رواية ابق معي أبدا Never let me go - الفصل الأول
رواية ابق معي أبدا - Never let me go
للكاتبة غادة حازم
الفصل الأول
هناك ثقافة واحدة، وهي ثقافة القوة
حين أكون قويًا، يحترم الناس ثقافتي
وحين أكون ضعيفًا،
أسقط أنا، وتسقط ثقافتي معي
عندما كانت روما قوية عسكريًا،
كانت اللغة اللاتينية سيدة اللغات
وعندما سقطت،
صارت اللغة اللاتينية طبق سباغتي الثقاقة
يا سيدتي..
ليست في عدد الكتب التي أقرأها
ولكنها في عدد الرصاصات التي أتلقاها !!
-نزار قباني-
مركز دكتور بن ويلسون- السابعة مساءًا
مشغولةٌ هي بتفحص ملفات حالات اليوم، وتجهيز ملف العرض الخاص بالقضية الجديدة الذي أرسله مكتب التحقيقات الفيدرالي للإطلاع عليه قبل تحديد جلسة الفحص للمجرم.. طلبت قهوتها وجلست حاصرة شعرها البُني خلف رقبتها وفتحت الملف حتى تكون مُلخص للقضية قبل مجيئ البروفيسور (بن ويلسون) لعرضها عليه.. مررت عيناها الذهبية على الملف، وكان أول شئ لفت انتباهها هو اسم المتهم، شردت قليلًا تتذكره فهي متيقنة أنها رأته قبل سابق لكن ثمة شئ متغير في هيئته يعيق عليها التذكر.. كان ذو ذقن طويلة غير المهذبة بالإضافة إلى الشعر الأشعث لكن نظرته الزجاجية الجليدية التي لم تتغير هي ما أعطتها انطباع مألوف.. لقد رأته من قبل في غير شكل!!
ظلت هكذا ولم تنتبه لذلك الشخص الذي دخل والتف خلف كرسيها.. ودون سابق إنذار، ضرب بكلتا يديه على المكتب، فانتفضت فريدة واقفه تنظر إليه بذُعر:
- يا إللهي، دكتور بن، لقد افزعتني.. لم تحب دائمًا فعل هذه الأفعال الصبيانية معي؟!
ضحك "بن" بشدة على ملامحها وتنفسها الذي أصبح سريعًا، فبالرغم من إنه شارف على بلوغ العقد السادس، إلا إنه شخص مرح مُحب للحياة والمزاح، دائما ما يسخر من جديتها في العمل، وأنها لا تعطي لنفسها الوقت الكافي للترفيه والتمتع بالحياة.. هتف من وسط ضحكاته:
- لا أستطيع.. ملامحك في كل مرة تُغريني لإفزاعك مجددًا.. لابد أن أصورك فالمرة القادمة وستفهمين ما أعنيه!!
وجدت فريدة شفتيها تكافح مع سماع ضحكاته المُحببة إلى قلبها.. قد كان بن نقطة ضعفها، تُحبه كحُبها لوالدها وتحب كل ما يضحكه حتى لو كانت هي!!.. حاولت أن تُبدي استيائها ولكن ضحكتها اللاإردية هزمت بينما تتفكك الحروف من بين شفتيها:
- الأمر ليس مضحك!!
كتم ضحكته قائلًا:
- كفاكِ كذبًا، أنتِ لم تري ملامحك!!
اغمضت عينيها وانفجرت ضاحكة رغمًا عنها لينخرط معها فالضحك مجددًا.. ثم سعل أكثر من مرة وهو يجلس قائلًا بينما يرمق المكتب:
- ماذا كنتِ تفعلين؟
ردت عليه فريدة بعد أن هدأت وعادت لمقعدها:
- كنت أقرأ ملف الحالة الذي أرسله مكتب التحقيقات الفيدرالي.
- وتوصلتِ إلى شيء؟
- ليس بعد، أشعر أنني أعرف الجاني من قبل ولكن ذاكرتي لا تسعفني.
قالت بإحباط ليبتسم 'بن' مازحًا ويجلس أمامها مشيرًا لصورة الجاني:
- أصبحتِ عجوزًا هاه؟؟.. دققي النظر جيدًا، لم تعرفيه بعد؟؟.. إنه جاستن لوك!!
لم تتحمل سخريته لتهتف بتذمر:
- قلت لك إنني قد قرأت الاسم ولم اتذكره.. هيا بن تكلم، مَن هو؟؟
- 'جاستن لوك'.. إنه رجل الأعمال الذي أتى إلينا منذ سنتان في بداية عملك هنا.. تذكرتيه، ذلك الذي كنتِ تسمعين تسجيلاته، وساعديني في علاج حالته.
