-->

رواية جديدة مشاعر مهشمة 2 لشيماء مجدي - الفصل 59 - 3 الخميس 30/11/2023

  

قراءة رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى




رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني 
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات 
الكاتبة شيماء مجدي 

الفصل التاسع والخمسون

3

تم النشر يوم الخميس

 30/11/2023

انزوى في بيته بعد خروجه من المشفى، فقد تأزم الوضع بينه وبين من باتت –مجازًا- زوجته بموت "توفيق"، فمحاولاته العديدة للتحدث إليها لاقت جميعها بالرفض، وكان آخرها عند ذهابه لقضاء واجب العزاء، حينها كانت حبيسة غرفتها، عاملته كبقية الغرباء، الذين رفضت لقائهم، ولم تسمح له بالدخول لها، مجرجرًا أذيال الخيبة وهو يغادر بيتها، فبعد موته الصادم، مؤكدًا بُني ألف سورًا بينهما، ومن الجائز كذلك أن ترى أنه هو السبب في قتله، وحرمانها إلى الأبد منه. 


وهو جالس فوق الأريكة المتوسطة صالة بيته، يفرك رأسه بيديه عله يتخلص من الصداع المستبد به، من عدم توقفه عن التفكير، زافرًا نفسًا ساخنًا من الاختناق الجاثم فوق صدره من الندم الكبير، فما الذي عاد عليه من إقحام نفسه بين هؤلاء الأوغاد؟ لقد عقد الأمل على نيل أهداف دنيئة، مستغلًا في تحقيقه لتلك الأهداف فتاة بريئة، وماذا جنى من طمعه، ففي الأخير لم يحظى بمراده، بل خرج من تلك الهوة المظلمة خالي اليدين، خاسرًا قلبه، ومحطمًا قلبًا لم يستحق خداعه.


في ظل جلسته المكتئبة، انتشله من أفكاره السوداوية، صوت جرس الباب، الذي صدح بغتة في أرجاء الشقة، نهض بتكاسلٍ عن الأريكة، سائرًا بخطوات متمهلة نحو الباب، وما إن فتحه حتى تبدلت تعبيراته إلى حد بالغ، محتلية صدمة عظيمة وجهه، وهتف بغير تصديق:


-سما.


رفعت له وجهها المنطفئ، وناظرته بعينيه الزابلة، مردفةً بلعثمة توضح تلبكها الشديد:


-انا.. مش.. كرم..


غمغمت باسمه بضعف ناجم عن بكائها، الذي انخرطت به فجأة، ممَ جعله يجذبها من ذراعه نحوه، مطبقًا بذراعيه فوق ظهرها، محتويًا إياها في عناق يعج بالاشتياق، سمحت هي لنفسها حينها بالانهيار، فقد ازداد بكائها، وانسابت بغزارة دموعها. وهو محافظًا على وجودها في أحضانه، تراجع إلى الخلف عدة خطوات، حتى يغلق الباب، وبجوار أذنها يتمتم بصوت دافئ:


-ششش، اهدي.


دفنت وجهها في صدرها، وهي تبكي بنهنهات طفلة، فقدت أسرتها، وباتت ضائعة بمفردها، مرددة بنحيب:


-بابي مات، ومامي كمان هتسافر وتسيبني.


أزاد في ضمها له، هامسًا بعاطفة قوية:


-انا معاكي.


تحدرت عبرات أخرى حارقة، وعلقت بأسى:


-بس احنا موضوعنا باظ خلاص.


فصل العناق بتؤدة حتى يتاح له النظر إلى عينيها، وبعدما أصاب هدفه، واجتذب مقلتيها المحاطتين بلمعة رطبة، عقب بهدوء:


-ايه اللي بوظه، احنا متجوزين وانا بحبك وعايزك، وانتي كمان عايزاني مش كده؟


ظلت نظراته المترقبة مثبتة على وجهها، بدت في تلك اللحظة متأثرة بمَ قال، وما كان واضحًا كذلك له مشاعرها نحوه، التي حاولت محقها من داخلها الفترة الماضية، وعلى ما يبدو أنها قد فشلت في ذلك. استغرق الأمر عدة لحظات حتى أعطته جوابًا مؤكدًا، بهزة بسيطة من رأسها، ودموعها تنهمر تباعًا من طرفيها، وبصوت مهزوز اعترفت له:


-وبحبك يا كرم.


