-->

NEVER LET ME GO 3 (AFTER BURN) - الفصل السادس


الفصل السادس

"أريدك بمقدار ما لا أستطيع أخذك،
وأستطيع أخذك بمقدار ما ترفضين ذلك،
وأنتِ ترفضين ذلك بمقدار ما تريدين الاحتفاظ بنا معا،
وانا وأنتِ نريد أن نظل معا مقدار ما يضعنا ذلك في اختصام دموي مع العالم!!"

من رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان
•¤•¤•¤•


ماتت الكلمات بينهما..

ثواني تمضي وعيناهما قد تجمدت في لقاءٍ تشعبت اتجاهاته وتقطعت به السُبل .. هو هناك حيث ظلام عالمه .. وهي هنا وقد صعقتها قسوة الواقع!!


أي نوع من بـنيّ آدم هو؟؟


هذا ما تردد بذهنها، وقد تراجعت بضع خطواتٍ بفعل الصدمة ومازالت ذهبيتها مسلطة عليه .. تمتمت بعد أن اتخذت من الحاجز الرخامي دفاعًا:

- مافيا؟!

ثم أمسكت رأسها وكأنها تثبت موضع عقلها بعد هذا الجنون الذي سمعته .. المنطق بداخلها يستنكر سفاحة استباحته لذلك الجُرم، مما جعلها تغمغم وكأنما تحدث نفسها:

- أليس لقذارتك أي حدود؟!


دارت حول نفسها وكأنها لا تعرف بأي موضع تَحط قدمها .. ثم كركرت بألم خالص وعين تتوسع بعدم تصديق لتقرر واقع مرير:

- انا كنت متزوجة من مجرم حقيقي ضليِع الاجرام!!

حبست نفس بداخلها سيطرت به على فورة من المشاعر، ومن ثم رمقته بطريقة حذرة:

- حسنا، هذا يفسر الكثير .. الآن لا عجب فيما حدث لي!!


لم يختفي أثر الذهول من صوتها، ولذلك لم يجيبها أدهم واكتفى بترقبها بتعابيره التي ازدادت احتداد .. حتى استرسلت باحتقار وشراسة:

- أتعرف؟؟ .. أتمنى أن أرى فريدة التي أحبتك لأبصق بوجهها!!


تلقف جملتها ليطرق برأسه ﻷكثر من ثانية، وعندما رفع عينه لها قد تبدلت نظرته ﻷخرى ماكرة بينما يثني ثغره ببسمة ساخرة:

- لمَّ تتحدثين عن نفسك بصيغة الغائب؟؟ .. واجهي الحقيقة فريدة، أنتِ مَن أحبتني!!

زمت شفتيها من حديثه لترسم بعدها ابتسامة صفراء أثارت استفزازه بينما تميل بجزعها قريبًا منه متمتمة:

- لم تخمن جيدًا!! .. فريدة التي تعرفها فقدتها مع ذاكرتي!!

ثم ربتت على كتفه في تهكم:

- تعازيَّ الحارة سيد أدهم!!


اهتاجت أنفاسه واحتدم وجهه بلفحة من الغضب .. حدقتيها المتقدة بشراسة، حديثها الذي يعبث بأعصابه، لغة جسدها المتحفزة للدفاع .. كل ذلك أنبأه بأنها شخص غير الإنسانة التي يهيم بها عشقًا .. وكم أنهكت قلبه الجريح تلك الحقيقة!!


أشتد على قبضته ليُلجم انفعاله الذي انساق وراء استفزازها .. اهدأ أدهم، هذا هو الإختبار الحقيقي لتلك الشهور التي قضيتها في التأهيل النفسي؛ لذلك شهق بعمق ولم يعقب على حديثها وآثار الصمت علَّه يمتص صدمتها.


