-->

رواية جديدة ذكريات ضائعة لعلا السعدني - الفصل 2 - الثلاثاء 4/11/2025

 

قراءة رواية ذكريات ضائعة كاملة

تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى


رواية  ذكريات ضائعة

 رواية جديدة قيد النشر

من قصص و روايات 

الكاتبة علا السعدني 

الفصل الثاني 

تم النشر الثلاثاء 

4/11/2025


كانت أنفاسها تتلاحق، والطريق خالي من الناس، والريح تعبث بطرف وشاحها، ما إن شعرت بأنفاسٍ قريبة خلفها حتى استدارت فجأة، لتجد نفسها أمام شابٍ يقف بثبات، يُحيطه غموضٌ غريب، طويل القامة، ملامحه حادة، عيناه عسليّتان يلفّهما الكحل فيزيدهما سحرًا وغرابة، تراجعت (نغم) خطوة إلى الوراء، وقد تسلّل الخوف إلى أعماقها، وقالت بصوتٍ مرتجف

- سبني بقى .. انت عايز إيه؟


كان ينظر إليها دون أن يطرف له جفن، همّت بالابتعاد، لكنّه أمسك كفّها فجأة للمرة الثانية، تجمّدت في مكانها، اتسعت عينيها كأنها رأت شبحًا، ثم صرخت بهلع

- يااا ماااامي!


ابتسم ابتسامة غامضة، ثم شدّ على يدها قليلًا وهو يهمس بثبات

- استني


حاولت أن تسحب يدها لكنها لم تفلح، فمدّ هو يده الآخرى في جيب بنطاله، وأخرج شيئًا صغيرًا لامعًا ووضعه في كفّها المفتوح، ارتجفت خوفًا وهي تنظر إليه قائلة

- إيه ده؟


نظر في عينيها، وقال بنبرة هادئة

- حافظي على المفتاح ده زي عينيكِ


تجعد حاجباها بدهشة

- مفتاح إيه ده؟ بتاع إيه؟


اقترب قليلًا، وقال بهدوء يثير الريبة

- هتفهمي كل حاجة في وقتها .. أنا هجيلِك تاني .. ومتخافيش مني


ظلّت تحدّق فيه لحظاتٍ متجمّدة، لم تفهم إن كان يقوم بتهديدها أم يطمئنها، ابتلعت ريقها بصعوبة، فابتسم مرةً أخرى ومضى في الاتجاه المعاكس ..

❈-❈-❈

دلفت المنزل بخطواتٍ بطيئة، أغلقَت الباب خلفها بهدوء، واتكأت بظهرها عليه، تتنفس بارتباك وعقلها يضجّ بالأسئلة، ظلت لحظاتٍ صامتة تحدّق في الفراغ، ثم حدثت نفسها تُري أهذا حُلم؟!

أم أنها بدأت تتخيل أشياء لا وجود لها؟!


تحركت بخطواتٍ متعثّرة نحو الأريكة، فتحت حقيبتها بيدٍ مرتعشة، وأخرجت المفتاح، نظرت إليه بتمعّن، كان يلمع تحت ضوء الغرفة، رفعت حاجبيها بارتباك وحدثت نفسها بأن ذلك المفتاح دليل أن ما حدث حقيقي!!

ولكن من هذا الشخص؟!

يبدو غريبًا للغاية


وقبل أن تُكمل أفكارها، وضعت (نيرة) يدها فجأة على كتفها قائلة بنبرة دافئة

- نانا .. مالك يا حبيبتي؟!


شهقت بفزع، ووضعت يدها على صدرها وهي تلهث كأتها لُدغت توًا

- يااااا ربي! خوفتيني يا (نيرة)!


ضحكت (نيرة) ثم نظرت إليها بريبة

- مالِك يا بنت؟ وشك مخطوف كده ليه؟


ارتبكت (نغم)، حاولت أن تبدو طبيعية وهي تجيب

- مفيييش .. مفيش يا ستي أنا بس تعبانة شوية، لازم أنام


رفعت (نيرة) إحدى حاجبيها وقالت بنبرة قلقة

- شكلك غريب يا بنتي .. فيكِ إيه؟


ابتلعت (نغم) ريقها، وابتسمت ابتسامة باهتة وهي تقول في محاولة منها لإغلاق الحديث

- ولا غريب ولا حاجة .. خلاص، هروح أنام، وبعدين نبقى نتكلم، ماشي؟


أومأت (نيرة) برأسها في استسلام، لكنها ظلت تراقبها وهي لا تفهم ماذا حل بها؟!


