رواية جديدة ذكريات ضائعة لعلا السعدني - الفصل 4 - الأربعاء 12/11/2025
قراءة رواية ذكريات ضائعة كاملة
تنشر حصريًا على مدونة رواية وحكاية قبل أي منصة أخرى
رواية ذكريات ضائعة
رواية جديدة قيد النشر
من قصص و روايات
الكاتبة علا السعدني
الفصل الرابع
تم النشر الأربعاء
12/11/2025
كانت قد أنهت عملها لتوّها، لكن تلك الفكرة ظلّت تعبث برأسها بإصرارٍ مزعج؛ أن تذهب إلى ذلك المكتب حيث قابلت ذلك الشاب الغامض، فالأمر مثير للفضول بالنسبة لها، وصلت إلى المكتب مع غروب الشمس، كان المكان خالٍ تمامًا، لا حركة فيه ولا صوت نظرت حولها، ولم تجد أثرًا لأحد، شعرت بدهشة فمن يكون مالك ذلك المكتب؟!
تقدّمت نحو المكتبة، تبحث عن أي دليل يجيبها عمّن يكون صاحب المكتب، وقعت عيناها على درجٍ خشبي في الجوار، ترددت، ثم قررت الصعود، كان الطابق العلوي يغرق في ظلامٍ حالك، تسارعت دقات قلبها وشعرت ببرودة تسري في أطرافها من الخوف، أخرجت هاتفها بسرعة، وأضاءت الكشاف، فشقّ الضوء طريقه عبر الظلام، وجدت أمامها غرفتين متقابلتين، فتحت الأولى بحذر، فوجدت سريرًا مغطىً بملاءةٍ باهتة، وبجواره كومود قديم، اقتربت ووضعت يدها على المقبض الخاص بالكومود، حاولت فتحه، لكنه كان مغلقًا بإحكام، ذمت شفتاها بضيق وعجز ثم زفرت بملل، بعدها قررت التوجّه إلى الغرفة الأخرى، وما إن فتحت الباب حتى انبعث صوت أغنيةٍ بصوتٍ منخفضٍ، صرخت دون وعي منها، ارتجف جسدها كله، وشعرت ببرودةٍ تسري في سائر جسدها حتى هدأت عندما علمت أن الصوت ينبعث من هاتفها، نظرت سريعًا إليه فوجدت شاشة الاتصال تومض باسم (هيثم)، تنفست الصعداء بارتباك، وأغلقت باب الغرفة خلفها مسرعة وهي تهبط الدرج بخطواتٍ متعثّرة، أجابت وهي تلهث
- ده وقت تتصل فيه؟!
جاء صوته قلقًا
- إنتِ فين يا بنت كده؟!
- مش قولتلك رايحة المكتب بتاع اللي عامل نفسه (إيمحور) بعد الشغل؟
قال بنبرةٍ غاضبة
- برضه عملتِ اللي في دماغك يا (نغم)!
رفعت عينيها للسماء، وردّت بضيق
- خلاص خلاص، أنا همشي وارجع البيت، مبسوط؟
سألها بفضول
- لاقيتي حاجة؟
أجابت وهي تغلق باب المكتب
– لا أبدًا .. ولا حتى نفس!
هرولت إلى سيارتها، جلست خلف المقود، أغلقت الباب بإحكام، وشعرت بالأمان فوجودها داخل ذلك المكتب سبب لها ذعرًا كبيرًا، قالت وهي تشغّل المحرك
- أنا خلاص اهو ركبت العربية ومروّحة
❈-❈-❈
في ذلك الوقت، كان يجلس إلى مائدة الطعام بصحبة خطيبته ووالدتها (عالية) كانت رائحة الطعام تعبق أرجاء المنزل، رفع الملعقة وهو يتذوق أول لقمة، ثم أغمض عينيه متلذذًا وقال بصدقٍ يملؤه المرح
- الله يا حماتي، الأكل يجنن!
