-->

رواية لا أحد سواك رائفي - بقلم الكاتبة سماح نجيب - الفصل التاسع


رواية لا أحد سواك رائفي 

بقلم الكاتبة سماح نجيب




الفصل التاسع 

رواية

لا أحد سواك رائفي

" القاضى والجلاد"



أرهف سمعه وتأهبت حواسه بأكملها فى إنتظار سماع باقى حديث أكرم ، فإلتزم الصمت وأنصت له بإهتمام ، على الرغم من فطنته أن ما سيسمعه الأن سيزيد من شعوره بالغيرة والألم ، خاصة إذا صحت ظنونه وكان يوسف عاد وأخبر أكرم  برغبته فى إتمام زواجه من سجى 

فأى حظ تعيس يملكه ؟

فعندما عثر على تلك الفتاة ، التى إستطاعت جعل قلبه يخفق لها ، على الرغم من كونه أنه أعلن الحداد على حبه الأول ، إلا أنها إستطاعت بأيام معدودة فقط ، أنه تجعله يدرك أن ما كان من حبه لمايا ، لم يكن سوى نزوة أو إعجاب شاب بفتاة جميلة ولا يتعدى تلك المشاعر ، التى يمكن أن يشعر بها أى شاب تجاه فتاة جميلة تتميز بالغنج والدلال وسلب عقول الرجال بجهد لا يذكر 


نظر أكرم لرائف وقال بحذر :

– كلمنى عن سچى النهاردة ، قالى انه طلب منها انه يتقدملها بس هى مردتش عليه لدلوقتى فكان عايز يعرف رأيها إيه فى الموضوع ولما عرف انها عايشة معانا هنا فكلمنى اتوسطله فى الموضوع ده واقولها علشان يعرف رأيها إيه


رد رائف بإنفعال عصبى:

– أنت هتشتغل له خاطبة يا أكرم


قال أكرم وهو يرمقه بذهول :

– خاطبة ! فى ايه يا رائف أنت عمال تغلط ليه كده يا جدع أنت ما تحاسب على كلامك يا اخى


أنفجر رائف قائلاً بعصبية ، لم يضع بباله أنه من الممكن أن ينكشف أمره من حديثه الغيور:

– وأنت جاى تقولى أنا ليه ها ؟ مكلمتش صاحبة الشأن ليه هو انا ولى امرها ولا مسئول عنها ، روح شوف مين ولى امرها وقوله ، متقوليش انا ، انا مليش دعوة بيها ماشى يا أكرم ولا عايز أسمع عنه ولا عنها أى حاجة ماشى


إبتسم أكرم على قول رائف ، فمد يده وربت على كتفه القوى وهو يقول بهدوء ومكر :

– لا دا أنت حالتك صعبة أوى يا رائف يا حبيبى 


أزاح رائف يد أكرم قائلاً بجفاء :

– حالة ايه دى بقى يا دكتور أكرم اللى صعبة


أنحنى أكرم قليلاً للأمام ، ناظراً بعينى شقيقه قائلاً:

– حالة الحب اللى بهدلتك اوى دى يا اخويا والغيرة اللى مولعة فى قلبك نار بسبب حبك ليها وغيرتك عليها ، ومتحاولش تلف وتدور عليا أنا اكتر واحد أعرفك يا رائف لأننا مش بس اخوات لاء واصحاب كمان وعمرنا ما خبينا حاجة على بعض ودايما بنصارح بعض بكل حاجة ومفيش ما بينا اسرار


أبتلع رائف لعابه قائلاً بتوتر بالغ :

انت بتخرف بتقول ايه حب ايه وبتاع ايه وغيرة ايه دى كمان اللى مولعة فى قلبى ومين دى اللى بحبها كمان وبغير عليها انت اتجننت يا أكرم ولا إيه ، الظاهر فعلاً أنك بتخرف يا أكرم وبتتوهم حاجات فى دماغك انت عيان يا حبيبى لو عيان شوفلك حاجة علشان تخف كده غلط عليك يا دكتور


وضع أكرم يده بجيب بنطاله وإبتسم قائلاً بدهاء :

– بقى كده ماشى اتريق براحتك يا رائف براحتك بقى انا هروح اقول لتيتة وبابا وماما على الموضوع اللى قولتلك عليه ، وإن يوسف عايز يتجوز سچى وطالما هى تعرفه مظنش هتمانع  بقى وهو عريس كويس ومناسب ليها 


شعر بتمزق قلبه لحديثه شقيقه ، خاصة الشق الأخير من عبارته ، التى كشفت له بمرارة أنه لن يكون هو الزوج الملائم لها ، فكل فتاة تريد أن يكون زوجها يتمتع بكامل قواه الصحية والبدنية ، ولكن قلبه الخائن عاد يأن من جديد ، محذراً إياه بأنه لن يستطع التحمل إذا رآها تُزف لرجل أخر ، ولكن عاد يعنفه بأنه لا يملك أن يفعل شيئاً وهو بتلك الحالة 


فأكسب صوته البرود اللازم وهو يقول:

– ربنا يسعدهم يا سيدى عايز حاجة تانية بقى ولا ترحمنى وتسيبنى فى حالى


فغر أكرم فاه من قول شقيقه البارد ، فرد قائلاً معنفاً إياه :

– إيه  يابنى حرام عليك نفسك هو أنت غاوى تعذيب فى نفسك يا رائف أنا عارف انك بتحبها وهتموت عليها كمان ،  متنكرش انك بتحب سجى ، كل تصرفاتك وغيرتك اللى بسبب ومن غير سبب دى إيه ها ، دا انت حتى بتغيير عليها من شادى لما بيكلمها وبيضحك معاها ، بتغير عليها منى لو طلبت منى حاجة وانت متعرفش ، بتغير عليها لما تخرج من البيت بيبقى نفسك تحبسها هنا ومتخلهاش تخرج صح ولا انا غلطان


أخذ رائف نفساً عميقاً ، فما لبث أن زفره قائلاً بيأس :

– دى تهيؤات فى دماغك يا أكرم أنا منفعش أحب ولا اتحب خلاص انا مبقتش انفع لاى حاجة خالص ، يعنى مش شايف حالتى واللى أنا فيه مش شايف أنا بقيت عامل ازاى


ربت أكرم على صدر شقيقه وهو يقول بهدوء وحنان :

– ومالها حالتك حادثة وحصلتلك ودلوقتى بتتعالج وفى تحسن كبير فى حالتك وان شاء الله ممكن تعمل عملية وتمشى كويس زى الأول يعنى الحكاية مسألة وقت مش أكتر يا رائف


إبتسم رائف بألم قائلاً :

– أنت بتحاول تجملى المستقبل يا أكرم حتى لو ده حصل لسه عليه وقت على ما يحصل حتى شغلى انت عارف إن أنا خلاص مينفعش ارجعله


أجابه أكرم قائلاً بأمل وتفاؤل :