- اها.. تذكرته، أجل.. أليس هو مَن كان يعاني من الوسواس القهري؟؟
أومأ لها مؤكدًا:
- نعم هو .. وحسبما أتذكر قد شُفِيَّ منه!
قطبت فريدة حاجبيها باستغراب بينما ترمق صورته:
- إذا لم قتل زوجته بهذه الطريقة الشنعاء؟.. أتعتقد أن أعراض المرض قد عادت إليه مرة أخرى؟
أجابها وهو يتحرك ليفتح خزانة الملفات:
- هذا ما سوف نعرفه في مقابلة الفحص المبدئي غدًا.
بعد برهة تحدث مرتفع قليلا :
- تبًا 'فريدة'!.. هل قمتِ بتغيير الشفرة قمتِ مرة أخرى؟
- أوه، نعم دكتور، نسيت أن أخبرك.
تنهد بن بحيره من فعلتها:
- هذه المرة الثالثة التي تغيري بها الرمز السري خلال الشهر 'فريدة' .. ما الرمز هذه المرة؟
أجابته على الفور ثم أضافت مفسرة:
- هذا للأمان صدقني، لا أريد أن يتكرر ما حدث معنا سابقًا.
أومأ لها متذكرًا سرقة أحد ملفات المرضى، والذي رفع دعوى عليهم انتهت بدفع غرامة خيالية للمريض.. ثم سألها:
- ماذا لدينا اليوم؟؟
مطت فريدة شفتيها وهى تقول:
- حسنا، لا توجد محاضرات اليوم في الجامعة.. كشف الحالات أمامك.. سأذهب الآن لمتابعة قراءة ملف 'جاستن'، واستخراج ملفه القديم من الارشيف.
- حسنا.. تابعي وأطلعيني على ملاحظاتك بعد استراحة الغداء.. ولا تنسي ان ترسلي لي القهوه.
كان أستاذها في هذا القسم وأُعجب بذكائها، لكن أكثر ما جذبه لها هو أنه وجد فيها ابنته التي قُتلت على أيدي أحد المجرمين بسبب طبيعة عمله مع مكتب التحقيقات الفيدرالي، ومساعدتهم في التعامل مع المجرمين وكشف واستخلاص الحقائق منهم والتي تعرض حياته وحياة مَن معه للموت في كل لحظة.. لكن عندما دخلت فريدة حياته، نوعًا ما قد تبددت أحزانه وأعادت له روحه المحبة للحياة من جديد.. ولذلك، وقبل إنتهاء فترة دراستها، عرض عليها العمل كمساعدة له في حل القضايا، وأيضًا في مركز الاستشارات النفسية الخاص به.. فوافقت، وبمرور سنة أصبحت مشهورة في مجالها، ومسؤوله عن عمل المركز.. ساعدت في كشف عدد كبير من المجرمين مُدعين المرض العقلي، للتهرب من المساءلة القانونية.
كانت على عِلم بما تضمنه مهنتها من مخاطر وبالتأكيد ما حدث لـ بن ويلسون، وهو بنفسه سبق ونبهاها لذلك قبل قبولها للعمل معه، وأنه شخصيًا تعرض لمحاولات عديدة للإغتيال ومازال يتلقى التهديدات باستمرار.. ولكنها أصرت؛ فقد رأت في ذلك حلمها منذ دخولها لهذا المجال.
❈-❈-❈
أدهم الشاذلي.. الاسم الاقتصادي الأكثر شهرة مؤخرًا والمتربع على قائمة أغنى رجالًا بالعالم، طبقًا ﻵخر تصنيف إحصائي أجرته جريدة الجارديان لهذا العام.. وحسبما وردنا من حوار شخصي معه أنه مواليد 14 تموز 1988 وأن نشأته ترجع لأصول شرقية، تحديدًا مصرية، فهو ابن رجل الأعمال المصري "مصطفى جلال الشاذلي".. كذلك جدير بالذكر أنه قد احتل لقب "عملاق الاقتصاد" منذ ستة سنوات بولاية كاليفورنيا؛ وذلك لما أسسه خلال بضع سنوات فقط -متْبعًا في ذلك طريقًا عصاميًا شاقًا لا يدعمه سوى جهده الخالص- من كيان اقتصادي ضخم شمل العديد من المجالات الصناعية والتكنولوجية وغيرها من الاستثمارات.....