ابتسمت (عالية) بحنانٍ أمومي وهي تردّ بحنان
- ربنا يسعدك ويخليك يا حبيبي
رمقته (نيرة) بنظرةٍ خفيفةٍ مازحة، ثم التفتت والدتها إلى الساعة المعلقة على الجدار وقد بدت علامات القلق ترتسم على وجهها
- هي مش (نغم) اتأخرت؟
قالت (نيرة) بنبرةٍ مطمئنةٍ وهي تتابع تناول طعامها بهدوء
- اتلاقيها بتجيب يا ماما حاجة مع صحبتها .. أو يمكن (هيثم) قالها تستناه ويروحوا سوا
أومأت (عالية) بترددٍ خفيف وهي مازالت قلقة
- امممم .. ممكن برده
ولم تكد تُكمل جملتها حتى سُمِع صوت الباب يُفتح، ودخلت (نغم) بخطواتٍ سريعة وصوتها المفعم بالحيوية يسبقها، قائلةً بنبرةٍ مرحة
- ده إيه النور ده كله! (حسام) باشا عندنا!
ضحك (حسام) وهو يضع الملعقة جانبًا قائلًا
- البيت منوّر بيكي يا نانا
أشارت له (نغم) بعينيها مازحةً وهي تجلس
- بتاكلوا من غيري؟ مش قادرين تستنّوني ولا إيه؟
أمسك (حسام) قطعة خبزٍ وهو يُكمل تناول طعامه قائلًا
- حقك عليا، أنا اللي قولتلهم ناكل .. كنت جعان أوووي
ابتسمت وهي تتصنّع الغضب
- بالهنا والشفا يا باشا
ليجيبها مازحًا
- تسلميلي يا نانا، اتفضّلي كلي معانا .. البيت بيتك
❈-❈-❈
كان يقود سيارته على الطريق السريع، والنسيم البارد يصفع زجاج النافذة المفتوح نصفها، بدا شاردًا بعض الشئ، إلى أن لفت انتباهه مشهدٌ على جانب الطريق؛ سيارة متوقفة وبجوارها فتاة تقف في حيرةٍ وارتباك، تحاول عبثًا تشغيل المحرك دون جدوى، أوقف سيارته إلى جانب الطريق، وترجّل منها بخطواتٍ ثابتة، ثم اقترب من الفتاة وهو يقول بنبرةٍ ودودة
- أيّ مساعدة يا آنسة؟
ترجلت من السيارة ثم التفتت إليه بتوجسٍ واضح، كانت تخشاه وتخشى كل شئ على الطريق فهي في ورطة، تأملها كانت ترتدي فستانًا جنزاري اللون ينساب برقةٍ على جسدها، وشعرها الأسود القصير يحيط بوجهٍ أبيض تتوسطه عينان عسليتان، ابتلعت ريقها وقالت بخوفٍ خافت
- انت مين؟
أشار إلى سيارته الواقفة عن بعد وهو يجيبها بهدوء
- أنا صاحب العربية اللي هناك دي
نظرت إلى السيارة ثم عادت بعينيها نحوه، تتفحصه بارتباك، قبل أن تقول بصوتٍ خافتٍ كمن تستسلم أخيرًا فهي لن تظل بمفردها على ذلك الطريق المظلم كثيرًا بعد أن اتصلت بابنة خالتها مرارًا وتكرارًا ولم يجيب
- هتساعدني؟
ابتسم (هيثم) وهزّ رأسه إيجابًا
- طبعًا، بس قوليلي إيه اللي حصل؟
زفرت الفتاة بضيقٍ وارتباك وقالت وهي تنظر نحو سيارتها
- وقفت فجأة ومش عايزة تسوق خالص!