– وفيها ايه يعنى دى كمان ، انت برضه معاك شهادة فى الهندسة ، يعنى انت مهندس ودارس تخصص ميكانيكا زى بابا ، وانت عارف بابا عنده شركة ومصنع ، يعنى انت بكل سهولة وبكل بساطة ممكن تروح تشتغل مع بابا  فى الشركة ودى حاجة مش صعبة ، انت حتى بابا كان بيتحايل عليك تسيب الجيش وتشتغل معاه ، بس انت اللى كنت مصر علشان حابب انك تبقى ظابط فى الجيش


ربما لقى حديث شقيقه هوى بنفسه اليائسة ، فنظر إليه متسائلاً بجدية:

– وقدر هى اللى حابة تتجوز يوسف هتغصبها مثلا وتقولها لاء اتجوزى اخويا اللى بيتهيألى انه بيحبك


إستقام أكرم بوقفته قائلاً برصانة :

– والله احنا هنقولها وهى تقرر بس لو هى رفضت يوسف اظن يبقى عندك فرصة يا رائف أنك تصارحها بحبك ده ومتخليهاش تضيع من ايدك ، ومتبقاش غاوى وجع قلب ، مايا وقولنا يا فرج الله أنها بعدت عنك ليه بقى عايز تضيع سچى من إيدك واديك شوفت اخلاقها وادبها وتربيها دى الواحد يحط اسمه وشرفه وعرضه وماله وكرامته فى إيديها وهو مطمن انها هتصونه مش لا مؤاخذة يعنى زى مايا اللى اصحابها الولاد اكتر من البنات


أراد رائف فض النقاش بينهما ، فرفع يده قائلاً بأمر :

– تعرف تسكت يا أكرم أنا مبحبش حد ولا هحب حد خلاص الحب مش فى حساباتى دى صفحة وقفلتها من زمان ثم خلاص لا مايا ولا غيرها رائف خلاص مبقاش ينفع يحب تانى


يأس أكرم من إقناع شقيقه بإتخاذ تلك الخطوة الهامة ، فرد قائلاً بإرهاق من كثرة مجادلته :

–ماشى يا رائف هسيبك على راحتك دا انت متعب اوى وغاوى تعذيب فى نفسك وفى اللى حواليك ، قوم بقى نتعشى الكلام معاك جوعنى وجابلى احباط


أنحنى أكرم وألتقط قميص رائف ومد يده له به مستأنفاً حديثه:

– خد قميصك البسه خلينا نخرج لهم برا أحسن تكون سچى زهقت وراحت تنام من غير عشا


أخذ رائف القميص من يده وهو يقول بإمتعاض :

– هات يا ظريف


إرتدى رائف قميصه ولكن قبل أن يخرج هو وأكرم ، وجدا شادى يلج الغرفة وهو يرفع يديه ويحرك فمه يميناً ويساراً قائلاً :

– الحقوا الحقوا تعرفوا مين جه برا دلوقتى


شعر أكرم بالقلق فأقترب منه متسائلاً:

– مين ده يا شادى اللى جه برا


صفع شادى وجنته بخفة وأجابه بإبتسامة خالية من المرح :

–  عصام 


سمع رائف إسم ذلك الشاب ، الذى لم يكن سوى إبن أحد أصدقاء والده المقربين ، وكان بيوماً ما زميل له بالدراسة ، ولكن لم يكن بينه وبين عصام أى وفاق ، نظراً لسلوكه الغير مهذب أحياناً


فجز رائف على أسنانه قائلاً بغيظ : 

– يادى النيلة وايه اللى جابو ده كمان دلوقتى هى ناقصة


أدنى أكرم رأسه من رائف قائلاً بصوت هامس :

– ألحق بقى قبل ما يبقى عصام غريمك وانت فاهمنى وعصام مش بيعتق حد ، أى حاجة فيها تاء مربوطة بيجرى وراها ومش عاتق


همس رائف بقرارة نفسها بوعيد :

– ماهى نقصاه هو كمان مش كفاية يوسف خليه يعمل حاجة وانا اطلع عينه من مكانها لو بس حاول يبصلها 


خرجوا ثلاثتهم من غرفة رائف ، وجدوا عصام جالساً بجوار أبيهم ، ولكن عيناه منصبة النظرات على سجى ، الجالسة بجوار صفية ، ولكنها لا تنظر إليه ، بل تنظر لموضع قدميها 


رآى عصام رائف وأكرم فصاح قائلاً بإبتسامته السمجة :

– أزيكم عاملين ايه ، لقيتكم وحشتونى جيت أشوفكم


رد رائف قائلاً بتهكم :

– عاملين نفسنا كويسين يا عصام ، منورنا 


أقترب أكرم منه مصافحاً وهو يقول :

– أهلا يا عصام منور الدنيا كلها ، أخبارك إيه


إبتسم له عصام لعلمه بأن رائف يشعر بالضيق لرؤيته :

– دا نورك يا دوك ، الحمد لله تمام أوى


حدق به ماهر بهدوء متسائلاً:

– باباك ومامتك عاملين ايه يا عصام بقالى شوية مشفتش باباك


رد عصام قائلاً وهو ينظر لسجى بفضول ، كونه تلك المرة الأولى التى يراها بها :

– كويسين الحمد لله بيسلموا عليكم ، بابا الشغل واخد كل وقته ، وانت عارفه يا عمى بيحب الشغل اوى ، صحيح مين الآنسة أنا اول مرة اشوفها هنا


أسرع رائف بالرد قائلاً :

– وأنت مالك أنت بتسأل ليه


رمقته والدته بنظرة معاتبة قبل أن تقول بصوتها الرقيق :

– دى قريبتنا يا عصام تبقى الدكتورة سچى


إبتسم عصام بأتساع وهو يريد منها أن ترفع رأسها ليراها بتمعن :

– وهى دكتورة فى ايه 


قضم رائف شفته السفلى ، لعله يستطيع كبح جماح غضبه ، فرد قائلاً:

– هتبقى دكتورة علاج طبيعى يعنى لما رقبتك تنكسر  بعد الشر يعنى هى هتعالجك


فإن كان بالعادة رائف يكره رؤية عصام ، فالأن صار الكره مضاعفاً ، لعلمه بتلك الأخلاق السيئة ، التى يملكها عصام من مطاردة الفتيات ومصادقتهن ، فهو لم يحيد بعيناه عنها ، كأنه على وشك إلتقاط لها صورة


وكز أكرم رائف بكتفه قائلاً بهمس :

– رائف لم دورك انت خليتها خل على الآخر ، دا بيسأل عادى يعنى دا الحب بهدلة صحيح


رد رائف الوكزة له قائلاً بغيظ :

– أنت مش شايف سماجته ورخامته واحد رزل بجد ، ثم حب ايه بقى ان شاء الله اللى بتقول عليه ، هتسكت ولا اقوم أولعلك فى نفسى علشان ترحمنى يا أكرم


