رواية جديدة كيان مستغل لشيماء مجدي- الفصل 4 - الجمعة 16/5/2025
قراءة رواية كيان مستغل كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية كيان مستغل
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة شيماء مجدي
الفصل الرابع
الفصل الرابع
تم النشر الجمعة
16/5/2025
تم النشر الجمعة
16/5/2025
صدمة غير متوقعة من كافة الأصعدة، فمهما كانت تتهيأ لغدره، ولكن تهديده بذلك الأمر لم يكن حدوثه موضوعًا في الحسبان. بُهتت ملامحها وشعرت كما لو أن الأرض تميد بها، ومع ذلك اصطنعت الثبات، وهي تتسائل باستخفاف:
-ايه الدليل اللي يثبت؟
ابتسم ابتسامةً جانبية وضحت مكره الدفين، وأخبرها بهمسٍ متعمدًا به إتلاف أعصابها:
-أكيد دي حاجة مش هغفل عنها.
ازدادت بسمته شرًا يخالطه الثقة وهو يكمل:
-الدليل معايا صوت وصورة يا سمية.
تفافمت صدمتها، وشعور بالغ بالرهبة والارتياع تمكن منها في لحظةٍ، ألجم لسانها وهي تنظر له مشدوهةَ، فهي لم تشك للحظة في فعله أمرًا كهذا، كيف؟ ومتى؟ أسئلة حيرة راحت تضرب رأسها، وبالطبع ظهر على وجهها آثار الزوبعة التي أحدثها داخلها، حينها ابتسم بانتصار وأردف باستفسارٍ يتيقن من إجابته مسبقًا:
-ها قولتي ايه؟
اقترب بوجهه منها وهو يضيف:
-كتب الكتاب الخميس الجاي..
صمت للحظة قاصدًا حرق أعصابها، ثم أطنب وهو يدنو من أذنها وعلى نفس الشاكلة التي تشبه الفحيح، تساءل:
-ولا اعرف كيان بكر مات ازاي؟
ابتعد وعلى وجهه ابتسامة متشفية، وما لبث أن قال:
-وانتي عارفة كيان بكر كان عندها إيه، يعني استحالة هتسكت على حاجة زي دي.
عيناها المعلقة عليه كانت تشي بصدمتها الهائلة، التي أعجزتها حتى عن الرد عليه، ومناطحته الند بالند، وحينما تراءى له وضعها المخزي، ازداد اغتراره اللئيم، وتهيأ لتركها في حالتها المبعثرة، مهندمًا سترته وهو يخبرها ببرود:
-انا بقول تعرفي كيان ان كتب كتابها الخميس.
وقبل أن يستدير للرحيل، قال لها بمَ ضاعف استفزازها:
-ومتنساش طبعًا تجهز نفسها عشان هتتنقل الفيلا عندي.
لوح لها بيده بحركةٍ مودعة، قصد بها حرق آخر ذرات أعصابها، نهج صدرها بصورة غير طبيعية، من عدم تنفيسها لغضبها المكتوم، وعدم إيجادها ردًا على تخطيطه المدروس، تاهت في تفكيرها، وغابت عن الواقع المحيط، فماذا ستفعل الحين؟ هل تتخلى عمَ سعت للحصول عليه لسنوات، مقابل عتق رقبتها من حبل المشنقة، الذي سيلتف حول عنقها إن افتضح أمر جريمتها النكراء، وتقبل بتلك الزيجة التي لن تدر بفائدة إلا على "نوح" وابنه، أم تتمسك برفضها، وحينها ستخسر لها محالة كل شيء، بما فيهم روحها. كسى وجهها البغض والشرور، لقد خانها، وتآمر ضدها، وهي الحمقاء التي لم تتخذ حذرها، أو تأمن نفسها، فهي لا تملك أي إدانة ضده، ولا تمسك بأي هفوة ارتكبها أو زلة سبق وقالها، والآن باتت مشتتة، عاجزة بين خيارين كليهما له مساوئه، وخسائره القاسمة.
❈-❈-❈
الحزن ينهش الروح، وينحر الجسد، إلى أن يذبل الوجه، ويفقد القلب أي رغبة، ويمتلئ بالزهد والكمد. تجلس على المقعد الملحق بمرآتها، ترمق هيئتها الشاحبة بنظرة متحسرة، مقارنة بين صورتها الموضوعة أمامها على التسريحة، وبين تلك التى تراها فى خلفية المرآة، فمن يراها الآن لن يصدق أنها هي "كيان"، الفتاة المليئة بالحيوية، والمفعمة بالحياة، ذات الملامح الباسمة، الشبيهة إلى حدٍ كبير بوالدها الراحل، فحتى اللمعة التى لطالما اتسمت بعينيها رمادية اللون –المماثلة لخاصتي والدها- قد انطفأت، وتبدلت بسحابة من الدموع، تتلألأ بعينيها بين الحين والآخر.