تخبطت فريدة حول نفسها مرة أخرى وقد أدركت لتوها حجم الورطة التي هي بها، جذبت شعرها بتفكير ثم وجهت بصرها له وقد بدى أنه عاد ليُلهي نفسه بما كان يطهوه .. لتندفع إليه بخلقه غير الخلقه وبحركة مفاجأة أطاحت بكل ما كان أمامه على الطاولة .. انتظرت حتى حصلت على اهتمامه، بل أكثر من ذلك، عينيه تطلب تفسير منطقي سريع وإلا فلت منه زمام السيطرة أمام عينيها، التي كانت تبرق بجنون لا تعرف ما يسمى بالمنطق الآن:

- أخبرني الآن الحقيقة دون تزيف .. أنت منعتني عن السفر ليس لحمايتي كما أخبرتني أمس، منعتني من السفر لتسهل لهم قتلي، وعندما نجوت من رصاصهم أختطفتني هنا لتكمل ما فشلوا به .. صحيح؟!


انقبض صدره وانعقد تنفسه من اتهامها الجاسف .. آنى لها أن تظن به شيئًا كهذا؟! .. نفى دون تردد بصدق وبعين متسعة:

- لا!!

تراجعت وهي تبتلع أنفاسها وبات أنها قد صدقته لجزء من الثانية، وبحركة مباغته كانت تسحب السكين من يده وتصدد له دفعة قوية بصدره، جعلته يرتجع رغمًا عنه واصطدم بالبراد خلفه، لتهجم عليه بعدها وتحاوط أسفل عنقه بعرض ذراعها الأيسر، في حين تضع السكين باليمنى على مقربه خطيرة من عنقه.


صعقته بنظراتها المفتقدة للتعقل وهي تهدر به:

- كاذب .. مجرم مثلك معتاد على الكذب والقتل!!


أنفاسها المتهدجة تلفح وجهه، رائحتها الزكية تتغلغل إلى ثنايا قلبه، وتلك الخصله المبتلة التي انزوت على عينها أضفت لسحرها سحر .. للحظة نسى تهديدها واتهامها، وانجذبت روحه لها كما ينساق المجذوب للندّاهة .. أراد أن ينفي اتهامها فتخنقت أنفاسه، رفع يده يخفف من ضغط ذراعها الثابت على عنقه، فزجرته بضغطة أعنف سمع بعدها صرير أسنانها.


كانت تتفرسه بذهبيتها التي تندلع بها شرارات الغضب والعدوان، لا ينكر تفاجؤه حقًا بقوتها الجسدية المستحدثة، ومهارتها في الدفاع التي أبهرته، فلم يغفل عن تحول جسدها الواضح من النحافة المثيرة التي كانت عليها لجسد رياضي متناسق في عضلاته النسائية .. يديها اﻵن ثابتة كقبضة من الفولاذ، هذا مثير للإهتمام!! .. ورغم قدرته على تحجيم حركتها، ودون حتى أن تدرك هذا، إلا أنه وجد متعة عجيبة في استسلامه لها، مستمتعًا بقربها منه حتى ولو كانت على إستعداد لحز رقبته بهذه السكين!!


تحشرج صوته كمن يجبر على التحدث وقطع متعته:

- صحيح انا مَن منعتك من السفر ولكن خوفًا عليكِ .. وانا بالفعل لا أعرف إذا كانوا هم مَن وراء حادثك أم لا!!؛ لذلك أحضرتك هنا لحين أتبين الأمر دون أن تكون عرضة لمحاولة إغتيال أخرى!!

قربت السكين من عنقه أكثر بتهديد وهي تهسهس من بين أسنانها بشراسه:

- بالطبع ستدافع عن العصابة التي تَضلّع بها!!

ردد على الفور بنبرة جامدة لا تخضع للشك:

- ليس فيما يخصك أنتِ فريدة!!

ظللت قسمات وجهها الكراهية والسخط:

- كنت ﻷصدقك لو كان ذلك الحديث من رجل غير الذي كاد يُودي بي للموت!!


انتابه الشك للحظة، ولا يعرف لمَّ شعر وكأنه يخاطب فريدة التي يعرفها الآن .. كراهيتها خالصة، لا تترك له منفذ للأمل، ولا تدع له معها مجال للدفاع .. ضغطت رسغها على عنقه أكثر غير عابئه بصوت أسنانه التي اخترق اذنها، لتأمره بلهجة حاسمة:

- واﻵن، أدر تلك المركب اللعين وأعدني، وأختفي بعدها ثانيةً .. لا أريد أن أراك مرة أخرى!!

حبس أنفاسه لثانية وهو يدير عنها النظر قبل أن يعود ويكرر بلهجة تنافسها صلابة:

- أعدك بذلك فور أن أطمئن أن حياتك بأمان!!


