رواية نعيمي وجحيمها - بقلم الكاتبة أمل نصر- اقتباس - الفصل الرابع والخمسون
رواية نعيمي وجحيمها بقلم الكاتبة أمل نصر
رواية نعيمي وجحيمها
اقتباس
الفصل الرابع والخمسون
على إحدى مقاعد الإنتظار بالمشفى كانت جالسة تتابعه وهو يقطع الطرقة الصغيرة ذهابًا وإيابًا دون هوادة، وقد تبين خطورة وضع الفتاة بعد ان أجمع الأطباء بصحة التشخيص الأولي لضرورة إجراء سريعًا لأستئصال الزائدة الدودية قبل أن تنفجر بها ويتفاقم الوضع، ليأخذ القرار نيابة عنها وعن الإتصال بأحد أقاربها ويوقع بنفسه على الإجراءات، حتى الاَن لا يستوعب عقلها جرأته في هذا التصرف ، وكأن الفتاة يخصه أمرها بشدة، بداية من حملها على ذراعيه ثم إمضاء الإقرار الروتيني لإجراء العملية، ثم هذا القلق الكبير في انتظار خروجها من غرفة العمليات
- يارب يارب .
تمتم بها في أثناء سيره بالقرب منها،
فخرج صوتها إليه بمؤازرة رغم احتقانها من الداخل:
- براحة شوية يا طارق، وخلي عندك أمل في الله.
التف إليها يردد برجاء:
- ونعم بالله يا كاميليا ونعم بالله .
هتف بها واستند بجسده على الحائط المجاور لها يغمض بكفه عينيه وقدمه في الأسفل تهتز بعصبية ودون هوادة، ليرتد فعله عليها بانفعال لم تقوى على إخفاءه فهتفت به:
- على فكرة الموضوع مش مستاهل القلق دا كلها ، دي عملية عادية جدًا وبتتعمل كل يوم .
إرتفعت عينيه إليها محدقًا بغضب ليسألها بحدة:
- هي ايه اللي عادية وبتتعمل كل يوم يا كاميليا؟ هي تسريحة شعر ولا منوكير هتحطه في أيديها؟ دي واحدة قاعدة في اوضة العمليات وبين إيدين ربنا.
حدته المفرطة جعلتها تكمل بلهجة على وشك البكاء :
- انا بحاول اهديك يا طارق مش قصدي تريقة ولا تهكم، ثم أني بصراحة كمان مستغربة الوضع ، ازاي يعني احنا اصحاب الشغل اللي نبقى معاها في حاجة زي؟ لازم أهلها يعرفوا عشان يجيوا ويشوفوا بنفسهم دي بنتهم .
تنهد قانطًا ورأسه للسماء قبل أن يعود إليها بقوله:
- لينا ملهاش حد يا كاميليا غير والدتها ، ودي ست مريضة سكر بنسبة عالية، يعني ممكن تدخل في غيبوبة من الخوف عليها بمجرد ما تسمع بس .
سهمت قليلًا باستيعاب امتزج بدهشتها لمعرفته لأدق التفاصيل عن هذه الفتاة، ويبدوا أن الأمر ما بينهم قد فاق توقعها، ولكن جيد ! فهو يستحق من تهون عليه والفتاة شخصية رائعة وتستحق شخص رائع مثله،
شعرت باهتزاز كرسيها بعد سقوطه بثقل جسده على الكرسي المجاور لها ، فتكتفت بذراعيها تدعي عدم الإنتباه رغم شعورها بدفئ مفاجئ وصوت أنفاسه الهادرة بتوتره يصل إلى أسماعها بصخب؛ تتمنى الا يتوقف ولا يذهب هذا الدفء ولا أن ترحل من أنفها رائحة عطره وقد اشتاقت لها بشدة.
توقفت عن هذيانها وهذه الأفكار الغريبة لترتفع كفها على رأسها بتعب وصداع قوي ألم بها فجأة ودون استئذان.
ويبدوا أن هيئتها لفتت انتباهه بجوارها أو أنه كان يفعل مثلها بالمتابعة، فسألها:
- إيه مالك يا كاميليا؟ هو انتِ كمان حاسة نفسك تعبانة ولا انت مش متحملة جو المستشفيات؟
- لاا ما تشغلش نفسك...
قالتها وهي تحرك رأسها بنفي لتصطدم عينيها بخاصتيه وقد تفاجأت بقرب وجهه منها وهو يتطلع إليها بقلق، تمالكت لتشيح بوجهها عنه متحمحمة، ثم تتكوم على نفسها بتشبيك كفيها على حجرها، يلفها الإرتباك وسهام عينيه المسلطة عليها تزيدها تشتتًا، انتفضا الإثنان على فتح باب غرفة العمليات أمامهم وكان السبق لطارق ليصل إلى الطبيب ليطمئن على وضع لينا.