نهضت عن المقعد وهي تتنهد باختناق، وتحركت نحو الشرفة حيث تبحث عن بعض الهواء، وراحت تنظر للخارج فى الفراغ المحيط بعينين ساهمتين، زائغتين، يندلع منهما كل الحزن الذى استوطن قلبها، بل وكيانها أجمع، وكل ما بها يبكي على ما يحيق بها، فهل كان ينقصها أكذوبة عمها، التي أتى بها ليجعلها تكره تلك الحياة، التي أفقدتها أمانها الوحيد، حتى باتت كورقة ضعيفة في مهب الريح، يتلقفها من يسبق الأخر في خطاه الدنيئة نحوها، حتى يصل لأطماعه من خلالها. أيستهون بذكائها! هل يعتقد أنه بذكره والدها في كذبته المكشوفة سيؤثر عليها، ويستميل عقلها للموافقة، أعمياء هي لا ترى ما يدور من حولها منذ سنوات!
فاقت من شرودها على صوت مدبرة البيت –تلك السيدة الحنون التي قد أتت منذ برهة لتعيد ترتيب الغرفة- تتساءل باهتمام ونبرة حانية:
-فكرتي يا كيان هتعملي ايه فى الكلام اللي عمك قالهولك؟
سحبت نفسًا عميقًا وبعد أن زفرته، أجابتها بأسى:
-أفكر في ايه! ده حدد كل حاجة.
تفاجأت "كريمة" من ردها اليائس، وعلقت مستفسرة بشيء من الاستنكار:
-يعني هتوافقي يا بنتي على جوازك من راغب؟
بغير أن توجه لها نظراتها الفاقدة لكل معاني الحياة، قالت بقلة حيلة وعجزٍ واضح:
-وهو انا بقى عندي رفاهية الرفض!
تقدمت منها وعلى وجهها التصميم في جعلها تتخذ موقفًا، وأخبرتها بدعم:
-ايوه تقدري تقولي لأ، هو مش هيفرض عليكي تتجوزي ابنه وانتي مش عايزاه.
وكأن ما تقوله لا يؤثر بها، فلم يحرك بها ساكنًا وظلت ناظرة في الفراغ المقابل لها وهي تستطرد متسائلة:
-وماما؟
تعجبت "كريمة" من إتيانها على ذكرها، فعلى حد علمها بأنها معارضة لطلب عمها في زواج ابنه من ابنتها، لذلك سألتها بغير فهم:
-مالها!
وضحت قصدها بقولها:
-هتدخل معاه في حرب بسببي.
ثم ما لبثت أن أضافت ببؤس:
-أو بمعنى أصح بسبب ورثي.
انتاب "كريمة" حالة من النفور من أفراد عائلتها الطامعين، والحاقدين على ما ورثته من والده، برغبة كاملة منه، ولكنها تمسكت بنصحها بمَ رأته حلًا أخيرًا، ينتشلها من زيجة ستجبر على الارتضاء بها، وأخبرتها:
-طالما سمية هانم مش موافقة سيبيها هي تتعامل معاه وتعرفه برفضك.
ردت عليها بنبرة باهتة كبهوت روحها:
-ما هى عرفته، وعمي مصمم، مش دي رغبة بابا زي مابيقول.
علقت "كريمة" بتكذيب في سؤالها:
-وانتي مصدقة؟
هزت رأسها بنفيٍ، ثم ردت بوجه اشتد:
-أكيد مش مصدقة الكلام الفارغ ده.
اختلج صدرها شعور خانق، وأضافت بضعفٍ:
-بس انا مش قد الصراعات اللي هتحصل، وماما مش هتقدر على عمي، هو رسم وخطط وبينفذ، واستحالة يصرف نظر عن الموضوع عشان رفضي أو رفضها.
اعتلى وجهها الأسى وهي تكمل:
-عمي طالما حط حاجة فى دماغه هيعملها، ماللي كان هيقفله خلاص مات..
تحاملت على نفسها شعور البكاء، وأطنبت:
-انتي اكيد عارفاه يا دادة مش محتاجة أقولك!