ارتابت نظراتها بصدق حديثه، ولكن عينيه كانت ثابته خالصة لا تقبل الشكك .. تنابت بداخلها رغبة بتصديقه، للحظة سقطت كل دفاعاتها لتهمس له مستجديه إيجابه:

- أنظر لي أدهم، وأخبرني أن المافيا هم مَن أطلقوا النيران علي!!َّ .. هم من دبروا كل هذا .. هم أيضًا مَن كانوا وراء الحادث الذي أفقدني ذاكرتي، وأن تلك القصة التي أخبرتني بها من ابتكارك .. أنت لست كذلك، أنا لم أقع بحب مجرم سادي .. أخبرني بذلك وسأصدقك أيما تقول!!


تجمد الهواء من حوله تلك اللحظة .. ذلك الإستجداء المميت هو يعرفه، يجعلك تشعر وكأنها على شفا الموت إذا أعطيتها عكس ما تريد .. ذلك الإستجداء اليأس استدعى بذاكرته مشهد كان هو من يستجديها به، يتوسلها ألا تعطيه الإجابة القاتلة .. أن تمنحه أي كذبة يزود بها عن الحقيقة البائسة، ولكنها خذلته حينها وأضرمت النار داخله بكلمة .. كلمة لعينه حطمت كل ما بينهما يوما .. كلمة أوصلتهما إلى ما هما به!!


والآن، لكم يتمنى لو أن ليس مجبر على قولها ثانيةً .. ماذا سيحدث لو منحها ما يريحها؟؟ .. الأكبر من هذا أنه تمنى أن يكون الوضع بالفعل كذلك!!، ووجد نفسه يتساءل داخله، لمَّ هو الشخص الذي عليه، لمَّ لم يكن سوي عاشق مُحب؟؟ .. لمَّ لم تجمعهما ظروف غير الظروف، عالم غير العالم البشع الذي هما به؟؟


لمَّ بالأساس نحن هنا فريدة؟!


بعالم موازي، ليس به كل المساوئ التي نحيا بها .. كنا سنتلاقى .. سنحب بعضنا حب خالص، ليس به أي شروط أو رغبات مخبئة .. كنا سنتزوج ونحيا حياة طبيعية سوية، كأي زوجان .. ومن الممكن أننا سنرزق بطفل، أطفال رائعين يشبهونا .. نحيا معهم أروع حياة هادئة مثالية!!


مثالية؟؟


حسنًا، هنا يكمن الخطأ .. بعالمنا الحقيقي العاهر، ليس هنا ما يسمى بالمثالية!! .. لذلك نحن هنا فريدة، ولذلك إجابتي ستكون:

- آسف فريدة .. انا المسؤول الوحيد عما حدث لكِ!!


صوته جريح، أنهكه عثرات الزمن .. صوت لم يبث بما يحمله من صدق سوى مزيد من الخيبة والألم والخذلان بروحها .. لذلك تراخى ذراعيها ليسقط السكين منها كجندي خاسر بمعركة حاسمة!! .. تمتمت له بصوت مختنق وهي توليه ظهرها وتتخذ خطواتها مبتعدة عنه:

- عُد بي حيث أخذتني .. فانا لا أأتمن على وجودي مع شخص مثلك وحدنا!!


لا كلمة بعد الآن؛ فلم يبق شيئا يقال بينهما. .. على صعد هو الآخر جهة غرفة القيادة ممتثلا ﻷمرها ظاهريًا ليهرب من حقيقته المخزية التي بات يراها كبزوغ الشمس في انعكاس عينها.


● ● ●


انقضى النهار سريعًا دون أن يعقبه أحداث، بينما يبرح أدهم مكانه بغرفة القيادة، يقوم بتحريك اليخت في نفس مدار المنطقة الإقليمية الملتزم بها، ليُوهمها بأنهم في طريق العودة؛ كي يكسب وقتًا يُسعفه في التفكير في حل.


ضبط وجهة التحرك ليتثنى له دخول جناحه العلوي في هذا الطابق ليرتاح لبعض الوقت .. بجسد أنهكه تكالب الأحزان -وليس التعب- اضجع الفراش وهو يضع ذراعه أسفل رأسه، لتنجذب عينيه لمشهد الأمواج من هذه الواجهه الزجاجية الكبيرة التي تفتح الجناح على البحر، وكأنه ينام وسط أمواجه، لتندمج مع تلاطم أفكاره النابشة خلف حل لمعضلته الآزلية.


