رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 29 - جـ 1 - السبت 13/9/2025
قراءة رواية ثنايا الروح كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية ثنايا الروح
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رانيا الخولي
الفصل التاسع والعشرون
الحزء الثاني
تم النشر السبت
13/9/2025
_بتي! هي فين؟ رچعت فين؟أوقفتها روح برفق، ووضعت يديها على كتفي أمها المرتجفين.
_هي في أوضتها يا أمي، بس نايمة من التعب بلاش نصحيها دلوجت خليها ترتاح.
هزت ليل رأسها بنفي ولهفة، ودموع الأمل والخوف تتجمع في عينيها.
_لا... لا مش هجلجها بس أشوفها... عايزة أشوفها بعيني عشان أصدج.
تركتها روح وخرجت ليل من غرفتها لا تركض، بل تكاد تطير كل خطوة كانت تقطعها كانت تمحو يوماً من أيام العذاب.
فتحت باب الغرفة ببطء شديد، كأنها تخشى أن يكون كل هذا مجرد حلم ستستيقظ منه.
ورأتها.
رأت ابنتها نائمة على فراشها، لكنها لم تكن نائمة بسلام.
كانت هناك آثار للدموع الجافة على خديها الشاحبين، ويداها مقبوضتان بجانبها حتى في نومها كأنها لا تزال في معركة.
لم تعد ابنتها المدللة ذات الوجه الممتلئ، بل أصبحت ظلاً شاحباً لِمَا كانت عليه.
في تلك اللحظة، شعرت ليل بخنجر بارد وحاد يخترق قلبها ويمزقه ببطء.
هذا ما فعلته هي هذا ما سمحت بحدوثه.
تسللت إلى الداخل وأغلقت الباب خلفها دون صوت جلست على حافة السرير بجانبها، وبدأت دموعها هي الأخرى في النزول بصمت.
لم تكن دموع فرح بعودتها، بل كانت دموع قهر وذنب وحسرة.
مدت يدها المرتعشة، وترددت قبل أن تلمسها كأنها تخشى أن تكون غير جديرة حتى بلمسها.
ثم مسحت على شعر ابنتها بحنان لا يوصف، حنان أم جائعة لرؤية طفلتها.
همست بصوت مختنق بالبكاء، صوت يخرج من أعماق روح معذبة.
_أنا آسفة... آسفة يا نور عيني.
أنا اللي وصلتِك لكده.
ازداد نحيبها الصامت، وانحنت حتى كاد جبينها يلامس جبين نغم.
_أنا اللي سيبتك ليهم اتخليت عنك زي ما هما اتخلوا، كنت چبانة... عملت زيهم وخفت من الفضيحة ومن كلام الناس.
خفت على اسم أبوكي وإختك ونسيتك إنتي... نسيت أحمي حتة من جلبي، سامحيني يا بنيتي... سامحيني يا جلب أمك.
انحنت وقبلت جبين نغم النائمة، قبلة مبللة بالدموع، ثم لم تعد تحتمل استلقت بجانبها فوق الغطاء، واحتضنتها برفق وضمتها إلى صدرها بقوة كأنها تحاول أن تعوضها بحضن واحد عن كل أيام الألم والوحدة التي تركتها فيها.
أغمضت عينيها وهي تستنشق رائحة شعر ابنتها، الرائحة التي اشتاقت إليها حد الموت ولأول مرة منذ أن أخذها جاسر، شعرت ليل بأن روحها قد بدأت تعود إليها، لكنها كانت عودة ممزوجة بألم الذنب الذي سيبقى معها إلى الأبد.
❈-❈-❈
فتح جاسر عينيه على ضوء شمس العصر الذهبي الذي يتسلل من بين ستائر الغرفة.
شعر بثقل في جفونه، وبراحة في جسده لم يشعر بها منذ زمن طويل.
لقد نام نوماً عميقاً وغير طبيعي، نوم رجل ألقى بكل أحماله على الشاطئ واستسلم للراحة.
