-->

NEVER LET ME GO 3 (AFTER BURN) - الفصل الرابع


  
  الفصل الرابع 

ربما تجمعنا أقدارنا ذات يومًـا 
    بعدما عَـزَّ اللـقاء
    
    -حافظ إبراهيم-
    •¤•¤•¤•
    
    - أنا لا أوافق على هذا الهراء!!
    قالها مراد بسخط مُستعرّ وهو ينهض ويتركهم جالسين إلى طاولة الطعام .. مازالت الوجوه واجمة، والألسنة عازِفة عن التحدث .. ليس هناك ما يُقال بالأساس، فقد صدمهم ما سمعوا عن حق .. وبالأخص فريدة، فكان لها نصيب الأسد من تلك المحادثة، وآثرت أن تسمع آرائهم بدلًا عنها!!
    
    بعد أن تأكدت سارة من دخول أخيها للشرفة حتى إلتفتت لفريدة لتضم يدها وتهمس: 
    - أنا ايضًا لا أوافق على لقائك به وحدكما .. انا لم أقل ذلك أمام مراد حتى لا يزدد تعنّتًا، ولكني حقًا أخشى عليكِ من هذا اللقاء!!
    
    ظلت فريدة ساهمة الملامح لا تُعطي أي انطباع .. لا تفكر بحديثهم وحسب، بل مازالت تحت تأثير تلك الرهبة التي بزغت بداخلها فور أن سمعت صوته .. بحةٌ صوته الأجش بينما يهمس بإسمه بتلك الطريقة الفريدة التي لم تسمعها من أحدًا قبله، وفي تلك اللحظة شيئًا بداخلها أخبرها بهويته قبل أن يصعقها هو بها.
    
    شيئًا يسري كالكهرباء في الجسد حينما تناهى إلى مسامعها صوته، بل إسمه الذي لم تكن تدرك الهيبة التي يمتلكها إسم مجرد كهذا، سوى عندما لفظه هو..
    
     أدهم الشاذلي!!
    
    عندما استعادت انتباهها كانت (رجاء) تحدث سارة بنبرة هادئة:
    - اتركيها سارة تفعل ما تريد .. لا أحد يتدخل باختياراتها!!
    - ماذا الذي تقوليه؟؟ .. كيف لا نتدخل؟! .. إنه أدهم!! .. زوجها السابق!! .. أنسيتوا ماذا فعل؟!
    
    جأر بها مراد الذي آتى مرة أخرى على حديث والدته، ليجهم الجميع من جديد .. وهنا راحت تفكر فريدة .. ماذا فعل أدهم؟؟ .. هي لا تعرف حقًا ماذا فعل!! .. لقد أختفى لأكثر من سنتان وتركها عالقة في وحل مرضها .. هذا ما تعرفه، وعلى الأدق هذا ما تتذكره، لكن هناك ما لا تتذكر ولا بد أن تعرفه!!
    
    نظرًا لإحتدام الأجواء في هذا الوقت، كان قرار الإنسحاب هو خير حل .. لذا نهضت عن طاولة الطعام مستأذنه من الجميع ذاهبه لشقتها .. ما إن أصبحت مقابلة لباب الشقة حتى نداها مراد بحزم، فتوقفت وهي تتمنى ألا يصر على حديثه معها الآن .. ولكنه فاجئها حينما طلب من سارة أن ترافقها الليلة، وحينما نظرته وجدته يرمقها بنظرة دافئة استشعرت منها خوفه عليها، بعدما رآها تلك الليلة، ولكنها تعللت بحاجتها للإختلاء بنفسها ليوافقوا على مضض.
    
    ●   ●   ●
    
    انبلج نهار جديد دون أن يغفل لها جفن .. قضت ليليتها أمام تلك اللوحة التي عملت على تجميع ما بها من أوراق وصور على مدار شهور؛ لتعرف مَن هو أدهم الشاذلي .. والآن، خطتك قد نجحت فريدة، لقد خرج من جُحره وبزغ لكِ كيفما أردتي .. الوغد كان يختبي بإرداته الحرة، دون قيد أو شُبهه جنائية .. حسنًا، هذا يفسر الكثير، يفسر لمَّ أوقف والده حملة البحث عنه، تلك الشمطاء زوجته بالتأكيد كان لديها علم .. حدسك كان على صواب فريدة!! 
    
    مسحت وجهها بإرهاق بالغ ثم اتخذت قرارها في ثواني، وهي تجذب هاتفها وتطلب هي رقمه هذه المرة .. لم يتعدى الرنة الأولى حتى جاءها الرد وكأنه لم يذق النوم مثلها .. دون أن تلقي عليه حتى تحية الصباح قالت بتصميم: 
    - أين ألقاك؟؟
    
    ●   ●   ●
    
    ساعة رملية موضوعة على تلك الطاولة تناثرت حباتُها برتابة الواحدة تلو الأخرى لتختلط بخلجات قلبه، بينما ينتظرها بهذا المطعم  .. ثواني وتواترت بأذنه إيقاع نعلها العالي لتُنبأه بمجيئها .. عينيه تعلقت بمفارقة قدميها للفتحة الجانبية بثوبها الأسود الطويل، ليتدرج إلى أعلى عابرًا جسدها الممشوق، والذي كان من الواضح أنه اكتسب وزنًا عن ذي قبل، ليقابل شمس عينها المشرقة والمبددة لعتمة هذا الليل .. تدلت شفتيها بابتسامه عذبة ناعمة لا تليق سوى بملاكًا مثلها لتقول: 
    - مرحبًا!!
    
    لم يستطع أن يجيبها، لم يستطع أن يُصافح يدها .. لم يستطع سوى أن يخطفها بين أذرعه، ليسكنها حبيس أضلاعه، فيدفئ بها ثنايا قلبه الحزين!! 
    
    ياللحب .. مُوّجِع ومَوّجُوع إلى الأبد!! 
    
    كجسدٍ ميت دبتْ به الحياة .. تنفس عبيرها، تلّفْح بأنفاسها، سَكنتْ روحه بوجوده داخله .. هل بُعث للحياة من جديد؟؟ 
    
    انحدرت شفتيه لتعانق شفتيها بعد طول غياب، يحلقا معا في سماء العشق .. إنغمس بين أنفاسها برحابه، وتهلل قلبه لكل ما تعطيه له بنفسٍ راضية، وحينما ابتعد ليُشبع روحه من نور عينيها، كانت المفاجأة .. شفتيها مُدمية، ليس فقط شفتيها، بل ملامحها كلها مُدمية، شاحبة وكأنها فقدت حياتها بين يده .. تمتمت له بصوتٍ أجش لا يشبه صوتها: 
    - ماذا فعلت بي أدهم؟!
    
    فُزعَ من رقدته، بعدما غفا على مقعده دون أن يدري، وقد هزمه النوم بعد عناء ليلقيه في جحيم كوابيسه، وليستيقظ على صوت هاتفه الذي بدأ في الرنين لتوه والصدمة أن المكالمة منها.
    
