رواية جديدة ثنايا الروح لرانيا الخولي - الخاتمة 2 - جـ 1 - الأحد 5/10/2025
قراءة رواية ثنايا الروح كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية ثنايا الروح
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة رانيا الخولي
الخاتمة 2
الحزء الأول
تم النشر الأحد
5/10/2025
في منزل الرفاعي
كانت أصوات الضحكات والموسيقى تتعالى من الحديقة الخلفية لقصر الرفاعي، حيث قررت العائلة إقامة حفل شواء كبير للاحتفال.
كان جاسر يقف أمام الشواية الضخمة وقد شمر عن ساعديه القويين، يتولى مهمة الشواء بجدية تامة كأنه في مهمة عسكرية.
بجانبه كان مالك يساعده ويمرر له الأطباق، وكانا يتبادلان حديثاً هادئاً وضحكات متقطعة، في مشهد لم يكن أحد ليتخيله قبل سنوات.
على طاولة كبيرة قريبة كانت النساء قد شكلن خليتهن الخاصة.
نغم كانت تقطع السلطة بينما كانت روح تحضر بعض المقبلات، ووعد كانت تضع اللمسات الأخيرة على طاولة الطعام.
كانت صبر تراقبهن بابتسامة هادئة وهي تهدهد طفلتها الصغيرة التي غفت بين ذراعيها.
اما الجيل الجديد فكان قد استولى على الحديقة بالكامل.
يامن وتميم توأم جاسر، كانا يقودان فريقاً في مباراة كرة قدم حماسية ضد عدي ابن سند وقاسم ابن أكمل الذي كان يدافع عن مرماه ببراعة وشجاعة.
كانت نور ورحيق ابنة أكمل تقفان بجوار صبر تداعبان تلك الصغيرة سيلا
وفجأة، انطلقت كرة القدم بقوة نحو طاولة النساء صرخت روح بمرح وهي تتفادى الكرة التي استقرت في طبق السلطة.
ركض يامن الصغير نحو الطاولة وهو يلهث ووجهه يعتذر براءة.
_ أنا آسف يا خالتو روح، بس خالو سند السبب.
نهض سند من كرسيه متظاهراً بالغضب.
_ أنا السبب يا ولد؟ ليه عملت ايه؟
رد يامن بقوة مع الحفاظ على آداب الحديث.
_شطلك الكورة وانت كنت بتبص على خالتو وعد وبتغمزلها.
ضحك الجميع مما أخجل سند ووعد
_وانا مالي بتشوط الكرة ليا، انا كنت بلعب معاكم.
فنظر إلى جاسر وقال بغيظ
_ما تشوف صرفة في ابنك ده، الواد لماح بشكل غريب.
نظر جاسر إلى ابنه وأشار له بالتقدم
طاوعه يامن وتقدم بخطوات واثقة، ووقف أمام أبيه رافعاً رأسه لا تبدو عليه أي علامات خوف بل نظرة احترام وانتظار.
لم يوبخه جاسر ولم يرفع صوته بل انحنى قليلاً ليصبح في مستوى نظر ابنه، ووضع يده الكبيرة على كتفه الصغير.
نظر في عينيه مباشرة وبدأ حديثه بصوت هادئ وعميق، صوت لا يسمعه سواهما تقريباً.
_ أنت شوفت خالك سند بيبص لخالتك وعد؟
أومأ يامن برأسه بجدية.
_ أيوه يا بابا.
سأل جاسر بهدوء.
_يعني خالك سند بيحب خالتك وعد؟
أجاب الطفل بثقة.
_ أيوه طبعاً.
