-->

رواية مريد - بقلم الكاتبة سارة محمد عبد الفضيل - الفصل الخامس

 

رواية مريد 

بقلم الكاتبة سارة محمد عبد الفضيل




الفصل الخامس

رواية

مريد



انتفض مهرولاً نحوه ليجد مريم زوجة صديقه أشعب، دموعها تسيل تشير إلى مسكنها وهي تبكي

-أشعب فلتلحقه، لا أدري ماذا أصابه

هرول راضي نحوه مسرعاً، خُيل إليه بأن النوم قد غلبه سريعا ولم يدري بما حل به وولده، لم يأبه لم حدث فقد بدت قسوته بأنه لا يبالي لأمرهم، لكنه لا يدري بأن تلك القسوة تطيح بمن حوله حينما تدق طبول الفزع في قلبه، يرتفع ادرينالين الغضب ويتملكه شخصاً آخر

لكن بعد ذلك التوبيخ الذي صدر من راضي له ودفعه للباب في وجهه بشدة، شعر بارتخاء في جسده، ويداه ترتعش استند على الباب حتى هوى بظهره خلفه يصفع وجهه يمنة ويسرى، يضرب رأسه بالجدار ثم انهار بكاءاً

-كيف لي أن أفعل هذا، كيف ألم يولد مريد على يدي لقد كنت أهدهده كما فعلت مع ابنتي، لقد مزق قلبي لأجله

ثم ارتفع صوته بحزم

-لكنني قد اختبأت كالفئران، لماذا لم أحطم ذلك الباب، أو حتى أهدم الجدار، أو الغرفة بأكملها ليتها انهارت من حولي لينكشف ستري أمامه ليدرك كم يبكي قلبي لأجل ولده

علي أن أعرف ماذا حل بي، من يفعل بي هكذا لماذا أنا مقيد كسجين، لكني معصوب العينين بداخلي، لا ينفك قيدي حتى تفرغ كل طاقة الغضب

صوت خطوات هادئة تقترب إليه، إنها زوجته مريم، ربتت على كتفه، جلست إلى جواره، تمسح عنه دموعه

-لا عليك يا حبيبي لقد عدت أخيراً، لكم أشتاق إليك، وإلى روحك الهادئة، وذلك اللين الذي يهون علي كل شيء، ثم ارتمت بين أحضانه وهي تبكي فرحة

-عليك أن تتمسك بك، لا تمكنهم من قلبك، لا تفقد بصيرتك كما أرادوا، لا تجعل بريق المال يعصب عينيك، فتهرول وراء جحيمهم كالمجنون.

ضمها بحنو، وازاح حضنها الدافئ هم ما يعاني أشعب، بدأ يحادثه بلطف حتى وجدت صدره يدفعها بقوة وكأنه قلبه كاد ينخلع عن مكانه، وروحه كأنه تنخلع عن جسده، وصار يتصيد أنفاسه بصعوبة بالغة، تحرك في جسده تحاول أن يستعيد توازنه من جديد لكن كل محاولاتها باءت بالفشل

نظرت حولها وهي تبكي بألم، تنظر إلى السماء، راجية

-يارب كنت ادعوك كل ليلة أن تعيده لأجلي، وحينما يعود تقبض روحه، تسحب عني حياتي، وأنفاسي من جديد

هرولت نحو راضي، كان يظن بأن ما حل به أمر هين، خمرٌ أصابه بسكر بين، أو سيجار من نوعٍ فاخر من إحدى زبائنه، لكنه صعق حينما رأى ما حل به جلس على ركبتيه، هز جسده بقوة، لكن كان عينيه تنقلب وروحه تسحب بقوة

وشعر بحركة غريبة في المكان كل شيء يهتز دفع الأرض بقدمه بقوة وردد في حزم

-فلتتركه وشأنه، ارحل، ارحل حربك معي أنا ليس له شأنٌ فيما بيننا

لحظة واحدة وحل الصمت، سكن جسده، أشار راضي إلى مريم أن يرفعاه إلى سريره، كان قد دخل في شبه غيبوبة من شدة ما حل بجسده


❈-❈-❈

 


للمرة الأولى يتعرض أشعب لمثل هذه الأحداث، منذ أن حل هو وصديقه راضي إلى المكان كان يترجل، ويحيا في المقابر بين الأموات بأمان تام لا يخشي شيء، لا يشعر بشيء، حينما كان يشعر بخوفٍ قد بدا على وجه راضي مزح معه قائلاً

-ربما لم يعجبهم النزيل بفندقهم الكريم

وراضي يرد في هدوء

-لا يا خفيف الظل، فهناك أرواحٌ شفافة تشعر مسرعة بكل ما يحدث من حولها

يقف راضي يتأمل صديقه بأسى وهو يتذكر ذلك الحديث، يشعر بأن تلك اللعنة ربما تلحق به أيضاً، اطمأن على حاله تركه وزوجته ورحل نحو فراشه في تلك الغرفة التي اعتاد لعنتها