زمت شفتيها للجانب بنفورٍ من تذكرها لطريقته الهجومية مع رب عملها، وشجاراته الدائمة، وغمغمت بتضامنٍ:
-عارفاه يا بنتي وعارفة شره، كان بيقيد فى البيت نار لما ييجي، ودايمًا كانت جايته بخناقة مع بكر بيه الله يرحمه.
ثم أكملت باستغراب:
-والله مانا عارفة ازاي كتلة الشر والكره ده يبقى اخو بكر بيه اللي كان كلامه مليان طيبة وحب وكان زي الملايكة.
التمعت عينا "كيان" بالدموع، لقد صحت في وصفها، فوالدها كان أشبه بالملائكة، لم يسبق أن بدر منه موقف واحد يسيء لها، أو بخل عليها بمشاعر أبوته، أو أضنى بوقته، لقد كان الأب الأعظم، الرفيق الأوحد، والحصن المنيع، وها قد فقدت كل ذاك، وباتت وحيدة، ضائعة، تشرف على الهلاك، عندما لم تجد "كريمة" منها ردًا، أيقنت من تؤثرها بذكرها النزق لمحاسن والدها الراحل، وسريعًا ما أطنبت في نفس النصيحة التي لا يرجى منها فائدة، قائلةً:
-طب بس برضه سيبي امك تقف جنبك جايز تعرف تحل الموضوع وتنهي الجوازة السودا دي.
تقوس فمها بضحكة ساخرة يملأها الألم وهي تررد:
-ماما!
وبتعابير وجهٍ يعتليه الشجن أردفت بنبرة مستنكرة:
-من امتى يا دادة وماما بتقف جنبي في حاجة! من امتى ماما اصلا معتبراني بنتها وبتدافع عني وبتحاميلي!
أخرجت تنهيدة حاملة لكل ما يعتريها من أحزانٍ، وأوجاع، وأكملت:
-حتى رفضها ده عشانها مش عشاني، انا فاهمة كل واحد فيهم كويس ومش من دلوقتي، واتأكدت أكتر من نواياهم وقت ماروحنا للمحامي وشوفت فى عينيهم الكره ليا انا وبابا عشان كتب كل حاجة باسمي..
أخذ صوتها منحدرًا نافرًا وهي تضيف:
-وفاهمة كويس ان عمي عايز يجوزني راغب عشان نصيبه في الورث، أكيد فاهم إني لما هبقى في بيتهم ومتجوزة ابنه هيقدر يخليني اتنازله، وعشان كده بالتحديد ماما رافضة، وعايزه بدل مابقى تحت سيطرة عمي ابقى تحت سيطرتها هي.
ضغطت على شفتيها وهي تتحكم في ما يجتاحها، من رغبة قوية في البكاء، وقالت:
-يعني كل واحد بيفكر بطريقته ازاي يمتلكني ويتحكم فيا عشان يعرف يوصل لأطماعه، إنما انا مش فارقة مع حد.
فشلت في كبح بكائها، وبدأ صوتها يهتز وهي تقول:
-كان بابا بس اللي فارقاله واللي أمري يهمه، وخلاص راح، وانا كمان رحت معاه.
رفعت يدها تكفكف عبراتها التي تهاوت على وجنتيها، وهسهست بزهدٍ:
-مش هتفرق بقى اتجوزت راغب أو اتجوزت غيره فى الحالتين جوايا مات، هيموتوا فيا إيه تاني.
شعرت "كريمة" بالأسى، تجاه تلك المسكينة كسيرة القلب، توجهت نحوها ووضعت يدها على كتفها رابتة عليه بحنانٍ لم تكف عن إمدادها به منذ تولت مهمة رعايتها، منذ كانت طفلة صغيرة، والذي عن طريقه عوضتها بجزءٍ من المشاعر التي فقدتها مع والدتها القاسية والمتجافية، وبعدما هدأت واستكانت سألتها بحزن:
-وورثك يا بنتي هتفرطي فيه ليهم؟
احتدمت في لحظة نظراتها، وتحول الضعف والهوان، إلى تصميم وعناد، لن تخنث بوصية والدها، فرغبته في عدم حصول أحد منهما على قرشٍ من ثروته ستنفذها له، فهذا آخر ما أراده، وهذا ما ستعمل على حدوثه، وفي تلك اللحظة استدارت لها وصاحت بعزمٍ:
-ده الحاجة الوحيدة اللى مش هسمح بيها، لو انا ضعيفة وماليش حد يقفلهم وهما مستغلين ده وبيمشوا حياتي على مزاجهم، فانا مبقتش فارقة معايا حياتي.