    تهادتْ نبضات قلبه وهو يسمع صوتها من جديد لتخبره باستجابتها له .. هل هذه إحدى أحلامه؟؟ .. إبتلع بتوتر وهو يخبرها عن موقع مطعم صغير في إحدى المدن المتطرفة حتى لا يجذب الأعين له .. خاصة وهو لم يُعلن حتى الآن عودته.
    
    عَاكست توقعاته ووافقت بخفوت، وهي تخبره بأنها ستكن هناك خلال الساعتان القادمتان، ليشرع من فوره في إرتداء ملابسه حتى ينطلق هناك ليكن بانتظارها هناك.
    
    ●   ●   ●
   
     لم يتوقع أن يصل بهذه السرعة، ولكن نظرًا لقربه من موقع المطعم فكان هناك خلال دقائق .. انقضت ساعة وأكثر، بينما بقيت عينه معلقه بمدخل المطعم .. عَزَفَ التوتر على أعصابه مقطوعة بالغة التعقيد، في حين كانت أفكاره تموج داخله في حربٍ عاتية .. ماذا سيقول لها؟، وبماذا ستجيبه؟
    
    دارت بداخله جميع السيناريوهات المحتملة ولكن لم تَرقّ له واحدة .. جميعها عَطِبة وعقيمة، ساذجة، لا تليق بعقلية فريدة .. كان يود لو يخبر دكتور (مايك) أن المواجهة التي نصحه بها على وشك أن تبدأ خلال دقائق، ومازال لا يعرف ما عليه فعله حقًا .. هو في موقف لا يُحسد عليه، وكل ما يستحوذ على تفكيره عليه هو أنه سيقابلها .. ﻷول مرة .. بعد تلك السنوات .. روحه لا تهتم لما سيقول وما سيحدث، لا تهتم سوى لأنها ستتحد أخيرًا بتوأمها المفقود. 
    
    ركز هدفه في على شيئًا واحدة، وهو جعلها بعيدة عن دائرته المظلمة بأي طريقة، وبأي ثمن .. حتى لو كان سيخبرها بالحقيقة مباشرة!! .. حياتها الآن تفوق فداحة جُرمه بحقها، وتفوق حتى كبريائه العتيد .. ليس هناك ما هو أكثر أهمية منكِ فريدة!!
    
    هذا ما ردده بعقله قبل أن يلمح طيفها بالخارج وهي تترجل من تلك السيارة .. ترتدي تنورة ثلجية طويلة يعلوها قميص أزرق شاحب، ترفع شعرها في ذيل فرس وتغطي عينيها بنظارة شمس لها نفس لون القميص .. وقفت لثواني تعاين المطعم من الخارج دون أن تقع عينيها عليه ومن ثم دلفت بحذائها الرياضي.
    
    خلعت نظارتها لتمرر عينها في ساحة المطعم، لم يكن هناك الكثير من الطاولات، فقط خمسة طاولات لا يفصلهم مساحة كبيرة لصغر المطعم، تطل جميعها على الطريق، وفي هذا الوقت المبكر من النهار كانت جميعها خالية من المرتادون إلا طاولته .. تشابكت أعينهما معًا في لقاءٍ مُتوتر بينما بدى التردد عليه ليقف من موضعه في تحية لوجودها هنا .. لترى أنه يرتدي قميص من الكتان الأبيض وسروال من الجينز، ليلائم طلته الوسيمه بشعره الكثيف اللامع ولحيته المشذبة.
    
    توقف في انتظار اقترابها وخلايا جسده تصارعه لتلتحم بجسدها وتنفذ حلمه الأخير على أرض الواقع .. لكن في الواقع يختلف كل شئ، حتى أيديهما لم تتلاقى سوى في عناق سطحي لم يدم لثانية، وانقضى مع إلقاءها لتحية فاترة كسلامها!! .. هذا فقط!!
    
    جلست مقابله له ليجلس هو الآخر وتزداد الاجواء بينهما توترًا .. مضت لحظات وكلاهما يحدق بالآخر ويشبع عينيه منه، من تفاصيله وهفواته، وأنفاسه .. حتى غمغم أدهم وكأنه يحدث نفسه: 
    - لا أصدق حقا أنكِ هنا، معي!!
    تجعد جانب شفتيها لجزء من ثانية قبل أن تجيبه بجفاء:
    - آوه .. دعنا من هذه الأقاويل العاطفية، فنحن لسنا بعاشقان!!
    
    صُدم .. حقا صُدم من جفاوة ردها القاسي .. عجز عن الرد لينقذه مجئ النادل ليأخذ طلباتهما .. فأمره بتلقائية: 
    - اثنان قهوة سادة!!
    - واحدة فقط من فضلك!!
    
    قالتها فريدة لتقطع عليه طلبه، فنظرها لتفسر بعد رحيل النادل: 
    - الأطباء منعوها عني من مدة!!
     
    إزدادت ملامحه جهامة .. هذا هو حاله كلما تعرف إلى حالها .. لم تفت عينه الخبيرة الرعشة التي برقت بأصابعها لتُخفيها سريعًا بضم يديها معًا في حزم وهي تقول بنبرة أشعرته بمدى المساحة الجافية التي أصبحت بينهما: 
    - لنختصر هذه اللقاء الموتر وليعرف كلًا مننا ما يريده من الآخر ونرحل!! .. بالنسبة لي فأنا لا أهتم ﻷين كنت؟؟، ولا كيف ظهرت البارحة فجأة؟؟ .. كل ما يهمني هو شئ واحد أسعى لمعرفته .. هو ماذا حدث لي قبل أن أفوت بالغيبوبة و...
    
    قبل أن تكمل توقفت عدة عربات أمام المطعم مباشرة وهبط منها أناس عديدة يحملوا بأيديهم كاميرات تصوير ومعدات تسجيل، وبثواني كانوا يقتحمون المطعم عليهما ويحاصرهما ليقف أدهم ويجذب جسد فريدة إليه ليتصدرها بعد ذلك بحماية، بعدما انهالت عليهما الأسئلة والكاميرات من كل صوب:
    - أين كنت أدهم الشاذلي؟؟
    - هل حقا تعرضت للخطف طوال السنتان؟؟
    - فريدة، هل لكِ يد في خروج أدهم للضوء مرة أخرى؟؟...............
    ......................
    
    العديد والعديد ومن الأسئلة التي حاصرتهم وأصبح من الصعب عليهما مفارقة المطعم الصغير بعدما احتشد بهذا الجمع الغفير.
    
    وفي يخضم إمتناعه عن الرد، كان يفكر في طريقة للخروج من هذا المأزق بفريدة دون أن يمسها سوء، والأهم يفكر بمَن وضعه به، فلا أحد يعلم بعودته لمصر، أعني لا أحد!! .. فُوجئ بها تسحب يدها بغلظه من يده، ليبتعد بمدى عينه أكثر فيري مَن يسحبها هي شخصيًا!!
    