بعد قليل
وبعد أن شهدوا بنفسهما على استقرار الحالة ، وقد اخبرهم الطبيب بنجاح العملية، عادا إلى مقاعد الإنتظار مرة أخرى ليجلس هذه المرة متمتمًا بالحمد وكلمات الشكر بارتياح غمر قلبه بالفعل .
- مكنتش اعرف انها غالية عندك قوي كدة؟
قالتها وهي تعود لجلستها على المقعد المجاور، فرمقها بنظرة غامضة ولم يرد، فتنهدت بضيق لتدخلها في ما لا يعنيها، فقالت تسأله على حرج:
- طب احنا كدة نتصل بوالدتها بقى؟
اجابها سريعًا باعتراض:
- لا يا كاميليا، برضوا مش هتصل بيها، انا هنتظر لما تفوق وتبلغها هي بنفسها، كدة الخبر هيبقى أسهل بكتير عليها، لو انتِ عايزة ممكن تروحي ، لكن انا مش هتحرك من هنا.
أطبقت بشفتيها بغيظ حاولت كبته بصعوبة مع قولها:
- دا انت بينك بتحبها وغرقان في العشق كمان.
حرك رأسه باستفهام رغم فهمه لما تقول :
- هي مين؟
مالت نحوه تحدجه باستنكار لمرواغته قبل أن ترد :
- بلاش يا طارق تلف وتدور معايا في الكلام، يعني هكون بتكلم على مين؟ على لينا طبعًا...
تكتف يقلدها ليحدق بها بصمت احرجها وزاد باضطرابها لتلتف بجذعها عنه تود لو تنشق الأرض وتبتبلعها، من أمامه، فتدخلها الأحمق قد زاد عن الحد المسموح، همت لتستأذن مغادرة حتى ترحم نفسها وتكتفي بهذا القدر من غباءها ولكنه أجفلها بقوله:
- لينا زي اختي!
- هه قديمة .
صدرت منها سريعًا بدون بتفكير فجعلته يبتسم بمرح، لتكتم شهقة حماقتها سريعًا وهي تعود لتبتعد بوجهها عنه، وتعلن بداخلها سيل غباءها الذي يفيض منها اليوم بلا توقف.
أشفق قلبه عليها فهتف بإسمها لتلتف إليه:
- كاميليا ممكن تبصيلي؟
لم تجيبه وظلت على وضعها وكأنها لم تسمع، ولكنه أعاد بطلبه:
- ثواني بس عايز احكيلك حكاية؟
تسمرت رافضة النظر إليه ولكنه ألح بطلبه حتى رفعت رأسها لتجده رافعًا كفه أمامها يشير على الثلاث اصابع الأولى يقول:
- احنا كنا تلاتة ، انا وجاسر وصاحبنا التالت كان اسمه رمزي، مدرسة واحدة، جامعة واحدة وقاعدة واحدة، حتى بيوتنا كانت واحدة برضوا، على الرغم ان رمزي مكانش من وسطنا، وعيلته كانت اسرة متوسطة الحال، بس بيتهم بقى كان اكتر قعادتنا فيه عشان دفا الأسرة اللي كنا مفتقدينه مع انشغال اهلينا أنا وجاسر دايمًا، واللي كانت بتعوضه والدة رمزي بطيبتها وحنانها معانا ومعاملتنا احنا الاتنين زي ابنها بالظبط، الست الطيبة دي بقى جابتلنا طفلة جميلة أخت لرمزي واحنا شباب كبار كدة في ثانوي ، نفس عيون رمزي لكن اَية من الجمال، كانت بتكبر قدام عنينا
وبقت الكتوتة بتاعتنا ودلوعتنا احنا التلاتة، حركتها كانت كتيرة أوي وشقية زيادة عن اللزوم ومبتقعدتش على حيلها أبدًا دا غير ذكائها الشديد، رمزي بقى لما كان بيدلعها يقولها إيه.......
قطع بنظرة معبرة جعلتها تعقد حاجبيها بتفكير ثم خمنت بابتسامة تجيبه:
- اللهلوبة!
أومأ برأسه ليظهر صف أسنانها الأبيض مع ابتسامة متسعة بارتياح، لتسأله بعد ذلك بتذكر:
- يانهار ابيض يعني الحكاية دي كلها كانت على لينا؟ أمال هو فين رمزي ده؟ انا عمري ماشوفته؟
تبدلت ملامحه الضاحكة لأخرى بحزن فجأة ثم أجابها:
- رمزي مات في حادثة عربية مع والده ولينا مكنتش مكملة ساعتها العشر سنين .
يُتبع..