تشنج جسدها بغضب تملك من كامل أوصالها وهي تقطع عهدًا نافذًا على نفسها:
-إنما أملاك بابا اللي تعب فيها طول السنين اللي فاتت، ورفض إنهم يورثوا فيها، مهما عملوا مش هيطولوا منها مليم ولو وصلت انهم يقتلوني.
ظهر الرضا على وجه "كريمة" من موقفها الغير السلبي نحو ذلك الأمر بالتحديد، وكأنها على دراية بشيءٍ، يجعلها ترى أن رب عملها محق في جعل سائر أملاكه لابنته، وليس عليه ذنب بتعمده حرمان كل من زوجته وأخيه في أن يرثا به. بعد ذلك انتهى النقاش بينهما ببضعة عبارات، تركت بعدئذٍ "كريمة" الغرفة لتكمل أعمالها، في حين بقت "كيان" موضعها على أعتاب الشرفة، تحاول إخماد الثورة التي اندلعت داخلها، من تخيلها لفرض سطوتهما عليها، وجعلها تخون رغبة والدها، لربما سيقودها القدر للزواج بابن عمها، الذي يطمح عن طريقه عمها لوضع يده على إرثها، ولربما سينجح عمها في فرض ذلك الزواج عليها، ولكنها ستجعله يشهد على فشله في مسعاه في الأخير، لقد انطفات روح الحياة بداخلها، ولا يهمها على أي برٍ سترسو، ولكن ما بات يهمها هو ما تبقى من حياة والدها، وما أراده قبل أن يسرقه الموت منها.
❈-❈-❈
أخذت أصابعه تنقر على سطح المكتب بشكل متواتر أثناء تفقده لبعض التقارير في الحاسوب، وعلى أحد كرسي المكتب يجلس والده، الذى أتى حتى يعلمه بموعد الخطوة القادمة في خطتهما الحقيرة، مد ذراعه نحو مطفأة السجائر الموضوعة فوق المنضدة الخشبية الصغيرة المقابلة له، أطفأ عقب سيجارته وهو ينفث دخانها الأخير، ثم قال له بنبرة صوت جادة:
-جهز نفسك عشان كتب كتابك هيكون الخميس.
استرعى انتباهه ما قاله، ورفع نظره إليه وقد انعقد حاجباه بتفاجؤٍ وقال باستغرابٍ:
-على طول كده!
عاد بظهره على المقعد وهو يردف بفتور:
-ايه اللي هيخلينا نستنى!
أخفض "راغب" نظره عنه وقد طرأ برأسه أمرها، ثم عاد بنظره إليه وهو يتساءل باستشفاف:
-يعنى كيان وافقت؟
احدت ملامحه ونظراته الموجهة له وهو يرد بتجهمٍ:
-وهي تقدر ترفض!
راود "راغب" للحظة شعور بالتخبط، فما هو مقبل عليه ليس نزوة عابرة، ولا علاقة غير مشروطة، إنه زواج، وعلى ما يبدو أن ثمة أمور لم يفكر بها، ومن بينها طبيعة العلاقة بينه وبين من ستصبح زوجته، وفي دواخله كذلك يشعر بضيقٍ طفيف، فمن الواضح أن "كيان" وضعت تحت الإجبار من عمها للارتضاء بالزواج به، وهذا ما لم يحدث في أي علاقة سابقة، حتى زواجه الأول كان برغبة خالصة من شريكته في الارتباط به، وإن صدق حدسه نحو ذلك الأمر، سيفقد شعوره بالأفضلية في تلك العلاقة، لاحظ "نوح" شروده المتوقع، لذلك تركه حتى يرتب أفكاره، ولكن عندما انتبه لدلوف إحداهن من الغرفة، أردف قائلًا عن عمد:
-على العموم اعمل حسابك انك هتعيش فى الفيلا معايا بعد الجواز.
اعترى الضيق وجهه من إصرار والده على ذلك الأمر، وعلق بانزعاج:
-برضه يا بابا مصم...