إبتسم له أكرم قائلا وهو يربت على ساقه :

– يا حبيبى اجبلك طفاية الحريق هو أنا يرضينى برضه أنك تولع فى نفسك واقف أتفرج


عند هذا الحد ولكمه رائف بمنتصف معدته بخفه ، أمراً إياه :

– قوم من هنا أحسنلك ياض أنت


جلس أكرم بإرتياح بمقعده وهو يقول بإصرار :

– أقوم وأفوت الفيلم ده برضه دا أنا هشوف فيلم اكشن موت دلوقتى


حاول عصام جعل سجى أن تشارك بالحديث ، فهو لم يستمع لصوتها حتى الآن ، فضم كفيه وإستند بمرفقيه على ركبتيه قائلاً :

– تشرفنا يا آنسة سچى ، فرصة سعيدة إن شوفتك


ردت سجى بإبتسامة خجولة:

– متشكرة يا أستاذ عصام ، الشرف ليا أنا


أتحدثه وتجيبه على عبارته الترحيبية ، أتجعله يسمع صوتها الشجى ، على الرغم من نبرة الحزن التى تلازمه دائماً ، أتمنحه إحدى إبتساماتها الخجولة ، فلو كان يملك زمام أمورها ، لكان أنزل بها أشد أنواع العقاب جراء فعلتها ، فبشرع وعُرف الهوى والغرام  ، فهى مخطئة بل مذنبة ، بأن تجعل عاشقها يحترق بنيران الغيرة ، وكأنه نصب لها محكمة وسيصبح قاضيها وجلادها ، فأى سحر ألقته عليه ، وجعلته يركض لاهثاً بدرب العشق 


أعلنت الخادمة بأن الطعام تم وضعه على المائدة وبإنتظارهم أن يتناولوا طعام العشاء ، فنهض ماهر قائلاً:

– يلا بينا نتعشى يلا يا عصام اتفضل معانا


جلسوا جميعهم حول مائدة الطعام ، فأسرع أكرم بالجلوس بجوار رائف ، فهو يعلم أى مشاعر من الغضب والإستياء يشعر بها الآن ، خاصة أن عصام يحاول بشتى الطرق جذب إنتباه سجى له ، على الرغم من أنها جالسة بصمت وتنظر لطبقها ، جاعلة صفية أو هدى ، هما من تجيبان على كل ما يحاول عصام سؤالها عنه ، كمحاولته الآن أن يجعلها تجاريه بحديثه 


–هو أنتى يا آنسة سچى لسه بتدرسى

قالها عصام وهو يتحرق شوقاً لردها ، أو أن تفه بكلمة وتكسر حاجز الصمت ، الذى شيدته بينه وبينها 


إلا أن صفية هى من أجابته وهى تربت على ظهر سجى بحنان:

– لسه فاضلها سنة وتتخرج إن شاء الله


إبتسم عصام لصفية رغم شعور بالضيق من صمت سجى :

– بالتوفيق وتتخرج بتفوق إن شاء الله


أجابت سجى بصوت منخفض :

– شكراً يا أستاذ عصام


أبتهج عصام لقولها ، فعندما هم بفتح فمه ليسترسل بحديثه ، نظر له أكرم قائلاً:

– إيه يا عصام يا حبيبى مش هتاكل أكلك هيبرد


لم يفعل رائف شيئاً سوى الجلوس بصمت يراقب نظرات عصام لسجى ، فوسوس له عقله بأن يلقى طبقه بوجه ذلك الشاب السمج ، لعله يكف عن النظر لها بتلك النظرات الوقحة من وجهة نظره 


فقبض أكرم على يد شقيقه بقوة ، مما جعله يقطب حاجبيه قائلاً بغرابة:

– فى ايه يا أكرم ماسك ايدى ليه كده


رد أكرم قائلاً:

– علشان عارف وحاسس باللى انت بتفكر فيه ، وأنك عايز تخبط عصام بالطبق اللى قدامك ده دلوقتى


قال رائف وهو ينظر له بدهشة :

– أنت بقيت دكتور روحانى وبتقرأ الافكار ولا ايه


ضحك أكرم بخفة ورد قائلاً:

– لاء يا حبيبى بس انت مكشوف اوى وواضح ليا يعنى ممكن استنتج رد فعلك على طول


سحب رائف يده من أسفل كف أكرم ، وزمجر قائلاً بصوت منخفض:

– طب كل وأنت ساكت للبسك انت الطبق فى وشك ، دا أنت بقيت غتت يا أكرم


وضع أكرم الملعقة بفمه وهو يقول معاتباً بلطف:

بقى كده ماشى يا رائف ، أنا غتت علشان بواجهك بالحقيقة اللى مش راضى تعترف بيها 


بعد إنتهائهم من تناول الطعام وأنتقالهم لغرفة المعيشة ، لم تكن سجى تريد إكمال جلستها معه ، خاصة أنها بدأت تشعر بالضيق من تحديق عصام المستمر بوجهها 


فهبت واقفة متذرعة بحجة خلودها للنوم ، فنظرت لصفية وهى الأقرب لها بالمجلس :

– عن اذنكم وتصبحوا على خير


ردت صفية مبتسمة:

– أتفضلى يا حبيبتى وأنتى من اهله


خرجت من المنزل بطريقها للشقة ، ولكن أغرتها نسمات الليل البديع أن تجلس على الأرجوحة الموضوعة بالحديقة ، فتمايلت بها للأمام وللخلف ، وأغمضت عينيها تاركة لنسمات الهواء الرقيقة مهمة ترطيب حرارة وجهها ، التى شعرت بها تلهب وجنتيها ، ولم تكن تلك هى المرة الأولى ، التى تشعر بها بتلك الحرارة ، فهى باتت تشعر هكذا كلما كان حاضراً بالمكان ، وكأن يجلب برفقته حرارة الشمس الحارقة ويزرعها بوجنتيها  ، فغلبها النعاس بعد صراعها مع أفكارها ، التى تود وضع حداً لها قبل أن تتفاقم أكثر ، فلم تعد تشعر بشئ 


بالداخل وبعد أن أنتهى عصام من جلسته معهم ، هب واقفاً ليهم بالإنصراف إلى منزله ، فنظر لماهر قائلاً :

– عن أذنكم أنا بقى أنا همشى تصبحوا على خير 


ودعه الجالسين بود ،  فى حين أن رائف همس قائلاً:

–سلام يا اخويا المركب اللى تودى


رآه يخرج من باب المنزل ، ولا يعلم ذلك الصوت الذى صرخ بداخل عقله ، من أن يتبعه حتى يطمأن لرحيله نهائياً من المنزل ، فهب واقفاً وأستند على عصاه ، وأخبرهم بأنه سيسير قليلاً بالحديقة قبل نومه ، ويريد أن يسير بمفرده 