زفير منهك فارق شفتيه وهو يُعيد التفكير في كل ما حدث من أمس حتى الليلة، ظن أنه بإحضارها لهنا سيوجد حلًا مؤقتًا، والحقيقة أنه لا يعرف لمَّ احضرها حقا هنا؟!، لا يعرف شئ سوى أنه حينما عرف بحادثها شعر بعالمه الداخلي على حافة الإنهيار .. خاصة بعد إن أبصرها مسطحة على الفراش دون قوى، لم يقاوم الصوت الذي أمره بحملها وتخبئتها عن العالم .. ذلك الصوت البربري الذي طالما لّازمه في حضرتها.


رغبته في حمايتها جعلته يضرب كل الوعود التي قطعها في إبتعاده وعدم تدخله مطلقًا بحياتها مرة أخرى، يضربها جميعًا عرض الحائط .. يلقيها بقاع المحيط، ليلوذ بعدها بملكة قلبه حيث لا يُدركه أحد .. والغريب أنه لم يندم قط على فعلته .. جلّ ما استحوذ تفكيره، هو كيف سيضمن حمايتها في خضم تلك التهديدات السافره التي تحاصر عالمه .. ما ينهش عقله حقًا أنه لا يعرف عدوه الذي يهدده!!

"فكر مليًّا أدهم، مَن له المنفعة في تهديدك بقتل فريدة ولصالح ماذا؟؟.. بالتأكيد هناك شئ قد سُهيَّ عنك!!"


تنهيدة حارقة خرجت منه وهو ينهض كالطريد من فراشه الوثير الذي بالرغم من كل الإمكانيات المتاحة، إلا أنه يفتقر بشدة للراحة!!

"تلك هي الحقيقة أدهم، بكل ما تملكه أنت فقير .. فقير للسلام النفسي، أو الراحة .. فقير لحبها!!"


إنه الشئ الوحيد الذي سيظل ثرائه اللا محدود يقف عاجزًا أمامه!!


شعر بإختناق يقبض قصبته الهوائية، وكأن يدٍ خفية تخنقه .. إستقام وهو يستند بذراعه على الواجهه الزجاجية، ليفتح قميصه علّه يسمح للهواء بأن يتخلل رئتيه .. راحت أصابعه تعمل على تدليك صدره ليخفف من الضغط الجاثم عليه، وفي طريقه لذلك تلمسه .. تلمس تلك الخطوط الملساء التي تحتل الجانب الأيسر مستوطنة فوق قلبه.


بالرغم من الظلام، إلا أن أطراف أصابعه عرفت طريقها للسير بتمهل وشغف فوق تلك الخطوط، للتلاقى جفونه ويسمح بإنعكاسها الذي يحفظه داخل قلبه وليس فقط بين طيات الجلد أن يشبع روحه بما يتوق .. إرتفعت خفقات قلبه مع كل حرف ترسمه أصابعه من تلك الحروف العربية الموسومة بخط يد متعرج، لتكون إسم مالكة هذا القلب بالنهاية.


وبلحظة انتقل بذاكرته إلى ذلك اليوم الذي وسم إسمها في موضعه الصحيح .. لا يتذكر شئ سوى أنه كان يعاني إحدى نوبات هياجه وثورته ضد نفسه، لتقع عينه من بين غيامة الكحول على الوشم الذي يحتل ذراعه الأيسر .. أو بأدق تعبير، التعويذة الكاذبة!!


ودون أي رادع، راحت كل المحادثات التي جمعتهما عنها تتوارد على ذهنه تباعًا..


" Veit ek at ek hekk vindga meiði a

اِعْلَمِ انني مُعَلِّقَ عَلِيَّ شَجَرَةٍ فِي مَهَبِّ الرّيحِ

sialfr sialfom mer,

مُهْدَى مِنْ نَفْسِيِّ الِيِّ نَفْسِي

a þeim meiþi,er mangi veit, hvers hann af rótom renn.