_ طيب يا بطل لما الراجل يبص لمراته اللي بيحبها، دي حاجة بينهم هما الاتنين بس
حاجة خاصة وجميلة، زي الأسرار الحلوة وإحنا كرجالة من أصولنا إننا نحفظ السر، ومنكشفش ستر حد حتى لو كان في الهزار
عينك شافت حاجة يبقى تخليها في قلبك متطلعهاش على لسانك قدام الناس كلها فهمتني؟
كان يامن يستمع بتركيز شديد كأنه يتشرب كل كلمة، لم يشعر بالإهانة أو بأن أباه يوبخه، بل شعر بأنه يعطيه درساً مهماً سراً من أسرار الرجال.
هز رأسه الصغير بقوة.
_ فهمت يا بابا أنا آسف.
ربت جاسر على كتفه بفخر.
_ مش عايزك تتأسف عايزك تتعلم أنت عينك لماحة وبتشوف اللي غيرك مش بيشوفه، ودي حاجة هتميزك لما تكبر
بس القوة الحقيقية مش في اللي بتشوفه، القوة في اللي بتعرف إمتى تتكلم عنه، وإمتى تسكت وتحفظه لنفسك.
ثم وقف جاسر بكامل قامته، ونظر إلى سند الذي كان يراقب الموقف بفضول، وقال بصوتٍ عالي ومرح، ليغير الأجواء تماماً
_ خلاص يا سند الواد اعترف بغلطه بس برضه، خلي بالك بعد كده عيون الصقور الصغيرة دي مبتسيبش حاجة.
ضحك الجميع مرة أخرى، وقد أُعجبوا بطريقة جاسر الحكيمة في التعامل مع الموقف.
لقد علم ابنه درساً في الأدب وحفظ الخصوصية، دون أن يحرجه أو يقلل من شأنه أمام العائلة، بل على العكس منحه شعوراً بالمسؤولية والثقة.
عاد يامن إلى الملعب لكن هذه المرة كانت خطواته أكثر نضجاً، وعيناه تحملان بريقاً جديداً، بريق طفل تعلم للتو درساً لن ينساه أبداً من الرجل الذي هو مثله الأعلى في هذا العالم.
كانت نغم تراقبه من بعيد، وقلبها يفيض فخراً وحباً.
رأت كيف تعامل مع ابنهما كيف علّمه درساً في الرجولة والأصول بحكمة وهدوء، دون أن يجرح كبرياء طفل أو يحرجه أمام الجميع.
هذا هو جاسر الذي عشقته، ليس فقط بقوته وهيبته بل بحكمته التي تظهر في أدق المواقف.
تركت ما في يدها واقتربت منه بخطوات هادئة، كأنها فراشة تنجذب إلى النور وقفت بجانبه تماماً، وشعرت بدفء الشواية يمتزج بدفء وجوده.
_ شكل اللحمة استوت هات عنك كفاية عليك.
قالتها بصوتٍ ناعم، وكانت حجة واهية لتكون بقربه.
لم يلتفت إليها جسده بالكامل، بل أدار رأسه فقط لكن نظرته كانت كافية لتخترقها.
ذلك الشموخ وتلك القوة التي كانت واضحة للجميع قبل لحظات، بدأت تذوب وتلين تحت تأثير نظرتها وحدها ابتسم ابتسامة خفيفة، ابتسامة لا يراها سواها.
_ تعبك راحة يا عمري.
تعلقت عيناها بعينيه وقالت بصدق يملأ صوتها
_ أنا فخورة بيك أوي يا جاسر، فخورة بالطريقة اللي بتربي بيها ولادنا.
اقترب منها خطوة حتى كاد كتفه يلامس كتفها، وانخفض صوته ليصبح همساً حنوناً لا يسمعه غيرها وسط ضجيج الحفل.
_ وأنا كل اللي بعمله عشان أبقى الراجل اللي يستاهل فخرك ده.
عشان لما يبصوا في عينيكي، يشوفوا نظرة الرضا دي.
شعرت بخجل لذيذ يلون وجنتيها. مدت يدها لتأخذ منه ملقط الشواء، فتلامست أصابعهما للحظة وسرت في جسدها قشعريرة دافئة ومألوفة.
