رواية جديدة مشاعر مهشمة 2 لشيماء مجدي - الفصل 59 - 2 الخميس 30/11/2023
قراءة رواية مشاعر مهشمة الجزء الثاني كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
الفصل التاسع والخمسون
2
تم النشر يوم الخميس
30/11/2023
❈-❈-❈
بقت في الداخل معه بمفردهما لقرابة النصف ساعة، لا يشاركهما تلك الخلوة الدافئة غير الرضيعة، التي أضفت نوعًا من الغبطة في حديثهما، وفي ظل ردها على إسئلته الكثيرة، حول الكثير من الأمور، التي فاتته خلال فترة غيبوبته، استمعا إلى طرقتين متتاليتين فوق باب الغرفة، أتبعهما دلوف "عز الدين"، الذي هتف بنبرة مرحة بعض الشيء، وعيناه المتلهفتين عرفتا طريقهما نحو أخيه:
-ادخل؟ ولا هبقى قطعت عليكم اللحظة؟
تبسم وجهها، ودعته للدخول بصوتها الذي يقطر منه الطمأنينة لأول مرة بعد كل ما مضى خلال الفترة الماضية:
-ادخل يا عز.
قبل أن تسمح له بالدخول كان قد ولج بالفعل، ومن خلفه زوجته، مرددًا بنفس النبرة المشاكسة:
-مانا دخلت فعلا، انا سايبه ليكي من ساعتها كفاية عليكي كده.
تفلتت ضحكة متفاوتة في الصوت من ثلاثتهم، في حين هتفت "زينة"، المجاورة لزوجها:
-حمد الله على سلامتك، الحمد لله إنك قومت لمراتك وولادك.
رمقها بنظرة طيبة، قبل أن يرد عليها بهدوء:
-الله يسلمك يا زينة.
تحولت عيناه بعد ذلك إلى أخيه، الذي جلس على الطرف الآخر من السرير، وقال له بصوت حمل نوع من التأثر:
-حمد الله على سلامتك يا عاصم.
لاحت بسمة صغيرة فوق ثغره، ورد عليه بود:
-الله يسلمك يا عز.
جاهد حتى يتغلب على اهتزاز صوته، لائمًا إياه بلهجة مرحة في ظاهره ولكنها تحمل كل معالم الأسى في باطنها:
-شهر ونص يا عاصم، وقعت قلوبنا يا راجل.
زيل آخر قوله ببسمة صغيرة ليتحكم ببكائه الوشيك، بادله حينها "عاصم" الابتسامة، ولكنه في تلك اللحظة انشعل عنه ببصره على الرضيع الذي بدأ يصدر صوتًا بين ذراعي أخيه، جاذبًا الانظار له، حينئذٍ سأله بانتباه:
-ده ابنك؟
توسعت بسمة "عز الدين" ومد ذراعيه له بالرضيع، وهو يقول له:
-عاصم الصغير.
حمله منه بعد أن أخذت زوجته منه "مانيسا"، وملامحه في تلك اللحظة عبرت عن تفاجؤ عظيم، داخليًا سأل نفسه بغير تصديق هل سماه حقًا على اسمه؟ أم أنه توهم سماع ذلك؟ وكأن الآخر قرأ ذلك التخبط، وأكد له ما عجز عن تصديقه بقوله الطيب:
-مكنتش هلاقي حد أغلى منك اسميه على اسمه.
ترقرق الدمع في عينيه، ونظراته حملت امتنان لا يستطع وصفه، أو التعبير عنه بكلمة شكر، وجه نظره بعد ذلك إلى الصغير، الذي كان جميل الوجه، من الوهلة الأولى لاحظ أن ملامحه تجمع بين كلا والديه، على عكس ابنه البكري، الشبيه إلى حد بالغ بوالده، ويحمل بعضًا من ملامحه كذلك، وعلى تذكره له، أراد السؤال عنه، وعن طفليه، الذي سبق وقد سأل عنهما زوجته، وزيادة اطمئنان سأل أخيه باهتمام:
-رائف ونائل ويونس عاملين إيه؟
ردت زوجته مجددًا بكلماتها السابقة مطمئنة إياه:
-كويسين يا حبيبي.