بعد الليلة التي قضاها مع نغم شعر قلبه بنوع من السلام، وسمح لنفسه أخيراً أن يعوض ليالٍ طويلة من الأرق والقلق.
مد يده إلى الجانب الآخر من السرير، بحركة غريزية واثقة، يتوقع أن يلمس جسدها الدافئ، أن يشعر بنعومة بشرتها تحت أصابعه لكنه لم يجد سوى الفراغ وبرودة الملاءات التي لم يمسسها جسد منذ ساعات.
فتح عينيه ببطء وابتسامة خفيفة ترتسم على شفتيه وهو يتذكر تفاصيل الليلة الماضية استغرب غيابها لكنه لم يقلق في البداية ربما استيقظت قبله وذهبت إلى الحمام
جلس على حافة السرير
وذكريات تلك الليلة مرتسمة بمخيلته..
ترددها.. خجلها.. المشاعر التي كانت تحاول اخفاءها بكل الطرق.....
لقد تأكد حسه وهو أن نغم هي أيضًا بدورها سقطت في براثين ذلك العشق
اليوم سيخبرها بحبه وأنه يريد أن يظل معها ويعودها على كل أفعاله الرعناء فيما مضى
سوف يتغلبا على كل الصعوبات ويبدأ معها صفحة جديدة بعيدة كل البعد عن ذلك الماضي الأليم
لكن قبل اي شيء عليه أن يخبرها بحقيقة زواجه
وسيقسم لها بأنه لن يلمس غيرها.
شعر بقبضة خفيفة من القلق تبدأ في التكون في معدته، قلق لم يكن معتادًا عليه.
_نغم؟
نادى عليها بصوت أجش من أثر النوم، لكن لم يأتي أي رد.
صمت الغرفة كان ثقيلاً ومزعجاً صمت لم يعد طبيعياً بعد الآن.
_نغم!
رفع صوته قليلاً وهذه المرة كانت نبرته تحمل حدة غير مقصودة
لكن الصمت كان هو الجواب الوحيد، صمت يصم الآذان.
"يمكن في الحمام"، قال لنفسه بصوت مسموع محاولاً طمأنة قلقه المتزايد الذي بدأ يتحول إلى وحش صغير ينهش أحشاءه.
نهض واتجه نحو باب الحمام طرق برفق.
_نغم؟ إنتي جوه؟
لا رد.
خبط مرة أخرى بقوة أكبر قبضته ترتطم بالخشب.
_نغم، ردي عليا!
عندما لم يأتي أي صوت أدار المقبض بعنف وفتح الباب
لم يجدها، الحمام كان فارغاً ومرتباً منذ ان استخدماه ليلاً
هنا تحول القلق إلى خوف حقيقي خوف بارد تسلل إلى عروقه خرج من غرفته مسرعاً، ونزل إلى الطابق السفلي وهو ينادي باسمها صوته يدوي في أرجاء القصر الفارغ وجد والدته مع الخادمه في المطبخ يعدان القهوة.
_أمي! فين نغم؟
نظرت إليه والدته باستغراب وقالت بهدوء
_نغم؟ معرفش يا ابني مچتش اهنه خالص افتكرتها نايمة معاك فوج هي مخرجتش من أوضتها من امبارح.
كانت كلمات والدته هي المسمار الأخير في نعش طمأنيته تحول الخوف إلى رعب بارد اجتاح جسده
كيف لم تخرج من غرفتها؟ لقد كانت معه كانت بين ذراعيه لم يرد على والدته، بل انطلق يجري في أرجاء الجناح كالمجنون فتح كل الأبواب بعنف غرفة تلو الأخرى، يزيح الستائر يبحث عنها في كل زاوية وهو يصرخ باسمها صرخة أصبحت يائسة مع كل باب فارغ يفتحه.