دلفت (نغم) غرفتها، بدّلت ملابسها ببطءٍ دون أن تشعر بما تفعل، تمددت على الفراش، حدقت في السقف بينما أفكارها تقافزت في ذهنها كأمواجٍ لا تهدأ، حاولت إغلاق عينيها، لكنها لم تستطع طرد صورة ذلك الشاب من خيالها ولا لمعان عينيه المُكحلة الغريبة للغاية ..

❈-❈-❈

في فرنسا، كان الليل هادئًا، حاول أن يسرق قسطًا من الراحة بعد أيامٍ طويلة من القلق والإرهاق، كانت عينيه معلّقتين بالسقف، وعقله غارق في دوّامة من الأفكار حول حالة (حازم)، لم يكد يغفو حتى قطع صوت الهاتف صمته، فمدّ يده بتكاسل نحو الطاولة الصغيرة بجانبه وأجاب بصوتٍ واهن، جاءه صوت (عفت) الدافئ الممزوج بالقلق عبر السماعة

- إيه يا حبيبي؟ (حازم) عامل إيه دلوقتي؟


اعتدل (وائل) جالسًا على الفراش، أغمض عينيه لحظة، ثم قال محاولًا طمأنتها

- الحمد لله يا طنط، كله تمام .. و(حازم) بيتعالج كويس جدًا، متقلقيش


تنفست (عفت) بارتياحٍ خفيف، ثم عادت تسأله بنبرةٍ يغلب عليها الحنين

- طيب هترجعوا امتى يا (وائل)؟ أنا عايزة أطمن عليه بنفسي، أشوفه بعيني كده


أطلق (وائل) زفرةً قصيرة، وحكّ عنقه بترددٍ قبل أن يجيب

- خلاص يا طنط، هسأل الدكتور النهارده إن شاء الله .. وأول ما أعرف حاجة هكلم حضرتك على طول


صمتت للحظة، تحاول كبح دموعها، ثم قالت بصوتٍ متماسك

- تمام أوووي يا حبيبي .. ربنا يقومه بالسلامة يا رب


ابتسم (وائل) ابتسامة باهتة رغم الإرهاق الذي ينهش ملامحه، وردّ بهدوء

- آمين يا رب .. ما تقلقيش عليه خالص، (حازم) قوي وهيقوم إن شاء الله


أنهى المكالمة ووضع الهاتف بجانبه، ثم مال إلى الخلف ليستلقي من جديد، لكن النوم استعصى عليه، ظلّ ينظر إلى السقف بعينين شارديتين ..

❈-❈-❈

فى الصباح، ارتدت ملابسها على عَجَل، بينما ذهنها كان ما يزال عالقًا فيما حدث بالأمس، وقبل أن تُغادر، وقفت أمام حقيبتها لحظة، فتحتها لتجد المفتاح الغامض ما يزال بداخلها، حدّقت فيه مطولًا، كأنها تحاول أن تفهم لغزه، فُتح باب الغرفة، ودلفت (نيرة) بخطواتٍ سريعة وابتسامةٍ عفوية تسألها عن حالها، فانتفضت (نغم) قليلًا، وأغلقت الحقيبة مسرعة، ثم ابتلعت ريقها وردّت بارتباكٍ واضح

- مش مهم دلوقتي .. أنا هروح الشغل


رفعت (نيرة) حاجبها مندهشة

- طب افطري معايا الأول


أجابت (نغم) بابتسامةٍ هادئة محاولةً التهرب من الحوار

- أوك يا حبيبتي، بس خمس دقايق وهانزل


جلسَتا إلى المائدة تتبادلان الحديث، لكن ذهن (نغم) كان بعيدًا تمامًا، كانت تُقلب في رأسها مئات الأسئلة عن ذلك الشاب الغريب والمفتاح، حتى أنها لم تشعر بطعم الطعام، وما إن انتهتا، حتى نهضت على الفور وخرجت متجهةً إلى عملها، حين وصلت إلى مكتبها، جلست أمام الحاسوب وأخذت نفسًا عميقًا، محاولةً أن تضع كل أفكارها جانبًا لتبدأ يومها بتركيز، وما هي إلا لحظات حتى رنّ هاتفها، فأجابت على الفور، جاءها صوتٌ مألوف وهو يرحب بها لتجيبه