_ أنت أحسن أب في الدنيا.
أمسك يدها برفق ومنعها من أخذ الملقط.
_ خليكي مرتاحة، النهاردة يومك ويوم الولاد.
أنا اللي هخدمكم كلكم.
نظرت إلى يده الكبيرة التي تمسك بيدها، ثم رفعت نظرها إليه مرة أخرى، وقد تاهت في عمق عينيه.
_ وجودك جنبي بالدنيا كلها.
لم يستطع المقاومة أكثر ترك الملقط جانباً وبحركة سريعة لم يتوقعها أحد، استدار وأحاط خصرها بذراعه، وسحبها خلف الشواية، في زاوية خفية عن أعين الجميع ونظر في عينيها التي تسحره
_ بتعملي فيا إيه بنظراتك دي؟ بتخليني أنسى الناس والدنيا كلها.
ضحكت بخفة وهي تضع يديها على صدره العريض.
_ أنا معملتش حاجة.
نظر في عينيها مباشرة، وبنبرة تحمل مكراً محبباً قال وهو يبتسم
_ عموماً، حسابنا مش هنا أنا لسه مستني المكافأة بتاعتي اللي اتفقنا عليها بالليل، بعد ما الصقور الصغيرة دي تنام.
اتسعت عيناها بخجل لذيذ وهي تفهم ما يرمي إليه، وضربته بخفة على صدره.
_ جاسر!
ضحك ضحكة رجولية عميقة، ثم قبلها قبلة سريعة على خدها وتركها قبل أن يلاحظهما أحد، وعاد إلى الشواية وكأن شيئاً لم يكن تاركاً إياها بقلبٍ يخفق بشدة، ووجهٍ متورد ووعدٍ بليلة لا تشبه إلا حكاياتهم الخاصة.
❈-❈-❈
كانت روح تضحك مع نغم ووعد، لكن عينيها لم تفارق مالك أبداً.
كانت تراقبه وهو يتحدث مع جاسر
فجأة، نهض مالك وحمل طبق التقديم الكبير الذي امتلأ تقريباً، وقال بصوتٍ عالي
_ أنا هدخل الطبق ده المطبخ عشان ميبردش وأجيب غيره.
تقدمت منه روح لتأخذه
_هاته انا هدخله.
غمز لها بعينيه بطريقة فهمتها روح على الفور، الإشارة الخفية في عينيه
انتظرت لحظات قليلة حتى اختفى داخل القصر ثم اعتذرت من نغم ووعد بهدوء، وتحججت بأنها ستجلب بعض المناديل ولحقت به.
ما إن خطت بقدميها داخل المطبخ الهادئ، حتى شعرت بالباب يغلق خلفها بهدوء وقبل أن تستدير كانت ذراعا مالك القويتان تحيطان بخصرها من الخلف، وسحبها برفق حتى التصق ظهرها بصدره العريض.
أغمضت عينيها واستنشقت عطره المميز الذي تعشقه، ومالت برأسها للخلف لتستند على كتفه.
_ كنت عارفة إنك عملتها حجة.
همست بصوتٍ ناعم.
دفن مالك وجهه في عنقها وقبلها قبلة رقيقة جعلت قشعريرة لذيذة تسري في جسدها.
_ ومكنتش أقدر أستنى أكتر من كده.
همس في أذنها بصوتٍ عميق وحنون. _ بقالي ساعة شايفك بتضحكي من بعيد، وحاسس إني عايز أخطفك من وسط الناس كلها وأخلي الضحكة دي ليا لوحدي.
استدارت بين ذراعيه لتواجهه، ولفت يديها حول رقبته.
نظرت في عينيه التي كانت تلمع بحب عميق، حب ناضج وهادئ كشخصيته تماماً.
_ وأنا كل ضحكة بتطلع مني بتكون بسببك ولِيك يا مالك.
مرر إبهامه برقة على خدها متتبعاً خط فكها.