خرج إلى الحديقة ودار حولها كلها وعيناه تبحثان بيأس عن أي أثر لها، عن بصمة قدم في الطين عن أي شيء يدل على أنها كانت هنا لم يكن يريد أن يصدق كان عقله يرفض فكرة أنها هربت مستحيل
ليس بعد الليلة الماضية ليس بعد أن رأى الاستسلام في عينيها وشعر بأنها أصبحت ملكه أخيراً ليس بعد أن استسلم هو لها
لكن مع مرور الدقائق ومع كل غرفة فارغة وكل زاوية خالية، بدأت الحقيقة المرة تفرض نفسها عليه كحكم إعدام.
توقف في وسط الصالة، يلهث وشعور بالخواء المطلق يملأ صدره. لقد استسلم للحقيقة لم تهرب بل هو من دفعها للهروب لقد وثقت به، وهو خانها لقد استسلمت له وهو خدعها.
نظر إلى يديه، اليدين اللتين لمستاها ثم قبض عليهما بقوة حتى ابيضت مفاصله.
لم يكن غاضباً منها بل كان غاضباً من نفسه من غبائه، من قدره الذي يسلبه كل شيء جميل في حياته
لم يكن مجرد رحيل بل كان بترًا لجزء من روحه
لقد وجد خلاصه فيها، والآن ضاع الخلاص وعاد الجحيم أقوى وأشد من أي وقت مضى لقد تركته
هربت
شعر بغضب عارم يغلي في دمه، غضب ممزوج بألم حاد لكنه لم يسمح لنفسه بالانهيار.
لم يكن هذا وقت الضعف لم يتردد للحظة واحدة صعد مسرعًا ليبدل ملابسه وأخذ مفاتيح سيارته، وقبل أن يخرج توقف أمام حراس البوابة الرئيسية.
_شفتوا الهانم خرجت؟
سألهم بصوت جليدي صوت لا يحتمل الكذب
ارتبك الحارسان ونظرا لبعضهما البعض.
_لا يا بيه... مشفناهاش.
ضيق جاسر عينيه، وشعر بأن هناك شيئًا خاطئًا.
_إزاي مشفتوهاش؟ كنتوا فين؟ تلعثم أحدهما
_والله يا بيه... غفلنا شوية... معرفش إيه اللي حوصل، صحينا لقينا الصبح طلع
في لحظة كان جاسر قد أمسك بتلابيب الرجل وهزه بعنف وعيناه تقدحان شررًا.
_غفلت؟ غفلت وهي بتوهرب من بيتي؟
صرخ فيه، ثم ألقاه على الأرض بقوة.
لم يكن هناك وقت للعقاب الآن انطلق بسيارته كالريح، وجهته واضحة ومحددة: سرايا عائلة "الرفاعي".
هي زوجته هي امرأته هي ملكه ومستحيل، مستحيل أن يتخلى عنها أو يتركها تذهب بهذه السهولة.
سيذهب إلى هناك، وسيستعيدها مهما كان الثمن حتى لو اضطر إلى حرق السرايا بمن فيها لقد أخذوا منه كل شيء، لكنهم لن يأخذوا منه نغم ليس هذه المرة.
❈-❈-❈
انتشر خبر عودة نغم في سرايا الرفاعي كانتشار النار في الهشيم
كان الجميع من كبيرهم إلى صغيرهم، يشعرون بمزيج معقد من الفرحة والقلق.
فرحة بعودة ابنتهم إلى حضنهم، وقلق عميق بسبب الحالة المزرية التي عادت بها.
كانت الأسئلة تدور في عيونهم لكن لا أحد تجرأ على سؤالها مباشرة
كانت نغم تجلس في غرفتها، محاطة بوالدتها وروح وزوجه عمها، وجسدها يرتجف مع كل ذكرى وعيناها زائغتا مما منع أي شخص من الاقتراب بسؤال قد يفجرها.
وفجأة، اخترق هدوء السرايا الحذر صوت رجولي قوي
صوتٌ لم يكن مجرد نداء بل كان زئير أسد جريح
يحمل في طياته غضبًا مكبوتًا، وألمًا عميقًا وشوقًا يكاد يمزق الحنايا
صوتٌ اهتزت له جدران السرايا العتيقة وارتجفت له قلوب ساكنيها
_نغــــــــــــــــم.