أعقب اعترافها الحصري، الذي أثلج صدره، بقبلة دافئة من شفتيه، متذوقًا حلاوة تصريحها المباغت، مبددًا في لحظةٍ حالة الشجن المسيطرة عليها، من وفاة والدها، وترك والدتها لها، باعثًا الطمأنينة داخلها بوجوده، ورغبته القوية في الاجتماع بها، بعد عدة لحظات أتاه خلالها أولى علامات ذوبانها، فصل القبلة لحاجة كليهما للهواء، تراءى له تخضب وجنتيها بحمرة طبيعية، نتيجة لخجلها الشديد، حادت بعينيها عن حدقتيه التي تطوف على وجهها، مزيدًا من ربكتها بقوله الموحي:


-احنا مش كنسلنا الفرح برضه؟


حتى تغطي على توترها البالغ، ضربته فوق كتفه بيدها، حينها تظاهر بالتألم، متأوهًا بتوجع زائف، عصف قلبها على فورها، خاصة مع تذكرها لأمر جرحه، وسألته بهلع:


-مالك؟


عبرت تعبيراته عن تألمٍ وهو يردد بضعف:


-الجرح وجعني، باين كده اتفتح.


ازداد خوفها، وسريعُا ما قالت له بتلهفٍ:


-بجد، وريني كده..


قبل أن تمد يدها نحو قميصه، لتزيحه حتى تتمكن من رؤية موضع الجرح، تداركت ضربتها التي طالت كتفه وليس بطنه حيث يوجد جرحه، وقتئذٍ رفعت حاجبيها في غيظ، وحدثته في ضيق:


-والله انت بتستهبل! الجرح في بطنك مش في كتفك، ثم إن عدى وقت كبير عليه يعني زمانه لم وفكيت الخياطة كمان.


تراءى لها تلك النظرة الماكرة التي تنبعث من عينيه، مع بسمة متسلية بدأت تتراقص على شفتيه، ممَ جعلها تستنتج خداعه، وزجرته وهي تكرر ضربه في مناطق متفرقة من جذعه:


-بقى كده، طب أهو.


قهقه ضاحكًا، متأوهًا بوجع حقيقي تلك المرة، وأوقفها من بين ضحكاته:


-آه، يا مجنونة.


تشكلت بسمة صغيرة على ثغرها، ثم سألته بجدية تحمل القلق:


-بجد الجرح بيوجعك؟


هز رأسه بالسلب، مرددًا بنفي هادئ مطمئن:


-لأ.


أخفضت عينيها بعدما أطال النظر عليها، شاعرة بسخونة شديدة تندلع في وجنتيها، فلتوها تداركت وجودها معه في مكان مغلق، يدفع لكليهما تخيلات ماجنة، تثير المشاعر الكامنة، ابتلعت ريقها، وتخبطت في وقفتها، في حين اقترب هو منها، محاولًا إذابة الجليد، وتحريك الراكد في علاقتهما، قائلا بالقرب من وجهها، بكلمات موحية:


-ما إيه رأيك تيجي افرجك على الشقة، وبالمرة اوريكي الجرح انتي مش عايزه تطمني عليه برضه؟


بمَ قاله ضاعف من ربكتها، ممَ جعلها تتهرب من بقائها في محيط هيمنته الذي يفرضها بأسهل الطرق عليها، لكزته في كتفه ثانيةً، وتأهبت للتحرك من أمامه، إلا أنه رفض أن يحررها من حصاره، وجذبها من يدها، مرتطمة في صدره، لم يدع لها فرصةً لتدراك فعلته، وفي لمح البصر كان دامغًا شفتيها بقبلة أخرى شغوفة، أراد أن يثبت عن طريقها ملكيته الخالصة لها، ويبث بها بعضًا من مشاعره المتقدة، والمتحرقة للاجتماع بها.



