رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الفصل 33 - جـ 2 - الثلاثاء 16/9/2025
قراءة رواية ثنايا الروح كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية ثنايا الروح
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رانيا الخولي
الفصل الثالث والثلاثون
الحزء الثاني
تم النشر الثلاثاء
16/9/2025
أمسك بيدها وقبلها بامتنان
_ ربنا يخليكي ليا يا روح لولاكي مكنتش ها أعرف هعمل إيه.
لقد أعطته زوجته خطة للخروج من المأزق والآن كل ما عليه فعله هو أن يزرع البذرة في عقل أكمل، وينتظر ليرى كيف ستنمو وتنفجر في وجه الجميع.
.........
كانت ليلة هادئة في شقة مالك بالقاهرة، ليلة من تلك الليالي التي أصبحت تمثل السعادة المطلقة لـ مالك.
كان يجلس على الأريكة المريحة في الصالة وروح مستقرة في حضنه رأسها على صدره وذراعه تلتف حولها بحنان، بينما يده الأخرى تستقر برفق على بطنها المنتفخة، يتلمس من خلالها حركات ابنته التي لم تأتي بعد والتي أصبحت بالفعل محور عالمه.
كانا يشاهدان فيلماً رومانسياً على شاشة التلفاز الكبيرة.
لم يكن تركيزهم كاملاً على أحداث الفيلم بقدر ما كانا منسجمين مع وجودهما معاً، مع دفء اللحظة
كان مالك يميل كل بضع دقائق ليطبع قبلة حانية على رأسها أو جبينها، ثم يعود ببصره إلى الشاشة مستمتعاً بكل ثانية من هذا القرب.
وصل الفيلم إلى ذروته العاطفية البطل والبطلة بعد فراق طويل يلتقيان أخيراً في مشهد ممطر وتتعانق نظراتهما المليئة بالشوق، ثم تذوب المسافات بينهما في قبلة طويلة وعميقة.
في تلك اللحظة انحنى مالك وهمس في أذن روح بصوت مرح ومغرٍ
_ ما تيجي نعمل زيهم؟
ابتسمت روح ابتسامة ماكرة ورفعت رأسها لتنظر إليه متظاهرة بالموافقة التامة.
_ فكرة حلوة.
لكن في لمح البصر وقبل أن يتمكن من الرد انتفضت من حضنه بخفة مفاجئة لا تتناسب مع حملها وبدأت تجري مبتعدة عنه وهي تضحك.
_ بعينك انا تعبانة وعايزة انام.
ضحك مالك بصوت عالي مستمتعاً بروحها المرحة.
همت بفتح الباب والهرب داخل الغرفة وغلق الباب خلفها لكنه نهض من مكانه بخفة، وفي خطوتين واسعتين كان قد وصل إليها وحاصرها بين ذراعيه من الخلف ورفعها قليلاً عن الأرض،
قال وهو لا يزال يضحك وأنفاسه دافئة على عنقها.
_ بتفكري تهربي مني؟ مفيش مكان في الدنيا دي كلها ممكن تهربي فيه مني.
أنزلها برفق وأدارها لتواجهه وكانت عيناه تلمعان بالحب الصافي والشغف.
_ إنتي عالمي كله يا روح... وكل الطرق اللي فيه بترجعني ليكي.
لم تعد هناك حاجة للكلمات مال نحوها، وأخذ شفتيها في قبلة بدأت رقيقة ومرحة، ثم سرعان ما تعمقت، لتصبح تعبيراً عن كل السعادة والامتنان الذي يشعر به لوجودها في حياته.
كانت قبلة تحمل في طياتها دفء المنزل، وبهجة الضحكات، ووعداً بمستقبل أجمل بوجودها هي وابنتهما.
حملها بين ذراعيه ليأخذها معه إلى عالمه الخاص، عالم لا يسمع فيه سوى دقات قلبها، ولا يرى فيه سوى الحب في عينيها، عالم يؤكد له في كل مرة أن سعادته الحقيقية قد بدأت في اليوم الذي أصبحت فيه "روح" ملكه.
❈-❈-❈
في غرفة مالك وروح
طبع مالك قبلة حانية على جبين روح وهو ينتظر رد أكمل على الهاتف
وفي المحاولة الثانية أجابه أكمل بيأس
_انت بتبقى قاصدها ولا بتيجي معاك كدة..
ضحك مالك وابتعد قليلاً عن روح
_معلش بقى أصل الموضوع مهم
تحدث بجدية
_أنا مضطر أرجع بكرة الصعيد عشان روح محتاچة تنزل ضروري، بس متجلجش هنيچي على الفرح.