    تجمد الدم في عروقه وهو يري مراد يغوص بين الجمع ويُفسح لها الطريق للخروج، وما إن حاول اللحاق بهما حتى تكاتل عليه المراسلين أكثر ولم يهتموا لرحيل فريدة في وجود أدهم الشاذلي بنفسه أمامهم!!
    
    ومن بعيد، فتح مراد لفريدة سيارته سريعًا لتدخل ويديرها بسرعة .. وآخر ما لمحته من هذا اللقاء، كانت ملامح أدهم الواجمة بذهول!! 
    
    ●   ●   ● 
    
   توقفت السيارة على بعد أمتار من المطعم، لتهبط منها فريدة بسرعة وهي تنفض ملابسها بطريقة ثائرة، ليلحق بها مراد محاولا تفقدها .. كانت تمسح على شعرها باستمرار عنيف وكأنها تبحث عن الهدوء بداخلها بيأس .. ما إن وضع مراد كفه على كتفها حتى انفجرت به صابه جُمَّ غضبها: 
    - ما الذي فعلته بحق الحجيم؟!
    تراجع مراد خطوتان قبل أن يستنكر منها: 
    - ماذا فعلت؟؟ .. لم استطع تركك تواجهيه بمفردك .. رغما عني عندما رأيتك تخرجين بالصباح تتبعتك .. صدقيني لم أشاء التدخل وانتظر بالخارج، لكن لم أستطع أن ابقى كذلك حينما رأيت سيارات المراسلين تحاصركما!!
    
    منحها نظرة أخبرتها بأنه قد خاب ظنه بها قبل أن يضيف: 
    - لم أتوقع حقا انكِ ستقابليه دون علمنا .. كيف تفعلين هذا فريدة؟؟ ألم نتفق بالأمس؟؟ .. ماذا حدث؟؟
    
    توقفت الكلمات في حلقها بعد أن كانت على مشارف أن تعطيه محاضره في إلتزام حدوده ظنًا منها بأنه وراء تسريب خبر عودة أدهم للاعلام .. زفرت مُخرجة كل الضغوط والإحباطات المتراكمه بداخلها، لتتراخى قدميها وتهبط جالسه أرضًا وتريح ظهرها إلى خلفيه السيارة .. لتتحدث بعدها بصوت مختنق أرهقه ما حدث:
    - كان على وشك التحدث .. كان على وشك أن يخبرني بكل ما أنا على استعداد أن أموت لأعرفه!!

    لاذعت حدقتيها الدموع الساخنة لتعصرها بقوة كابته إياها عن الافراج .. جثى مراد أمامها ليضع يدها على ركبتها، متوددًا إليها بالحديث اللين:
    - فريدة .. ما تفعليه بنفسك يفوق قدرتك على الإحتمال .. أنتِ تُحملين ذاكرتك فوق طاقتها وتضغطين عليها بشكلٍ سئ، وهذا خطأ!! .. ماذا إذا كان ما حدث يمثل صدمة كبيرة لكِ؟؟ .. ماذا إذ لم تتحميلها .. أتريدين أن تنتكسي مرة أخرى؟؟ .. أتريدين العودة للمعاناة التي كنتِ عليها؟؟ .. أهذا ما تسعين إليه؟؟
    ضغط على ركبتها ليستحثها وأضاف:  
    - أرجوك فريدة فكري بعقلانية، أنتِ عانيتي لتخرجي من صدمتك، حتى ولو دون ذاكرة، لكنك تعافيتي الآن .. لمَّ العودة للوراء الآن ونبش الماضي؟! .. ماذا ستجنين من هذا؟؟
    
    هبطت دموعها دون رادع لتفارق عين واحدة وهي ترمقه بإنكسار وقلة حيلة لم يراها عليها من قبل: 
    - وماذا إذا كان عقلي يأبي ذلك؟؟ .. ماذا إذا كان في كل مرة أغمض بها عيني يحاصرني بذكرياته العنيفة وينهش روحي، ليحضني على التذكر ولا شئ يفلح معه ليثنيه عن ذلك .. ماذا إذا لم يبق أمامي خيار سوى أن أتذكر ما يرغب بإخباري به وإلا سأجن!!
    
    تساقطت دموعها حتى أغشت عينيها ليحتضنها مراد دون أن يدري انه يفعل هذا .. طالما كانت دموعها تمثل نقطة عمياء أمامه، لا يرى بعدها .. الحقيقة الخالصة أن فريدة ذات نفسها تمثل هذه النقطة العمياء بكل ما تحمله من حب وألم وشقاء .. هو الآن على إستعداد لفعل كل ما يتراءى لها حتى ترضى، وليتها ترضى!!
    
    أراد أن يخبرها بهذا الوقت، أن ذلك الذي يسمى بزوجها السابق ما هو إلا مجرم ضليع في الإجرام .. إذا كانت تريد التذكر حقًا، فهو على إستعداد أن يذكرها بذلك اليوم الذي لم ينساه أبدًا .. ذلك اليوم الذي عاد به بعد أن قابلها بأمريكا يلطم قلبه الإنكسار .. إنكسار لا يساوي أبدًا مقدار ما رآه بعينها ذلك اليوم .. ليستيقظ بعد أسبوع على خبر حادثها الشنيع، والمسبب في ذلك مجهول للجميع .. إلا هو!!
    
    أراد أن يخبرها بكل هذا، ولكنه إرتأى أن من الحماقة تذكيرها بما حدث، حتى ولو كان بذلك يخون ثقتها، ولكنه قد خسرها مرة ولا يريد أن يخسرها الثانية .. لن يقوى على رؤيتها في عمق الحطام الذي كانت عليه طوال سنتان .. حطام أنثى، دهستها الحياة، ومن قبلها الحب!!
    
    رفعها لتنهض ومن ثم ساعدها في العودة للسيارة، ليقودها عائدين للبيت، غارقين في صمتٍ يتخلل أنفسهما الشاردة.
    
    ●   ●   ●
    
 في المساء..
    
    بالرغم من علو صوت التلفاز الذي يبث امامها تفاصيل كشف الإعلام لعودة أدهم، وتفاصيل اقتحامهم اليوم للمطعم إلا أنها لم تكن تسمع لأي من الأشاعات الساذجة التي يتناقلوها .. ذهنها أخذها لتلك اللحظة التي خطت بقدمها في المطعم ورأته يقف بهيبته أمامها .. رأت الوجل بعينه، الرهبة والتردد من لقائهما .. ولولا ذلك -لولا ما رأته- لما إستطاعت التقدم والثبات أمام عينيه الداكنتين!!
    