❈-❈-❈



بعدما أنهت زيارتها، التي حملت مفاجأة عظيمة لم تكن في الحسبان، وهي استفاقة "عاصم" من غيبوبته، وقفت رفقة "صلاح" بالقرب من المشفى، بجوار سيارته، فهو من أقلها، وانتظر بها لحين انتهائها. سعادتها بذلك الخبر أشعرت "صلاح" بالغيرة، وبالرغم من أنه عمل بجهد جهيد على مواراتها، إلا أنه لم ينجح مع نظراته المتفرسة لتعبيراته، وهي تسترسل عليه ما حدث بالأعلى، متفننة بكلماتها المتعمدة، في جعل نيران الغيرة تنهش به، حتى يعترف بمَ يضمره تجاهها في قلبه، أو يبدر منه أي فعل يؤكد لها شكوكها، ولكنه مع ذلك كان بارعًا في التحكم في انفعالاته، وبهدوء أعصاب، منافٍ تمامًا مع ثورة المشاعر المهتاجة داخله، سألها بتأكدٍ:


-خلاص هتسافري بكرا؟


هزت كتفيها وأجابته برد لئيم تظاهرت بالتلقائية وهي تتفوه به:


-خلاص عاصم فاق، وانت عارف اني كنت مأجلة السفر لحد ماتطمن عليه.


ضيق عينيه عليها وسألها بصوته الرخيم:


-مفيش أي سبب تاني يخليكي تأجلي السفر عشانه؟


مطت شفتيها، وأجابته بعد همهمة:


-لحد دلوقتي مفيش.


في تلك اللحظة استشعر من نظراتها الجريئة أنها تجرده من قناع الثبات الذي يرتديه، رآية مشاعره الدفينة، ممَ جعله يحك مؤخرة عنقه، ويحيد ببصره عنها، ولكنه ما لبث أن عاود النظر لها حينما تكلمت برنة صوتها المميزة:


-هستناك تجيلي زي ماقلتلي، ولا هو كان كلام؟


افتر ثغره عن بسمة جذابة تليق بملامحه الرجولية، وعلق بعبثية استهوتها:


-صلاح مش بتاع كلام.


تفلتت ضحكة صغيرة من بين شفتيها الحلوتين، جعلتها هام بها للحظات، إلى أن سلبت انتباهه بقولها:


-انا مش عايزه اروح، ايه رأيك نروح نتغدا في أي حتة.


تعجب من ذلك الحماس، كونهما لم يخلدا للنوم منذ البارحة، فمؤخرًا باتت بينهما مكالمات هاتفية ليلية متبادلة، آخرهما انتهت قبيل إخبارها له بنزولها، وبدوره استغل الفرصة وعرض عليها إيصالها بسيارته، رفع أحد حاجبيه وهو يتشدق بتهكم:


-انتي باين عليكي مهيبرة، احنا منماش من امبارح.


رمقته بنظرة متفقدة، وعلقت باستشفاف مرح:


-انت شكلك انت كمان مهيبر ومش عايز تنام.


لفظ نفسًا عميقًا، قبل أن يجيبها بكلمات ذات مغزى:


-مش عارف في إيه الحقيقة، انتي مطيرة النوم من عيني من ساعة مارعفتك.


ظهر تأثير عبارته النزقة على وجهها، الذي دبت فيه مظاهر الحيوية والحماس، بينما هو حينما تدارك زلة لسانه، غطى على ما تفوه به، بقوله بعد حمحمة بسيطة:


-بس انا مليش في أكل برا بصراحة، مبيعجبنيش.


أبعدت عينيها عنه، وابتسامتها تزداد من ازدياد شكوكها نحو وجود مشاعر بداخله نحوها، وللغرابة تثير اهتمامها بصورة كبيرة، على عكس أي مرة سابقة، حاولت صرف ذهنها مؤقتًا عن ذلك الأمر، وردت عليه:


-في مطعم بعد شارعين من هنا، بيعمل فرايد تشيكين تجنن، لو جربتها من عنده مش هتبطل تروح هناك تاني.


ضيق نظراته المؤثرة على دواخلها، وسألها بمرح:


-على ضمانتك؟


أجابته بثقة أنثوية راقية:


-على ضمانتي..


ثم تابعت بحماس، وهي تتحرك نحو باب السيارة للمقعد الأمامي المجاور للسائق:


-يلا اطلع وانا اوصفلك تمشي منين.


تابع حركتها بعينين شغوفتين، وبينما يدلف إلى داخل السيارة هو الآخر، ردد بعد زفرة منتشية:


-ماشي، اما نشوف مي هانم وخدانا على فين.

الصفحة السابقة            الصفحة التالية