- أهلاً يا أستاذ (رؤوف)، خير؟


اجابت بنبرةٍ جادةٍ ولكن يعلوها الحماس

- عندي اخبار ليكي كويسة جدًا يا ريت نتقابل 


شعرت بفضول حول حديثه وسألته

- بصي هو انتي اكيييد سمعتي اليومين اللي فاتوا أنه تم الإعلان عن وجود ملك وسمعتي معلومات اكبر من اللي اديتهالك


لمعت عينيها بفرحة، فقد شعرت بسعادة لأنه كان صادقًا معها وهي لم تتورط في شئ غير قانوني ليتابع هو حديثه 

- بُصي مينفعش كلام في التليفون .. بعد الشغل نتقابل في مطعم (···)، تمام؟


وافقته وما إن أغلقت الهاتف، حتى ارتسمت على شفتيها ابتسامة بسيطة، فهي تُحب عملها بشغفٍ ويجري بعروقها ..


فُتح الباب ودخل (معتز) وعلى وجهه ابتسامةٍ خفيفة وهو يقول

- إيه يا آنسة (نغم)، لو ما كنتش أجي أُسلم، ما كنتيش سلّمتِ؟


ارتبكت (نغم) قليلًا وهي تُعدل جلستها، فابتسمت بخفوتٍ وقالت

- إزّيك يا (معتز)؟


تنهد وهو يقول بهيام

- وحشاني .. كالعادة


أدارت وجهها نحو الملفات أمامها، محاولةً إنهاء الموقف بسرعة

- مينفعش الكلام ده يا أستاذ (معتز)


قال بنبرة بها بعضًا من الضيق

- ما انتِ عارفة إني بحبك .. وبعدين أنا اتقدمتلك رسمي، أعمل إيه تاني يا (نغم)؟


رفعت رأسها نحوه، وقالت بحزم

- اتقدمتلي آه، بس مفيش حاجة بينا، وانت عارف إني مش بحب الطريقة دي في الكلام


عقد حاجبيه بعدم فهمٍ واضح

- وده معناه إنك رفضتِ طلبي؟


أخذت نفسًا عميقًا ثم قالت بهدوءٍ

- أيوه يا (معتز) .. أنا مش مرتاحة


صمت لحظة، ثم قال بلهجةٍ حزينة

- للدرجة دي يا (نغم)؟ طب قوليلي الحاجات اللي مش عاجباكِ فيا وأنا أغيرها!


ابتسمت له ابتسامة هادئة، لكنها مكسوة بالحزن

- يا (معتز)، افهم .. إنت شخص كويس جدًا، محترم جدًا كمان، ووسيم، ومليون بنت تتمناك


قطب حاجبيه أكثر وقال بضيقٍ حاد

- بلاش البوقين بتوع الأفلام دول، ما هو مش معقول تبقي شايفة فيا كل المميزات دي وترفضيني!


هزت رأسها نافيةً، وقالت بصوتٍ متزن 

- المشكلة مش فيك، ولا فيا كل واحد ليه نصه اللي بيكمله مش لازم يكون شبهه، بس لازم يكمّله يعني، مينفعش فولة تتقسم نصين، ويوم ما أرجع ألزق النص ده مع نص حبة فاصوليا!


نظر إليها مطولًا، وفي عينيه خليط من الحزن والعجز ثم قال بصوتٍ مبحوح

- مش هقولك فكّري تاني .. بس أنا مش هسيبك، أنا بحبك ومش مستعد أخسرك


ترك المكتب وخرج، فيما ظلت (نغم) تحدق في الباب المغلق، تتنفس بعمق تمتمت في نفسها بأن الزواج ليس إعجابًا، ماذا لو اعجبت بالعديد من الرجال كيف ستتزوجهم جميعًا، هي فقط تبحث عن الحب الذي لا تعرف من اين ستحصل عليه وهي تصد جميع من يتحدث معها ..


ثم أطلقت تنهيدةً طويلة، وأخذت جهازها اللوحي، وبدأت العمل على تركيب الفيديوهات، محاولةً أن تُغرق نفسها في العمل ..