    عينيه التي خطفت ذهنها منذ الوهلة الأولى في رحلة أشد وطأة على قلبها .. رحلة غاصت بها في أدغال كوابيسها اليومية .. رحلة سريعة كالبرق ضربت ذاكرتها وأنعشتها في ثواني قالها له همسًا:
   - "انه هو!!" 
    لكن بإختلاف النظرات..
    نظراته كانت تختلف عن تلك القادرة على تجميد الجحيم برفة جفن!!
    نظرات تشوش ذهنها وتخبرها أن هناك خطبًا ما ولا بد أن تعرفه .. لا بد أن تعرف أيهما تصدق، ما تراه  أمامها أم ما رأته يوميًا بأحلامها؟؟
    
    خرجت تنهدية حارقة منها نفضت بها تشتت روحها وعادت للتلفاز مرة أخرى لترى أن المشهد قد تبدل وهو يعرض الآن مؤتمر حصري من داخل قصر الشاذلي الكبير بمصر .. والآن يعتلي أدهم المنصة ببزلته الكحلية التي تبرز جسده المعضل، ويقف على يمينه (مصطفى الشاذلي) والده، وإلى يساره كل من (سمر) و(ريم) أخته .. دق الميكروفون أمامه مرتين ليهدء صخب الجميع ثم تحمحم قائلًا برزانة: 
    - مرحبًا .. بالتأكيد يعلم الجميع اليوم سبب هذا المؤتمر .. لن أُطيل عليكم وسأدخل صوب الموضوع .. الجميع يريد مني إجابة على سؤال واحد وهو .. أين كنت طوال السنتان الماضيتنا، وما هو سبب الاختفاء؟؟
    
    زفر أدهم من وطأة هذا الحديث على لسانه، صدره يضيق ويأسر أنفاسه .. ترقب عيون الحضور التي تنضح بالفضول النهم ثم استكمل:
    - من سنتان، تعرضنا أنا وزوجتي لحادث..
    توقف ليأخذ نفس ليبتلع ما يموج بصدره، بعدها قال بصوتٍ قوي لا يهتز:
    - حادث شطر حياتنا لنصفين .. الجميع يعرفه ولا داعي لذكره .. لكني أقف أمامكم الآن وأعلن للجميع مسئوليتي عن ذلك الحادث .. مسئوليتي عن ضياع زوجتي، حبيبتي، المرأة التي بددت عتمة قلبي بوجودها!!
   نظر للكاميرات بتصميم وشيئًا بداخله يدفعه دفعًا ليقول هذا: أعلن لكِ فريدة أنني كنت السبب في كل ما حدث لكِ!!
    
    تقطعت سبل الحديث به هنا وتوقف لبرهة ليراقب بها الضجيج الذي عم القاعة بعد إعلانه ذلك .. قبل أن يكمل بصوت غلب عليه الإختناق من بعد قوة:
    - لم أستطع حمايتك كما وعدت .. آسف، أنا خذلتك!!
    
    أخذ شهيق حاد لينقذ بها روحه الملتاعه وهو يقطب حاجبيه ليغالب مشاعر الثائره كالتنور من اعترافه بتلك الحقيقة المظلمة .. سامحًا لنفسه بالتحرر أخيرا على مشهد من هذا الجمع:
    - تلك الفكرة، قتلتني لسنوات .. لسنوات لم أستطع أن أسامح نفسي، إحساسي بالذنب، كان ومازال يعاقبني بقسوة .. لذلك، لم أستطع أن أستمر معكِ في علاقة واحدة .. لم استطع أن أرفع عيني إلى ذهبيتك الزاهية وانا أمتلئ بالتقصير .. لم أستطع انا اراكِ تعانين مما أقترفته بحقك .. ولم أقوى على الاستمرار في ذلك العمل الذي أفقدني أعز ما أملك..
    
    شهيق آخر حارب به دموعه التي احتقنت بها حدقتيه، وهو يسمع الهمس الدائر بين الحضور، ما بين تأثر وصدمة:
    - لذلك تركت كل هذا وابتعدتْ .. ابتعدتْ لأنني لم أكن أهلٌّ بك،ِ ولأنني كنت أحتاج أيضًا للتعافي مما حدث .. أعلم أنني بدلًا من الإنسحاب المخزي كان يجب أن أكون أول الواقفين إلى جانبك، لتستندي إلى في رحلة مرضك .. أعلم أنني خذلك مرة أخرى .. آسف على ذلك أيضًا .. لكني أحببتك بالقدر الذي منعني من أن أظل بجانبك!! .. واليوم .. اليوم حينما رأيتك بهذا الكمال الذي اعتادت عينايَ أن أراكِ به .. عرفت بأنكِ أقوى إمرأة في الوجود .. عرفت بأنكِ لستِ بحاجة إلى أي شخص بجانبك .. حتى أنا .. تلك هي إجابتك التي سألتيني عنها صباحًا .. وأتمنى أن تكوني دائمًا وأبدًا بخير!! 
    
    ضجت القاعة فور إنتهائه ما بين تصفيق حار وتهافتت الأسئلة من فم المراسلين .. رفع أدهم يده في وجه العدسات وهو يرحل وسط مجموعة من الحرس تحاوطه، أبرزهم كان (ماتيو):
    - أعتذر، لن أستقبل أي أسئلة .. هذا المؤتمر كان ﻷجيب تساؤل أهم شخص في حياتي فقط!!
    
    سقطت فريدة على الأريكة، وسقط معها شيئًا بداخلها .. لا تعرف تحديدًا ما هو، تغلف مشاعرها طبقة من البلادة تعيق فهمها لما يحدث بداخلها الآن .. ما قاله، حسنًا، بالرغم من انها كانت بحاجة لسماعه إلا إنها لا تعرف لمَّ لم يعد يعنيها في شئ؟؟ .. تشعر بأنه قد تأخر على تقديم ذلك الاعتذار الواهي، حتى وإن كان على مجهره من الناس، يظل شيئًا بداخلها يرفضه ويخبرها بأنها لم تعد بحاجة له.
    
    في وقتًا سابق، وفي أحلك مراحل حياتها عتمة، كانت في حاجة مميتة لتلك الإجابة .. أن تستيقظ ذات صباح وتكتشف فقدانك لخمس سنوات من حياتك ناهيك عن السنة التي رقدتها في غيبوبة، إلى جانب الشلل الذي أكل روحها قبل وجهها..
    
    إنها لقمة البؤس!!
    
    لن تنسى أبدًا تلك المرحلة مهما إنقضى عليها الزمن .. ذلك لأن وطأ الاكتئاب الذي غام على روحها مازالت ندباته بائته داخلها حتى الآن .. مضى عليها شهور شعرت فيها بأنها حبيسة داخل جسدها، وكأن أحدهم قد سحب الكهرباء من حياتها .. قدميها ترفض التحرك، ووجها يرفض الاستجابة لها والتحدث .. مازالت تذكر حتى الآن عجزها حتى عن التوجع.
    
    الجميع يتحدث من حولها، الجميع يحاول أن يُسرّي عنها .. الجميع يعيش حياته، ولكن حياتها هي من جُمدت عن الحركة .. توقفت بطاريتها وفسدت كمياؤها .. يأتي نهار ويعقبه ليل، ليأتي نهار آخر يشبه كل أيامها.
    