حال دون إكماله انتباهه لصوت حذاء أنثوى على مقربة منه، علم أنه لـ"داليدا" شريكته، وابنة صديق والده، والتى تجمعها علاقة قوية بـ"راغب" باتت تمتد لأكثر من صداقة، بعدما شاع بين الكثير من المعارف والأصدقاء خبر زواجهما القريب، بالرغم من عدوم وجود مشاعر يُقام عليها ذلك الزواج، إلا أن صداقتهما الوطيدة، إضافةً إلى علاقة العمل القوية، جعلاهما شريكين منسجمين، ومتفاهمين ، لذلك رأى أن يعطيا لتلك العلاقة فرصة فلربما تنجح تلك المرة، خاصة وأن الاثنين سبق لهما الزواج، الذي انتهى بعدم التفاهم مع شريك كل منهما حتى أدى إلى الطلاق. آثر الصمت حتى لا تستمع إلى الحديث الذي يدور بينه هو والده، فهو لم يخبرها بتلك المستجدات، ولا يدري ما تأثير وقعها عليها، ولكن دائمًا ما تأتي الرياح بمَ لا تشتهي الأنفس، فقد أمسكت أذنيها بالجزء الأخير من جملة "نوح" المتعمدة، ضيقت ما بين حاجبيها وهى تفرق نظراتها بين الأب وابنه وهي تتساءل باهتمام:
-جواز ايه! مين اللي هيتجوز؟
بتساؤلها صار "راغب" في موقف لا يحسد عليه، وحملق في وجه أبيه بتوتر كان ملحوظًا له، وبدلًا من أن ينقذ الموقف إلى أن يذيع ابنه الخبر لها بطريقة تحافظ على علاقتهما كصديقين، زاد الأمر سوءًا برده الصادم:
-راغب.
توسعت عيناه بصدمة كانت واضحة وحولت نظرها للآخر، الذي هرب بعينيه عن نظراتها، في حين أكمل "نوح" حتى يقطع جذر تلك العلاقة نهائيًا:
-هيتجوز كيان بنت عمه.
غصة مريرة تكونت فى حلقها، فقد كان ذلك الخبر بمثابة طعنة غادرة، ولكنها تحاملت على نفسها شعورها، حتى تحافظ على كبريائها، وعاودت النظر لـ"راغب" الذي شاع الحرج بوجهه، وابتسمت له باقتضابٍ قبل أن تقول باقتضاب:
-مبروك.
وضعت الملفات التي كانت أتية في الأساس لإحضارها على سطح المكتبة أمامه، ثم أطنبت وهي تشرع في المغادرة؛
-الـmeeting فاضل عليه خمس دقايق، عن إذنكم.
استدارت للمغادرة فور إنتهائها، بينما ظل "راغب" ناظرًا في أثرها بشيء من الإحساس بالذنب، فحتى إن لم تجمعهما علاقة عاطفية حقيقية، ولكن بينهما حديثًا مفتوحًا حول ارتباطهما الوشيك، وأغلب المحيطين بهما يعلم عن ذلك الشأن، ظل على حالته المزعوجة من معرفتها لذلك الخبر بتلك الطريقة الجارحة، في حين كان "نوح" على الجهة الأخرى يشعر بالانتشاء لسريان ما خطط له بشكلٍ مفاجئ على نحوٍ أرضاه، وقد تخلص من تلك العقبة المسماه بـ"داليدا"، حتى يتم الزواج دون أي عراقيل متوقعة من ناحية ابنه.
❈-❈-❈
فستان العرس في العادة عندما يُبعث للعروس كهدية من العريس، تكون لفتة طيبة، تظل راسخة في الأذهان، كما أن تأثيرها السعيد على القلب يملأ كافة الأركان، إلا أن الأمر في حالتها يختلف كل الاختلاف، فها هي تنظر بسخرية إلى العلبة المفتوحة، الموضوعة على الفراش، التي يظهر منها فستان أبيض رائع التصميم، إن كانت رأته في وقت مغاير لأعجبت بكافة تفاصيله الراقية والمميزة، ولكن العجيب في الأمر هو تفكيره اللبق في إرسال فستان عقد قرانهما، فهل بذلك يتعمد التأثير عليها حتى تغير استنباطاتها نحوه، أم هذا فعل تلقائي يعبر عن إحدى سمات شخصيته.
ما يزال أمره غير مفهوم، غامضًا، ما بداخله غير مقروء، فبعض المكالمات الصوتية، والرسائل النصية خلال الأيام الماضية لم يتضح من خلالها شيء، حتى أنها لم تكن تركز معه، أو تحاول سبر أغواره، فمجرد قبولها بالزواج منه حتى تتحاشى النزاعات التي ستنشب بين والدتها وعمها، وبالطبع سيطولها عواقب رفضها، يجعلها نافرة صوتها، تتغصب على نفسها الرد عليه حتى لا تثير ثائرة عمها، وتجد نفسها بمفردها تتلقى العقاب والزجر.
أخرجها من شرودها صوت باب غرفتها، الذي انفتح ودخلت منه والدتها، التفت بنظرها نحوها، وعلى بعض الاستغراب وجهها من قدومها المفاجئ، فليس من عادتها المجيء للجلوس، حتى إنها لم تتحدث معها منذ زيارة عمها، تابعت سيرها نحوها بهدوءٍ يختلط بانتظار معرفة سبب إتيانها، وما إن صارت أمامها ولمحت فستان العرس المزعوم، كلمتها بجدية:
-انا عارفة انك مش عايزه راغب.