❈-❈-❈

بينما كانت تجلس في أحد المطاعم الهادئة، وسط ازدحام المارة بالخارج، كانت نظراتها تتنقل بين واجهة الزجاج الكبيرة وساعة يدها التي لا تكف عن النظر إليها كل دقيقة تقريبًا، بدت علامات التوتر واضحة على ملامحها، فهو لم يتغير أبدًا ولن يأتي بموعده، هو ملك التأخير، وضعت حقيبتها إلى جوارها وأخذت ترتشف من كوب العصير أمامها، وقد بدأت نظرات بعض الجالسين تتسلل إليها، وبينما كانت تتنهد بضجرٍ، اقترب منها شابٌ يرتدي قميصًا أنيقًا ويحمل ابتسامة خفيفة، مال قليلًا نحوها وقال بثقةٍ 

- هو اللى اتأخر عليكي ده مش مقدّر النعمة اللي قدامه ولا إيه؟ طب لو مش جاي، أجي أنا أقعد مكانه!


رفعت (نيرة) رأسها نحوه في حدةٍ صامتة، وزفرت من شدة انزعاجها، لكنه لم يتراجع، بل تابع بلهجةٍ فيها شيء من المزاح المستفز

- ماهو أكيد مش مقدّر الجمال ده


حركت (نيرة) قدمها بتوترٍ واضح، تلتقط أنفاسها في محاولةٍ لكبح غضبها، لكنها سرعان ما قالت بصرامة

- لو سمحت، احترم نفسك وابعد عني


لكن قبل أن يُجيب، أُمسكت يده بقوةٍ من الخلف، وصوتٌ غاضب اخترق الهواء

- عاوز منها ايه؟


استدار الشاب المندهش ليفاجأ بشخص طويل القامة يحدق فيه بعينين تقدحان شررًا، قبل أن ينهال عليه بلكمةٍ قوية أسقطته أرضًا، ثم تتابعت اللكمات واحدة تلو الأخرى وسط ذهول الموجودين، صرخت (نيرة) بخوف وهي تحاول سحبه بعيدًا

- بليييز يا (حسام)، كفاية بقى! يلا نمشي، مش عايزة فضايح!


لكن (حسام) كان ما يزال غاضبًا، يصر بغضب على أسنانه وهو يضربه مجددًا

- عشان يتعلم انه ملوش دعوة ببنات الناس


جذبته (نيرة) بقوةٍ أكبر ليبتعدا، توقف أخيرًا، التقط أنفاسه، ثم ألقى نظرة ازدراء على الشاب الملقى أرضًا قبل أن يقول بحدة

- ابقى اتجرأ تاني واتعرض لخطيبتي!


ثم سار بها إلى الخارج بعيدًا وقال كأنه لم يحدث شئ منذ قليل

- تحبي نروح فين دلوقتي؟


قالت (نيرة) بوجهٍ متجهمٍ وملامح غاضبة

- أنا عايزة أروّح


توقف فجأة، وحدّق فيها بعدم تصديق

- إيه؟ انتي زعلانة إنّي ضربته؟!


ردّت بحدّةٍ لم يعهدها منها من قبل

- الموضوع مش إنك ضربته، الموضوع إنك السبب أصلًا يا (حسام)! كل يوم بيتعرضلي كلب زيه لأنك دايمًا بتتأخر!


قال مدافعًا عن نفسه

- انتي محساساني إن ده بمزاجي! انتي عارفة إن شغلي كظابط ممكن يجيني أمر في أي وقت، حتى وأنا نايم!


قالت بلهجةٍ لائمةٍ غاضبة

- يبقى تتصل! تقولّي عندك مأمورية أو في قضية، مش تسيبني أستناك بالساعات!