وتلك الشفافية التي لن تتركه لعنتها أبدا، كأنما قد مُنِحَ حاسة سادسة يسمع خلالها كل ما يحدث حوله حتى حديث الجماد، حتى يكاد يُصم من شدتها

هكذا هو يكاد ينفجر عقله من هول ما يشعر، ربما قلبه المتعلق بالسماء هو ذلك الرباط القوي الذي يشد من أذر عقله، كلما هم بالذهاب أرغمه أن يظل راسخاً، متشبثا بأمله في أن يتغير الحال

يعلم وهو يفكر بأن كل ما حل به هو مجرد كشف حسابٍ لم ينتهي لما كان يفعل، يعتصر قلبه عندما يتذكر بأنه لم يتمادى في الذنب شهراً أو اثنين، لكن صديقه لا زال لأكثر من ست سنوات يخطو في طريق الهلاك، وكانت أولى قطراته اليوم رآه بأم عينيه ينحدر نحو الهاوية، ويعلم جيداً بأنهم لن يتركوه بحاله كما يظن أنهم فاعلون.

يتقلب راضي على جنبيه، وهو لا يتمنى ألا تشرق الشمس من جديد، يخشى أن يأتي أحدهم كي يبدأ رحلة جديد من البعث نحو الخلود الأبدي إما جنة أو نار

يرفع يداه أمام وجهه وهو يتأمل ما حل بها من كثرة ذلك الغبار العالق بين أناملها، لا يزيل أثره مهما نظفها ، هو عالقٌ ما دامت الحياة لا زالت مستمرة، يشتمها ليجد أنها لازالت برائحة الموت

ربما كان يهون شعاع الشمس الدافئ بعض ما يألم لكنه صار خريفاً لا يتوانى عن الصقيع، تشعر معه بمشاعر متضاربة، حرارة تندفع إلى جسده تكسبك الطاقة، وبرودة تدفعك نحو السكون الذي يجبرك على الاكتئاب

وأشجار تتساقط أوراقها واحدى تلو الأخرى، ليمر أمامها الناس ويدركون من أوراقها الصفراء المتساقطة أرضاً بأن ثماراً مرت من هنا.


❈-❈-❈

 

حينما يرن هاتفه بأسماء أحد العائلات المالكة لأحد عيون المقبرة، يكاد يفقد عقله، وحينها فقط ينفذ صبره، يتخلل اليأس إلى صدره من جديد، يتقدم خطوة ويتراجع اثنتين، يقف أمامهم بصمود وهو يمسك بتلك الفأس كي يمحو التراب عن القبر، ويفتحه من أجل روح جديده تصعد للسماء وترمي لنا رفاتها على الأرض، يحمله على أكتافه وكل شريان بداخله يهتز

شعر رأسه يطقطقأ من رهبة الموقف، لكنها رهبة قد اعتاد عليها، وأكثر ما يمزق قلبه تلك الأعمال التي يجدها مدفونة داخل القبر، كلما قام بتنظيفه من جديد، يشعر بأن ذلك الموقف يأتي ليذكره دوماً بأنه كان يوماً ما يفعل مثلهم، يحمل بين يديه ذلك الكفر، ليضعه في أجساد الموتى

غير آبه حينها بتلك الحيوات التي تنهار من حوله، لم يكن يهتم لأمر هؤلاء الأشخاص التي ترقد، وتمرض، وتحرم من نعمة الزواج والانجاب

كل هذا لا يهم هو فقط يأخذه التيار ، وتلمع الأموال في عينيه ويشتاق إلى تلك الحياة المترفة بعيداً عن ذلك الغبار المتعفن من شدة الأجساد التي دفنت هنا.

ورغم أن حبيبته فارقت الحياة، وما حل بوتينه المتمزق، إلا أنه يحمد الله على ذلك الدرس الأليم الذي تلقاه كي يرجع قلبه إلى الله ساجداً باكياً نادماً على إثمه

ليس عليها من الأمر شيء، هكذا كان يقول لنفسه أمام المرآة كلما اشتاق إليها وهي تجلس أمامها لتتزين لأجله

يصفع وجهه بقوة

-لقد كانت تنظر إليك على إنك ملاكٌ بأجنحةٍ بيضاء، لكن وجهك الخفي كنت تخبئه بذلك القناع والابتسامة الباردة، وكلماتٍ معسولة مهما كانت تخرج من قلبك فقد كانت تذيب قلبها عشقاً لرجلٌ غير أمين

ثم يبتعد عن المرآة بائساً

-لكنني والله أحبها، ليس كحب الرجال لكل النساء بل حبٌ لم يدركه غيري لروحها الطاهرة، وقلبها الطيب العامر بالإيمان