كان صوت جاسر نبرته كانت حادة كحد السيف قاطعة كصوت الرعد، لكن خلفها اختبأ ضعفٌ لا يراه إلا من يعرفه حق المعرفة.
ضعفٌ نابع من خوفه على محبوبته من قلقه عليها ومن لهفته التي كادت تقتله.
كان يناديها بأعلى صوته، وكأنه يصرخ في وجه العالم كله
يطالب بحقه يطالب باستعادة روحه التي سُلبت منه.
في غرفتها انتفضت نغم من مكانها وكأنها لدغتها أفعى سامة لم يكن الصوت مجرد نداء، بل كان صدى لكل أهوال الليلة الماضية لكل الألم الذي عاشته، لكل الخوف الذي تملكها.
اندست في حضن والدتها بخوف، وعيناها اتسعتا رعبًا كغزال صغير يرى صيادًا.
صوت اسمه كان كافيًا ليعيد إليها كل الكوابيس كل الذكريات المريرة التي حاولت جاهدة أن تدفنها.
في بهو السرايا تبادل الرجال النظرات مالك ووالده، وعمه وسند، وكل رجال العائلة الموجودين
كانت نظراتهم تحمل مزيجًا من الدهشة والغضب والتساؤل من يجرؤ على اقتحام حرمة السرايا بهذا الشكل؟ من يملك هذه الجرأة؟
كان وهدان كبير العائلة أول من كسر حاجز الصمت، صوته يحمل نبرة استنكار وغضب
_مين ده؟
لم يمهله سند فرصة للإجابة، فقد كان الغضب يتأجج في عروقه تمتم من بين أسنانه وكأن الكلمات تخرج بصعوبة من بين فكيه المطبقين
_ده الكلب ابن التهامي.
رأى سالم الخوف في عيون روح التي خرجت على الصوت وفهم مالك أن هذه المواجهة كانت حتمية لا مفر منها.
كان يعلم أن جاسر لن يتراجع، وأن هذه اللحظة كانت قادمة لا محالة
نهضوا جميعًا ككتلة واحدة كجدار صلب، وخرجوا إلى حديقة السرايا لمواجهة هذا الاقتحام، لمواجهة هذا الرجل الذي تجرأ على تحدي سلطتهم
وجدوا جاسر واقفًا وحده في منتصف الحديقة وقفته صلبة كالصخر شامخة كالجبل، لا تهتز.
كانت عيناه تشتعلان بنار، نار البحث عن نغم، نار الشوق الذي أحرقه، ونار الغضب الذي تملكه.
كان يبدو كالمحارب الذي جاء ليستعيد كنزه لا يخشى شيئًا، لا يهاب أحدًا.
لكن خلف تلك القوة الظاهرية، كان قلبه يتمزق شوقًا، روحه تئن ألمًا وعقله لا يفكر إلا في استعادة نغم.
تقدم سالم نحوه ووراءه مالك وسند، ووقفوا أمامه بقوة وغضب كحراس لمكان مقدس
سأله سالم بنبرة تحذيرية، تحمل في طياتها تهديدًا مبطنًا
_إنت عايز إيه يا جاسر؟ چاي لحد دارنا ليه؟
لم يهتز جاسر لم يطرف له جفن.
بل ثبت نظره عليهم جميعًا وكأنه يرى من خلالهم، يرى نغم خلفهم.
قال بوضوح قاطع، وصوته يحمل رنينًا معدنيًا
_أنا عايز مرتي.
ضحك سند ضحكة ساخرة مريرة، تحمل في طياتها احتقارًا عميقًا _مراتك؟ ملكش حريم حدانا يا ولد التهامي بتنا ورجعت دارها ومحدش له حاچة عنيدها.