نظر إلى روح التي تنظر اليه بترقب وغمز لها بعينيه
_دي حتى طلعت عيني لحد ما اشترت فستان تحضر به فرحكم، بس محل ايه تحفة لدرجة انها حجزت فستان لليلى ليوم الحنة كهدية لها، بس البنت عايزة تاخد مقاس ليلى.
_ليه بس؟ مكنش فيه داعي لكل ده.
بعث مالك لروح قبلة في الهواء وهو يتابع مكره
_يا سيدي دي هدايا ستات مع بعضهم المهم في اقرب وقت تروح معها تقيس الفستان، واطمن فلوسه ادفعت خلاص.
أغلق مالك الهاتف وعاد إلى روح التي كانت تبتسم بسعادة وانتصار.
_ها؟ عجبتك.
قال بفخر
_جدا..
إقترب منها مرة أخرى بخبث
_طيب بما إني عجبتك فين المكافأءة.
زمت روح فمها بغيظ
_هو ده وجته عايزين نطمن أكمل هيروح ولا لأ؟
تظاهر مالك بعدم الاهتمام
_وانا مالي.. وبعدين احتمال كبير خطيبته متوافجش فبالتالي هيچبرها عشان أنا مزعلش تجوم خناجة بينهم وترفض بالعند.
ظهر القلق على روح
_انا خايفة جوي لـ أكمل فعلا ياخد ابنه منها ويسيبها تاني.
طمئنها مالك بثقة
_لا متخافيش أكمل عنيد صحيح بس مش هيجدر يحرمها من ابنها وخصوصاً أنه فعلا بيحبها، بيحبها من جبل حتى ما يتچوزوا، چوازه منها مكنش بدافع لم الفضيحة، أكمل لو مش عايزها مكنش فيه جوة في الأرض هتچبره، انا واثق إن وجت ما يشوفها هينسى كل حاجة.
اومأت روح واطمئن قلبها على تلك الفتاة
في اليوم التالي
عاد مالك وروح إلى البلدة وقد شعرت بحنين جارف إلى الجميع.
كانت "نغم" تجلس في غرفتها، تحاول أن تقرأ كتاباً لكن الكلمات كانت تتراقص أمام عينيها بلا معنى.
كانت تحاول جاهدة أن تتأقلم على حياتها الجديدة أن تقنع نفسها بأنها في المكان الصحيح وأن قرارها بالابتعاد عن جاسر كان هو الصواب لكن الحقيقة كانت أقوى من كل محاولاتها.
في لحظة ضعف أغلقت الكتاب وألقت به جانباً
وصورته كانت تتراقص امام عينيها
كانت تتظاهر بأنها لا تريده لكن الحقيقة التي لا مفر منها انها كانت تريدة بكل جوارحها
اعترفت لنفسها أخيراً بالحقيقة المرة التي كانت تهرب منها.
هي تحبه للأسف ورغم كل شيء اعترفت لنفسها بوضوح
هي تحب جاسر.
تحب قسوته التي تخفي ضعفاً وتحب نظرته التي كانت تخترقها، وتحب حتى جنونه بها
والأهم من كل ذلك تمسكه بها
وكلما تمسك بها كلما عاندت كي تستمتع بذاك التمسك.
مع هذا الاعتراف، انهمرت دموعها بصمت دموع حزن على حب مستحيل.
في تلك اللحظة فُتح باب الغرفة بهدوء ودخلت روح.
ما إن رأت نغم أختها حتى مسحت دموعها بسرعة محاولة أن ترسم ابتسامة باهتة على وجهها.
_ روح! حمد لله على السلامة.
أغلقت روح الباب وتقدمت من أختها تحتضنها بشوق.
_وحشتيني جوي يا نغم
_وانتِ كمان يا روح.
اتقنت نغم اخفاء حزنها
لكن روح كانت قد رأت كل شيء فسألتها بقلق
_ كنتي بتعيطي ليه يا نغم؟! فيكى إيه؟
هزت نغم رأسها نافية وهي تتجنب النظر في عيني أختها.
_ لأ أبداً مفيش حاچة يمكن بس عيني دخل فيها حاچة.
أمسكت روح بيدها بحنان.
_ عليا أنا يا نغم؟ أنا أختك أنا شايفاكي بجالك فترة مش على بعضك.
شايلة هم كبير لوحدك احكيلي فضفضي معايا يمكن ترتاحي.
نظرت نغم إلى وجه أختها الحنون، إلى عينيها المليئتين بالقلق الصادق
لم تعد قادرة على التحمل وحدها
انهار سد الكتمان الذي بنته حول قلبها.