عُلِيَ تِلْكَ الشَّجَرَةُ الَّتِي لَا يُعَرِّفُ انسان الِيَّ اين يَتَشَعَّبُ جُذُورُهَا"


"- ما رأيك؟؟ .. يبدو أنه كلامًا جميل مسالم، ذو معني، ونحب سماعه .. لكن الحقيقة أن هذا الظاهر فقط!! "

- أتقصد أنه...؟؟

- نعم .. إنه تعويذة سحرية مختبئة خلف هذا البيت، قد كتبها لي أحد الكهنة العُتاي عندما كنت بزيارة لجزر فاو بالدنمارك .. أنظري، لقد تكررت بعض الأحرف والكلمات أكثر من مرة، وبرتيب مختلف، لثلاث مرات .. ومع هذا، لم يشكل فارقًا في معني البيت، وكأنني قد وشمته لثلاث مرات .. هنا يكمن سحر تلك اللغة .. هذا هو سرها.

- وماذا تعني تلك التعويذة؟؟

- أول بيت أُستُخدمت حروفه بغرض التعافي من جرح أليم بالماضي .. البيت الثاني كان من أجل ازدهار القوة، والمال، والسلطة .. الثالث أُستُخدمت حروفه للحماية من التعرض بالمستقبل للضعف، الخيانة، أو الحب!!"


إبتسامه قادمة من الجحيم إرتسمت على شفتاه، إبتسامة مَن حصل على أكبر خدعة في حياته .. خدعة هو مَن صنعها وصدقها وجعل منها سلاحًا أيضًا، سلاح قتل به الشخص الوحيد الذي أحبه .. الشخص الوحيد الذي أثبت له كم هو أخرق كبير!!


وبشكل لا إرادي، وقبل حتى أن يدرك أنه فعل، كان يستل خنجره الأسود الذي لا يفارق ساقه وسدد نصله الحاد أعلى عضده الأيسر، ليبدأ بعدها في إزالة هذه الأكذوبة التي أصبحت كلما يراها، يتذكر ما أتركبه.


تلاحمت أسنانه لتكشف عن ألم جسيم وهو ينزع الطبقة الجليدية العميقة، ليتأكد من إزالة هذا الوشم اللعين .. الحقيقة أنه كان يسلخ جلده بنفسه بيد أعتادت فعل ذلك لسنوات .. ولم يتوقف لإلتقاط أنفاسه حتى أتم تلك المهمة.


امتدت يده بعدها ليتجرع كأس من الكحول المركز عله يثبط مراكز الشعور في المخ كي يهدئ الألم .. وبعد دقيقة من مراقبته اللا مبالية للدماء وهي تتدفق من موضع الجرح بغزارة دون رادع، نهض من موضعه في عزم ﻹيقاف جرحه بالطريقة التي يتقنها .. اتجه صوب المدفأة ليعرض خنجره ﻷلسنة لهبها الجائعة، والتي ما لبثت حتى حولت نصله الأسود لجمرة متقده .. وباللحظة التالية كان يقوم بكي مواضع السلخ، والتي لم تكون بمساحة صغيرة مطلقة!!

يكويها مرة تلو الأخرى حتى تنافرت عروق رقبته ووجهه، وأصبحت على وشك الانفجار من كبحه المتزمت للألم، إلا إنه كان يشعر على النقيض من داخله .. يشعر بأنه يطهر نفسه من ذلك الوهم الذي استنزف حياته لسنوات وسلبه عشقه الوحيد!!


خار جسده بعدها حتى ركع أرضًا لدى المدفأة ليلتقط أنفاسه اللاهثة، وقد أنهكه احتفاظه بصراخته التي أبى أن يطلقها أكثر مما فعله نفسه، وذلك ليس لشئ إلا ﻷنه لا يستحق أن يخف ألمه ولو بـ(الآه) .. تأمل بعدها جرحه الملتهب بنفسا أهدئ من ذي قبل، وكأنه قد استأصل للتو ورم أليم .. ليشحذ بعدها قواه المتبقية ويسحب خنجره من الأرض ثانيةً، ليكمل ما أنتوى تنفيذه.