    قد بدت للجميع هادئة كجثة تتنفس، حتى جفونها لم تَنكزها للحركة .. كانت تشعر بتعاطفهم وشفقتهم من أجلها، وللحقيقة كان هذا أسوء ما تعرضت له .. أنها عبئ ثقيل على أكتافهم، يحملون هَمّ يومها كل صباح .. لم تكره نفسها أكثر من هذا الوقت الذي كانت تعتمد عليهم، حتى في فتح جفونها التي كانت ترفض الاستجابة لها كل صباح .. كانت تُمسي وتُصبح على سؤال واحد لم يبرح خاطرها..
    
    لماذا حدث كل هذا؟؟
    
     الشعور الوحيد الذي وصلها من إختفائه في عِز محنتها .. أنها لم تعد صالحة بعدما حدث .. لم تعد صالحة له أو لغيره .. لم تعد صالحة حتى للحياة .. وهذا ما أودى بها لحالة اكتئاب جسيم، كان أشد قسوة من مرضها الجسدي .. جعلها توقن في بعض اللحظات أنها النهاية .. لما عليها أن تخوض حربًا كل يوم كيلا تستسلم ليأسها وتقتل نفسها .. عسى أن تنعم روحها بالسلام.
    
    لكن اليوم، اليوم هي تجاوزت كل ذلك .. اليوم أصبح ما حدث ماضي يثبت لها صدق قوله الآن .. أنها قوية .. وأي قوة تلك التي تكتسبها بعد ضعف!! .. قوة تجعلها ممتنة للمصائب التي منحتها إياها، وتمتن أكثر للأشخاص الذي صنعوا تلك المصائب .. 
    
    وعلى المُمتن رد الدين!!
    
    ●   ●   ●
    
    يوم جديد بنهار جديد، سطع على ذلك المضجع على الكرسي دون أدنى تغير في وضعه من البارحة، بكامل ملابسه بعد أن أغرق نفسه بالكحول كي ينعم بالسكينة، ولو قليلًا .. حسنًا، دكتور مايك سيكون مستاء حيال ذلك، ولكن -وللحقيقة- هو في حالة يرثى لها .. لا يتذكر ماذا حدث بعد المؤتمر سوى أنه عاد غرفته القديمة في قصر (الشاذلي) .. منذ سنوات توقف عن عدها!!
    
    ليلة أمس كانت من أقسى الليالي التي مرت عليه على الإطلاق، ما قاله في المؤتمر من جهة، وكونه كان مجبر على المبيت في القصر بعد خروجه منه وهو إبن عشر سنوات جهه أخرى.
    تذكر حواره الحاد مع والده بعد انتشار خبر عودته المفاجئة صباح أمس، في حين أنه لم يخبر والده قبلها .. لم يرى والده بذلك الغضب منذ أن كان في السادس عشر من العمر، حينما اخبره بقرار سفره لألمانيا.
    
    وبطبيعة الحال، وبعملية شديدة، تصرف والده وأجرى اتصالته وفي نهاية اليوم كان قد أنقذ الموقف بعمل مؤتمر صحفي في قصره؛ حتى يتحاشى إنقلاب الإعلام ضد عائلته، وليس أدهم فقط .. وفي ظل كل هذا، لم يتخذ أدهم أي موقف لمعرفته بأن والده قد يسامح في أي شئ، إلا سُمعة العائلة .. اللعنة على سُمعة العائلة!!
    
    أراد أن يخبره بهذا، ولكنه حينما فكر مليًا في الأمر، وجده أنه أفضل لينقذ به الوضع .. من جهة يُرضي فضول الإعلام .. ومن جهة أخرى يرضي تلك المالكة لقلبه، بعدما رآه من تغيير جذري هذا الصباح تغلغل لديه شعور عميق بأنه لا يعرفها .. رغمًا عنه وصلته تلك الهالة التي تحيطها من تبلد مشاعر ولامبالاة .. هذه ليست بفريدة .. نعم، لم يتوقع أن يتحقق حلمه وتأخذه بالاحضان، لكن ليس أن تكون قادمة من القطب الشمالي هكذا!!
    
    أيا يكن، يتمنى أن يكون قد أدى رسالته وما عاد من أجله بصدق، ويتمنى أن تكتفي بما قدمه لها من إجابة، وتنتهي القصة بينهما عن هذا الحد، وأن تتوقف أسئلتها وبحثها .. هو لا يريد توريطها معه أكثر .. يعلم الله أن أكبر أمنياته هو أن تتجاوزه فريدة .. نعم، تتجاوزه وتتجاوز حياتها القصيرة معه بكل ما تحمله من ندبات .. هو ﻷول مرة -وبصدق خالص- يتمنى لها حياة طبيعية بدونه، فقط حياة طبيعية حتى لو كانت مع ذلك الكائن اللّزج مراد .. فربما هو خيرًا منه .. بغض النظر عما فعله بالصباح، وأنه بنسبة كبيرة هو من أخبر الإعلام عن وصوله مصر، ولكن لنسأل السؤال الأهم، هل فعل هذا من تلقاء نفسه، أم أن فريدة قد استعانت به .. حسنًا، يكفي أنها قد أخبرته بمحادثتهما معًا!!
    
    إسودت عينيه وهو يتخيل إتفاقهما ضده لعتصرها موقفًا تلك الصورة قبل أن تتولد منها صورًا أكثر بشاعة .. ليتذكر جلساته مع دكتور مايك ويأخذ شهيق قوي يزفر به كل الأفكار السلبية التي بعقله.
    
     بالنهاية مراد لم يتركها حتى الآن كما فعل هو!!
    
    مستعد لدفع ما تبقى من عمره في سبيل تحقيق أمنيتها التى ظلت تبحث عنها في علاقتها معه .. الحقيقة أنها ظلت تبحث عنها طوال حياتها.
    يتمنى أن تلقى السلام النفسي باقي حياتها!!
    
    ماذا سيفعل أو ما هي خطته القادمة .. لا يعرف .. حقا لا يعرف شئ سوى أنه سيعمل على تأمين حياتها في غيابه .. سيضمن خروجها من عالمه مهما كلفه الأمر .. هذه هي مهمته الأولى والأخيرة، مثلما أدخلها ظلامه سيضمن خروجها للنور من جديد .. فقط يأمل أن تتوقف هي عن البحث والتقصى حول ما حدث، صدقًا هذه هي المساعدة التي يمكن أن تقدمها لكليهما.
    
    أما بعد، فسيعود لحياته، لعمله، لتناقض عالميه بين رجل الأعمال النزيه، ورجل المافيا السادي .. ليس أمامه شئ ليفعله حيال ذلك، لقد حاول، وتشهد السماء بأنه كان مستعد لبذل دمائه فداء ذلك، ولكن ليتها ستنتهي حد دمائه وحده!!
    
