مفتتح - رواية ابق معي أبدا Never let me go
عُـد بي إلى حيث كنت قبل أن ألتقيكثم ارحل!!-محمود درويش-
عيناه أصبحت أكثر قتامة، لونهما شابه الغيوم الملبدة بالسماء.. رفع يده وحاوط رقبتها بشيءٍ من العنف ليهسهس بنبرة مفتقرة للعاطفة:
- أعرف صغيرتي أنكِ ربما قد شعرتِ بالملل وأردتِ بعض التسلية.. لذا أخبريني، مع مَن كنتِ؟؟
لم تجب، الصدمة شلت لسانها.. ما اللعنة التي يلمح لها الآن؟!.. إلا أن صدمتها لم تطل، إذ نزلت صفعة قاسية علي وجنتها جعلتها تترنح قليلًا وبسرعة استعادت اتزانها، لتطالعه بعين تجمدت بها الدموع وفم يبتلع مرارة الإهانة..
الغضب أصبح خارج السيطرة، علي أحدهم الاختباء الآن والتقاط أنفاسه بهدوء!!
صاح أدهم فيها بجنون:
- تحدثي!!.. أين كنتِ قبل أن أفقد أعصابي؟؟
صفعة أخري أقل حِده ولكن لاذعة، صدرت من كف صغير يبدو فالظاهر أنه هش، ورقيق، لا يقوي علي إصدار تلك الصفعات.. ولكن ذلك ما حدث..
لقد صفعته فريدة هذه المرة!!
عينيه كانت تتوهج وتشتعل كالجحيم، وثمة ابتسامة وحشية تشكلت على ثغرة تنذر بالشر.. ورغم هذا لم تتراجع أو تهتز، بل شاحت في وجهه بغضب غير معهود يجابه غضبه، ضاغطة على كل حرف تخرجه:
- غير.. مسموح.. لأي أحد.. المساس بشرفي.. أو حتي التلويح لذلك من بعيد!!.. ولو كان هذا الشخص أنت أدهم!!
زفت أنفاسها الملتهبة بوجهه قبل أن تكمل زاجره إياه بنظرة مزدرية مفعمة بمزيج من الكبرياء والزهو:
- أنظر جيدًا واعرف مَن قد تزوجت!!.. أنا الدكتورة فريدة المهدي!!.. لستُ إحدى عاهراتك لكي تماثلني بهم!!.. وليس معني أنك قد اعتدت بحياتك على القذارة، أنني قد أشبهها!!.. أفق أدهم، فأنا غير!!
دنت منه خطوة على مقربة خطيرة وهي تسترسل كلماتها واحدة تلو الأخرى دون أن تحيد عن عينه لتؤكد له أنها لا تهابه مطلقًا:
- وليس معني أنني قد سلمتُك نفسي وسمحت لك بفعل ما تريد وارتضيت به، أنني قد أسمح لك بالتشكيك في شرفي وأخلاقي.. إياك أدهم، والتلويح لذلك مجددًا!!
نهجت أنفاسها معربة عن انقضاء موجة غضبها:
- لقد أنهيت ما أردت قوله، وفعلت ما كنت أرغب به، حان دورك الآن.. لقد أعطيتك الكثير من الأسباب لعقابي، واطمئن لن أقاوم أو أعترض هذه المرة!!
أغمض عينه ليستدعي هدوء لن يأتي بهذه اللحظات أبدًا .. يتذكر أنه بعمره لم يصفعه احد ، سوي شخصا واحدا فقط .. وهي التي تجرأت علي فعل ذلك من بعده .. عندما فتحهما من جديد كانا اكثر اشتعالا وينذرا بالشؤم .. لا يريد أن يؤذيها .. لا يريد ان يقتلها الآن .. ومع ذلك قبض علي يدها يسحبها بهمجية ، وهي مستسلمة تماما .. تحاول الثبات أمام غضبه ، ولكن بداخلها تتبلل عرقًا من الخوف والرعب.
خرج من الجناح وهو يتجه يسارًا إلى نهاية الغرف .. اتجاه تلك الغرفة الوحيدة التي سبق وأن سألته عنها .. أخرج مفتاحها من جيبه ، وهو مازال يعتصر معصمها بين كفه حتي فتحها وأنارها.