أطرق رأسه للحظةٍ ثم رفع نظره معتذرًا بصوتٍ نادمٍ

- حقك عليا، والله غصب عني وبعدين انتي عارفة شغلي عامل إزاي، ساعات بصحى من النوم ألبس وأنزل عَلى طول من غير حتى ما أفطر


عقدت (نيرة) ذراعيها عند صدرها وقالت ببرودٍ واضح

- ميعادنا كان الساعة كام؟


- الساعة 12


رفعت حاجبًا وقالت بنبرةٍ حادة

- بص في ساعتك كده يا سيادة الظابط


نظر إلى ساعته فوجدها تشير إلى الثانية والنصف، فابتسم ابتسامةً باهتة، ثم قال بتبريرٍ خافت

- كان في قضية قتل بحقق فيها، والوقت خدني


قالت بغضبٍ وهي تحمل حقيبتها

- أنا هروح ومش عايزة أتكلم دلوقتي


أمسك بيدها قبل أن تبتعد، صوته أصبح خافتًا

- طب هوصلك على الأقل


قالت بحزمٍ وهي تسحب يدها منه

- قولتلك عايزة أمشي لوحدي


لم يجد ما يقوله، لذا حاول أن يمازحها

- لازم تبقي عارفة إنك زوجة راجل مهم


لم تتمالك (نيرة) نفسها فضحكت رغم انفعالها، وقالت

- مش هعرف آخد منك موقف أبدًا!


ابتسم وقال بهدوء

- عشان عارفة إني بحبك، ومش بقصد أحطك في المواقف دي وبعدين اللي يقربلك، اكله بسناني


ابتسمت بخجلٍ خفيف وهي ترد مازحة

- طب روحني دلوقتي وروّح كمل قضية القتل بتاعتك، الهي عفريت القتيل يطلعلك!


انفجر (حسام) ضاحكًا بصوتٍ مرتفع

- هتدبسي فيا برضه! ما هو مفيش غيرك هترضى تتجوز مجنون زَيّي!

❈-❈-❈

كانت تجلس في أحد المقاهي الهادئة، تتأمل حركة الناس حولها، تعبث بطرف الملعقة في فنجان القهوة الذي أمامها حين اقترب منها، يلهث قليلًا لإنه جاء على عجلة معتذرًا إذ كان تأخر قليلًا عليها لتخبره هي بإنه لا بأس لم يتأخر كثيرًا، جلس قبالتها وهو يحاول أن يستعيد أنفاسه، ثم أشار للنادل ليطلب لهما شيئًا يشربانه ثم أخرج من حقيبته بعض الأوراق، وضعها أمامها قائلاً

- تمام ده بعض الورق المترجم البرديات اللي تم اكتشفها وكمان معاهم فلاشة فيها بعض الصور اللي ممكن تساعدك عشان تعملي الفيلم


تناولت (نغم) الأوراق منه، بعد لحظة رفعت رأسها وقالت وهي اشكره بصدق

- انا بجد مش عارفة اشكرك ازاي، انت حتى بالمعلومات اللي ادتهاني المرة اللي فاتت نسبة المشاهدة زادت عندي، انا اصلًا مش عارفة إنت ليه خاطرت عشان تديني معلومات زي دي


ابتسم وهو يميل قليلًا إلى الأمام، نظر في عينيها التي لطالما وقع اسير بها، صحيح أنه لا يعترف بالحب ويرى أنه شئ تافه ولكن لن ينكر أن شخصية (نغم) جذابة للغاية، وهو في الحقيقة أراد أن يكون هناك اهتمام حول ذلك الفيلم الوثائقي لأنه يريد إثبات كل المعلومات المغلوطة التي أعطاها لها للجميع، حتى يغلق أي طريق أمام (حازم) في إيضاح الحقيقة فيما بعد لذا قال بهدوء

- إنتي مخرجة مجتهدة وإنتي انسب حد يقدم معلومات جديدة زي دي، عشان كده رشحت انك تقدمي الفيلم ده في الهيئة في الشركة اللي انتي شغالة فيها وتم الموافقة


رفعت حاجبيها وشعرت بأنها لا تستطيع أن تجيبه لتقول بمودة

- مش عارفة اشكرك ازاي


ابتسم لها بهدوء وفي ذلك الحين كان قد عاد النادل ووضع كوبين من القهوة أمامهم ..