    مسح وجهه ورتب شعره ثم نهض وارتدى سترته وجمع أشياءه بسرعة وهبط .. في هذا الوقت المبكر من الصباح كان الجميع ملتفين حول طاولة الطعام لتناول الإفطار .. ويقصد بالجميع، والده، و(سمر)، و(ريم) .. تلك الصغيرة التي عادت منذ أربعة أشهر لتستقر بجانب والدتها بعد إنتهاء فترة دراستها بألمانيا .. حسنا، لقد أشتاق لها، يجب أن يتذكر الجلوس معها قليلا لمعرفة تتطورات حياتها كأي أخ يهتم بأخته، خصوصًا وهي تتجنبه منذ عودته، بعد معرفتها بكونه كان مُختفي بمحض إرادته.
    
    - صباح الخير!!
    قالها أدهم سريعة وهو يقف على أعتاب الغرفة يأبي الدخول، فقط يثبت حضوره ليس أكثر .. ليلتفت له الجميع بنظرات، حسنًا، أقل ما يُقال عنها أنها تطفح تساؤلات لا نهاية لها .. تحدث والده بعملية: 
    - صباح الخير أدهم .. تعالى واجلس!!
    - لاحقا، ليس لدي وقت الآن!!
    قالها أدهم وهو يرحل بالفعل، لم ينتظر الإجابة حتى منها .. ألقت (ريم) أدوات الطعام بغضب على الطاولة وهي ترمق طيف أدهم .. لتتبادل سمر ومصطفى النظرات فيما بينهما قبل أن تسألها سمر بنبرة حانية:
    - ما الأمر حبيبتي؟؟
    - ألم تروا كم الاستفزاز الذي يعاملنا به؟! .. يتصرف وكأنه لم يفعل شئ!!
    هتفت بها ريم بسخط وهي تلتفت بكامل جسدها لوالدتها .. لترمي (سمر) نظرة غاضبة تجاه (مصطفى) ليعرف أن عليه قول شئ ليمتص غضب صغيرته:
    - ريم .. حبيبتي، أنظري، ما حدث لأدهم ليس بهين لذلك اعطيه بعض الوقت.
    -  وقت!! .. هو آخر شئ يحتاجه هو الوقت!! .. اختفي بإرادته لأكثر من سنتان ونازال يحتاج ل (وقت)!! .. اعذرني أنت بابا، لو كل شخص أحب وتعرض ﻷزمة قاطع بها الجميع لسنوات، لن يعرف أحدنا الآخر!! .. بابا، لو أنت سامحته على فعلته هذه، فانا لن أسامحه على قلقي وخوفي وبحثي عنه طوال سنتان!!
    
    صبت ريم كل ما تحمل من مشاعر ساخطة تجاه أدهم وفعلته وهي تشدد على كل كلمة، دليل على جديتها في ذلك .. ومن ثم نهضت هي الأخرى.
    
    نادتها والدتها أكثر من مرة قبل أن تلتفت بغضب تجاه مصطفي الذي كان قد إلتزم الصمت: 
    - أيعجبك هذا؟؟
    - ماذا تريدني أن أفعل؟؟
   أردف مصطفي من بين شفتيه المزمومتان بتملل .. لتستعر خضراوتيها بالغضب وهي تجز على أسنانها من بروده: 
    - تصرّفْ!! .. هذا هو نهاية تعلقها بالشديد أدهم .. هذا ما كنت أخشى منه .. ابنك يؤثر سلبي على ابنتي!!
    - هي أخته .. لا تنسي هذا!!
    - ريم مازالت صغيره، والمصيبة أنها تأخذه قدوة!!
    - هذا من حسن حظها، وإلا لو كانت أخذتك أنتِ القدوة لكانت مصيبة حقًا .. سلام!!
    
    عضت سمر على اصابعها غيظًا ثم طاحت بالصحون التي أمامها متوعدة بنفسها: 
    - صبرًا مصطفى، سأجعلك تموت حسرة عليه!!
    
    ●   ●   ●
    
    صرف (ماتيو) وأدار سيارته دون سائق أو حرس .. خرج بلا وجهة، فقط لا يطيق وجوده بهذا القصر طويلًا، يشعر بالاختناق، الذكريات تحاوطه في كل ركن منه، حتى مع التجديدات التي اجرتها تلك الأفعى مازالت أشباح الماضي تشتم طريقها إليه.
    زفر وهو يعبر البوابة الرئيسية للقصر ويقرر بداخله بأنه سيلهي نفسه اليوم بأي شئ ليستقل بالمساء طائرته عائدًا إلى موطنه .. كاليفورنيا، حيث بدأ كل شئ وانتهى!!
    
    نعم، هو لم يُعدّ مصر كموطنه يومًا .. لم يشعر أبدًا بذلك الحنين الجارف الذي ينتاب كل مغترب خارجها .. يقولون أن الموطن بالأصل هم الأشخاص، وليس البلدان .. وهو لم يكن لديه أبدًا أشخاص هنا يشتاقونه ويشتاق لهم .. بالعكس، كان يمقت وجوده بها ﻷجل هؤلاء الأشخاص .. حسنًا، لم يعد يهم، هو راحل هذه المرة، وإلى الأبد .. حتى وإن كان لديه مَن يشتاق لهم الآن!!
    
    في جَوّف شروده، تفاجئ بسيارة تقطع عليه طريقه بشكلًا عارض، ليكبح مكابح سيارته في اللحظة الحاسمة قبل الإصطدام بها .. وبداخله تولدت شحنة من المشاعر القاتمة التي هو على وشك صبها على هذا المعتوه.
    
    ترجل من سيارته بجسد متشنج صوب السيارة وقبل أن ينبس بكلمة واحدة، كانت نافذة السيارة تتدلى وتكشف عن هوية سائقها: 
    - أركب!!
    
    ●   ●   ●

       مرت خمسة دقائق على وجوده بجانبها في سيارتها الصغيرة مقارنة بسيارته الفارهه، وكان الذهول سيد الموقف .. حقًا صدمته بمجيئها لمنزله ومقاطعتها لطريقه هذا الشكل الغريب علي شخصية مثل فريدة!!
    
    لا يعرف لما كل هذا التوتر الذي ينتابه في وجودها؟؟ .. يمكن ﻷنها بجانبه، رائحتها المركزة في السيارة تتغلغل دون إذن لتتشعب بين كريات دماءه .. أم أنفاسها المنتظمة التي تدل على هدوء أعصابها عكس ما هو به .. أم أن أحساسه بالذنب الخالص تجاهها يؤرقه .. نعم، هو لا يحتمل الوجود بجانبها في مكان واحد، شيئا ما ينهشه من الداخل، وكأن أعضائه تحاربه كما تحارب ميكروب يخترق الجسد .. رمته فريدة بنظرة جانبية وهي تركز عينها على الطريق لتقول بعدها ببلادة: 
    - لم تسأل إلى أين أأخذك؟؟
    حقا لم يعرف بماذا يجيبها، ولكنه نظر لها بتساءل في نهاية الأمر .. لتهز رأسها بعدم إكتراث وتقول بعدها بلهجة تقريرية: 
    - بعدما حدث من الصعب أن نتواجد في مكان عام معًا، سأذهب إلى مكان يمكننا التحدث به دون إزعاج الإعلام!!
    