بمجرد أن أشعل ضوئها حتي قابلها سواد .. سواد بكل شيء .. من الطلاء الاسود المزخرف حتي الأرض .. لم يكن ترتيبها مثل بقية الغرف ، فقط صالة صغيرة بالمدخل ولكنها فارغة إلا من طاولة طعام صغيرة ، ومفرش أرضية .
عبر تلك الصالة إلى غرفة أخرى متفرعة منها ويبدو أنها للنوم ، ولكنها أصغر من كل الغرف .. نفس السواد وجدته بتلك الغرفة ، حتي السرير والمفارش .. اتجه بها الي شيئا يشبه رأس سلم خشبي بجانب الغرفة ، وهو يستعد لنزوله.
لم تتبين الكثير لأنه كان يسير بها سريعا ، وكأنه يعرف جيدا ما سيفعله .. بدأ يهبط بها درجات السلم الطويل والملتف علي عجالة، وهي تحاول التمسك بيده التي تعتصر معصمها ، خشية السقوط علي الدرج بهذا الظلام .. لحظات وبدد هذا الظلام ضوء خافت يأتي من أماكن متفرقة.. رفعت رأسها لتتأمله فذهلت بما تري .. الضوء نابعًا من نيران!!!
الحقيقة أنها ليس نيرانها ، إنها مشاعل .. مشاعل وحاملات نيران، معلقه بعدة أماكن متفرقة، وهي كل ما يضئ المكان .. معلقه علي جدران حجرية رمادية قاتمة وتبدو باردة.. وكأنها أتت من أحد القصور بالعصور الوسطي ..
اللعنة!!!!
وجدت نفسها تقف علي أرضية من الخشب المثقل، ربما هو سبب تلك الرائحة الغريبة التي غزت أنفها بمجرد عبورها للمكان .. تأملت المكان الواسع ، وجسدها ينتفض برعشات بعيدة كل البعد عن رعشات البرد .. لأول مرة بحياتها ترتعش خوفًا !!
كان المكان يحتوي علي باحة في المنتصف واسعة .. أكثر ما لفت انتباهها، تلك الرافعة المعلقة بالسقف العالي، والمتدلي منها سلسلة طويلة وغليظة .. استدارت حولها بعد أن تركها ، ووقف يستمتع بمشاهدة حالتها المذعورة .. تشعر بأن عقلها قد توقف عن العمل، ولا تستطع التوقف عن ترديد كلمة واحده بفزع ورعب "يا اللهي!!"
لمحت العديد من الغرف الواسعة والملتفة باستدارة غريبة .. ولم يكن يغلق تلك الغرف أي أبواب .. بل قضبان حديدية طويلة ومتفرقة بشكل أشبه كثيرًا بقضبان السجون .. تفرق ثلاث غرف واسعة.. بها أشياء خشبية ضخمه مثبته بالأرض، وأخرى حديدية لم تستطع تمييزها ، وقد سيطر علي جسدها حاله من الفزع والهلع العارم !!
التفت تنظر له ، بينما كان يقف ويحدجها بنظرة غريبة لم تعرفها، ولم تشاهدها من قبل .. نظرة أدركت بها أنه ليس هو .. ليس نفس الشخص الذي تعرفه .. نظرة شيطانية!!
مجرد أن سقطت عيناها علي الجدار من خلفه ، والذي كان مغطي من أعلى الي أسفل بتلك الاشياء المثبتة والمعلقة عليه .. لم تكن سوى شرائط جلدية طويلة، تشبه السياط ، منها الأسود والبني ، بأحجام وأشكال مختلفة .. مرصاة علي هيئة صفوف .. وهنالك صفوف أخرى من العصي علي ما يبدو !!
زاد الفزع أكثر بداخلها عندما رأت حائطا آخر معلق عليه أشياء كثيرة لم تفهمها ، ولكن ميزت منها بعض القيود الحديدية بأشكال عده لا حصر لها .. عند هذا الحد لم يحتمل جسدها ، وارتعشت قدميها وهي تتخيل أنه من الممكن ان يستخدم تلك الاشياء المفجعة معها .. فكان عليها أن تفقد الوعي الآن ، وبتلك اللحظة ، قبل أن يتوقف قلبها .. وهذا ما حدث بالفعل !!
يتبع