ثم أجاب "عز الدين" من بعدها وهو يربت فوق ذراعه بحنو:
-قوم انت بالسلامة، وارجع معانا بيتك وهتلاقيهم مستنينك.
في تلك الأثناء وجهوا جميعًا نظراتهم بانتباه، نحو باب الغرفة الذي تركه "عز الدين" مفتوحًا، والذي للتو دق أحدهم عليه ليسترعي انتباههم، مستأذنًا بوقار:
-تسمحولي ادخل؟
ظهرت أمارات التفاجؤ فوق وجه "عاصم"، من رؤيته للشخص الواقف عند عتبة الغرفة، مرددًا بدهشة:
-مجد!
تراءى لـ"مجد" صدمته المتوقعة بوجوده، والتي زادت من رؤيته لزوجي شقيقتيه اللذين دلفا تباعًا من بعده، ومعهم "رفيف" المجاورة لزوجها في سيره نحوهم، وحتى يزيح تلك التعبيرات المتفاجئة عنه، ردد بمزاح رزين:
-مفقدش الذاكرة الحمد لله، الخبطة مأثرتش على دماغه ولسه فاكرني أهو.
صدرت ضحكات صغيرة من الجميع، عدا "عاصم" الذي ارتكز بنظره المشدوه عليه خلال تقدمه وهو الأخرين، متابعًا بنفس النبرة المازحة بعد أن صار قبالته:
-مش قلتلكوا بسبع ارواح وهيقوم منها.
لم تزول بسمتهم الضاحكة من فوق وجوههم، في حين بقى "عاصم" ناظرًا له، وهو يوجه حديثه له تلك المرة قائلًا بعتاب مرح:
-كل دي غيبوبة؟ الناس بتفضل يومين تلاتة ويفوقوا، وانت ريحتلك شهر ونص، عجبتك النومة ولا إيه؟
اهتزت بسمة متأثرة بحضوره على شفتيه، توسعت حينما قاله له "مجد"، مع ربتة رفيقة فوق كتفه:
-حمد الله على سلامتك.
رد عليه بصوت أجوف بالكاد غادر حلقه الذي اختنق بغصة بكاء يكبحه بكل قدرته:
-الله يسلمك يا مجد.
حمل صوته الجدية وهو يلومه بحزن:
-كده تقلقنا عليك؟
تسللت لمعة رطبة إلى طرفيه، واعتذر منه بندم موحٍ:
-حقك عليا.
بغير تفكير فهم مقصده، مترائيًا له خزيه بتلك الزيارة الطيبة والمتسامحة، هز له رأسه بتقبل لاعتذاره، وسريعًا ما أزاح عنه الحرج بقوله المرح:
-بقى مشحطتنا معاك بقالنا شهر ونص ينفع كده؟
التفت بوجهه، مجففًا عبرة انهمرت رغمًا عنه، في حين أضاف "مجد" بنفس الطريقة المرحة مغطيًا على حقيقة النظرات المتبادلة بينهما:
-ده مراتك نقلت إقامتها في المستشفى ومروحتش من يوم الحادثة؟
وجه حدقتيه بنظرة متفاجئة نحو زوحته، الملاحظة لدموعه، والمعنى المستتر خلف اعتذار زوجها، وردد بصدمة:
-بجد؟
رمقته بنظرات دافئة، مع بسمة عاشقة تخصه وحده بها، هام به للحظة قبل أن ينتبه إلى إطناب أخيه:
-حلفت ماهي راجعة البيت وانت مش فيه واخدت أوضة جنبك ولا كأننا في أوتيل.
خفضت وجهها وهي تبتسم بخجل من وصفه، وكذلك "عاصم" ارتسمت بسمة ضاحكة على ثغره، ما لبث أن اختفت معتليًا بدلًا منها على وجهه الانتباه، حينما هتف "جاسم"، الآثر الصمت منذ دخوله، محدثًا "عاصم" بجدية بها بعض الود:
-حمد الله على سلامتك يا عاصم.