فأثناء مرور عصام من الحديقة ، رآى سجى نائمة بوضعية الجلوس على الأرجوحة ، فكف عن السير ووقف على مقربة منها واضعاً يديه بحيب بنطاله وظل ينظر لها وهى نائمة بوداعة 


إلا أنه سمع صوت رائف يناديها بعصبية وصوت جهورى :

– سچيييييييى


أنتفضت سجى من نومها ، بعد سماع صيحته العالية ، فنظرت حولها بفزع ووضعت يدها على صدرها وهى تقول بإرتجافة قوية :

– بسم الله الرحمن الرحيم ايوة فى ايه


أقترب منها وكز على أسنانه قائلاً بغيظ :

– أنتى حضرتك نايمة هنا ليه اتفضلى قومى يلااااا


لم يعر عصام إنتباه لرائف ، فنظر لسجى قائلاً بدفء:

– سلام يا آنسة سچى فرصة سعيدة وتصبحى على خير


فركت سجى عينيها وهى تقول :

–  وأنت من أهله ، مع السلامة يا أستاذ عصام


أنصرف عصام دون أن يحاول الإلتفات لرائف ، الذى برزت عروقه من فرط شعوره بالغيرة والغضب وكل ما يمكن أن يشعر به رجل يغار على حُرمة منزله 


فبعد إطمئنانه لرحيل عصام ، شخص ببصره لسجى قائلاً بغضب :

– أنتى إزاى تنامى هنا ها وانتى من امتى بتنامى هنا ،ولا انتى كنتى حابة انه يشوفك كده وانت نايمة بالمنظر ده


اتسعت حدقتيها من إتهامه لها ، فردت قائلة بإنفعال حاد :

– منظر إيه اللى أنت بتقول عليه أنا كنت قاعدة على المرجيحة مش نايمة على كنبة يعنى ثم أنت إزاى تتجرأ وتقولى كده ها أنت مفكر نفسك ايه وإزاى تتهمنى بكلام زى ده ياريت تحافظ على كلامك قبل ما تقوله أنت فاهم ، وأنا كنت قاعدة بشم هوا والنوم غلبنى من غير ما أحس انا ما أجرمتش يعنى 


أشارت بسبابتها فى وجهه ، دليلاً على ضرورة إحترامه بالحديث معها ، وألا يحاول أن يتجاوز الحدود المتعارف عليها بينهما


فنظر رائف لإصبعها وعاود النظر إليها قائلاً:

– وكمان بتهددينى بكلامك دا انتى بقيتى جريئة أوى


ألتمعت الدموع بعينيها ، إلا أنها أبت أن تبكى أمامه ، فرمقته بنظرة قوية قائلة :

– شوف بقى أنا سمعت منك كتير واستحملت وسكت علشان أنا طبعى إن مردش الإساءة بالاساءة لكن كفاية كده أنا مش هسمحلك أنت أو أى حد تانى أنه يتجاوز حدوده فى الكلام معايا  أو أنك توجهلى كلام ميعجبنيش أو حتى تتهمنى بحاجة أنا معملتهاش ولو حضرتك مضايق من وجودى أوى كده ومش لاقى حاجة تعملها غير أنك كل شوية تهاجمنى بكلامك يبقى خلاص أنا داخلة أقول لجدتك انى ماشية من هنا خالص علشان ترتاح وانا كمان ارتاح ، لأن من ساعة ما جيت هنا وأنت مش طايقنى


أنهت حديثها وهمت بالعودة للمنزل لإخبارهم بشأن رحيلها ، إلا أنه إستوقفها قبل أن تبتعد أكثر وهو يقول بأمر :

– إستنى عندك هنا ، انتى مش هتمشى من هنا انتى فاهمة


ضمت سجى ذراعيها وهى تقول بتحدى سافر :

– ومين اللى هيمنعنى بقى ، أنت ؟ ولو أنت ، هتمنعنى بصفتك إيه إن شاء الله


أحكم قبضته على عصاه وهو يقول ببرود :

– بصفتى ابن الراجل والست اللى حبوكى زى ولادهم ولو مشيتى هيزعلوا وجدتى هتزعل


قالت وهى تشيح بوجهها عنه :

– والله باباك ومامتك وجدتك وكلهم على عينى وراسى بس أنت اللى مش عارفة أنا عملتلك ايه علشان تعمل معايا كده


غمغم قائلاً بهدوء:

– معملتيش حاجة وياريت تنسى اللى حصل واتفضلى روحى نامى 


اغتاظت سجى من بروده ، كأنها طفلة ويجب عليها الإستماع لما يمليه عليها ، فأتسعت طاقتى أنفها قائلة بغيظ :

– تسمحلى اقولك حاجة


نظر إليها مقطباً حاجبيه متسائلاً:

– حاجة ايه دى اللى عايزة تقوليها ؟


عندما همت بفتح فمها لتغرقه بسيل من النعوت والصفات ، التى تريد منها أن تجعله يشعر بمدى إستياءها منه ، عادت وأغلقته ثانية ، وردت قائلة بعد هنيهة :

– بلاش أحسن تزعل عن أذنك وتصبح على خير


تركته واقفاً يفكر فيما كانت ستقوله ، ولكن أحجمت لسانها عنه ، فهو بات يتصرف برعونة وسخافة ، وربما أفعاله تلك ستسبب بتركها المنزل بيوم من الأيام ، ولكن فكر أن ربما رحيلها من هنا سيكون خيراً لها وله ، فلو ظلت أمامه ويراها بكل مكان بالمنزل ، سيكون شعوره بصعوبة فراقها مضاعفاً ، فمن الأفضل أن ترحل من هنا سريعاً ، قبل أن يأتى ذلك اليوم الذى يراها زوجة لرجل غيره 


❈-❈-❈


صبت كامل إهتمامها وتركيزها على شرح يوسف العملى ، لإحدى جلسات العلاج الطبيعي ، الخاصة تلك المرة بمن أصيبوا بالعجز الناتج عن الإصابة بالعمود الفقرى ، والتى تشبه كثيراً إصابة رائف ، فشردت عندما تذكرته ، بل أنها ظلت تحملق بالفراغ وهى تتخيل مدى تلك المعاناة التى يعانيها أثناء خضوعه لتلك الجلسات ، فالمريض المتسطح أمامهم كان يصيح من وقت لأخر نتيجة لشعوره بالألم 


انقبض قلبها وهى تسمع المريض يصرخ رافضاً المزيد من تلك الجلسات ، إلا أن يوسف نجح بتهدئته حتى أنتهى التدريب ، خرجت سجى من الغرفة ، إلا أنها سمعت يوسف يناديها بإلحاح تلك المرة :

– لحظة يا أنسة سچى كنت عايز اتكلم معاكى فى موضوع مهم


علمت ريهام بأى شئ هو يريدها ، لذلك حمحمت قائلة 

– أنا هسبقك وابقى تعالى


ذهبت ريهام وأنتظرت سجى أن يقول ما لديه ، فضمت دفترها لصدرها ، وخفضت وجهها أرضاً ، فسمعته يقول بصوته الرصين :