- إذًا صحيح صرت أغنى وغد في العالم؟ وتصدرت صورتك غلاف التايمز؟
عَلَتّْ جانب ثغره إبتسامه متعجرفة لم تصل لعينه، كتعقيب على الجملة التي ألقاها صديقه "عادل" وقد أتى للتو ليرتمي بالمقعد المجاور له، بينما كان الآخر يقرأ ما قد سُطر أسفل صورته التي تصدرت غلاف مجلة (التايمز) الاخبارية البريطانية بصفته الشخصية الأكثر تأثيرًا لهذا العام.
كالعادة، هذا هو ما سُطِرّ بتلك الجريدة وغيرها من وسائل الإعلام التي تتناول سيرته.. لترسم بالنهاية صورة محددة قد ارتأها "أدهم" بأذهان الناس عنه، بعدما أصبحت تحاوطه الأضواء من شتى الجهات.. ولكن هل هذه هي الحقيقة؟؟
جابت عينه أرجاء القاعة الذهبية من حوله ليمسح وجوهًا من أعتى وأخطر الرجال في العالم، كان من بينهم هو.. وطاولة واحدة جمعتهم في اجتماع طارئ، وليست كأي طاولة.. إنها طاولة المجلس الأعلى، وما أدراك ما هو المجلس الأعلى لرجال كاليفورنيا؟!.. تلك هي حقيقته، هو جزء من هذا العالم!!
شرود تام احتل سواد حدقته وشارف علي محاكاة لون شعر .. كيف صار هنا؟!.. رغمًا عنه وجد نفسه يقارن ما كُتب عنه بحقيقة واقعه..
لنرى!!
كل ما يتذكر أنه كان فالسادسة عشر من عمر حينما سافر إلى ألمانيا لاستكمال دراسته، عمل كثيرًا في مهن أقل من بسيطة كي يتحمل كُلفة دراسته وولم يمانع من التنقل من مهنة إلى دون كلل.. بل كان حريصًا على أن يكون كامل الاعتماد على نفسه، أراد تحقيق ذاته بعيدًا عن نفوذ والده
وبعد أنفاس من التعب، استطاع استثمار ما ادخر بشكل جيد، ومنهم نجح في مشاركة صديقه المقرب "عادل" في افتتاح أول مطعم له.. ومن بعدها استطاعا افتتاح سلسله المطاعم في أقل من عامين وتم اكتتابها رسميًا في البورصة الألمانية وقد كانت الانطلاقة، فارتفعت أسهمها بشكل غير موقع مما ساعدته على التوسع في عدة دول أخرى حتى استقر به الحال بكاليفورنيا .. وهناك، غَيرّ نشاطه إلى التصنيع، والتكنولوجيا وغيرها من المجالات التي اقتحماها الواحدة تلو الأخرى لمسانده باقي مشاريعه.
ولكن في طريقه إلى تحقيق ذلك، اصطدم بأكبر واقع في حياة الأعمال.. المافيا.. تلك السُلطة التي تفرض عليك نفسها وتجبرك علي الخضوع والتسليم راضخًا.. إلا أن ذلك لم يتناسب مع "ادهم الشاذلي" والذي هو بنفسه التعريف الإجرائي للهيمنة!!
كان شاب لا يحمل سوى ثلاثة وعشرون عامًا فقط في مجابهة جيش من عصابات المافيا التي تصدت له دفاعا في محاولة منهم للاستيلاء على ما صنعه.. لم يكن يملك إلا أن يتصدى لهم، ولكن إلى متى؟، فالنتيجة معروفة، المواجهة لم تكن عادلة قط!!.. وبالنهاية، وجد نفسه أمام خياران، لا ثالث لهما.. إما أن يُصبح فريسة مستساغه لباقي العصابات التي تهرول ورائه.. أو يصبح واحد منهم!!
من العائلة!!
وليست كأي عائلة، إنها عائلة (لامارا).. أكبر رؤساء المافيا في أمريكا.. كان بالنسبة لهم فرصة لا تعوض بانضمامه لهم؛ يدير لهم اقتصادهم، يغسل أموالهم القذرة في أعمال مشروعة، والتي من المحظور عليهم الخوض بها كونهم معروفين من قبل الحكومة الفيدرالية.. يتأكد من إتمام الصفقات الغير مشروعة الثقيلة ويرتب جنبًا إلى جنب مع الزعيم أكثر الطرق أمانًا وسلاسة لنقلها وتوزيعها، بفضل شبكة علاقته الاجتماعية المرموقة والسُمعة الحسنة التي تنفي أي غبار عليه.. فقد حاول جاهدين لتوريطه لأقصى حد في أعمالهم، بل وليتأكدوا من ولائه أكثر، أقدم (الكابو دي كابي) -وهو الحاكم الفعلي الوحيد في عائلة المافيا ويمثل رأس السلطة الهرمية- على منحه رتبة قيادية داخل العائلة.. المستشار الأول للكابو.. وبهذا أصبح عمودًا أساسيًا داخل العائلة، رتبته ذات حساسية دونًا عن غيره، فهو الوسيط الأوحد بين العالم السفلي والعالم الخارجي!!