اقترب من السيارة متفحصًا، ثم انحنى ليفتح غطاء المحرك، وعيناه تتابعان الأسلاك وبعد لحظاتٍ، رفع رأسه وقال بثقة
- جرّبي كده، شوفيها اشتغلت ولا لأ
اقتربت الفتاة من سيارتها وجلست خلف المقود، ثم أدارت المفتاح، فاشتعل المحرك أخيرًا بنغمةٍ منتظمةٍ، تهلّل وجهها بابتسامةٍ عفوية وقالت بفرحٍ طفولي
- اشتغلت! شكراً أوي بجد!
ضحك (هيثم)
- ولا يهمك، طب اسمك إيه بقى؟
عقدت حاجبيها وهي تنظر له بضجرٍ خفيف
- قولتلك شكراً خلاص .. خلصنا
شعر ببعض الحرج فهو لم يقصد هو عادة ليس متطفل خصوصًا نحو الفتيات لذا حاول أن يقول بهدوء مخففًا من حدة الموقف
- يا ستي ماشي، اعتبريه بس سؤال بسيط .. أو حتى حق التصليح
فتحت حقيبتها وأخرجت بعض النقود، ثم مدت يدها نحوه قائلة بجديةٍ غاضبة
- أهو .. كده انا شكرتك وبرده خدت حقك
تجمد في مكانه لوهلة وهو ينظر إلى المال بين أصابعه، بينما كانت هي تُشغّل المحرك وتستعد للرحيل وهي تغلق باب السيارة جيدًا، أشار بيده محاولًا إيقافها
- استني بس! فلوس إيه يا مجنونة؟!
لكنها لم تُجبه، وانطلقت بسيارتها تاركةً خلفها، وقف يحدّق في الطريق الخالي للحظة، ثم هزّ رأسه ضاحكًا
- المجنونة دي ..
تأمل النقود في يده ثم ابتسم ابتسامةً جانبيةً ماكرة وهو يتمتم ساخرًا
- يخرب بيتك سُكرة .. الواحد بيضعف قدّام الحلويات دي!
❈-❈-❈
في صباح اليوم التالي ..
كانت تتجه نحو مقر عملها، بينما تتزاحم الأفكار في رأسها كأنها أمواج متلاطمة، ذهنها عالقًا عند ذلك الشاب الغامض، متى سيظهر مجددًا؟
وماذا سيقول لها هذه المرة؟
دخلت المبنى، ألقت تحيةً سريعة على زملائها، ثم صعدت إلى مكتبها، وضعت حقيبتها على المكتب وأعدّت لنفسها كوبًا من القهوة، علّ حرارته توقظ ذهنها المرهق، وما إن جلست أمام الحاسوب حتى فُتح الباب فجأة، ودخل (معتز) بخطواتٍ واثقة وابتسامة خفيفة على وجهه، قال بنبرةٍ معاتبة
- لو مكنتش أنا أسأل، متسأليش انتي!
رفعت (نغم) رأسها نحوه ببطء، ونظرت إليه نظرة امتزج فيها الضيق بالملل، ثم قالت بفتورٍ واضح
ـ معلش يا (معتز)، الشغل عندي كتير النهارده
ابتسم ابتسامة صغيرة حاول أن يجعلها خفيفة الظل، وقال مازحًا
- ماشي يا سِتّي، بس ابقي سلّمي حتى! انتي بتوحشيني أوي
وضعت كوب القهوة على المكتب دون أن تنظر إليه، ثم شبكت أصابعها أمام الحاسوب الخاص بها، محاولة أن تُظهر له انشغالها التام، لم تجيب حديثه الذي دون أي فائدة، لما يصر أن يُحرج نفسه معها فهي كانت صريحة معه للغاية، فقط اكتفت بنظرةٍ عابرة تحمل رسالةً صامتة بمعنى كف عن مضايقتك لي، شعر (معتز) بالحرج، وانكسرت نبرته وهو يقول بصوتٍ خافتٍ يحمل شيئًا من الضيق
- طيب .. هقوم أنا عشان ورايا شغل
ردّت ببرودٍ
- اتفضل
وقف لثوانٍ في مكانه، كأنه ينتظر منها كلمةً تُلين الموقف أو تتراجع عن جفائها ذاك، لكنها لم تفعل، فتنهد بخيبة، ثم غادر المكتب، وبمجرد أن أُغلق الباب خلفه، زفرت زفرة طويلة كأنها تخلّصت من عبءٍ كان جاثمًا على صدرها، وعادت تحدّق في شاشة حاسوبها، تحاول إقناع نفسها أن ما تشعر به ليس ضيقًا منه فقط، بل من حياتها التي أصبحت عبثية الفترة الأخيرة ..