وأين الجديد؟ فالجميع يعلم ذلك، التزمت الصمت وهي تنصت لها تضيف بتأكدٍ:
-وإن موافقتك دي خوف من عمك.
ظنت "كيان" أن مجيئها بهدف دعمها، في التصدي لعمها، وبالرغم من استغرابها من الأمر، إلا أنها تمسكت بتلك القشة، فلربما تجد حلًا عندها –غير التنازع معه- ينتشلها من مصيرٍ غير معلوم، خاصة وأن والدتها من جاءت إليها، وليس هي التي ذهبت لاستجداء عونها، أومأت لها برأسها مؤكدة، وسألتها ببعض الأمل:
-أنا فعلا مش عايزاه، تقدري ترفضي وتمنعي الجوازة دى من غير مشاكل!
عندما قرأت رغبتها الواضحة في إنهاء تلك الزيجة، تشجعت للدخول في صلب ما جاءت لأجله، مرددة بمكر:
-أنا عندي حل.
رأت "سمية" أن الحل الذي تهادى له عقلها سيجعلها خارج الصورة، حتى لا ينفذ تهديده، ومع ذلك ستهدم به تخطيطه، لاح التلهف فوق قسمات "كيان"، وعيناها تتساءل، حينئذٍ تابعت الأولى باندفاع يملأها الحماس:
-ممكن اكتب كتابك على هادي النهاردة..
فغرت عيناها باتساع مريب، كأنما أتت والدتها للتو على ذكر أحد الشياطين، بينما أكملت الأخرى على نفس الشاكلة:
-وبكده نبقى قفلناها على نوح وابنـ..
لم تستطع أثر الصمت أكثر من ذلك، وهتفت في رفضٍ قاطع وصريح:
-هادي لأ، مستحيل.
تحولت تعبيرات والدتها في لحظة من الحماس إلى الضيق، في حين أضافت "كيان" وهي تستدير:
-جوازي من راغب ارحملي.
على وجهها تعبير ناقم وهي تعلق بتهكمٍ:
-راغب ابن نوح ارحملك من ابن خالتك!
أجابتها "كيان" بما يشبه التأكيد بقولها:
-انتي عارفة ليه كويس اوي.
زفرت "سمية" بانزعاج من أسبابها المستهَلكة في رفضه، وتقدمت لتصير مقابلة لها وهي تخبرها باستمالة:
-هادي بيحبك وانتي عارفـ..
منعت محاولتها في إقناعها بهديرها الكاره:
-وانا مبحبهوش، مبطيقهوش.
علقت على ما قالته بصبر نافذ، مدمدمة:
-مانتي مبتحبيش راغب وهتتجوزيه، إيه الفرق؟
ردت عليها بإيجاز يحمل بين طياته المضمون:
-الفرق كبير.
على الرغم من فهمها لأبعاد ردها، إلا أنها لم تتوقعه، وتساءلت:
-يعني إيه؟
شعرت كأنما تضغط على أعصابها، حتى وجدت نفسها تصرخ بحرقة:
-يعني راغب مأذانيــش.
بدا لها رفضها القاطع لابن اختها، وبهذا فشل مسعاها في إنهاء ذلك الزواج عن طريق "كيان"، فهي مكتوفة الأيدي، ولا يسعها الرفض الصريح بمنعه، تفشى بوجهها الغل الدفين داخلها، وهتفت بغضب:
-بكره يئذيكي وتقولي يارتني سمعت كلامك.
قست نظراتها نحوها وهي تضيف بغلظة:
-بس ساعتها هسيبك تتحملي نتايج تفكيرك الغلط ومشيك ورا دماغك.
شيعتها بنظرة ناقمة قبل أن تتخطاها متحركة صوب باب الغرفة، الذي صفقته فور خروجها، ارتجف جسدها برجفة قوية، لا تدري أمن غلقها العنيف للباب الذي دوى صوته بالغرفة، أم من حديثها القاسي الذي دوى بكيانها، تهاوت دموعها وقد تأكدت أنها لا تمثل لها أي قيمة، وقد خاب أملها نحو مجيئها، فزواجها من ابن شقيقتها، حاملًا لنفس هدف زواجها من ابن عمها، وهو السيطرة عليها، في سبيل الحصول على ما لديها، ولكنها إن كانت ترفض الزواج من "راغب"، فالحين بات عندها سبب قوي للعدول عن رفضها، حتى لا تصير لقمة سائغة للآخر، وتصبح كالفريسة بين براثنه، فإن كان لزواجها من الأول مساوئه، فاقترانها بالآخر سيدمر الباقي بداخلها مما أتلفه.