– أنا كنت طلبت منك إن إحنا نرتبط بس أنتى مردتيش عليا لدلوقتى


أزدرت سجى لعابها ، وهى تشعر بسخونة جلدها ، خشية من قول تلك الكلمات المختزنة خلف شفتيها ، ولكن لابد لها من قولها ، فهى لن تماطله أكثر 


فحاولت التحلى بالهدوء وهى تقول بإعتذار مهذب:

– كل شئ قسمة ونصيب يا دكتور يوسف ، حضرتك دكتور ممتاز ومحترم جدا بس أنا مش هقدر نرتبط ، أنا أسفة


شعر يوسف بحرج طفيف فلمس نظارته الطبية وهو يقول بحذر :

– أفهم من كده أن فى حد تانى فى حياتك


عاث ذلك السؤال الفوضى بعقلها ، إلا أنها إستطاعت القول :

–مش موضوع أن فى حد تانى الموضوع إن أنا بحترمك كدكتورى غير كده انا اسفة ، وأتمنى ان حضرتك متزعلش منى


حرك يوسف رأسه قائلاً بتفهم لقولها :

– فهمتك يا سچى ، ولا ابدا مش زعلان منك  وزى أنتى ما قولتلى كل شئ قسمة ونصيب


ردت سجى مبتسمة لكياسته :

– حضرتك إن شاء الله ربنا هيرزقك بالبنت اللى تسعدك ، وتكون أحسن منى ألف مرة ، أنت تستاهل كل خير


إبتسم لها يوسف قائلاً :

–شكرا يا سچى وانتى هتفضلى طول عمرك بالنسبة ليا الطالبة المجتهدة اللى ليها احترامها عندى ، وربنا يوفقك عن إذنك


بعد ذهاب يوسف ، سارت سجى برواق المشفى ببطئ وهى مازالت تفكر فى أسباب رفضها للزواج من يوسف ، فهل هى رفضته من أجل ذلك القاسى الفظ غليظ القلب ، الذى لا يفعل شئ بيومه سوى إخراجها عن طورها ، بل أحياناً يسمم أذنيها بحديثه المبطن ، فينقصه فقط أن يخبرها إياها صريحة وهى أن تأخذ حقيبتها وتترك المنزل على الفور ، ولكن فاقت من شرودها عندما وجدت نفسها أمام تلك الغرفة ، التى أتخذتها هى وريهام للراحة أثناء وجودهما بالمشفى ، وحتى يحين موعد عودتهما للمنزل


ولجت الغرفة ، فنظرت لها ريهام وتساءلت بفضول :

–ايه يابنتى متنحة ليه كده،  فى ايه وصحيح دكتور يوسف كان عايز ايه منك


جلست سجى ووضعت الدفتر من يدها وزفرت بهدوء قائلة :

– بيكلمنى فى الموضوع إياه لما كان عايز يخطبنى


أبتهجت ريهام لسماع قولها ، فوكزتها وهى تقول بإبتسامة :

– وأنتى رديتى عليه قولتيله ايه ؟ ها قولى بقى 


خفضت سجى وجهها وهى تقول بعدم إكتراث:

– رفضت يا ريهام


فغرت ريهام فاها وهى تقول بدهشة وصدمة :

– ليه يا بنتى دا دكتور يوسف محترم جدا ومركزه كويس واى بنت تتمناه


أماءت سجى برأسها تؤيد صدق قولها ، إلا أنها قالت بتيه :

– عارفة كلامك ده كله يا ريهام بس انا مقدرش أوافق عليه ، مش هو ده اللى بتمناه ، ومقدرش أتجوزه وأنا مش حاسة بحاجة ناحيته ، كده هبقى بظلمه وبظلم نفسى 


قطبت ريهام حاجبيها ، كأنها لا تفقه شئ مما تقوله ، فنظرت لها بتمعن متسائلة:

– ليه يعنى فى ايه ؟ أنا وربنا ما فاهمة حاجة 


صفعتها سجى بخفة على يدها وهى تقول :

– أهو كده وخلاص يلا بينا خلينا نروح نشترى حاجة ناكلها علشان جوعت أوى


نهضت سجى من مقعدها ، ولكن قبضت ريهام على مرفقها وهى تقول بإهتمام :

– بت أنتى بتتهربى من الكلام ليه  ،أنتى مخبية عنى حاجة ؟ فى حاجة انا معرفهاش؟


ردت سجى مبتسمة بإرتباك :

– هتهرب ليه يعنى ، وحاجة ايه دى اللى هخبيها عليكى ، ما سرى كله معاكى


رفعت ريهام حاجبها الأيسر وقالت بعدم إقتناع :

– لاء أنتى شكلك عايزة قاعدة أعرف فيكى إيه لأنك أول مرة أحس إنك مخبية عليا حاجة


جذبتها سجى حتى أستقامت بوقفتها وتأبطت ذراعها تجرها معها وهى تقول بإبتسامة :

–يلا يا مجنونة خلينا هنشوف نعمل ايه وبطلى رغى


ظنت أن إبتسامتها ومرحها المفتعل سيأتيان بالنتائج المرجوة ، وستكف ريهام عن سؤالها عما تخفيه عنها ، فإن كانت ريهام تعلم عنها كل شاردة وواردة ، إلا أن تلك المرة ، لا تعلم بما تخبرها ، فهى حتى لا تستطيع فهم تلك المشاعر ، التى تزورها لأول مرة ، حتى وإن أقتنعت بأنها صارت تكن لرائف شعور خاص ، فلما ترغب بأوقات كثيرة أن تتشاجر معه وتنفس به جام غضبها ونزقها من أفعاله معها ، فعواطفها تتأرجح بين الكراهية والحب ، الميل إليه والنفور منه ، فهى تشعر بكل شئ ونقيضه 


❈-❈-❈


زاد إشتياقها وحنينها لرؤية شقيقتها ، ففكرت أن تهاتفها وتقترح بأن تتقابلا لتراها ، فإن كانت والدتها حرمتها حق رؤية سجى منذ وفاة والدتها ، فهى لن تستطيع حرمانها من الشعور بالإشتياق إليها ، فسجى هى الوحيدة ، التى تهون عليها جفاء والدتها معها ، فأحياناً كثيرة تشعر أن سجى هى والدتها ، وليست تلك المرأة الجالسة بالصالة تشاهد التلفاز وصوت ضحكتها يهز أرجاء المنزل 


نظرت أروى لباب غرفتها ، فوجدته مغلق بإحكام ، أخذت هاتفها لإجراء مكالمة هاتفية مع شقيقتها ، تخبرها بها بأنها تريد رؤيتها سمعت صوت سجى فقالت بسعادة :