_رغم أنه كان وحيدًا في مواجهتهم، إلا أن جاسر لم يظهر أي أثر للخوف
كان كالأسد الذي يحارب قطيعًا من الذئاب ليصل إلى حبيبته، لا يبالي بالعدد، لا يخشى الموت كان يعلم أن نغم تستحق كل هذا العناء، كل هذا الخطر.
_نغم مراتي على سنة الله ورسوله ومحدش فيكم له الحج يمنعني عنيها ومش همشي من أهنه غير وهي معايا.
تقدم مالك خطوة، محاولًا أن يكون صوت العقل، صوت الحكمة في هذا الموقف المتوتر
_بنتنا رچعتلنا منهارة ومكسورة يا جاسر عملت فيها إيه عشان توصلها للحالة دي؟ وبعدين الأصول بتجول إنك تسيبها ترتاح، وبعدين نتفاهم.
رد جاسر بإصرار وعيناه تبحثان عن أي لمحة لها في نوافذ السرايا، وكأنه يستشعر وجودها خلف تلك الجدران.
كان قلبه ينبض باسمها، روحه تصرخ شوقًا لها.
_مليش تفاهم معاكم تفاهمي معاها هي ومش همشي من غيرها... حتى لو فيها موتي.
هنا، نفد صبر سند كانت كلمة "موتي" هي الشرارة التي أشعلت غضبه المكبوت.
في حركة سريعة، أخرج سلاحه من حزامه وصوبه نحو جاسر، وعيناه تشتعلان بنار الانتقام
_طالما جبت سيرة الموت يبجى إنت اللي اخترت نهايتك بنفسك
لكن قبل أن يتطور الموقف إلى ما لا تحمد عقباه، تحرك مالك بسرعة البرق وأمسك بيد سند وأنزل سلاحه بقوة، صوته يحمل نبرة حازمة
_نزل سلاحك يا سند إحنا مش جتالين مينفعش نعمل ده وهو في دارنا وتحت سجفنا
دي مش أصولنا.
نظر سند إلى مالك بغضب لكنه أطاع وإن كان على مضض.
ظل جاسر واقفًا في مكانه، لم يطرف له جفن وكأنه كان يتوقع هذا بالضبط مستعدًا للموت في سبيل استعادة امرأته.
كان يعلم أن كل خطوة يخطوها، وكل كلمة ينطق بها، هي من أجل نغم، من أجل استعادتها، حتى لو كلفه ذلك حياته.
كان هذا هو جاسر قويًا في مظهره لكن ضعفه الوحيد كان يكمن في حبه لنغم، وشوقه الذي لا ينتهي إليها.
ظل جاسر واقفًا في مكانه كتمثال من صوان، لم يتزحزح قيد أنملة وكأنه جذر ضارب في الأرض.
كانت عيناه مثبتتين على باب السرايا، لا تزيغان عنه رافضًا التحرك قبل أن يرى زوجته.
كان ثباته هذا في وجه هذا الجمع الغاضب، يشي بقوة داخلية لا تلين، قوة تتجاوز مجرد العناد بل هي إيمان مطلق بحقه
نظر سالم إلى هذا الثبات، إلى هذا الإصرار العنيد الذي لم يره من قبل في رجل يقف وحيدًا أمام عائلة بأكملها ولأول مرة صدق حدسه القديم الذي همس له يومًا ما:
"محدش يعرف نغم ومبيحبهاش". وها هو يرى جاسر التهامي، الرجل الذي قيل إن قلبه من حجر ولا يعرف الحب واقفًا مستعدًا للموت من أجلها لقد أحبها حقًا، حبًا عميقًا لكن هذا الحب الآن هو ما دمرها، هو ما جلب عليها كل هذا الألم.
نفد صبر جاسر من صمتهم الذي بدا له كحائط صدٍّ منيع.
لم يعد يطيق الانتظار، فصوته انطلق بنبرة تحمل تهديدًا واضحًا كصوت الرصاصة التي تخترق الصمت
_شكلكم مش هتجيبوها بالذوج لو مفكرين إني همشي من غيرها تبجوا غلطانين.