جلست على طرف الفراش كالضائعة، تائهة بين كل ما يحدث من حولها، وشعورها بالبوح عما يختلج صدرها يتفاقم ويزداد الحاجة له، وبالطبع لا تملك سوى دفترها، وسيلتها المتاحة، والوحيدة، توجهت لأخذه من فوق مكتبها، وتناولت معه قلمها، وعادت أدراجها إلى الفراش، أستندت ظهرها على عارضة السرير، بعدما جلست في وضعية تساعدها على الكتابة، وبعد أن جاءت بصفحة تالية لسابقتها المنثور بها أحرفها السوداء، بدأت تخط بقلمها بها.
مرحبا دفتري، آسفة على طريقتي الفاترة، ولكني لست ببال رائق لأزين الكلام، أو ألقي عليك التحية في بادئ الحديث، كل ما أريده هو إخراج ما يجيش به صدري، ويلتف حول عنقي، فأنا أرهقت وازداد تعبي، ولم يعد يسعني التفكير، فى كل ما يحدث من حولي، تخبطت وتشتت، وأصبح الوصول لبرٍ آمان من آخر المستحيلات.
تنهيدات متتالية أسحبها لصدري –تحمل شجنًا دفينًا يستقر بأعماق أعماق قلبي لا يشعر به غير روحي المحطمة- ألفظها على مهلٍ، آملةً أن تغادرني معها أوجاعي الجمة، وجروحي التى لا تندمل، حتى النوم مهربي الوحيد من الواقع القاسي لا يجافيني، أوصد عيني لساعات محاولة استحضاره، رغبةً فى محو أزلية شتاتي الذهني حتى ولو بشكل مؤقت، ولكن سريعًا ما أصحو وكأن الراحة لم تكتب لي حتى ولو بقسط قليلٍ من النوم.
أنَّى لي بقدرة على تحمل كل تلك النفوس السوداء التي أزهقت روحي، كيف أتخطى مكرهم، شرورهم، وكرههم، يحاربون بشتى الطرق للظفر بمطامعهم في حقوقي، التي للحقيقة لا يعنيني نيلها في شيء، وإن لم تكن تلك وصية والدي لكنت أعطيتهم طواعيةً كل شيء، ليته لم يفعل.
فماذا جنيت من كل ذلك؟ لقد أصبحت لقمة سائغة لكل من عمي ووالدتي، ندية بحتة أراها فى أعينهما حول من سينجح في سلب ما أملك، والآن أنا على شفا حفرة من الزواج بشخصٍ لا أعرف عنه شيء غير صلة القرابة الجامعة بيننا، ولا أدرى كيف ستكون معاشرته، هل هو كوالده! حاد، جاف، والشر يتطاير من عينيه، أم شخص لين الطباع، حسن المعشر، سأتمكن من التحدث إليه دون خوف أو رهبة؟
فلطالما تملكت مني الرهبة بحضور عمي، ارتعش فقط من سماع صوته الذي كان يدوي في البيت، ويحدث حالة من الصخب المخيف، أخشى أن يكون ارتضائي المغلوبة عليه، باب يقحمني في أوجاع زائدة، فها أنا تحت وطأة ضعفي ووحدتي، أحاول جاهدة بأن أمتلك رباطة الجأش لأتمكن من المقاومة، والحفاظ على ما تبقى مني.
أغلقت دفترها، وبداخلها ما يزال مشوشًا، فلقد أصبح الأمر أكبر من أن يكتب، بنظراتها الساهمة تنظر في نقطة وهمية في الفراغ، تشعر أن الحياة قد انتزعت من داخلها كل شعور جميل، حتى جسدها أصبح كدمية تنتظر من يحركه، وهى بكل ضعف قد تركت زمام الأمور لهم، فماذا عساها تفعل وهي وحيدة بلا مأوى تلجأ إليه من شرور من حولها، الذين كان ينبغي أن يكونوا لها الملجأ؟
❈-❈-❈
في غرفة الصالون، حيث يوجد المأذون، ويتجمع العدد القليل من الضيوف، منتظرين قدوم العروس، توسعت عينا "راغب" من موضعه المجاور لوالده، والمقابل لباب الغرفة، الذي دلفت منه "كيان" للتو، بثوبها الأبيض وشعرها الطليق، فرؤيتها بتلك الهيئة الناعمة، حولت سأمه من الانتظار إلى إعجاب بهالتها الخاطفة للأنظار، لم يتوقع أن تكون بذلك الحسن والجمال الأخاذ، وأن يرسم الفستان قدها بتلك الطريقة الساحرة، كأنما تم تصميمه لها خصيصًا، فعندما وقع عليه اختياره العشوائي، لم يتخيل أن تكون بتلك الفتنة عند ارتدائه.