وبالمقابل، أُغدق عليه بكل ما يريد.. أموال لا تُقدر، توسيعه لأعماله كما يريد.. سُلطه مُضاعفه لا يَحُدّها حدّ.. وبهذا أصبح الكيان الأسطوري الذي يتحدثون عنه أدهم الشاذلي "عملاق الاقتصاد"..
أفاق من شروده على الجميع بينما ينهضون في توقير وإجلال لذلك الرجل الذي دخل ليترأس الطاولة وسط عرض مهيب من الحرس خلفه.. فتح سترته ليمرر عينه التي حاصرتها التجاعيد وحفر السن ملامحه ثم تحدث بصوتٍ جامد:
- من المؤكد أن جميعنا يعلم بخبر القبض على "جاستن لوك".
أجابه أحد الجالسين:
- نعم، حضرة "الكابو" فالخبر يملأ الإعلام.. ولكن جماعة المكتب الفيدرالي مُتكتمه على تفاصيل القضية.
أومأ "روبرت" مؤكدًا ليسترسل بقية حديثه:
- جاستن قتل زوجته لأسباب جميعنا نعلمه.. أعرف أن صوفيا كانت واحدة من العائلة ولكن في عُرف عائلتنا الشرف لا تهاون فيه.. وبالتأكيد جميعنا نعلم ذلك أيضًا.. لهذا، لا دِّيَةَ لها، ذلك شيء كان ليفعله أي واحد منا.. ولكن ما نحن بصدده اليوم، هو ما فعله ذلك المختل بعد تعذيب وقتل زوجته، اللعين ذهب وقدم نفسه للعدالة واعترف بقتلها!.. فعلى ما يبدو أن ما فعله قد أثر على عقله، وبما أنه اعترف بجريمة قتل زوجته بمثل تلك الطريقة -والتي كان من الواضح للجميع حبه الشديد لها ، اضافة الى الحالة التي أصبح عليها الآن من شبه الجنون- فلا نستطيع توقع ما قد يفعله بين ايدي الشرطة الان .. الرجل فقد عقله ومن الممكن في أي وقت أن يهرتل بأي أحاديث عنا.. وخصوصًا والشرطة كانت تتعقبه لسنوات وتنتظر سقوطه.. ولذلك يا سادة، أمامنا خياران الآن.. الأول؛ إخراجه من هذه الورطة بأسرع وقت قبل أن يُوقع بنا.. والثاني تصفيته!!.. أعلم أن جاستن فردًا من العائلة وصديقًا جيد للجميع وأولهم انا.. ولكن تلك هي قوانين عائلتنا التي وُضِعت لحمايتها.. الواحد للجميع!!
أردف أدهم بنبرة خالية من التعابير بينما يُمسك بالملف الموضوع أمامه على الطاولة، تحديدًا صورة تلك الفريدة التي يحدد ملامحها بإصبعه:
- انا ضد تصفيته خصوصًا في الوقت الراهن.. فكما قلت، الشرطة كانت تتعقبه لسنوات، مما يعني أنهم على عِلم باتصاله ببعضنا.. بل أغلبنا معروفون لدى الشرطة ولديهم مشاكل معنا.. فإن قمنا بتصفيته، سيلفت ذلك أنظارهم تجاهنا، وسنفتح علينا أبواب نحن بغنى عنها!!
تابع روبرت أدهم بشبه اقتناع ولكن وجب مشاركة البقية:
- وماذا تقترحون أن نفعل؟
أجابه أحدهم:
- "بن ويلسون" موضوع علي قائمه التصفيات الخاصة بي، وقريبًا سيلحق بالجحيم .. فما المشكلة أن نحلقهما معًا حتي يؤنسا بعضهما البعض؟؟
قست ملامحها وازدادت غلظه بينما يهدر كـليث يدافع عن فريسته وحده:
- انا سأتولى أمرها، حذاري من أحد التدخل!
سأله أحدهم:
- و"بن"، ماذا نفعل معه؟
أجاب بغير اهتمام:
- افعلوا ما يحلوا لكم، لا شأن لي به!
أجل، لا شان له، فها قد وجد غايته.. إنها هي.. مَن يصدق، بعد سنتان من البحث ضاجعت فيهما عقله منذ أن رآها، تقع بين يديه بتلك السهولة!!
يتبع