صدد النصل جهة قلبه هذه المرة، ووَدَّ من صميم روحه لو مزقه ليضع حد ﻷلمه المزمن، ولكنه اخترق فقط عُمق الجلد ثم اتخذ طريقه راسمًا بذلك تعويذته الجديدة .. سر سعادته وشقاؤه، بدايته وحيث إنتهي .. يرسم حروف إسمها الأثيرة، علّها تبدد عتمة قلبه وتؤنس وحشته المقبضة!!


وكما فعل بالوشم أتمم ذلك الأن، ليقوم بتتبع خطوط إسمها الدموية بالنصل المشتعل .. وخلال هذا لم يغب عن خياله أبدًا مشهد مماثل لهذا .. مشهد لليوم المشئوم .. يوم بداية النهاية .. يوم ختمها بإسمه!!


إلى هنا وقد أفاق من شخوصه العميق في تلك الذكرى التي بالرغم من مضي أكثر من سنتان عليها، إلا انها ترواده كلما تصادفت عينه مع وشمها، لتكون بالنسبة له المهدئ اللحظي ﻷوجاعه.


فقط إسمها هو من يدفع قلبه للنبض ويضمن له الحياة!!


صرخة متقطعة شقتْ هذا السكون وزلزلت كيانة منتزعه إياه من تأملاته الداخلية .. هذه الصرخة هو يعرفها، بل يطبعها داخل دهاليز عقله .. وللحظة تساءئل إذا كانت حقيقية حقا أم واحدة من إبتداعات عقله ثلاثية الأبعاد التي إعتادها كلما انطوى مع نفسه، لكن ما لبث أن شقت آذانه واحدة أخرى أثبتت له أنها آتيه من عمق الواقع!


إنها فريدة، تبا!!


تسمر لدى باب غرفتها ولم تستطع أن تحط الدماء بأورده فور أن رآى ما ينطويه عليه وضعها .. منغمسة في منتصف فراشها، شعرها يغطي ملامحها المنهكة، ذراعيها مثبتتان بتشنج على جانبيها، ومعصميها يكادان ينفصلا عن رسغيها على نحو معكاس.


اللعنة، ماذا يحدث!!

تزحزح عن موضعه لدى سماعه لذلك الآنين الطويل المتوجع الذي فارق حلقها .. آنين آذانه تألفه، نعم، ولما لا وهو لم يسمع غير على مدار ستة أيام سوداء عكف فيها على تعذيبها؟؟ .. كانت تتأوه بضعف وتتلوى بجسدها محاولة الخلاص من عذابها .. صورتها تلك أعادته بالزمن مجسده أمامه واقعة تعذيبها من جديد، بكامل تفاصيلها!!


يقف هنا، وهى معقلةً أمامه بلا قوى، يكاد يستشعر ملمس السوط بين أصابعه .. يمحص وجهها ذاته المدمى المتعرق والمغيب عن الوعي، يديها المصدوفتان ترتجفا في القيد بعجز .. جسدها ينتفض ويرتج مع كل ضربة تمزقه دون رحمة .. اللعنة، لا يستطيع إيقاف نفسه عن ضربها مهما حاول، وكأنه محبوس داخل جسده وشخصًا آخر يتحكم به وهو مَن يقوم بآذيتها.. يأتيه أنينها الذي يخبو وأنفاسها التي تتباطئ ليزداد عجزه في المقابل .. جسدها يفقد قدرته على المقاومة ويأخذ في السكون .. أنها تختنق!!


انتفض جسده على تلك الفاجعة ليجد نفسه قد سكن الأرض أسفل فراشها، مشلول الجسد وشاخص البصر في هيئتها الهالكة .. كانت تدفن رأسها في الوسادة وذراعيها قد إنعقدا خلف ظهرها، حتى يظن الرآي لثواني أنها مقيدة عن حق!! .. تصدر نشيج وحشرجه اختناق من حلقها ووجهها يكسوه حمرة تعزز من هذا.


مرت أكثر من ثانية وهو أسير ما يرى، عينيه تنفي الصورة المنعكس بعقله .. يستحيل أن تكون تلك المرأة المحتضره هي فريدة .. تلك التي عندما رآها أول مرة بإيطاليا في المؤتمر كانت غيّر، كانت قوية مفعمة بالحياة .. حتى لساعات مضت كانت محتفظة بهذه الصورة .. أين هي الآن، فريدة، ساكنة قلبه، صغيرته!!