يكمل حديث نفسه قائلاً

-نعم تلك القلوب الطاهرة لا تحتمل صراعات الدنيا الفانية، تنظر إليها بسخرية، لا تدرك لماذا يتطاحنون لأجلها هكذا، تلك القلوب هي فقط من لا يخاف من ظلمة القبر، فبريقها يلمع ليضيء كل مكانٍ تحل فيه

مرت الأيام تباعاً، هدوء يسود المكان، فقط أجسادٌ تتوالى في الرحيل، وأعمالٌ ينتشلها راضي ليفك أسر المراد بها، وجميعهم حل عليهم الصمت، وحل صوت المشايخ بقرآن يتلي آناء الليل وأطراف النهار

بيس فقط لأجل من ماتوا اليوم، ولكن ربما قد استفاق أهل الأموات بأن زياتهم ودعائهم يخفف عنهم ما يعانوا في قبورهم، أو أن قلوبهم قد خشعت بالإيمان، وزهدت بريق الدنيا الزائف، فبحثوا عن أي مكان يمنحهم طمأنينة يشعرهم بأن كل شيء يهون، حتى يحل الموت بظلمته ووحشته

هنا يتلخص كل شيء في كلمة نهاية، نهاية ظلم، وعجز، واضطهاد، وخيانة، وتلك الوحدة التي أهلكت قلوب الجميع يمكنهم فقط أن يمحوها عن صدورهم بالعودة إلى ما فطرنا عليه، أن نطيع أوامر من خلقنا، نسلك الطريق السوي، وندرك دوماً بأن حياتنا نهايتها كبدايتها هي ضمة الأولى لأمهاتنا والأخيرة لقبورنا إما تضمنا كما تضم الطفل صغيرها، أو تسحقنا حتى تكسر عظامنا

من يخشى القبور هم فقط ذوي النفوس الخبيثة المتعلقة بالدنيا، التي تظن بأنها خالدة، لا موت لها أتت لتتنعم، وتخطأ دون عقاب، أو حساب


❈-❈-❈

 


هكذا كان صراعاً لا يتوانى عن الاشتعال بداخل راضي كل يوم، يحاول أن يتخلص منه، ينزعه بقوة لكنه لازال يصارع ذلك الحنين إلى الأيام الخوالي، ذلك الترف حتى وإن كان بنسبة بسيطة، هو أفضل ألف ألف مرة من تلك الحياة التي يعانيها

لكن ابتسامة واحدة على وجه ولده مريد وهو يهرول نحوه تنسيه كل شيء، أنامله الصغيرة بدفئها الذي يذكره بحبيبته، فكان كل يومٍ يمر على مريد بسلام هو عيد بالنسبة إلى راضي

كان يفكر دوماً كيف له أن ينتشله من ذلك المكان، ومن سيأتمنه على أن يربيه ويحافظ عليه كما يتمن، وكأنه قد كُتِبَ على راضي أن يظل مقيداً بأغلال من حميم لا تتوانى عن التلويح له كل ليلة بتهديد جديد، عله يرجع عن الوقوف في طريقهم نحو هلاك البشر

انجرافهم نحو الهاوية والابتعاد عن طريق الله، هو أسمى أهدافهم، يصنعون منهم ملحدين زناة، وسارقين، زنادقة كل هؤلاء كان منهم التقي وحامل القرآن، ومن يسلك طريق الحقيقة، لكنهم جذبوهم إليهم بتلك الوسوسة المتكررة كل يوم على كل شيء وبخطوات ثابتة ينزل بها الإنسان درجات قد ارتقاها بعمله درجة درجة دون أن يشعر، فقط سلم قلبه هو من يعاود مسرعاً، يتخلى عنهم كما يفعلون في النهاية

يأتون بعد أن هلك من اتبعوهم ليقولوا لهم " إني أخاف الله رب العالمين"، هكذا كان يدرك جيداً بأنه داخل حربٍ لا نهاية لها، هو وحيد في جبهة والقتال مع الجبهة الأخرى غير متكافئ، هم الأكثر عدداً، وحيلاً، ولا يراهم كي يدرك ماذا يخططون له، لكنه ينظر دوماً نحو السماء بقلبٍ متيقن بأن وعد الله حق، وأنهم مهما فعلوا فإن خالقهم الله بيده أن يردعهم بكلمة كن فيكون

يتأمل دوماً ذلك الصغير، يتساءل كيف سيصبح قلبه، هل هلك من قسوة ما مر به، أم أنه لازال عامراً بإيمان ينم عن مسلمٍ محسنٍ لا يهاب الذئب إذا أتاه جائعاً.

لكنه قطع عليه حبل أفكاره أتاه يبكي بحرقة يردد ...



يتبع