– ألو ازيك يا سچى عاملة ايه يا حبيبتى وحشتينى


ردت سجى قائلة بشوق :

– الحمد لله يا حبيبتى تمام وأنتى كمان وحشانى يا أروى عاملة ايه 


هتفت بها أروى بحماس :

– الحمد لله وحشانى أوى والله ونفسى اشوفك ما تيجى 


ردت سجى قائلة :

– أنتى عارفة مامتك يا أروى فمش هينفع اجى عندكم ، فإيه رأيك نتقابل ونتمشى شوية قولتى ايه


أبتهجت أروى لإقتراحها وقالت :

–ايوة عارفة ماما وعمايلها ، بس ماشى أنا موافقة نتقابل برا ، هقابلك فين ؟


– هستأذن من تيتة صفية وهرن عليكى هقولك نتقابل فين سلام دلوقتى 

قالت سجى عبارتها وأغلقت الهاتف ، فشعرت بالسعادة والحماس لرؤية شقيقتها


فما أن أغلقت أروى الهاتف ، حتى وجدت والدتها تقتحم الغرفة ، مما جعلتها تنتفض بجلستها ، إلا أنها حاولت رسم إبتسامة هادئة ، فرمقتها فادية بتفحص وتساءلت :

– كنتى بتكلمى مين يا أروى


ردت أروى قائلة بتوتر :

– دى دى واحدة صاحبتى بقالى كتير مشوفتهاش ،كانت عايزة تشوفنى اصل بقالنا فترة كبيرة مشوفناش بعض من ساعة ما خلصنا دراسة


وضعت فادية يديها بخصرها وقالت :

–ما تخليها تجيلك هنا تقعد معاكى


قالت أروى برجاء :

– هى بتقول نتقابل ونتمشى شوية بدل قاعدة البيت ، فأرجوكى يا ماما عايزة أخرج أقابلها علشان خاطرى ، أنا أتخنقت من قاعدة البيت 


لوت فادية شفتيها وهى تقول:

–ياسلام ومالها قاعدة البيت يعنى ، خلاص هتخرجى بس متتاخريش لو اتاخرتى مفيش خروج تانى ماشى يا أروى


قفزت أروى على قدميها وهى تقول بسعادة :

– لاء مش هتأخر هنتمشى شوية وأجى على طول شكراً يا ماما


فتحت أروى خزانة ثيابها وأخذت ثياب لها وهى ترتديها على وجه السرعة ، خشية أن تحنث والدتها بحديثها معها ، ففادية على الرغم من تعجبها من إبتهاج إبنتها الواضح ، إلا أنها خرجت من الغرفة ، فوجدت باب المنزل يفتح ويلج منه زوجها ويبدو عليه علامات الإرهاق الشديد


فرمقته بدهشة وقالت:

– جاى بدرى النهاردة يعنى يا حامد


ألقى حامد سلسال المفاتيح من يده وهو يزفر بإرهاق :

–مفيش تعبان شوية فجيت علشان ارتاح


خرجت أروى من غرفتها ، وسمعت قول أبيها فأقتربت منه وسألته بإهتمام :

–سلامتك يا بابا مالك فى ايه


ربت حامد على وجهها وقال بإبتسامة خالية من الدفء :

–مفيش يا حبيبتى دول شوية صداع بس


قالت فادية وهى تتجه صوب غرفتها :

–هشوفلك برشامة مسكن


قبلت أروى أبيها وهى تقول بوداعة:

–بابا انا هخرج اشوف واحدة صاحبتى ، أنا قولت لماما ووافقت


هز حامد رأسه بالموافقة قائلاً:

– ماشى بس مفيش تأخير ترجعى بدرى


أجابته أروى بطاعة :

– حاضر هاجى بسرعة مش هتأخر سلام 


خرجت أروى من باب المنزل ،فى حين أنه ذهب لغرفته ، فوجد فادية تفتش بالأدراج عن أقراص الدواء المسكنة للآلام ، فأرتمى على الفراش وهو يشعر بأنه بقفير نحل من كثرة التفكير بتلك المشكلة ، التى حلت على رأسه اليوم ، والتى إن لم يجد لها حلاً ستؤدى به إلى الخراب الحتمى ، فكلما أغلق عيناه يعود ويفتحها ثانية برعب وخوف ، حتى أنتبه على زوجته وهى تناوله أقراص المسكن ،فأخذها منها وأبتلعها وهو يفكر بما تفيد تلك الأقراص ، وهو يشعر بأن كثرة التفكير تكاد تفتك برأسه وعقله 


❈-❈-❈


بعد إنتهاءها من إرتداء ثوبها وحجابها الأسود ، الذى لم تتخلى عن إرتداءه حتى الآن ، على الرغم من إلحاح هدى وصفية بأن لا ترتدى الثياب السوداء ، ولكن هى لن تستطيع إرتداء ثياب بلون أخر ، وهى مازالت تشعر بأن والدتها فارقتها بالأمس وليس منذ ما يقرب من ثلاثة أشهر ، فإن كانت أحياناً تضحك وتبتسم وتحاول أن تبتهج بيومها ، إلا أن خلف تلك الابتسامة هماً وألماً شديداً لشعورها بفقد والدتها 


دلفت المنزل تبحث عن صفية فوجدتها تجلس برفقة هدى ورائف ، فلم تنظر إليه على الرغم من تحديقه المُلح بها ، خاصة وهو يراها بثيابها تلك ، كأنها على وشك الخروج من المنزل ، ولكن اليوم يعلم بأنه يوم عطلتها عن التدريب بمشفى شقيقه أكرم


ولكن سمعها تقول لجدته بصوتها الرقيق :

–لو سمحتى يا تيتة ،انا عايزة اخرج شوية ، هقابل أروى اختى 


نظرت لها صفية قائلة :

–خليها تجيلك هنا يا حبيبتى وتقعد معاكى براحتها


ردت سجى مبتسمة بتهذيب :

–الصراحة أنا عايزة أقابلها ونتمشى شوية بعد أذنك


منحتها صفية موافقتها وقالت 

–ماشى يا حبيبتى روحى


قالت هدى وهى تناولها ثمرة فاكهة من الطبق الموضوع على ساقها :

–خلى بالك من نفسك وخلى السواق يوصلك


أخذت منها سجى الثمرة وردت قائلة:

– بلاش المرة دى أنا هاخد تاكسى بلاش أذنبه معايا لأن انا وهى هنتمشى 


أمعن رائف النظر بها ورد قائلاً بسخرية كعادته :

– ليه مش عايزة تاخدى السواق ، حضرتك ناوية تباتى برا النهاردة ولا إيه


شعرت بمهانة من قوله لها إلا أنها فضلت عدم الرد على قوله ، فنظرت لصفية وهدى وقالت :