❈-❈-❈
جلس على مكتبه وسط رتابة الملفات والخريطة المعلّقة على الحائط، كان المكتب يزدحم بأوراق ترجماتٍ ونماذج برديات، لكن الهدوء لم يدم طويلاً؛ فُتح الباب ووقف (ماهر) أمامه، بمظهره الصارمٌ الذي يوحي بالغضب، تقدّم نحو المكتب، ونظر إلى الأوراق بعينٍ باردة قبل أن يرفع رأسه نحو (رؤوف) قائلاً بنبرةٍ تقطع الهواء
- أنا عايزك تخف شوية من إنك تدي معلومات للبنت دي .. خلِّي الموضوع محدود، مافيش داعي حد يعرف إن كل الكلام اللي بتديهولها ده مزور، مش عاوز حد يدعبس ورانا
هزّ (رؤوف) كتفيه بهدوء محاولًا إظهار الاطمئنان، لكن عينيه لم تُخْفِ توتّره
- متخافش يا فندم، أنا عامل حسابي كويس
تنفّس (ماهر) ببطء وملامحه تشدّدت أكثر
- عقبال ما نلاقي مكان السرداب
تغيّر وجه (رؤوف) لحظة؛ الصبر بدا ينفذ منه، وقال
- أنا بدوّر عليها وببذل كل جهدي .. اللي عارف المكان هو (حازم)
قَبَضَ (ماهر) على يده، ونبرته صارت أشدّ قربًا من التهديد
- لو لزم الأمر ونِقَدَر نوصل له، نخطفه
ردّ (رؤوف) وهو يُمسك بمقابض كرسيه بقليل من الحزم المكبوت
- هيحصل بس الصبر
تبادلا نظرةٍ قصيرةٍ، بعدها قال (رؤوف) بلهجةٍ تحدٍّ خافتة
- البرديات كمان مهمة لو وقعت في إيد حد غيرنا، هيكتشفوا أن المعلومات اللي قدمتها بمساعدتك غير حقيقية
أطلَق (ماهر) زفرة حادة
- لما (حازم) يرجع من السفر بس، مش هسيبه في حاله، يا يساعدنا يا روحه تترد للي خلقها
❈-❈-❈
كانت عقارب الساعة تُعلن اقتراب المساء حين خيّم الهدوء على أروقة الأستوديو، تلاشى صدى الأصوات وبقيت وحدها تُلملم أوراقها وتغلق حاسوبها المحمول بعد يومٍ طويلٍ من العمل، ساد الصمتُ داخل المكان، أمسكت بحقيبتها وهمّت بالخروج، لكن ما إن فتحت باب مكتبها حتى ارتطمت بشخصٍ طويلٍ يقف أمامها، فارتدت إلى الخلف صارخة دون وعي
- ياااا مااااامي!
جاءها صوتٌ هادئٌ واثقٌ يحمل شيئًا من الدعابة
- طب أقابلك فين تاني عشان تبطّلي تصوّتي يا أنسة ماااامي انتي؟
رفعت (نغم) عينيها ببطء، وما إن رأته حتى اتسعت ابتسامتها في دهشةٍ ممزوجةٍ بالارتياح
- إيه ده .. إنت؟!