أنا خدتها من وسطكم مرة ومستعد أعملها تاني هاخدها بالقوة حتى لو هخطفها من تاني.
كانت كلماته هذه كالصاعقة التي ضربت المكان لم يكن تهديدًا أجوف بل وعدًا يعرف الجميع أنه قادر على الوفاء به هو جاسر التهامي الذي لا يخشى أحدًا، والذي اعتاد أن يأخذ ما يريد بالقوة.
لكن هذه المرة كان الأمر مختلفًا هذه المرة كان يواجه عائلة الرفاعي، التي لا تقل عنه قوة وعنادًا
هنا تقدم مالك ووقف في وجهه مباشرة وعيناه تشتعلان بتحدي بارد تحدي لا يقل قوة عن تحدي جاسر.
كان مالك يمثل كبرياء العائلة، وكرامتها التي لن تسمح بأن تُداس.
_أعلى ما في خيلك اركبه يا جاسر بس المرة دي مفيش خطف المرة دي فيه قانون إحنا هنرفع عليك جضية طلاج للضرر وهنجيب حجها منك في المحاكم.
نظر جاسر إليه بسخرية لاذعة، ضحكة مريرة ارتسمت على شفتيه وكأنه يرى محاولة يائسة
_محاكم؟ هتفضحوها وتشَهَّروا بيها في المحاكم عشان تطلجوها مني؟
رد مالك بثقة مطلقة موجهاً له ضربة لم يتوقعها ضربة أصابت جاسر في مقتل لأنها استخدمت سلاحه ضده
_وإحنا مش خايفين من حاچة بنتنا متچوزاك قانوني، وعلى الورج والناس مش هتشك لحظة واحدة في كلامنا لما نجف كلنا، عيلة الرفاعي كلها في المحكمة ونشهد إنك اتچوزت عليها وخنتها
هنجول إننا جبلنا بيك عشان ننهي التار ونحقن الدم، لكن إنت اللي غدرت بيها واتچوزت بنت عمك ساعتها شوف الناس هتجف مع مين.
شعر جاسر وكأنه تلقى لكمة قوية في صدره لكمة لم تكن مادية بل معنوية أصابت كبرياءه في الصميم
لقد حاصروه استخدموا نفس سلاح العادات والتقاليد الذي استخدمه عمه ضده لقد انهزم للمرة الثانية في يوم واحد لكن هذه الهزيمة كانت أشد مرارة لأنها جاءت من حيث لم يتوقع، ومن أناس كان يظن أنهم أقل منه حيلة.
لكنه لم يظهر هزيمته لم يسمح لهم برؤية ضعفه استجمع قوته المتبقية، ورفع رأسه وقال بنبرة قاطعة، تحمل تصميمًا لا يتزعزع
_طلاج؟ مستحيل أوافج ومادام إنتو اللي بدأتوا لعبة القانون، يبجى أنا كمان هلعبها وخصوصاً إن القانون كله في يدي، هطلبها في بيت الطاعة والقانون هيرچعلي مراتي غصب عنيكم.
كل هذا الحوار كل كلمة كل تهديد، كانت نغم تسمعه من نافذة غرفتها كانت تقف خلف الستار، ووعد تمسك بيدها بقوة لتدعمها، بينما ليل تحتضن كتفها كانت نغم تبكي بقهر، دموعها تنزل بصمت لا صوت لها سوى أنين روحها كانت خائفة، خائفة من قوته من إصراره الذي لا يلين، وخائفة أكثر من ضعفها أمامه من هذا الحب الذي كان يربطها به والذي كان يهدد بأن يعيدها إلى جحيمه.
خائفة أن يعود ويأخذها ويكمل ما بدأه من تدمير لروحها كان جاسر وحده يواجه عائلة بأكملها، لكنه كان يملك قوة الإيمان بحقه وقوة الحب الذي كان يدفعه، قوة جعلته يبدو كجيش كامل في مواجهة قطيع لا يخشى شيئًا، ولا يتراجع أبدًا.
يتبع...