_ تعرفي إني كل يوم بصحى فيه وألاقيكي جنبي، بحمد ربنا ألف مرة إنه عوضني بيكي.
إنتي جيتي ومليتي كل الفراغ اللي في حياتي خليتي للدنيا طعم ولون.
اهتزت نظراتها من فرط السعادة.
_ وإنت الأمان والسند اللي كنت بتمناه طول عمري.
وجودك جنبي بيخليني أحس إني أقدر أواجه أي حاجة في الدنيا.
لم يعد يحتمل أكثر انحنى ببطء وقبّلها لم تكن قبلة عاصفة أو جائعة، بل كانت قبلة عميقة وحنونة، تحمل كل مشاعر الامتنان والشوق والسلام التي يشعر بها معها.
كانت قبلة تحكي قصة حبهما، قصة بدأت بالتردد والخوف وانتهت باليقين المطلق بأنهما خلقا ليكونا معاً.
ابتعد عنها قليلاً وظل جبينه ملتصقاً بجبينها، وأنفاسهما تختلط.
_ بحبك يا روح.
ردت عليه بنفس الهمس الحالم
_ وبحبك يا قلب وروح الروح.
في تلك اللحظة، في هدوء المطبخ البعيد عن صخب الحفل، كانا يعيشان في عالمهما الخاص، فقاعة من الحب النقي الذي لا يحتاج إلى كلمات كثيرة ليعبر عن نفسه، مكتفياً بنظرة عين، ولمسة يد، وقبلة تحمل كل معاني الوطن.
كانت صبر تجلس بهدوء تراقب هذا التجمع العائلي الدافئ وقلبها يمتلئ بشعور جديد لم تعرفه من قبل.
لقد قضت سنواتها في وحدة وخوف، أما الآن فهي اخواتها.
روح ونغم ووعد يتحدثن معها كأنها كانت دائماً جزءاً منهن، يسألنها عن طفلتها ويضحكن معها.
لأول مرة شعرت بأنها تنتمي لمكان ما، بأنها ليست دخيلة أو غريبة بل واحدة منهم.
بعد انتهاء الأكل وبدء الجميع في الاسترخاء، اقترب منها أكمل الذي كان يراقبها من بعيد يرى في عينيها تلك السعادة الهادئة التي لم يرها فيها من قبل.
انحنى وهمس في أذنها بصوتٍ حنون
_ يلا بينا عشان ترتاحي الجو برد على سيلا.
تغيرت ملامحها قليلاً وظهر على وجهها ظل من الحزن نظرت إليه برجاء.
_ خلينا شوية كمان يا أكمل أنا... أنا حابة القعدة هنا.
نظر أكمل في عينيها وفهم على الفور فهم أنها لا تريد أن تترك هذا الشعور بالدفء والأمان.
لم يغضب أو يصر بل ابتسم ابتسامة مطمئنة، وأمسك يدها برفق بين يديه
_ وأنا كمان حابب أشوفك مبسوطة وسطهم.
صمت للحظة ثم أكمل بنبرة تحمل وعداً صادقاً
_ أوعدك دي مش هتكون آخر مرة كل فترة هجيبك ونيجي نقضي اليوم كله معاهم، لحد ما تزهقي منهم بنفسك.
ابتسمت ابتسامة حقيقية وشعرت بالامتنان لكلماته.
لكنه اقترب أكثر وانخفض صوته ليصبح همساً عميقاً ومغرياً لا يسمعه سواها.
_ بس دلوقتي عايز أروح.
نظرت إليه باستفهام، فأكمل بنفس النبرة التي جعلت قلبها يخفق بشدة
_ وحشتيني اليوم كله وإنتي بعيدة عني وسط الناس، وأنا قاعد بعد الدقايق عشان أخطفك ونرجع بيتنا
عايز أعوضك بطريقتي الخاصة عن كل دقيقة شايفك فيها قدامي ومش قادر أقولك بحبك، شوفي بقى تمن ساعات بكام دقيقة وبكام كلمة بحبك.