اندفع ليرفع وجهها عن الوسادة كأول ما خاطر عقله، كي يعطيها مجال أفسح للتنفس، بينما أنهمرت على عقله جملة واحده تجلده بسوط من نار .. "ماذا فعلت بحق الجحيم؟؟.. اللعنة، تلك هي صنيعتي!!"


لاذعت عيناه دموع دموية حالت دون رؤيته لها .. كان يتمتم لها ويهذي بينما لا يعرف إذا كان يطمئنها أم يطمئن نفسه:

- أشششش .. تنفسي فريدة .. ذلك أنتهى، تنفسي .. أنتِ هنا، أنتِ بأمان!!


ردد ذلك كثيرًا بينما يمسح على وجهها، ويجذب ذراعها المتشنج برفق ليصحح وضعه قبل أن يتأذى .. ولم تكد تفتح فريدة عينها وانعكست صورته الدميمة داخل عقلها، حتى راحت تصدد له ضربات متعاقبة في كل جهة تطولها، مما جعله يفشل في السيطرة عليها ويتراجع قسرًا، وكأنها تملك قوة مضاعفة، لتتحول بعدها ضرباتها لأشياء تُقذف عليه بعنف وعدائية فجة .. كل شئ تقريبًا طالته يداها كان يطير تجاهه، بينما تتخبط هي في طريقها الغير محدد وجهته حتى وقعت عينها على الحمام الملحق بالغرفة لتسارع بالإختباء خلفه بينما تهذي من بين صراخها بكلمات مثل:

" أبتعد عني .. أيها الوحش .. سأقتلك .. وحش لعين، لست إنسان!!"


أوصدت الباب عليها بقوة ومن ثم انهارت أرضًا خلفه .. عقلها في حالة فوضى كإعصار من الادرينالين دمر كل خلاياها، كل أعصابها متهالكة لدرجة تعجز بها عن جمع قبضتها .. لتمضي ثواني انسحب بها الادرينالين لتستشعر ألمًا عظيمًا في ذراعها، بل في سائر جسدها .. ضمت يديها بيأس إلى صدرها أملًا في إيقاف ألمها، لتجهش بعدها في بكاء قهري منهك لروحها، ولا تعرف له سبب محدد!!


بكاء مفجع تنعي به كبرياؤها المُمتهن، تعلن به الحداد على روحها المُراقة .. بكاء تستجدي به أي عابر لنجدتها مما تفعله بها ذاكرتها المفقوة!!


واللعنة على ذاكرتها المفقوة!!

اﻵن فقط تتمنى لو تفقدها بالكامل لآخر عمرها!!


هذا هو واقعها، ستظل آمد الدهر مهما فعلت عند ذات النقطة .. حياتها بائسة، مثيرة للشفقة، لن تحصل عليها هادئة، بل إن حياتها أسيرة ماضي لعين، لا يتوعدها السلام أبدًا!!


عضت على يديها التي تعصرها من فرط الحسرة والألم .. الحقيقة ليست رحيمة مطلقًا .. حقيقة مرضها (اضطراب ما بعد الكرب) سيظل يلاحقها بقية عمرها، ينهش روحها، ويتغذي على الباقي منها .. تمتمت محدثه روحها المستنزفة:

- سأظل هكذا .. مهما فعلت، لن يعود شئ لما كان عليه .. لا أمل من هذا .. سأظل أتعذب كل ليلة .. كل ما أفعله لا ينجح في مدواتي .. لقد تم تدميري بعناية، لقد انتهيت .. ما الجدوى من المحاولة في أن استمر في هذا الحياة اللعينة؟؟ .. ليتني مت!!


تكالبت عليها العبرات لتمنع مرور الكلمات من حلقها، وبداخلها تتعاظم تلك الأمنية المرفهه لتبدو والمستحيل واحد، فاستسلمت لثواني كانت كافية لتصل لمسامع الذي يجلس على الجانب الآخر من الباب .. ينصت جيدا لكل حرف يخرج منها، ويدرك حتى أنفاسها المنازعة .. يدرك كل هذا صميم الإدراك، ليصبح منافسها الأول في أمنيتها البائسة!!