    حسنًا، لمَّ كل حرف تلفظه يؤكد له بأن التي بجانبه تختلف عن تلك المرأة الني شاركها الفراش من قبل؟؟ .. خرجت منه تنهيدة مستسلمة رغم قلقه من المواجهة بينهما .. صحيح بأنه قد غضب مما حدث في المطعم أمس، إلا أن شيئًا بداخله تنفس ﻷنه لم يكمل تلك المناقشة الحادة بينهما .. لكن، الآن هو مجبر على الخوض بها، تبًا، قد ظن أنه بمؤتمر أمس قد وضع النهاية لقصتهما البائسة!!
    
    تأملت حركاته العصبية بجانبها بلامبالاة وهي تنحرف بسيارتها يمينًا، لتصعد ذلك الكوبري المؤدي إلى مكانها النشود، لتسمعه يسألها بنبرة نافذه الصبر:
    - ماذا تريدين الآن، فريدة؟؟ .. ألم ننتهي بعد!!
    هزت رأسها دون أن تنظر قائلة بنفس درجة البرود التي تستفزه: 
    - لا، لم ننتهي .. إذا لم تنتبه، أنت لم تجاوب على سؤالي بعد!!
    - أي سؤال .. لقد أعلنت كل شئ على الملأ البارحة!!
    
    أوقفت السيارة في مكان شبه صحراوي ليس به إلا حافلة متنقلة للطعام سريع متوقفة على جانب الطريق .. خلعت نظارتها الشمسية وأردفت:
    - ماذا تأكل؟؟ 
    تعجب من تغييرها لدفة الحديث ليطول صمته حتى أتت إليهما فتاة ترتدي قبعة وزي يحمل شعار عربة الطعام .. أنزلت فريدة نافذه السيارة لتمنحها الفتاة قائمة طعام ورقية: 
    - ماذا تطلبان .. لدينا قائمة رائعة اليوم؟؟
    قالت فريدة دون أن تنظر للقائمة:
    - أعطيني عصير فراولة مع (شيز كيك) 
    إلتفتت ﻷدهم وسألته:
    - ماذا تريد؟؟
    حدقها بنظره "هل أنتِ جادة؟؟" ثم قال بالنهاية:
    - قهوة سادة من فضلك!
    
     إنصرفت الفتاة لتجلب الطلبات لتقول فريدة بعد فترة صمت كانت تتخللها نظرات أدهم النهمة لملامحها .. لكل ما يخصها .. كانت تبدو هادئة أكثر من اللازم، ولكن نظراتها مع ذلك حذرة .. وكأنها تشعر بالخطر يحاوطها .. وربما جالس معها!!:
    - أشعر بالراحة كلما أتيت إلى هنا .. الفضاء يغذيني بالحرية.
    لم يستطع أن يمنع نفسه من أن يجاريها في الحديث: 
    - من أين تعرفي هذا المكان؟؟
    رمقته بحذر لجزء من الثانية قبل تشيح بوجهها للخارج: 
    - منذ أن كنت أعرف كل شئ عن نفسي يومًا!!
    جلبت لهم الفتاة الطلبات في معلبات كرتونية لتشكرها فريدة وهي تناول أدهم قهوته وترتشف من عصيرها، وكأنه إكسير الحياة .. ظهرت ابتسامة مرتاحة على وجهها، فكانت أول شئ يُدخل السرور إلى قلبه منذ .. منذ رحيلها!!
    
    رغم عنه وجد نفسه يبتسم بينما ترواده ذكرى تلك الليلة التي جمعتهما في المطعم الإيطالي، وأرادت تناول نبيذ معه ليستبدله لها بعصير الفراولة .. ودون سابق إنذار، صعقته صورة (لوكاس)، ومن بعدها إجترت الاحداث تباعًا، حتى وصل لما فعله بها فأكفهرت ملامحه وفقد شهيته، حتى في وجوده معها!!
    
    أفاق من شروده على قولها المباغت: 
    - أنا أسمعك!!
    نظر لها بعد فهم، لتضيف بعد أن مضغت قطعه من الكعكة: 
    - لا أنكر أن حديثك البارحة كان مؤثر للغاية، لكنك لم تُجب على سؤالي بعد!! 
     زفر وهو يمسح وجهه بإرهاق بائن من عنادها .. حسنًا، ها قد عادت فريدة التي يعرفها عن حق!! .. شبح ابتسامة تجلى على شفتيه ما إن تذكر روحها العنيدة المحاربة .. غالبه شعور بأن هذه المرة ليس هناك بد من المواجهة الحتمية .. القادم بعد ذلك كله إنهيار!!
    
    شحنات متنافرة بداخله تخوض حرب شرسه، لتجد مخرجًا من هذا الموقف .. ماذا عليه أن يخبرها الآن؟؟ .. فليرحمه الله على هذا العناء!! .. هو فقط لا يتحمل رؤيتها أمامه كفيلة بتذكيره بما فعله بها، إذا كيف سيقص كل ذلك عليها؟؟ .. لا، لا يحتاج الأمر لتفكير، لا ينبغي لها أن تعرف شئ!! .. ليس لشئ سوى لخوفه عليها، من أن يصدمها من جديد، هي ليست مهيئة لذلك بتاتًا!!
    
    تنفس ليُثبت على وجهه قناع صِنديد من البرود المتاهي .. قناع أدهم رجل الأعمال الأشهر الذي لا يأبه لشئ .. أرتدي نظارته الشمسية ليضفي لنفسه مزيد من الحماية خلف زجاجها الأسود .. سألها بلامبالاة: 
    - ماذا تريدين أن تعرفي بالتحديد؟؟
    أجابته على الفور:
    - ما حدث قبل الغيبوبة؟؟
    جمع يديه في شكل قبضة حتى لا يكشف توتره: 
    - تقابلنا، أحببنا بعضنا، وتزوجنا .. النهاية!!
    ألقت فريدة الكوب من النفاذه ليتناثر على الارض الرملية أكثر من نصفه، ثم أخذت محارم لتمسح فمها وتحدثت بعدها بنبرة غير مهتمة: 
    - مذاقه حامض!!
    إستدارت له بكامل جسدها لتواجهه: 
    - أخبرني، لمَّ لدي شعور بأنك تعرف سبب الحادث أو على الأدق تعرف مَن فعل هذا بي؟؟ .. لذلك، أنت تماطل معي الآن في الحديث!!
    
    فَصّلتْ كل كلمة بمفردها عن التي تليها .. خروجها عن طور البرود يعني أنه قد أستنفذ فرصهُ في المماطلة فالأمر .. حث نفسه على الحديث أكثر، ولكن لم يخرج منه سوى الصمت وكأنه طفل صغير أقترف ذنبًا ويخجل من الإعتراف به أمام والدته!! .. لذلك تحدثت هي بلهجة جليدية لم تخرج منها من قبل: 
    - حسنًا، أدهم .. أنزل!!
    
    رمقها بصدمة لم تبد عليه ولكنه حقا تفاجئ .. برب السماء، مَن هذه المرأة!! .. كررت بعصبية وهي تعتدل في جلستها لوضعها السابق: 
    - أنزل حالًا!!

