى
عما تفعل، فإنه نيران في الدنيا والآخرة، لم نلحق في الدنيا بسباق النعيم، دعنا
نتنعم في الآخرة.
رد أشعب
بسخرية
-ماذا تقول
يا رجل، الجميع يتنعم بالخيرات واللحم، لماذا لا نفعل مثلهم.
-لأننا نخشى
الله.
-وماذا في
أفعالنا ما يغضبه علينا.
-لا تتلون
أيها الخبيث، أنت تعلم جيداً أن ما تفعله هو كفرٌ بين
-لست أنا من
كَفَرَ، بل هم، أنا مجرد رسول اتسلم أشياء لا أعلم ماذا وضِعَ بداخلها، أضعها في
المكان الذي يطلبون، وأحمل أموالي وأرحل، كالسائق الذي يوصل الزبائن للطريق.
-هل
جُنِنْتَ أيها الرجل، أنت تعلم جيداً ماذا تفعل، وماذا تحمل تلك اللفافات، ولماذا
يطلبون وضعها هنا بالذات، أنت تساعد في تدمير حياة البشر، في استدعاء قوى بعيدة،
قد حُرِمَ علينا استدعائهم
نظر بخبث
-أُنظر من
يتحدث، أنت يا راضي، ألن تساهم معي في ذلك الجُرم الذي تراه مُحرماً.
لاحظ نظراته
الخجل التي ارتسمت على وجهه، فحاول أن يداعبه
-ولكن
أبلغني كيف لهم أن يدفعوا كل تلك الأموال من أجل لفافة واحدة، لابد من أن الشخص
المعنى باللفافة قد قهر قلوبهم حزناً، ربما فتاة اختطفت ولد من أمه، أو رجل قد عشق
زوجة أخيه فتمنى خراب منزلهم ليحتل مكانه، أو امرأة تخللت الغيرة إلى قلبها من تلك
الجارة كيف لها أن تحيا دون أن يصرخ زوجها كل يومٍ في وجهها، وتلك المرأة جميع
الرجال تحبها ورفيقتها لا يتقدم لخطبتها أحد.
-جميع من
ذكرت أناسٌ بأرواح شريرة تتعلم منها الشياطين كيف توسوس للبشر، قلوب قد طُبِعَ على
أصحابها بأمراض الكره والضغينه، ليست هالة سوداء على تلك الفطرة الصافية، بل سوادٌ
بين قد فرضوه حتى على ذلك الدم الذي يُضَخْ فيها
رأى أشعب أن
صديقه راضي قد استرسل كثيراً فيما أراد أن يدفعه بعيداً عنه
أتعلم لا
عليك
لا تًعَقِدَ
الأمور كما تفعل زوجتي، وصل بها الحال أن حَرَّمَتْ على نفسها وطفلتها جنيهاً مما
أجلب، تنتظر طعام الرحمة الذي يجلبه البعض على روح الأموات، كي يطعما بعيداً عن
مالي، تصور، لقد تضاعف الأمر لديها حتى حرمت نفسها علي، كأمي، لا تريد ليدي أن
تلامس جسدها، حتى أتنحى عما أفعل، لماذا لا تريد أن تحيا بسلامٍ هذه المرأة امرأة
معقدة،
" اعتدل في جلسته وردد بحماس"،
أتعلم ضربة واحدة أخرى وسأرحل عن هنا، فلتشبع هي
من طعام الصدقة هي وفتاتها، وأنا سأحيا من جديد أتزوج امرأة أخرى تحييني كما يحيا
أصحاب الجنة.
ردد را ضي في ذهول
-إنك لرجل معتوه،
تبحث عن سراب، ترى في النار نور، ولن يحترق منها إلا أنت
ضحك وهو
ينهض من مكانه
-سأترك لك
أمر روضة، رغم تعلق قلبي بها إلا أنها بائسة كما أمها، وقد اكتفيت بؤساً، وفقراً،
علي أن أمضي باقي أيامي هنا بسلام، حتى لا تبدأ النحيب مبكراً، سأذهب وأترك لها خطاباً،
وهي لن تتفاجأ كثيراً.
ظل راضي
طيلة الحديث يتمعن كلماته جيداً، حتى نطق بعدما ساد الصمت حينما هم واقفاً، فأمسك
بيده قائلاً
-ما رأيك أن
تطلقها يا أشعب، ارحمها، لترى كيف تريد أن تكمل حياتها.
ارتمي بجسده
على الأريكة مرة أخرى، وكأن راضي قد صفعه على وجهه حتى استفاق، ظل يُحادثُ نفسه
"أي
طلاق يريد بنا هذا الرجل، هل كنت مغيباً كل تلك الفترة، كيف لي أن أترك روحي تنخلع
من قلبي بسهولةٍ هكذا، هل أُصيبت بذلك السُم الذي أحمله بين يدي، لُفافات بيضاء
أحملها بكلتا يداي أُمحي أثرها كي تنشط في باطن الأرض، بتلك يداي هل إن نفضت عني
غبارها، ستَحِلُ عني لعنتها، أم سيُخْتَم على قلبي بهالة من ظلام رماده من جهنم،
تلك التي أصبحت أحيا بداخلها
أبتسم في
وجوه الجميع وذلك الصراع يلاحقني، أخشى أن أبوح به حتى لا أرى نظرة شامتة تقتل
كبريائي وتحض من كرامتي،
" نظر نحو راضي متألماً"، أتمنى أن
أقُص عليك، لكن كبريائي يداعبني، يُقيدني حينما يصرخ صوت الضمير بداخلي، ويضع قناع
السعادة بما أفعل كي يبتعد عني يظنون بأن
قلبي قد مات حياً، تناسوا بأنني إنسان، أبكي بحرقةٍ عند بكاء الطفل، وتنهار دموعي
أمام أمرٍ جلل، ليس كالثلج، فحتى هو تأتي حرارةٍ شديدة تذيبه، فكيف لقلبي ألا
يلين، كيف.
امرأة بلون
الورد، عبيرها يلاحقُني كلما ابتعدت، يجعلني متيم، ولكما اقتربت وتأملت ملامحها
أتحول لشخصٍ متعجرفٍ، لا يريد أن يحنو عليها، لا يسأل عن حالها، حتى تلك الأيادي
التي تتألم لأجله وصغاره، لا ينحني ليُقَبلها.
إنها اللعنة
إذاً، ولكن كيف لي أن أحل قيودها عني، ألن أعود لأهرول إليها، أحملها بين أحضاني
فنرتفع بروحينا فوق سحاب الحب، أليس لقلبي أن يحيا هذا الشعور أم أنه قد حُرِمَ
عليه أن يتذوق ثمار الجنة، هل يعقل أن أرى الجنة وأشتم عبيرها ولا أتذوق منها، كل
ما تشتهي أنفس الرجال جُمِعت في امرأة واحدة بروح الملائكة، ولكني أحيا معها كلوح
ثلجٍ لا يذوب أبداً، لا أسمح لها بالانهيار كأي أنثى بين أحضاني
نظر أشعب
بتعجب إليه حاول أن يُفكر في اقتراحه
لكنه انتفض
على صراخ الأطفال، وروضة تبكي بحرقة، وتنادي مَريد، مريد.
يُتبع..