أجاب بابتسامةٍ جانبيةٍ خفيفة
- أيوه يا سِتّي
ضحكت وهي تضع يدها على صدرها محاولةً تهدئة نبضها المتسارع
- ما هو إنت بتطلعلي فجأة! أعمل فيك إيه؟ وبعدين مفيش حد في الشركة، خُفت افتكرتك حرامي
أجابها بثقةٍ هادئة
- لا يا سِتّي، مش حرامي .. ممكن نقعد بقى ولا هتصرخي تاني؟
أشاحت بنظرها خجلًا ثم قالت وهي تهز رأسها
- آه، اتفضل
خرجا معًا، يسيران في الشوارع، حتى استقرا في أحد المطاعم الهادئة، جلسا متقابلين، وفي عينيها خليط من الفضول فيما سيحدثها تلك المرة، نظرت إليه طويلًا ثم تمتمت وهي تركز النظر في ملامحه
- إيه ده .. إنت حاطط كحل بسيط النهارده، مش زي كل مرة، أول مرة أشوف عينك على طبيعتها
ابتسم لها بثقةٍ ودفءٍ
- مانا حسّيت إنك بتخافي من رسمة العين، فهديت الكحل شوية
ابتسمت بهدوء وقالت بهدوء
- بس كده .. وسيم
رفع حاجبيه بدهشةٍ طفيفة
- كده إيه؟
قالت وقد احمرت وجنتيها خجلًا
- وسيم يعني مظهرك حلو، اللي يشوفك يستحيل يصدق إنك فرعون قديم زي ما بتقول
ابتسم قليلًا، ثم بدّل الحديث بنبرةٍ أكثر هدوءًا
- رُحتِ المكتب؟
هزت رأسها إيجابًا
- آه، وما لقيتش فيه حد حتى الدور التاني فاضي .. واضح إنه مكتب صغير لواحد، وساعات بيبات فيه كمان، لأنه حاطط سرير فوق
قال بترددٍ خفيف
- أنا ما طلعتش الدور اللي فوق
نظرت له باستغراب
- ليه ما طلعتش؟
تلعثم قليلًا ثم قال
- أصل ضلمة ومفيش أنوار فوق
ابتسمت له مازحة
- طب خلاص، في يوم أبقى أجي معاك واشغّل الكشاف
قطّب حاجبيه مستفهمًا
- الكشاف ده إيه؟
ضحكت وأخرجت هاتفها تشغّل ضوء الفلاش أمام عينيه
- اللي هو ده
تراجع واضعًا يده أمام وجهه
- خلاص بقى، هتعميني!
قهقهت بطفولية
- معلش .. بس على فكرة المكتب ده تصميمه غريب جدًا، بيخوف!
ابتسم مطمئنًا إياها
- متخافيش .. وأنا جنبك
صمتت للحظة، نظرت إليه بعينين تحملان شيئًا من الحيرة لا تعلم لما تثق بذلك الغريب وهي لا تعلم عنه أي شئ ولا تعلم كيف هو يوجد معها الآن اهو شخص ميت أن مختل عقليًا، ثم قالت بهدوءٍ
- طب إنت مصدّق إزاي إني مش زيهم؟ مش عاوزة أسوء سمعتك زي الباقيين؟
رفع كتفيه بلا مبالاةٍ ظاهرية تخفي خلفها قناعةً داخلية
- لأنك أصلًا متعرفنيش والمعلومات اللي بتجيلِك من الباحثين والناس اللي في الوزارة، إنتي بتكتبيها بطريقتك وبتحوّليها فيلم .. وملكيش مصلحة
تطلعت إليه متسائلةً
- طب وهُمّا ليهم مصلحة في إيه؟
أطرق قليلًا، تنهد وكأنه يهرب من الإجابة
- مش عارف .. بس أكيد هعرف
تأملته لحظة، ثم قالت فجأةً بنبرةٍ خفيفة
- طب إنت .. كنت متجوز؟
هزّ رأسه بثبات بالأيجاب لتسأله
- كم واحدة؟
ابتسم ابتسامةً غامضة
- واحدة بس .. اسمها (تي نا)
اندهشت (نغم) واتسعت عيناها
- كان في بينكوا قصة حب؟
صمت لحظة، ثم بدأ يسرد بصوتٍ مائلٍ إلى الحزن، تتغير نبرته كلما غاص في ذاكرته القديمة ..