كانت كلماته كفيلة بأن تشعل النار في وجنتيها وتجعل أنفاسها تتسارع لم تكن مجرد كلمات، بل كانت اعترافاً صريحاً بحبه العميق، ورغبته في أن يكون هو عالمها وأمانها.
رأت به العاشق الذي يغار عليها من نسمة الهواء، والذي يريد أن يمتلك كل لحظة من حياتها.
لم تعد قادرة على المقاومة أومأت برأسها بصمت موافقة على طلبه الذي لم يكن طلباً، بل كان دعوة لعالمه الخاص.
نهض أكمل وساعدها على النهوض، ثم ودّعا العائلة بحجة إرهاق صبر وحاجتها للراحة.
نادى على قاسم وليان الذين أصروا على البقاء فأخبره جاسر بأنه سيقوم بتوصيلهم في طريقه.
وفي طريقهم للخروج أحاط خصرها بذراعه بقوة تملكية، كأنه يعلن للجميع أنها ملكه وحده وبينما كانا يسيران نحو السيارة تحت ضوء القمر، كانت صبر تعرف يقيناً أنها لم تعد سجينة خوفها، بل أصبحت متيمة بحب هذا الرجل الذي انتشلها من بؤسها، ثم أعاد بناءها من جديد على قواعد من العشق والاهتمام.
❈-❈-❈
وقف الحاج وهدان وسالم الأب يراقبان المشهد من بعيد، وعلى وجهيهما ابتسامة رضا عميقة.
قال سالم لوالده
_ شوفت يا بوي؟ كأن ربنا بيعوضنا عن كل السنين الصعبة اللي فاتت.
رد الحاج وهدان بصوتٍ هادئ يملؤه اليقين
_ دي مش سعادة صدفة يا سالم دي سعادة مبنية على اختيارات صح، على قلوب سامحت وعلى حب كان أقوى من أي تار وأي كره.
دي جنة الدنيا اللي كل واحد فيهم زرعها بإيده.
في تلك اللحظة أمسك جاسر بقطعة لحم مشوية وقدمها لنغم التي اقتربت منه.
أكلت منها بابتسامة ثم نظرت إلى عائلتها الممتدة إلى هذا المزيج الرائع من الضحكات والأصوات والحركة.
لم تكن مجرد عائلة مجتمعة، بل كانت سيمفونية متناغمة، كل فرد فيها يعزف لحنه الخاص لكنهم جميعاً يشكلون معزوفة واحدة رائعة عنوانها "الحب".
لم تكن هناك حاجة لكلمات كبيرة أو خطب مؤثرة كانت هذه اللحظة العفوية المليئة بالحياة، هي النهاية السعيدة التي استحقوها جميعاً، بداية لحكايات أخرى لا تنتهي من الدفء والضحك والسند.
❈-❈-❈
كان الهدوء يلف أرجاء بيت أكمل في قلب الصعيد.
انتهت صبر من إطعام ابنتها سيلا ووضعتها في سريرها لتغفو.
كان البيت يبدو فارغاً بدون أكمل وابنهما قاسم اللذين ذهبا معاً إلى المسجد لأداء صلاة العشاء ورحيق التي نامت مبكرا ثم أخبرها بأنه سيمر على أكمل كي يأخذ ليان التي تعلقت بنور بشكل عجيب.
وهو مشهد أصبح يملأ قلبها بالسكينة كل يوم.
فجأة قُطع هذا الهدوء بصوت طرقات على الباب الخارجي.
طرقة مترددة وخفيفة عقدت حاجبيها باستغراب فأكمل معه مفتاحه ومن النادر أن يزورهم أحد في هذا الوقت
لفت حجابها حول رأسها جيداً وتوجهت نحو الباب.
فتحت الباب بحذر لتتجمد الدماء في عروقها.