وقرت لأول مرة ان تعترف لنفسها ولأختها بما يشعر به قلبها
_شوفت جاسر في المول وانا مع سند ووعد .
قطبت روح جبينها بحيرة
_جاسر؟ كان بيعمل ايه؟
اشاحت بعينيها ولم تستطع الرد
فهمت روح على الفور وسألتها
_كان جاي عشانك مش كدة؟
ظلت نغم على صمتها فسألتها روح بجدية
_نغم انا هسألك بس تچوابيني بصراحة
انتي بتحبي جاسر؟
اغمضت عينيها وتمنت أن تكون الإجابة كما يريد عقلها لكن قلبها أراد أن يعترف وظلت حائرة بينهم وعندما اعادت روح سؤالها هزت راسها بحيرة
وقالت بصوت مختنق وكأنها تعترف بذنب عظيم.
_ مش عارفة
_مفيش حاچة اسمها مش عارفة يا اه يا لأ
أغمضت نغم عينيها ونظراته العاتبه لها في المشفى تكوي قلبها وأومأت برأسها رغماً عنها
لم تتفاجئ روح.
كانت تشعر بذلك، كل ما فعلته هو أنها شدت على يد أختها أكثر وأخذتها في حضن دافئ وتركتها تبكي وتخرج كل الألم المكبوت في صدرها.
مر وقت طويل ونغم تبكي دون انقطاع وروح تربت على كتفها تهدئ من روعها
بعد أن هدأت نغم قليلاً ابتعدت روح عنها وقالت بهدوء
_ طيب... ومادام بتحبيه، ليه بتعذبي حالك وبتعذبيه معاكي؟ ليه مترچعيلوش وتديله فرصة؟
مسحت نغم دموعها وقالت بيأس
_ أرچعله كيف؟ كيف يا روح؟ إنتي ناسية اللي بينا؟ بينا دم بينا تار عمره سنين.
ابوه جتل أبونا، وعدي مات بسببه وبسبب عيلته إزاي ممكن نكمل مع بعض وكل ما أبص في وشه هفتكر كل ده؟ مش هينفع.
نظرت روح إليها بعقلانية ومنطق.
_ بس هو كمان خسر أبوه والتار ده كان من زمان، إنتوا الاتنين ملكمش ذنب فيه، وبعدين... بصي لعمي سالم ومراته
اتسعت عينا نغم قليلاً.
أكملت روح
_ مش مرات عمك تبجى عمة جاسر؟ مش كان بينهم نفس التار ونفس الدم؟ ورغم كده حبوا بعض، واتجوزوا، وخلفوا، وعايشين أسعد حياة.
الحب بتاعهم كان أقوى من أي تار
ليه حبكم إنتوا ميكونش زيهم؟ ليه متحاوليش؟
صمتت نغم.
كانت حجة روح قوية ومنطقية.
لم تفكر في الأمر بهذه الطريقة من قبل لقد كان أمامها مثال حي على أن الحب يمكن أن ينتصر على الكراهية.
أضافت روح بنبرة أكثر حناناً.
_ جاسر بيحبك يا نغم باين في عينيه الراجل ده مستعد يعمل أي حاجة عشانك.
يمكن لو اديتيه فرصة، لو اديتي نفسك فرصة، تقدروا تبنوا حياة جديدة بعيد عن الماضي
الحب بيغفر والحب بينسي.
ظلت نغم صامتة تفكر في كلمات أختها.
لقد زرعت روح في عقلها بذرة من الأمل بذرة من التساؤل.
هل يمكن حقاً أن يكون هناك فرصة؟ هل يمكن للحب أن يكون أقوى من الدم؟ لم تجد إجابة لكن للمرة الأولى منذ شهور بدأت تفكر في إمكانية وجود طريق آخر غير طريق الرفض والابتعاد.
❈-❈-❈
استيقظ جاسر من نومه على صوت جرس الباب الذي كان يدوي بإصرار
فتح عينيه ببطء ونعاس، وتطلع في ساعته فوجدها العاشرة مساءً.
كيف ظل نائماً حتى ذلك الوقت؟ لقد أغرقه الحلم في سبات عميق ومؤلم
عاد رنين الجرس ليدوي مرة أخرى مما جعله يستاء من ذلك الطارق المزعج.
سار حافي القدمين وهو يحاول فتح عينيه، مرر يده في شعره المبعثر بضيق.
من قد يأتي في هذا الوقت؟ فتح الباب بعنف وهو على وشك أن يصب غضبه على الطارق، ثم رفع وجهه... وتجمد.