في ذلك الوقت كانت أختي الكبرى هي من تحكم البلاد، بحكم أنها الأكبر سنًّا، لكنها ظلمت الشعب كثيرًا، فثاروا عليها، وكنت انا الوريث الشرعي التالي لذا لتهدئة الشعب استجبت لمطالبهم، وبعد أن تولّيت الحكم، طلب مني الوزراء أن أختار زوجة تليق بالعرش، فصنعتُ احتفالات ضخمة لاختيار الملكة، وحضرت فتيات علية القوم جميعًا، كنت أمشي بين صفوفهن حتى وقعت عيناي على فتاةٍ تجلس وحيدة تبكي، دموعها كانت تنادي قلبي قبل أن تناديني، اقتربت منها وسألتها
- يا فتاة، ما بكِ؟
رفعت رأسها إليّ بنظرةٍ لم انساها قط، وقالت بصوتٍ مرتجف وهي تتفحص وجهي وكأنها ستراني لآخر مرة في عمرها واجابتني بأسمها فقط تريد مني أن أعرف اسمها
- اسمي (تي نا)
سألتها
- ولماذا تبكين؟
فقالت بخوفٍ واضح
- هل شربتَ الشراب الذي أمامك؟
نظرت إليها متعجبًا
- أي شراب؟ لقد كانت أمامي أكوابٌ كثيرة
أجابت بخوفٍ أكبر
- واحدٌ منها مسموم
شعرتُ بقلبي يضرب كطبول الحرب، وسألتها
- وكيف عرفتِ؟
حاولت مسح دموعها التي كانت تزيدها فتنة وجمالًا في عيني ثم قالت
- أبي أحد أعوانك .. لكنه يعمل لحساب شقيقتك هي من أمرته أن يدسّ لك السمّ لتستعيد هي الحكم بعد موتك، أشعر بالخوف على أبي من أن يقوم بخيانة كبرى كهذا
ثم صمتت ونظرت إلى أسفل بخجل وتابعت حديثها
- وايضًا أشعر بالخوف من أن يُصيبك مكروه
لم أدرِ ما جعلني أصدقها، لكني فعلت، وكأني كنت أسير عينيها أو حبها لا اعلم ولكن ما أعلمه أن حبها نبض في قلبي منذ أن وقعت عيناي عليها، أمرت بإحضار والدها، ونظرت إليه وقلت بخبثٍ ساخرٍ
- لقد تعبتَ معي كثيرًا يا (خع)، وأرى أنك تستحق المكافأة
سألني بدهشةٍ
- مكافأة؟
فقلت وأنا أشير إلى المائدة
- فلتشرب كل هذه الأكواب التي أمامي
وحين اتسعت عيناه خوفًا، أدركت أنه هو الخائن بالفعل وأن الفتاة محقة في كل كلمة حدثتني بها ..
توقفت تلك الذكريات حين ..
شهقت وهي تقول بسرعة
- ياااه، أنا اتأخرت على مامي جدًا! زمانها قلقانة
ابتسم وهو يهمّ بالقيام
- طب خلاص، تحبي أوصلك؟
هزت رأسها نافية
- لا لا، مش عايزة أتعبك
وقفا معًا أمام باب المطعم، تبادلا نظراتٍ صامتة للحظة، ثم ابتسم هو ابتسامةً غامضة
- هجيلِك قريب
أومأت وهي تبتسم بخفة، ثم بدأت تخطو مبتعدة، لكنها توقفت فجأة، التفتت تناديه
- إنت ... يا إنت!