لم يحِد بنظره عنها وهي تتقدم نحوهم، بخطواتها الخيلاء، وجسدها المرسوم بحرفية أودت بعقله، أين كان ذلك الجمال المرة السابقة؟ هل أخفاه حزنها! أم لم يلحظه حينها! حتى عيناها رمادية اللون لتوه لاحظ تشابهها مع خاصتيه، مع اختلاف اتساعهما، ورسمتهما الناعسة، حتى زينتها الهادئة تضفي رقة لملامحها الناعمة، ووجهها النضر ذي الوجنتين المستديرتين، وشفتاها المنتفختين، ابتلع ريقه عندما وصلت عيناه عندهما، وملمع الشفاه يترك سحره الخاص، الذي يغويه بشدة.
خلال سيرها نحوهم، حتى جلوسها في الناحية الأخرى جوار المأذون، وهي ترى عينيه المعلقة عليها، ارتبكت وتلبكت في جلوسها، حتى إنها لم تنتبه إلى بدء المأذون في مراسم عقد القران من شدة توترها، فنظراته تريبها، بالرغم من قراءتها إعجابه الواضح فيهما، ولكن لسبب غير معلوم تدفقت الرهبة داخلها، أما "راغب" فباتت تختلف نظرته نحو ذلك الزواج، فبإعجابه بها الآن لن تقتصر الفائدة على الناحية المادية فقط، بل ستمتد لنواحي أخرى ممتعة، وهو سيد من يستغلها.
فاق كل منهما من شروده المختلف، على صوت انتهاء المأذون، معلنًا إتمام الزيجة، حينئذٍ همس "نوح" بصوت هادئ مستفز وبعينيه نظرة انتصار للماثلة أمامه الغل الدفين يتطاير من عينيها:
-مبروك يا سمية.
رمقته بنظرة كارهة مليئة بالبغض لكل ما يدور، ثم التفت بوجهها عنه، متظاهرة بانشغالها مع الحضور، ازداد انتشائه وشعوره بالفخر لكسره شوكتها، ثم توجه نحو "كيان" التي تجلس كالتائهة، خاشيةً من الخطوة التالية، بعدما صارت تنتسب لرجلٍ، ستنتقل للعيش معه تحت سقفٍ واحد، وستخوض تجربة جديدة تأمل ألا تكون سيئة العواقب، اقترب منها وأمسك بيدها يحثها على النهوض، وبعد أن استجابت له، وصارت مقابلة له في وقوفها، قال لها بودٍ لم يلمس قلبها:
-مبروك يا كيان.
ابتلعت ريقها وبتوتر تعمل على التغلب عليه، ردت:
-الله يبارك فيك.
ما لبث أن نظر لابنه، هاتفًا ببسمةً فاترة:
-مش هتلبس مراتك الخاتم يا راغب ولا إيه؟
ناظرت مجيئه نحوها وعينيه لا تفارق وجهها، وعندما بات قربها أخرج من جيبه علبة قطيفة، فتحها تحت أنظارها، أخرج منها دبلة ذهبية وخاتم من الألماس، ثم أعطى العلبة الفارغة لوالده، مد يده نحو كفها ممسكًا به، اقشعر بدنها من لمسته، التي تضاعف بها ارتباكها، وعندما انتهى من وضع الدبلة ومن فوقها الخاتم في إصبعها، انحنى مقبلًا يدها، بحركة غير متوقعة، ورقة فاجأتها، وعندما رفع وجهها له قال لها ببسمة رائقة:
-مبروك.
حملقت فيه بتخبطٍ، طريقته اللطيقة تجعل عقلها يشوش، وظنها بأن يكون جافيًا وجامدًا كوالده أختفى، ولكن ما الذي يجعله يستجيب للزواج بها بالاتفاق مع والده إن كانت طباعه طيبة؟ فهل يتعمد بتلك الطريقة أن يتلاعب بها؟ ألف سؤال وسؤال دار في رأسها، ولكن في تلك اللحظة ما كان يشغل حيزًا كبيرًا من فكرها حقًا، هو الذي ينتظرها معه؟
يتبع...
يتبع...