–عن اذنكم علشان متأخرش


أسرعت الخطى للخروج من المنزل ، قبل أن تخونها دموعها وتنزلق من عينيها ، ولكن ما أن وصلت للحديقة ، حتى أطلقت العنان لدموعها وشهقاتها ، فلما يفعل ذلك معها ؟ فهو بات لا يفوت فرصة أو مناسبة ، إلا ويقذفها بحديثه المهين والقاسى


أنتبهت صفية على جفاء رائف الدائم مع سجى ، فنظرت إليه بعين الغضب معنفة إياه :

–فى ايه يا رائف ، انت ليه بتتكلم مع سچى بالطريقة دى كأنك دايما تهاجمها فى الكلام عيب كده انت بتحرجها بكلامك ده 


قالت هدى مؤيدة حديث والدة زوجها :

– فعلاً أنت طريقتك ناشفة أوى معاها يا رائف ، ليه كده ما اخواتك بيعاملوها عادى ، اشمعنا أنت اللى دايما تسمعها كلام يزعلها ، حتى أوقات بحس أنها هتعيط من كلامك معاها


رد رائف قائلاً بسخرية :

– طريقتى ناشفة معاها ، حاضر هطريها حاجة تانية


قالت صفية بإنفعال :

–بتتريق يا رائف على كلامنا


أسند وجنته لكف يده ورد قائلاً بإبتسامة سمجة :

– أعاملها ازاى يعنى اضربلها تعظيم سلام فى الداخلة والخارجة علشان ميبقاش دمى تقيل


حركت هدى رأسها بيأس وقالت :

– أنت بقيت غريب أوى يا رائف ، ربنا يهديك يا أبنى


ولج شادى بعدما أنتهى من إحدى تجاربه المعملية ، والتى لم تنتهى سوى بالفشل كالعادة ، فنظر لهم متسائلاً:

– هو فى ايه اللى حصل ، سچى مالها كانت بتعيط ليه ، حتى ناديت عليها ما رديتش وزى ما تكون جريت على الاستراحة علشان محدش يشوفها وهى بتعيط


هبت هدى واقفة وهى تنظر لرائف قائلة بإنزعاج :

– أرتحت يا رائف يارب تكون مبسوط دلوقتى باللى أنت عملته


رد رائف قائلاً:

– وأنا عملت إيه يعنى هو أنا شتمتها 


زفرت صفية قائلة بلين :

– حبيبى مش كده الكلام ميبقاش كده ، دى بنت وحساسة وكمان حاسة أنها غريبة عننا ، فبدل ما تطمنها وتحسسها أنك زى أخوها عايز تطفشها من البيت


جذب رائف عصاه ، واستند عليها وترك مقعده قائلاً بضيق :

– حاضر مش هتكلم معاها خالص ولا كأن شايفها تمام كده يا تيتة ، فى حاجة تانية مطلوبة منى 


لم ينتظر سماع رد أحداً منهم ، بل ذهب لغرفته وهو يشعر بالغباء لأفعاله معها ، ولكن هذا هو الحل الأمثل ليجعلها تترك المنزل ، ولكن وإن كان عزم الأمر على تنفيذ ما إهتدى إليه بتفكيره ، حتى لا يزداد تعلقه وشغفه بها ، إلا أن الأمر إزداد سوءاً ، فكلما مر عليها يوم بهذا المنزل ، تزيد من إحتراقه بلهيب الغيرة كلما رآها خارجة من المنزل ، فبات يريد حبسها ببرج عالى ويتولى هو حمايتها وحراستها ، ولا يجعل أحد غيره يراها 


❈-❈-❈


أخبرت سجى شقيقتها أروى بإسم ذلك المقهى ، الذى تنتظرها به ، فظلت جالسة حول تلك الطاولة الصغيرة بجوار النافذة ، تراقب المارة بالشارع ، فشاهدت رجل يحمل طفلة صغيرة وتتأبط ذراعه زوجته ، التى تسير بجواره تتحدث وتبتسم وتداعب وجنة صغيرتهما ، فإبتسمت سجى لرؤيتهم وهى تفكر هل سيأتى اليوم وتكون زوجة محبة لزوجها ولديها أسرة صغيرة تغدقها بحنانها وحبها 


أنتبهت على مجئ شقيقتها ، فألقت نظرة خاطفة على هذان الزوجان ، وعادت تنظر لشقيقتها ، فبعد جلوسهما لمدة لا تتجاوز الخمسة عشر دقيقة ، اقترحت سجى أن تتنزهان بالشارع فوافقت أروى على إقتراحها 


فخرجتا من المقهى ، وابتاعت سجى بعض الشطائر لها ولشقيقتها ، فجلستا قريباً من النيل


فأكلت أروى شطيرتها وهى تقول بتفكه :

– الواحد خلل من قاعدة البيت ، دا فى الدراسة كنت بخرج أكتر ، لكن دلوقتى مفيش حاجة نعملها وماما حبسانى فى البيت زى القطط


ضحكت سجى على قولها مربته على يدها بإشفاق :

– ربنا يكون فى عونك يا أروى بس متقلقيش شوية وهتبدأ الدراسة تانى


ظلتا تتحدثان عن كل شئ وعن لاشئ ، فلم تنتبه سجى لإقتراب هذان الشابان اللذان يستقلان دراجة بخارية ، إلا عندما قام أحدهما بإختطاف حقيبتها ، ولكنها ظلت ممسكة بطرفها لا تريد إفلاتها ، ولكن أدى ذلك لسقوطها أرضاً ، وهى مازالت تحتضن حقيبتها ، فأسرع الشاب بتركها ، قبل أن يجد نفسه هو ورفيقه بمأزق كبير


أسرعت أروى بالإقتراب منها وأنحنت إليها قائلة بخوف :

–سچى سچى انتى كويسة يا حبيبتى


شعرت سجى بألم شديد بيدها اليسرى وقالت بأنين :

– الحمد لله بس شكل ايدى اتجزعت يا أروى ، اصل الكلب ده كان بيشد الشنطة جامد ولما وقعت وقعت على ايدى


ساعدتها أروى بالوقوف وهى تشير بيدها الأخرى لسيارة أجرة  وهى تقول :

–طب تعالى بسرعة نروح أى مستشفى نشوف ايدك حصلها ايه


ذهبتا لإحدى المستشفيات القريبة منهما ، فأخبرها الطبيب بضرورة إجراء فحص ليدها بالأشعة ، فبعد إنتهاءها منها ، نظر لها الطبيب قائلاً:

– الحمد لله ده مش كسر ده جزع بسيط بس هنعمل له جبيرة علشان تخف بسرعة


أنكمشت ملامح سجى قائلة بألم :

–ماشى يا دكتور اللى تشوفه


بعد أن أنتهى الطبيب من عمل الجبيرة ، دَون بورقة بيضاء بعض اسماء العقاقير الطبية اللازمة لها ، فناولها لأروى قائلاً :

– اتفضلى انا كتبتلها على مسكنات علشان هى هتوجعها فهى تاخد الدوا وان شاء الله هتبقى كويسة ، والف سلامة عليها