التفت نحوها بجديةٍ غامضة، فقالت بنبرةٍ صادقةٍ
- أنا بجدّ بطمن وأنا معاك .. و المصيبة اني مصدقاك بس ده ميمنعش إن في حاجة ناقصاني .. في حلقة مفقودة في حكايتك، في حاجة مش مريحة قلبي
ابتسم تلك الابتسامة التي لم تفهمها، ولم يتحدث، هزت رأسها ثم ابتعدت، بينما بقي هو واقفًا، يتابعها بنظراتٍ صامتةٍ ..
❈-❈-❈
كانت تلك الفتاة التي قام (هيثم) بتصليح سيارتها تقف أمام المرآة تتأمل ملامحها بإعجاب خافت، ترتب خصلات شعرها القصير برفق وتبتسم لنفسها تحاول أن تُخفي قلة ثقتها بنفسها لأن من تشعر بالحب نحوه لا يبادلها الحب وضعت القليل من مساحيق التجميل، وقررت بينهم وبين نفسها أن تذهب له فقد اشتاقت لوجوده ولرؤيته، اتجهت نحو غرفة (رؤوف) وقفت أمام الباب للحظة، تنفست بعمق، ثم طرقت الباب بخفة، جاءها صوته من الداخل يأمرها بالدخول، دفعت الباب برفق ودخلت، لتجده جالسًا أمام مكتبه، عيناه معلقتان بأوراق كثيرة مبعثرة أمامه، والإنهاك واضح على ملامحه، شعرت بالشفقة عليه، قالت بنبرة حاولت أن تخفي شوقها خلفها
- بتعمل إيه يا (رؤوف)؟ مش هتنزل تتعشى معانا؟
رفع رأسه نحوها ببطء، نظر إليها نظرة باردة لا تحمل أي أهمية تجاهها، وقال بلا اكتراث
- لا، كلي انتي وخالتو .. أنا ورايا شغل كتير
تقلصت ملامحها للحظة، وحاولت أن تبتسم رغم الخيبة التي سرت في صدرها
- هزعل منك كده .. انت قاعد معانا ولا كأنك قاعد معانا اصلًا، دايمًا بتاكل برة
أجابها بصوت خافت لكنه حاسم، كمن يُغلق الباب على أي محاولة للحوار بينهم
- معلش يا (ساندي)، قولتلك ورايا شغل
ساد صمت قصير، وقفت أمامه مترددة، لكنه كان منشغلًا تمامًا بالأوراق التي أمامه، يقلبها بتوتر متعمد، يريد أن يطردها بنظراته قبل كلماته، قالت بصوت خافت، فيه مزيج من الحزن والعتاب
- إنت مشغول أوووي كده يا (رؤوف)؟
تنفس بحدة وهو يمرر يده في شعره بتعب ظاهر
- أوووي، أوووي يا (ساندي) .. مش شايفة؟
ارتسمت على وجهها ابتسامة حزينة، لم تقل شيئًا بعدها، فقط تمتمت بهدوء وهي تتراجع نحو الباب
- وأنا مش هعطلك أكتر من كده .. عن إذنك
فتحت الباب وغادرته بخطوات سريعة تحمل في داخلها حزنًا دفينًا بسبب معاملته الجافة تلك، أغلقت الباب خلفها بقوة خفيفة، أما (رؤوف)، فظل للحظة ينظر نحو الباب المغلق، ثم زفر بملل وهو يعود للأوراق بين يديه، يتمتم بسخرية باهتة
- باااردة .. زي أخوكي بالظبط
❈-❈-❈
بينما كان يتجول في أرجاء المكتب الفخم الذي يخص (حازم الجمال)، بدت عليه ملامح التوتر، اتجه بخطوات سريعة نحو المكتب الكبير في منتصف الغرفة، أخرج المفتاح من جيبه بثقة فقد اعتاد الدخول دون استئذان، ثم انحنى ليفتح درج المكتب، لكن القفل لم يتحرك، زفر (وائل) بضيق حاول مرة أخرى من جديد، غير مصدق أن المفتاح لا يعمل، ارتجفت أصابعه وهو يدير المفتاح للمرة الرابعة، لكن لا فائدة ..