❈-❈-❈

كانت تجلس في غرفة المعيشة، تُقلب في قنوات التلفاز بمللٍ بسيط حين دوّى صوت طرقٍ خفيف على الباب، لتفتح فترى ابن شقيقتها يقف مبتسمًا بخبثٍ طفولي، يحمل في يده علبة حلوى، ليدلف إلى الداخل بعدها يخبر خالته بأنه سيتناول الطعام اليوم معهم، لتسأله خالته بقلق أين شقيقتها، فضحك (هيثم) وهو يرخي جسده على الأريكة 

- سافرت هي والحج بعيد عني بقى .. شكلهم بيقضّوا شهر عسل جديد


انفجرت (عالية) ضاحكة، فتابع هو بخفة ظلٍ 

- أيوه يا ستي، خليني بايت عندك وأكل من أكلك اللي بدوقه كل سنة مرة


هزت رأسها بآسى، وفي تلك اللحظة دخلت (نغم) تحمل بين يديها بعض الأوراق، لكنها ما إن رأته حتى عقدت ذراعيها قائلة بنبرة ساخرة

- الواد ده بيعمل إيه هنا يا مامي؟


رفع (هيثم) حاجبيه بمبالغةٍ طفولية وهو ينظر إلى خالته

- شايفة يا خالتي؟ بنتك بتطردني من أول دقيقة!


ضحكت (عالية) وهي تلوّح بيدها محاولة الإصلاح بينهما كأنهم طفلين

- لا يا حبيبي، دي بتحبك، بس بتحب تنكشك


هزّ (هيثم) رأسه في تظاهرٍ بالضيق

- يا خالتو، دي معقدة، كان نفسها نبقى مش إخوات عشان اتجوزها


نظرت له (نغم) متوعدة وهي ترفع حاجبيها

- أنا ابص لأشكالك انت


قهقهت (عالية) ثم قالت

- إنتو جُوز مجانين، أنا هقوم أحضّر الاكل


قال (هيثم) بحماسٍ

- ياااريت، ده أنا ميت من الجوع يا خالتي!


غادرت (عالية) المطبخ تضحك، فالتفتت (نغم) إلى (هيثم) بابتسامة صافية، جلست بجانبه وهي تقول بفرحةٍ واضحة

- مبسوطة أوي يا (هيثم)!


نظر إليها بشكٍ مصطنع وقال

– خير يا قلبي، في إيه؟


قطبت حاجبيها بضيقٍ لطيف

– قولتلك بطل تقولّي يا قلبي دي!


ابتسم بمكرٍ وهو يلاعب حاجبيه

- ليه؟ بوقف حالك مثلاً؟


ضحكت ثم مدّت يدها وقرصته في وجنته قائلةً بغيظ منه

- عسل، عسل يا واااد يا ثومي!


أبعد يدها متظاهرًا بالضيق، وهو يقول

- عمري ما شوفت حد بيدلع (هيثم) بثومي غيرك، دي شهادة لازم تتوثّق!


ضحكت وقالت بتحدٍّ

- تحب أقولك هيثوم يعني؟


هزّ رأسه بسرعة وهو يرفع كفيه مستسلمًا

- لا لا، أنا ثومي وافتخر!


ثم عاد ليسأل بفضول

- المهم، مبسوطة ليه؟


ردّت بحماسٍ طفولي وهي تلوّح بالأوراق

- أصل (رؤوف) جبلي ترجمة البرديات، وهقدر أصور فيلم عن معلومات جديدة بس محتاجة أقرأ الترجمة وأصيغها درامي شوية


رفع حاجبه ضاحكًا وقال ساخرًا

- ربنا يكملك بعقلك يا قلبي


بعد العشاء، انسحب الجميع إلى غرفهم، ودلفت إلى غرفتها الصغيرة، أضاءت المصباح الخاص بمكتبها وبدأت تقرأ بفضولٍ متزايد من الترجمات التي أعطاها لها، قرأت بصوتٍ خافتٍ 

- تُشير بعض النقوش إلى أن الملك (إيمحور)، كان معروفًا بتعدّد زيجاته، إذ لم تكن أيٌّ منها تدوم طويلًا


رفعت رأسها في دهشة وقالت ضاحكة

– ده كان شهريار بقى!


تابعت القراءة

- كما أنه أنشأ سجونًا للتعذيب، فمن كان يرفض له أمرًا سجنه وأمر بتعذيبه، وتُشير بعض النصوص إلى جرائم ضد عائلته


- فوق إنه شهريار كان ديكتاتور كمان .. ياااه، شكله كان بشع أوي!


استمرت تقرأ حتى وصلت إلى السطر التالي


- قتل شقيقته الكبرى ليستولي وحده على الحكم


شهقت وقالت متقززة

- ده إيه الشر اللي كان فيه ده!