في بادئ الأمر لم يتوقع أن يبدر منه كلمة مؤازرة، وظن أنه مجيئه مقتصرًا على مرافقة زوجته ليس أكثر، ولكنه فاجأه بعبارته، وبادله الابتسام ببسمة صغيرة وهو يرد عليه:
-الله يسلمك يا جاسم.
من بعده قالت له "رفيف" ببسطة طيبة:
-إن شاء الله تقوم وترجع أحسن من الأول، أهم حاجة تمشي على الإرشادات اللي الدكتور هيبلغك بيها وتنتظم على الأدوية.
قبل أن يرد عليها، تدخلت "داليا" في الحديث، قائلة بتلهف:
-إن شاء الله هيمشي على كل اللي الدكتور هيقول عليه، وهديله كل الأدوية في ميعادها.
ناظرته بعينين سعيدتين، متحمستين لتعافيه تعافيًا كاملًا، جعلت بسمته تتسع وهو يشكر صديقتها محافظًا على الألقاب احترامًا لوجود زوجها:
-شكرًا يا مدام رفيف.
انتقل ببصره بعد ذلك إلى "عدي" الذي قال له بود:
-شد حيلك كده عشان ترجع بيتك بدل رقدة المستشفى دي.
هز له رأسه بإيماءة صغيرة، أتبعها برده الشاكر:
-إن شاء الله، شكرًا يا عدي.
تهللت أسارير "عز الدين" من حالة الألفة التي تكونت فيمَ بينهم، وأراد في تلك الأثناء المغمورة بالود أن يمحي تمامًا الأذيال المتبقية من العداء الذي كان قائمًا بينهم، متعمدًا إخبار أخاه بنبرة تحمل الامتنان:
-مجد وجاسم، وعدي كمان مسابوناش الفترة اللي فاتت يا عاصم، تقريبًا كانوا كل يوم بييجوا يتطمنوا عليك.
احتلت صدمةٌ كبرى وجهه، فلم يتخيل أن تكون الزيارات متكررة خلال فترة غيبوبته، فقد توقع أن يكون مجيئهم اليوم تحديدًا لأداء واجبًا ليس مفروضًا عليهم عند علمهم باستفاقته، أو لربما مرافقين لـ"رفيف" التي أتت لتجامل صديقتها في ذلك الحدث الجلل، ولكن ذلك التصريح صدمه، فرغم ما بدر منه من شرور متكرر، وإيذاء لا يُغتفر، تعاملوا معه في وقته الأشد ضعفًا بحسن طباعهم، ناظرهم بنظرة عرفان بالجميل، وشكرهم جميعًا:
-مش عارف أقولكم إيه، شكرا لمجيتكم كلكم، وبجد مش هنسالكم وقفتكم معايا، ومع أهلي.
اختلفت نظرات كل واحد منهم في تلك الأثناء، وكذلك المشاعر، ولفهم لحظة صمت، سريعًا ما انتهت من صوت الطرقتين الصغيرتين فوق باب الغرفة، محولين بصرهم جميعًا في لحظتها نحو الطارق، الذي تفاجأ "عاصم" من كونها "مي"، وتعجب قليلًا من حضورها، فعلى ما يذكر أن طائرتها كانت ستقلع ليلة الحادث، ومن هنا طفا على ذهنه تحذيرها الأخير الذي جعله ينحرف بسيارته بشكل مفاجئ، انتشله من شروده اللحظي، صوت أخيه، الذي دعاها للدخول حينما لم يفعل هو، مرددًا بتصقيل:
-ادخلي يا آنسة مي.
بخطوات مترددة دخلت الغرفة، وقد تسلل لها بعض التوتر من توجه جميع العيون عليها، وهي تقول بحرج:
-انا لسه جاية، وعرفت منهم برا ان عاصم فاق.
انتقلت بنظرها نحو "عاصم" وهي تتقدم من فراشه، وتابعت ببسمة تمتزج بالسرور لرؤيته مستيقظًا:
-الحمد لله إنك بخير وقومت بالسلامة، كده هعرف اسافر وانا مرتاحة.