شعر (وائل) بالعجز جلس ببطء على المقعد الخاص بالمكتب، وضع كفيه على رأسه في محاولة لإسكات الضجيج الذي تلاطم في ذهنه، فقد قام صديقه بتغيير مفتاح درج المكتب قبل أن يسافرا معًا إلى فرنسا على ما يبدو، والآن رأسه خاوي لا يتذكر أي شئ، ربما ما كان في الدرج كان سيساعده على ماهو قادم ولكن الآن لن يستطيع فعل شئ قبل عودة (حازم) ..
❈-❈-❈
فى صباح اليوم التالى ..
بعد أن أنهت عملها ورتبت أوراقها بعناية، رن هاتفها فجأة، فأجابت على الفور لتجد صديقتها من تحدثها واخبرتها أنها بالأسفل تنتظرها كما اتفقا بالأمس، أغلقت معها الهاتف ثم أخذت حقيبتها وحاسوبها المتنقل وغادرت المكتب مسرعة، وما أن خرجت خارج العقار حتى وجدت (حنان) تنتظرها أمام البناية، فأسرعت نحوها واحتضنتها لأنها افتقدها كثيرًا الأيام الماضية، أكملتا الطريق في سيارة الأجرة، واصلتا ضحكاتهما وحديثهما كما اعتادا، بينما كانت (نغم) تتأمل (حنان)، شعرت برغبة ملحة في أن تبوح لها عن أمر ذلك الشاب الغامض الذي يدعى (إيمحور)، لكنها ترددت خوفًا من توبيخ صديقتها كما حدث مع (هيثم)، فذمت شفتيها، لاحظت (حنان) الحيرة في عينيها وأنها تريد قول شيئًا ما، فسألت بلهجة قلقة
- مالك يا بنت؟ فى إيه؟
ارتبكت (نغم) قليلًا وأجابت متلعثمة
- ها!! مفيش .. بس زهقانة من ضغط الشغل
ابتسمت بلطف، مطمئنة إياها
- انتي قدها يا نانا
فى تلك اللحظة، دخل المطعم شاب يرتدي بذلة سوداء، يبدو عليه الوقار، وعيونه العسلية وبشرته الخمرية جذبت انتباه (نغم) فورًا، لاحظت (حنان) نظرات صديقتها الثاقبة لذلك الشاب، فسألت مندهشة
- مالك متنحة كده لييه؟
ابتلعت (نغم) ريقها وقالت بهدوء، لكنها متوترة
- استنى هنا .. خليكى
- رايحة فين؟
سألت (حنان) مندهشة، لكنها لم تجيب وتقدمت نحو الشاب الذي جلس على الطاولة، وجلست مقابله رغم ارتباكها، رفع الشاب رأسه ونظر لها بلا مبالاة وسألها بحاجبيه عما تريد منه، حدقت فيه بعينيها على نحو مكثف وقد تأكدت كل ظنونها، تأكدت من شكوكها، وسألته وهي في حالة مندهشة
- انت بتعمل ايه هنا؟
اتسعت عيناه ببلاهة فمن تلك التي تسأله عما يفعله وكأنها تعرفه وما تلك الاريحية التي تتحدث بها معه، التفت إليها بحدة وقبل أن يتحدث اكملت هي حديثها المبعثر
- انت مش قلت انك بتنام كتير، انا على طول بشوفك بليل اول مرة اشوفك الصبح، عرفت المكتب بتاع مين؟! وصلت لحاجة تخص (ايمحور)؟
نظرته ازدادت بلاهة، ولم يستطع أن يستمع المزيد من العبث فخرج صوته يحمل شيئًا من الدهشة
- هو أنا ناقصك، انتى كمان .. وبعدين مين (إيمحور) ده؟!
اتسعت عينا (نغم) على نحو لم تصدق معه ما تسمعه، وارتجفت يديها من الخوف والذهول فمن ذا الذي أمامها الآن، وكأن الوقت توقف حولها للحظة ..
يتبع