ثم وضعت الأوراق جانبًا وهمست وهي تخرج فلاشة صغيرة من المجلد، قامت بتشغيل الفلاشة على الحاسوب فظهرت صور ومقاطع لمكان الاكتشاف، كانت تلك التماثيل التي تحدّث عنها (رؤوف) .. 

❈-❈-❈

استفاق (رؤوف) من النوم، ونزل إلى الطابق السفلي بخطواتٍ هادئةٍ حتى لا يستمع له من في المنزل، دلف إلى المكتب كان يعلوه لوحٌ نحاسيٌ منقوشٌ باسمِ (حازم عبد الرحمن الجمال)؛ بحث بين الأرفف والأوراق، لكنه لم يعثر سوى على أوراق وملاحظاتٍ مشتّتة؛ الأشياءُ نفسها التي تُثير المزيد من الاسئلة ولا تُقدّم إجابات، بحث عن سطرٍ واحدٍ يدلّ على طريقٍ يؤدي إلى ذلك السرداب، تسلّل إليه شعورٌ بالأحباط، ذلك الاحباط الذي يشير بأنّ الوقت يمرّ وهو لم يقدّم شيئًا، فهو لا يقيم في منزل خالته عبثًا، غادر الحجرة، ثم صعد الدرج يعلم أن ابن خالته ليس شخصية سهلة وواضحة على الأطلاق ..

❈-❈-❈

بعد مرور ثلاثة أسابيع ..

كان يقف داخل مكتب رئيسه (ماهر)، والجوّ ممتلئ بالتوترٍ بينهم، جلس خلف مكتبه الكبير، نقر بأصابعه على سطحه الزجاجي في ضيقٍ ظاهر، ثم رفع نظره إلى (رؤوف) قائلاً بنبرةٍ حادة

- اهو مر اكتر من اسبوع، ولسه مجبتليش أي خبر عن مكان السرداب!


ابتلع (رؤوف) ريقه، يحاول التماس بعض الصبر في صوته وهو يقول

- أنا حاولت كتير يا فندم .. بس لسه مفيش حاجة ومفيش اخبار عن (حازم) 


رفع (ماهر) حاجبيه، وضرب بيده على المكتب بقوةٍ جعلت الأوراق تتطاير

- ماهو كل حاجة متوقفة على السرداب ده، وانت عاااارف كده كويس!


زفر (رؤوف)، محاولًا أن يبقى متماسكًا، وردّ بضجرٍ واضح

- عااارف طبعًا، بس أعمل إيه؟ أنا اديت معلومات ل (نغم) وهي عملت الفيلم واتذاع وده عكس اللي ممكن يثبته (حازم) لما يظهر


نظر إليه (ماهر) نظرةً طويلةً يملئها الغضب والتهديد، ثم قال ببرودٍ 

- وانت عارف كويس إن موضوع الأفلام ده مش هو اللي إحنا عاوزينه


مرر يده في شعره قبل أن يقول بجديةٍ محاولًا الدفاع عن فكرته

- أيوة بس ده هيفيدنا برضه يا فندم، وكل ده في صالح شغلنا


ارتسمت على وجه (ماهر) ابتسامة خفيفة، وقال بنبرة آمرةٍ غير قابلة للنقاش

- أنا مش عاوز غير مكان السرداب


صمت (رؤوف) لحظة، ثم رفع عينيه نحوه وهو يقول

- بس حضرتك عارف إن (حازم) هو الوحيد اللي يعرف مكانه


ارتفع صوت (ماهر) غاضبًا

- وأجيب أنا سِـيّ الزفت ده منين بقى؟! انا بقالي شهر بسمع منك كده!!