تابع سيره نحوه بنظرات هادئة، وما إن توقفت قبالة الفراش، حتى شكرها بامتنان:
-شكرا يا مي.
ضمت ما بين حاجبيها في تحير، وسألته:
-على إيه؟
اعتلى عينيه نظرة معترفة بالجميل، وأفصح عن فضلها أمام الجميع:
-لولاكي كان زماني مقتول.
حملت نظراتها إليه الندم وهي تعلق ببؤس:
-ولولاي مكانش زمانك عملت حادثة ودخلت في غيبوبة.
اختلف معها في وجهة نظرها، متكلمًا برضاء:
-ده نصيب، لكن انا مش هنسالك تحذيرك ليا وإنك السبب بعد ربنا إني مكملش واقع في الفخ اللي كانوا عاملينوا.
ناظرته بنظرة متحرجة بعض الشيء، من اعترافه بدورها الكبير في إنقاذ حياته، بينما تابع هو بشكٍ اختلج كلماته:
-انتي حذرتيني مرتين، وأكيد توفيق عرف إنك..
استنبطت شكه، وقاطعته برد مستضيح:
-عرف والحمد لله ربنا نجاني من اللي كان هيعمله فيا.
زين ثغره بسمة طيبة وأضافت مستأنفة:
-وانا وقتها مكنش فارق معايا حاجة غير سلامتك، ودلوقتي مش عايزه حاجة اكتر من انك تبقى كويس، وتعيش مبسوط في حياتك، مع مراتك وودلادك..
توقفت عن إتمام عبارتها، التي أكملتها بتعبيرات فرحة:
-وخصوصا ان خلاص خلصنا من توفيق.
زوى "عاصم" ما بين حاجبيه، وردد باستغراب:
-خلصنا منه!
أومأت له مؤكدة، ثم أخبرته بثبات:
-ايوه، توفيق مات.
تحكم بصدمته، التي لاحت بقوة فوق وجهه، وضيق عينيه وهو يسألها بتوجس:
-صفوه؟
هزت رأسها بإيماءة بسيطة، تبعها قولها باستيضاح:
-حطوله سم في أكله وهو في الحجز ومات قبل ما حد يسعفه.
تنهد بارتياح، ثم علق بتوقعٍ:
-دي النهاية المتوقعة لواحد زيه.
انزعجت تعبيرات "عز الدين" من الإتيان على ذكره، وعقب بوجوم:
-خد جزاءه، مايجوزش عليه دلوقتي غير الرحمة.
دام الصمت بينهم لحدة لحظات، قطعته "مي" وهي تقول باختتام:
-انا كنت أجلت سفري لحد مانتطمن عليك، وبما إنك فوقت فانا مسافرة بكرا، أشوف وشك بخير.
لاحت تعبيرات ودودة فوق وجهه، وأخبرها:
-توصلي بالسلامة.
ارتسمت بسمة صغيرة فوق وجهها، وردت عليه وهي متأهبة في وقفتها:
-الله يسلمك، عن إذنكم.
بعد خروجها، انتقل بنظره نحو زوجته، وخشى أن تسيء تفسير مجيئها، فهو لا يعلم شيئًا عن التوضيحات التي سردتها لزوجته، بشأن فهمها الخاطئ عن وجود علاقة قائمة بينهما، وبالرغم من رؤيته لنيران الغيرة تقدح من مقلتيها، إلا أنها حافظت على هدوئها، وحينما أمسكت بنظره الموجه نحوها، زينت بسمة محبة فوق شفتيها، واحتوته بنظرة دافئة وهي تقبض على كفه بلمسة رقيقة، غاب للحظة عن الجميع وهو مرتكز ببصره داخل لؤلؤتيها التي يشع منهما حب يختص به، قطع تواصلهما البصري في تلك اللحظة صوت "عز الدين"، الذي هتف بغتةً مجتذبا نظرات أخيه نحوه:
-عرفت اللي حصل لكرم؟