إبتسمت له أروى بهدوء وقالت :

– الله يسلمك يا دكتور ومتشكرين جداً


خرجتا من غرفة الطبيب ، وذهبتا لشراء الدواء ، فبعد أن أنتهت أروى من شراءه نظرت لشقيقتها قائلة بأسف :

– أنا اسفة يا سچى أنا السبب خليتك تخرجى من البيت وده حصلك ، والف سلامة عليكى يا حبيبتى


ربتت سجى على وجنتها وردت مبتسمة رغم ألمها :

– متقوليش كده دا كله مقدر ومكتوب وانا مبسوطة انى شفتك ، وتسلميلى يا حبيبتى يلا بقى روحى علشان متتأخريش ولما توصلى رنى عليا طمنينى انك وصلتى ماشى يا أروى


أماءت أروى برأسها وهى تقول بحنان :

– إن شاء الله و خلى بالك من نفسك سلام


ودعت سجى شقيقتها ، وأشارت لسيارة أجرة وعادت للمنزل ، ذهبت رأساً للشقة ، فأرادت تبديل ثيابها ولكن وجدت مشقة فى فعل ذلك ، ولكن بعد محاولات إستطاعت فعلها ، وبعد إنتهاءها جلست على طرف الفراش تحاول إلتقاط أنفاسها ، ولكن داهم النعاس عينيها ، فأستلقت على فراشها وغفت بسرعة كبيرة ، كأنها ترغب بالتخفيف من تلك الآلام التى تشعر بها 


وبعد بضع ساعات إستيقظت من نومها ، ونظرت بالساعة المعلقة على الجدار ، فعلمت أن وقت العشاء قد حان ، فتركت فراشها وذهبت للمرحاض ، لترشق وجهها بالماء لتفيق من ذلك الخدر الذى تشعر به من أثر النعاس ، فبعد خروجها أتجهت لباب الشقة ، وعندما حاولت فتحه لتخرج إنتابها دوار شديد ، فأسندت جسدها للجدار بجانب الباب ، حتى تستعيد توازنها 


بذلك الوقت ، كان ماهر عاد من عمله كالمعتاد وتبعه أكرم ، فإجتمعوا بالصالة بإنتظار تناول العشاء ، فخرج رائف من غرفته يبحث عنها ، ولكنه لم يجدها جالسة معهم ، فظن أنها لم تعود من الخارج حتى الآن ، ولكن نهش القلق قلبه على تأخيرها كل هذا الوقت 


إلا أنه إستطاع أن يوارى قلقه خلفه بروده وهو يقول بسخرية :

– هى الأنسة سچى لسه مرجعتش من برا لدلوقتى


نظر ماهر لزوجته متسائلاً :

– برا فين هى راحت فين يا هدى ؟


ردت هدى قائلة والقلق بدأ ينهش قلبها هى الأخرى :

– كانت خرجت تقابل اختها أروى بس لسه مجتش لدلوقتى وحاولت أرن عليها كذا مرة تليفونها مقفول 


تململت صفية بجلستها وقالت :

– دى مش عوايدها تتأخر برا كده ، يا ترى حصل إيه 


حاول أكرم مهاتفتها ، ولكن وجد هاتفها مازال مغلقاً ، فساوره القلق خشية أن يكون حدث لها مكروه ، فقال وهو ينظر لرائف :

– برن عليها برضه تليفونها مقفول ، ليكون حصل ليها حاجة


رد شادى بسرعة :

– لا إن شاء الله خير اكيد هى كويسة متقلقوناش يا جماعة


قال رائف بسخرية وهو يتمطى بذراعيه :

–تلاقيها بس القعدة عجبتها وتليفونها فاصل زمانها جاية متقلقوش اوى كده


رمقه والده قائلاً بقلق :

–دى مش عوايدها انها تكون برا البيت فى الوقت ده


لوى رائف ثغره قائلاً بتأفف :

– نقوم نعمل حفلة تفتيش عليها يعنى ولا ايه ، ما قولتلكم زمانها جاية ، أنتوا اللى قلقانين بزيادة


عند هذا الحد وصاحت به والدته بإنفعال وغضب :

– أنت وبعدين معاك فى طريقتك دى يا رائف انت هتسكت ولا لاء


زفر رائف قائلاً ببرود :

– إحنا هناكل فى يومنا ده ولا ايه ، ولا اقوم أنام أحسن ، ولما تلاقوا الأنسة تبقوا تصحونى أتسحر مش أتعشى 


– مالك يا ابيه فى ايه ، وبتتكلم عليها ليه كده

قالها شادى بعتاب ، فجميعهم يشعرون بالقلق والخوف ، ولكن رائف يسخر منهم ومنها ، بل أن سخريته وعدم إكتراثه وصلت حد البرود المزعج


فرد رائف قائلاً بعدم إكتراث:

– مالى يا حبيبى أنا زى الفل أهو بس زى ما تقول كده جعان ، وشكلى هفضل بجوعى على ما الأنسة سجى تشرف وتقولنا حصلها إيه


أقترب أكرم من مقعد رائف ومال إليه بجزعه العلوى هامساً بأذنه :

– خف يا رائف شوية ، أنا عارف انك من جواك هتموت من الخوف عليها، ولو بايدك كان زمانك دلوقتى خارج تدور عليها فى كل حتة لحد ما تلاقيها ولا ايه


وكزه رائف بصدره قائلاً بحنق :

– ياريت تنقطنى بسكاتك وبطل تخريف ماشى


وضع أكرم يده على موضع وكز شقيقه له بصدره ، فرد قائلاً بهدوء :

–حاضر هبطل تخريف وانت بطل اللى بتعمله فى نفسك وفيها ده ، الله أعلم إيه اللى ممكن يكون حصلها


أبتعد أكرم عنه ، فهو محق بكل حرف تفوه به ، فهو يشعر بالخوف ، الذى كاد يفتك بقلبه وعقله ، وأشتعلت نيران القلق بصدره ، فلو كان قادراً على الخروج والبحث عنها ، لم يكن يتردد عن فعل ذلك ، ليعلم علام تأخيرها ، ولم تركت الوساوس تملأ عقله ، فكل هذا من أجل غيابها بضعة ساعات ، فكيف سيكون حاله عندما تغيب عن عيناه ما تبقى له من حياته ؟


ضم شفتيه بقوة ، حتى شعر بألم طفيف بهما ، وكأنه بذلك سيمنع خروج تلك الكلمات من فمه ، والتى لن تكون سوى رجاء لهم بالخروج للبحث عنها وإعادتها للمنزل 


ولكنه سمع صوت الخادمة وهى تهرول إليهم قائلة بفزع :

– هدى هانم هدى هانم الحقى الأنسة سجى


أنتفضت هدى من مكانها وهى تقول بخوف:

– إيه فى إيه ، مالها سچى ايه اللى حصل


يتبع ....