    ●   ●   ●
    
    واقفا هو على قارعة الطريق مازال يحدق يطيف سيارتها مشدوها مما فعلته معه الآن!! .. هل حقا طردته من سيارتها؟؟ وهو إستجاب لها بهذه السهولة .. ظلت ملامحه متجمدة لبضع ثواني قبل أن ينتبه للفتاة التي كانت تراقب ما حدث من الرصيف المقابل له بفضول، ونن ثم انفجر ضاحكا .. ضحكات فك أسرها كما لم يحدث بعمره كله!!
    
    إحساس لذيذة من النشوة المنعشة التي غزت روحه فأعادت لها الإستمتاع بالحياة .. يشعر لأول مرة منذ زمن بأنه على قيد الحياة .. جديا، ماذا يحدث له؟؟
    
    منح الفتاة إشارة ترحيب من بعيد ثم فتش بسترته على هاتفه ليخرجه ويهاتف (ماتيو) حتى يأتي له في أسرع وقت .. عبر الطريق تجاه الحافلة وسأل الفتاة بحالة مزاجية مرحة بالكاد يخفيها: 
    - هاتِ كل ما لديكم للإفطار!!
    
    ●   ●   ●
    
    - "مراد" .. أعد محادثي حينما تكون متفرغ!!
    بعثت فريدة بهذه الرسالة الصوتية وهي تدور حول نفسها .. لا تصدق أنه أتضح كونه وغد إلى هذه الدرجة .. صحيح بأن حدسها أخبرها بشعور سئ حينما رأته ولكن أن يرفض مساعدتها في تذكر أي شئ عما حدث!!
    
    حسنا فريدة من المفترض أن تكوني قد اعتادتي على الأمر الحياة مليئة بالأوغاد وهو واحد منهم .. فقط لا تعرف في ظل أي ظروف سوداء تزوجت شخص تخلى عنها في مرضها، ويرفض مساعدتها في محنتها!!
    
    بسرعة كانت قد أعادت ترتيب أوراقها، لن تيأس ولن تهدأ حتى تعرف ما خادث حتى لو كلفها هذا الأمر الذهاب لكل مكان خطته قدمها يوما ولو صدفها طوتل الخمس سنوات!!
    
    سحبت حقيبة سفرها من جديد، وجمعت أغلب ملابسها فهي لا تعرف أي مدة ستمكثها هناك .. نعم، لقد عقد العزم على السفر إلى كاليفورنيا .. لتكشف حقيقة ما حدث بنفسها!!
    
    ●   ●   ● 
    
    ومع غروب الشمس جلست فريدة في صالة الإنتظار تترقب عودة مراد الذي رضخ لقرارها رغم عنه، وها هو يحاول إنهاء إجراءات سفرها بأسرع ما يمكن بعد صممت على رأيها ولم يستطع هو أو سارة إثناء عن ذلك .. لكنه لم يستسلم وهاتف والدتها وأخبرها علَّها تنجح في إثناءها عن ذلك .. وهي الآن تخوض معها معركة كلامية في هذا الشأن: 
     - ماما، من فضلك فيما تحدثيني؟؟ انا في المطار وكلها دقائق وينهي مراد إجراءات سفري!!
    جاءها صوت (منى) المنفعل: 
    - لا يهمني، عودي الآن للبيت!! .. أهذا ما جعلتيني أسافر من أجله؟؟
    - لا أستطيع!!
    هتفت بها فريدة بحدة ثم مسحت وجهها لتهدئ:
    - ماما أفهميني أرجوكِ!!
    - لماذا كلما تنصلح بيننا الأمور تعودي لتسيئها؟؟
    عاتبتها والدتها بصوتٍ مزقها من الداخل ولكنها تماسكت قائلة: 
    - يوما سنكون مثل أي أم وإبنتها، أعدك بذلك!! .. أم الآن فلا يسعني سوى أن اخبرك بأنني مجبرة على ذلك .. مع السلامة أمي!!
    
    شارفت أكثر من ساعة على الإنقضاء ومازالت فريدة بإنتظار مراد .. هاتفته أكثر مرة لتجد الرد عليها واحد .. الهاتف مشغول!!
    
    القلق تسلل إلى أعصابها حتى أنها لم تستطع المكوث طويلا ونهضت لتستطلع الأمر، فوجدته مقبل عليها، ولكن بوجه غير الوجه!!
    
    - لمَّ تأخرت كل هذا؟؟
    عاجلته فريدة بالسؤال، لتجيبها ملامحه الممتعضة بالحيرة ليستعر قلقها، ولكن بالنهاية أخرج أمام عينها تصريح مختومة بختم الجهات المختصة من الجوازات ووزارة الخارجية .. تلقفت فريدة منه الورقة وملامحها تفسر تعكس ما تقرأه .. ثم رمقته برجاء لينكر ما في هذه الورقة، ولكنه هز رأسه بأسف قائلا:
    - أنتِ ممنوعة من السفر!!
    لم تبد على ملامحها انها قد أستوعبت ما قال، ليضع يده على كتفها مسترسلا:
    - فريدة، كل هذا الوقت كنت أحاول أن أفهم لمَّ إسمك مدرج ضمن قائمة الممنوعين من السفر، ولكن للأسف، لم أصل لشئ!!
    
     هوت بجسدها للمقعد خلفها وقد توقف عقلها تماما عن تحليل وضعها الحالي .. ممنوعة من السفر؟؟ .. ماذا يعني هذا؟؟ .. وما السبب وراءه؟؟ .. أمسك برأسها تجذبه دون إراده، لا تفهم شئ .. قالت بتخبط بين الغضب والصدمة:
    - كيف .. يفعلون هذا وأنا أمضيت ستة سنوات من عمري هناك أدرس وأعمل، بل وتزوجت من مواطن أمريكي!! .. كيف يفعلون هذا وأنا مواطنة أمريكية؟!
    
   علا صوتها في نهاية حديثها لتلتفت الأنظار إليهما، فسحبها مراد من ذراعها وهو يحاول تهدئتها بينما كانت فريدة تأبي الذهاب معه وهي تريد أن تتفقد الأمر مرة أخرى بنفسها على أمل أن يكون هنا لبث أو تشابه بالأسماء أو أي خطأ ينفي مصيبتها .. لكن كيف وهذا إسمها مرفقه معه صورتها .. اللعنة كيف؟! 
    
    بعد قليل، كانت قد ركنت إليه وبدأت تتقبل ما حدث وتنصت لحديث المهدئ وتفكر ما قد يكون السبب .. وفي غمرة كل هذا، ولحظة خروجهما من المطار ليستقلوا السيارة عائدين للمنزل .. عبرت سريعا من أمامهما سيارة (جيب) سوداء، أمطرتهما بوابل من الرصاص الحي، ذاع صداه في أرجاء مطار القاهرة الدولي!! 

    ●   ●   ●
    
#يُتبع