رفع (رؤوف) نظره بثقةٍ رغم الضيق الذي يسكن ملامحه، وقال بلهجةٍ حاسمةٍ 

- معلش يا أستاذ (ماهر) .. هي هانت خلاص


أشار له (ماهر) بيده في لا مبالاة

- لما نشوف

❈-❈-❈

في المساء، بينما كانت في طريقها للمنزل تسير بخطوات متعبة بعد يوم طويل من العمل، في شارع جانبي شعرت فجأة بقبضةٍ قوية تمسك بمعصمها وتشّدها بعنف إلى الخلف، صرخت دون وعي، لكن يدًا خَشِنة كمّمت فمها بإحكام، وقال بصوتٌ محاولًا تهدئتها

- هششش .. متتكلميش


اتسعت عيناها رعبًا وهي ترى نفس الشاب الذي زارها منذ اسابيع وظنت أنه كان يتهيئ لها، حاولت التملص، في محاولة منها أن تتحدث ولكن لا يصدر من فمها سوا حرف الميم، أزاح يده قليلًا عن فمها ليفهم منها ماذا تريد أن تقول فصرخت بكل قوتها

- يا مااااااااامي!


أعاد يده سريعًا وهو يهمس بانفعال

- بس بس .. هتفضحينا!


حاولت أن تدفعه بجسدها الضعيف لكنها لم تستطع، فقال بحدة

- انتى اللى خلّيتينى أعمل كده


تسمرت نظراتها عليه، تملؤها الدهشة والخوف، وقبل أن تتمكن من الرد أخرج من جيبه رذّاذًا ورشه في وجهها فَفَقَدَت وعيها على الفور، حملها على كتفه كأنها لا تزن شيئًا، واتجه بها إلى سيارة متوقفة بجانب الطريق،

قاد السيارة في صمتٍ حتى توقفت السيارة أمام مكان مظلم قديم الطراز، حملها إلى الداخل، ووضعها على أريكة، ثم اقترب منها محاولًا إيقاظها وهو يقول

- يا أنسة مااامي .. فوقي!


فتحت عينيها ببطء، وعندما رأته، شهقت مفزوعة وصرخت

- يا مااامي! يا ماااامي!


ضحك بخفوتٍ وهو يهز رأسه كمن يستمتع بمشهد عبثي

- صرخي براحتك .. صوتك مش هيوصل لحد هنا


نظرت إليه بخوفٍ واضح وعيناها تجولان في المكان، كانت الغرفة غريبة، جدرانها من الحجر القديم، ومكتب خشبي عتيق يقف في المنتصف، وبجواره مدفأة مشتعلة ألسنتها الحمراء تلتهم الحطب، تذكرها بالأفلام القديمة، تحديدًا الشموع السوداء، قالت بصوت مرتجف وهي تتابعه وهو يضع الحطب في النار

- انت جايبني هنا ليه؟! انت مين؟


التفت إليها بثبات

- مش عاوزك تخافي


قالت بذهولٍ وغضبٍ مكتوم

- ازاي مخافش وانت طلعتلي من الضلمة كده من غير مقدمات؟! وبعدين لو عايز المفتاح قول، وأنا أجيبهولك، بس سبني أمشي!


ابتسم بخفة، وقال بنبرة غامضة

- المفتاح يفضل معاكي .. ومتعرفيش حد إنه عندك


نظرت إليه برجاء

- طب خلاص .. خليني أروح، بالله عليك


هز رأسه نافيًا، بعينين لا تخلو من الهدوء المريب

- مش هتروحي .. قبل ما أتكلم معاكي


قالت بضيقٍ وهي تزفر بحدة

- عاوز ايه؟


ظل صامتًا لحظةً، يرمقها بنظراتٍ ثابتة جعلتها تتراجع خطوةً إلى الخلف، لفت انتباهها الكحل الكثيف حول عينيه، فحدقت فيه قائلة باستفسار

- هو انت ليه حاطط كحل كده؟ بتصور فيلم فرعوني ولا إيه؟


ضحك ضحكة قصيرة وهو يقترب منها خطوة

- أنا مش بصور فيلم يا (نغم)


ثم تابع بصوتٍ منخفضٍ وواثقٍ 

- أنا (إيمحور)


تجمدت (نغم) في مكانها، وكأن الهواء انقطع من حولها، واتسعت عيناها حتى خُيّل إليها أن الأرض تميد تحت قدميها ..

يتبع

إلى حين نشر الفصل الجديد للكاتبة علا السعدني، لا تنسى قراءة روايات و قصص كاملة أخرى تضمن حكايات وقصص جديدة ومشوقة حصرية قبل نشرها على أي منصة أخرى يمكنك تفقد المزيد من قصص وروايات و حكايات مدونتنا رواية وحكاية

رواياتنا الحصرية كاملة