الكلمات ماتت في حلقه، الزمن توقف، كانت هي... تقف أمامه.
أغمض عينيه بقوة وفتحهما مرة أخرى، يتأكد يخشى أن يكون عقله قد بدأ في الهذيان لكنها كانت لا تزال هناك، بنفس ملامحها التي يعشقها، بنفس نظراتها الحائرة.
_ نغم؟
ردد اسمها بصوت متحشرج، صوت يخرج من بئر عميق من عدم الاستيعاب، كانت نظراتها مترددة تهرب من مرأى عينيه، تتجول في أي مكان إلا وجهه وكأنها تخشى أن ترى رد فعله.
للحظة ساد صمت مشحون بالكهرباء، صمت أثقل من كل الكلمات
ثم وكأن غريزة البقاء قد سيطرت عليه، تحرك جاسر في حركة خاطفة سريعة ويائسة جذبها من ذراعها إلى الداخل وأغلق الباب خلفها ثم خطفها إلى حضنه.
لم يكن حضناً عادياً كان حضن رجل يائس وجد كنزه المفقود لف ذراعيه حولها بقوة، بقوة تكاد تسحقها كأنه يحاول أن يدمجها بجسده، يخبئها من العالم يمنعها من الاختفاء مرة أخرى
دفن وجهه في شعرها، يستنشق رائحتها التي لم تفارقه لحظة، الرائحة التي كانت تطارده في صحوته ومنامه.
همس بصوت مرتعش وهو لا يزال لا يصدق.
_ إنتي حجيجية؟...أنا بحلم... صح؟
شعرت نغم بارتجاف جسده، بقوة مشاعره التي كادت أن تحطمها لم تستطع المقاومة لقد شلّها يأسه الواضح.
_ أنا بحلم باليوم ده بجالي أكتر من ست شهور.
أكمل وهو يشدد من احتضانها.
_ كل ليلة كنت بحلم إنك بترچعي... والنهاردة... النهاردة الحلم اتحجج، مستحيل... مستحيل أسيبك تمشي تاني.
ابتعد عنها قليلاً فقط ليمسك وجهها بين كفيه الكبيرتين، وعيناه تتفحصان كل ملمح فيها بجوع كأنه يحاول أن يتأكد أنها ليست مجرد طيف.
ثم قبل أن تتمكن من نطق كلمة واحدة، مال نحوها وقبلها.
كانت قبلة قوية وعميقة لكنها كانت هادئة في نفس الوقت.
لم تكن قبلة قاسية أو عنيفة بل كانت قبلة رجل خائف.
خائف من أن يكون كل هذا مجرد حلم، وأن يوقظه صوت الجرس مرة أخرى ليجد نفسه وحيداً.
كانت قبلة يروي بها عطش ستة أشهر من الجفاف، قبلة مليئة بالرجاء والشوق والألم.
بدأت نغم تتراجع قليلاً غمرتها قوة مشاعره، لكنه شعر بتراجعها فضمها إليه أكثر وقضى على ترددها بقبلة أعمق، قبلة لم تترك لها مجالاً للتفكير أو المقاومة.
عندما ابتعد عنها أخيراً، كان كلاهما يلهث نظر في عينيها مباشرة وقال بنبرة لا تقبل الجدال، نبرة رجل استعاد ملكيته الأثمن
_ إنتي مش هتمشي من اهنه تاني.
تطلعت إليه بعتاب جارف، وصوتها يخرج مهزوزًا ومبحوحًا من فرط المشاعر المكبوتة.
_ بس أنت جرحتني...
تطلع بلوعة إلى عينيها وكأن كلمتها سكين اخترقت قلبه من جديد.
تمتم بصدق بعهدٍ يقطعه على نفسه في تلك اللحظة.
_ هداويكي...
هزت رأسها والدموع تتجمع في عينيها، ترفض أن تصدق أن الشفاء بهذه السهولة.
_ أنت كسرتني...
شدد من قبضته على يديها كأنه يحاول أن يلملم شظاياها المتناثرة.
_ همحي كسرتك من الوجود...
تذكرت ليالي الوحدة والخوف والظلام الذي أحاط بها.
_ دخلتني ضلمتك...
نظر في عينيها مباشرة وعيناه تلمعان بوعد صادق.
_ هكونلك النور...
تذكرت قسوته كلماته التي كانت كالسياط.
_ أنت قسيت عليا...
انحنى ووضع جبهته على جبهتها وأنفاسه الحارة تلفح وجهها.
_ هبجى حنيتك...