لم يكن هناك أي احتمال في العالم قد هيأها لهذا الوجه كان والدها.
تسمرت مكانها وعاد بها الزمن سنوات إلى الوراء.
رأت في وجهه كل لحظة قسوة، كل كلمة جارحة كل ليلة قضتها في خوف ورعب.
شعرت بأنفاسها تنسحب من رئتيها وتشبثت بمقبض الباب كأنه طوق نجاتها الوحيد.
لكن الغريب أن نظراته كانت مختلفة تماماً.
لم تكن فيها تلك القسوة الباردة أو الغضب المعتاد كانت عيناه منكسرتين، تحملان تعباً وحزناً لم ترهما فيه من قبل.
_ ازيك يا صبر.
قالها بصوتٍ أجش ومبحوح، صوت رجل هزمه الزمن.
لم تستطع الرد كانت الكلمات عالقة في حنجرتها، والخوف لا يزال يسيطر على أطرافها.
تنهد والدها تنهيدة طويلة وكأنه يخرج معها سنوات من الندم.
_ أنا عارف إنك بتكرهيني وليكي كل الحق.
أنا عاذرك بس أنا اتغيرت يا بنتي الدنيا لفت ودارت عشان تأدبني.
صمت للحظة يجمع شتات نفسه.
_ مرات أبوكي... سرقتني خدت كل اللي ورايا واللي قدامي، وهربت رفعت عليا قضية خلع وسمعت إنها اتجوزت واحد تاني.
حتى إخواتك خدتهم معاها، وقالت في المحكمة إنها خايفة أعمل فيهم زي ما عملت فيكي.
سقطت الكلمات على قلب صبر كالصخر.
_ يمكن كل ده حصل عشان أفوق عشان أعرف غلطتي وأرجع لربنا
أنا النهاردة لما شوفت جوزك وابنك في الجامع، شوفت في عينيه السعادة والرضا.
عرفت إن ربنا كرمك عشان قلبك أبيض خدتها فرصة وجيت عشان أقولك سامحيني، وأعترفلك بغلطي قبل ما أقابل وجه كريم.
بدأ قلب صبر يلين رغم كل شيء هذا الرجل الواقف أمامها لم يعد ذلك الجلاد القاسي، بل رجل عجوز وحيد ومكسور قبل أن تجد الكلمات المناسبة لترد، انطلق صوت حاد وقوي من خلفها.
_ أنت إيه اللي جابك هنا؟
كان أكمل قد عاد ووقف كالصقر يحمي عشه
وابنه قاسم يقف بجانبه ممسكاً بيده لا يفهم ماذا يحدث.
كانت نظرات أكمل نارية جاهزة للانقضاض.
قبل أن يتطور الموقف، وضعت صبر يدها على صدر أكمل لتوقفه.
_ استنى يا أكمل هو كان جاي يقول كلمتين وهيمشي.
فهم أكمل من نظرة عينيها أنها لا تريد المزيد من المشاكل.
تراجع خطوة للخلف لكن عينيه ظلتا مثبتتين على والدها بحذر.
انحنى والدها بصعوبة وقبّل رأس حفيده قاسم الذي كان ينظر إليه باستغراب كانت قبلة تحمل كل الشوق والحرمان في العالم.
ثم استقام ونظر إلى صبر نظرة أخيرة مليئة بالأسف، واستدار ومشى بخطوات ثقيلة، واختفى في ظلام الليل.
ما إن اختفى حتى استدارت صبر وارتمت في حضن أكمل، وانفجرت في بكاءٍ مرير.
بكاء على طفولتها الضائعة وعلى قسوة أبيها وعلى ضعفه وانكساره الآن.
ضمها أكمل إليه بقوة وتركها تفرغ كل ما في قلبها.
_ هششش... اهدي يا حبيبتي خلاص كل حاجة عدت.
قالت بصوتٍ مخنوق بالدموع وهي تتشبث به
_ صعبان عليا أوي يا أكمل.