كانت كل كلمة منها سهمًا من الألم، وكل كلمة منه كانت ضمادة ووعدًا بالشفاء.
كانت حربًا بين ماضيها الموجع ومستقبله الذي يصر على بنائه معها من جديد، من فوق حطام الأمس
لم ينتظر ردها حملها بين ذراعيه فجأة فتشبثت به نغم بشكل غريزي ودفنت وجهها في تجويف عنقه تستنشق رائحته التي اشتاقتها حد الألم.
كانت حركة مفاجئة لكنها لم تكن عنيفة بل كانت مليئة باليأس والحاجة، كغريق يتمسك بآخر طوق نجاة.
اتجه بها مباشرة إلى غرفة نومه، إلى عالمه الخاص الذي رفض أن يدخله أحد غيرها طوال تلك الشهور.
لقد عادت ملكته إلى عرشها، وهذه المرة سيغلق عليها أبواب مملكته ولن يسمح لها بالرحيل أبداً.
وضعها برفق على سريره لكنه لم يبتعد ظل ينظر إليها وعيناه تتجولان على وجهها بنهم، كأنه يحاول أن يحفظ كل تفصيلة كل رمشة عين كل شهقة خافتة خرجت من بين شفتيها.
لم يكن هناك حاجة للكلام كانت لغة العيون أبلغ من أي حوار.
كانت عيناه تحكي قصة ليالي طويلة من الأرق والندم، وعيناها تروي حكاية الوحدة والألم والخذلان.
مد يده ببطء وبأطراف أصابعه المرتجفة، أزاح خصلة شعر شاردة عن جبينها.
كانت لمسته ناعمة كالحرير، لكنها كانت تحمل في طياتها كهرباء أشعلت قشعريرة في جسدها.
همس بصوت أجش صوت رجل يستجدي الغفران دون أن ينطق بكلمة اعتذار.
_ وحشتيني... وحشتيني لدرچة كنت بحس فيها إني بموت كل يوم من غيرك.
أغمضت نغم عينيها واستسلمت للحظة لقد تعبت من المقاومة، تعبت من القوة المصطنعة.
لأول مرة منذ شهور، شعرت بالأمان شعرت بأنها عادت إلى وطنها، حتى لو كان هذا الوطن هو من جرحها ونفاها.
انحنى أكثر وقبلها مرة أخرى.
لكن هذه المرة كانت القبلة مختلفة لم تكن قبلة الشوق اليائسة عند الباب، بل كانت قبلة بطيئة حنونة، وعميقة.
قبلة تذوب فيها كل الحواجز، وتتلاشى معها كل الكلمات.
كانت قبلة تروي قصة حبهما المعقدة قصة الألم والشفاء، الفراق والعودة.
ابتعد عنها قليلاً وظلت شفاهه تلامس شفتيها، وأنفاسهما الحارة تمتزج معًا.
_ الليلة دي... مفيش ماضي، ومفيش بكرة فيه بس إحنا.
لم ترد لكنها فتحت عينيها ونظرت في عمق عينيه وفي تلك النظرة، وجد إجابته وجد الاستسلام ووجد الشوق، ووجد بداية جديدة، تولد من رحم الألم.
وفي تلك الليلة لم تكن هناك كلمات بل كانت هناك فقط لغة الأرواح التي وجدت طريقها لبعضها البعض من جديد، في حضن الظلام الدافئ
فتح جاسر عينيه فجأة.
كان قلبه يخفق بعنف وأنفاسه متقطعة وجسده يتصبب عرقاً.
للحظة ظل مستلقياً يشعر بدفئها بجانبه، ورائحتها لا تزال تملأ أنفه مد يده بلهفة ليتلمسها، ليحتضنها مرة أخرى...
لكن يده لم تلمس سوى الملاءات الباردة والفارغة.
انتفض جالساً في السرير ونظر حوله في حالة من الذعر.
كانت الغرفة هادئة ومظلمة لكنها كانت غرفته في شقته بالقاهرة.
لم تكن هناك نغم لم يكن هناك أثر لوجودها.
لقد كان كل شيء... مجرد حلم.
حلم حي حقيقي، ومؤلم لدرجة لا تطاق.
أطلق صرخة مكتومة مليئة بالألم والقهر، وضرب بقبضته على السرير بجانبه المكان الذي كانت فيه قبل ثواني ثم أسند رأسه بين يديه وشعر بدموع حارقة، دموع رجل محطم تتجمع في عينيه للمرة الأولى منذ سنوات.
لقد كان الحلم ألذ من أي حقيقة، وكانت الصحوة أقسى من أي كابوس.
يتبع...