عضت على ركبتها لتتمالك نفسها وتوقف نوبة الإنهيار التي تعتريها .. وجهها محتدم مربد بدماء تكاد تتقافز منه، عيونها يُغشيها الضباب .. أنفاسها تُقبض داخل الضلوع وتأبى أن تفارقها .. خالطت الكلمات تناثر الرزاز من فمها وهي تنطلق من اللا وعي رغمًا عنها:

- كل ليلة أنام بها على أمل أن أستيقظ تلك الفتاة التي كنت عليها، لكن ما يحدث أنني أستيقظ على وجهك .. وجه حالك، قاسي، لا رحمة به .. أخبروني عديدًا أنه حلم، كابوس وانتهى، لكن جسدي يثبت لي العكس .. جسدي الذي يحمل ندوب لا حصر لها يؤكد لي أن ما آراه هو الحقيقة التي لن أنجح في التخلص منها مهما أنكرها الجميع، حتى وإن نَسيَّ عقلي، فجسدي لا ينسى .. لن أعود تلك الفتاة مهما حاولت، لن أحظى أبدًا بنوم هادئ، ولا حتى أنفاس هادئة دون دون اختناق .. ذلك لأن عقلي العاهر، سيظل واقفًا عند ما فعلت أنت!! .. ماذا تريد أيضا؟؟ واللعنة ماذا تريد؟؟ .. تريد أن تتطمئن من أنني لن أستطيع النهوض مجددًا!! .. أطمئن، لقد أرسلتني للجحيم حيث لا عودة!! .. سحقًا لك!!


توقفت لتبتلع بصعوبة وتمسح وجهها المبتل بذراعها الأخري لتتثنى لها الرؤية وقد باتت شهقاتها تلك اللحظة أكثر حدة وإيلامًا من أن تستوعبها .. تراجعت بظهرها عن الباب لتستدير وتبدأ بركله بقدمها مرددة بصراخ لاذع تردد صداه بين جانبات قلبه فزاده ضعفًا:

- أجبني واللعنة ماذا تريد؟؟ .. أنت ضيعتني!! .. سرقت سنوات حياتي ومستقبلي، سلبتني صحتي ونفسيتي .. سلبتني عقلي .. لقد أصبحت مختلة بسببك!! .. أتسمعني؟؟ فقدت عقلي بسبب جنانك ايها اللعين ابن العاهرة!! .. أتسمعني أنت ابن عاهرة مختل!! .. ماذا تريد مني أيضا؟؟ .. تريد أن تقتلني انا أليس كذلك؟؟ لكن أنا بالفعل ميته!! .. هل تعرف كم مرة تمنيت بها الموت كل لحظة أيها اللعين؟؟ تمنيت الموت في كل لحظة بسببك أنت!! .. كرهت نفسي بسببك، كرهت جسدي وحياتي بسببك!! .. كرهت حتى الشئ الذي ظننت أنني ظفرت به من هذه الحياة اللعينة .. كرهت دراستي!! .. اللعنة عليك، اللعنة عليك، فلينتقم منك ربي!!...


ظلت تهذي وتصرخ وسط ركلاتها العنيفة التي شعر بأنها تخترق صدره لتدعس قلبه أسفلها .. ولكن ذلك لم شيئا كوقع كلماتها التي سلخت روحه عن جسده حقا .. فقط بقي على وضعه جالسًا ومتقبلًا ركلاتها وكلماتها .. متقبلاً بصدر رحب ذرة إنهيارها، وكأنه أقل ما يمكنه أن يقدمه لها هذه اللحظة، وقد حُرم حتى رفاهية إحتوائها وضمها لصدره كما اعتاد في السابق أن يفعل .. ارتضى أن يكون هذه المرة مستقبِل، وكأنه والجماد الذي يتكأه الآن واحد، فقط ما يفرق بالأمر هي تلك الدمعات التي فارقت عينه الموصده مع كل كلمة تنفذ من فمها!!


● ● ●


لاصقت زجاج النافذة الدائرية بجسدها لتشاهد عن قُرب مَهيب إندفاع موجات البحر لتتلاطم وتتحطم شدتها على السطح الخارجي للنافذة، غامت عينيها في ذلك المشهد وكأن ما تشاهده هو تمثيلًا مجازيًا لما يدور داخلها .. تذبذب نفسيتها واضطرابها كموج البحر الهائج الذي يتلاطم ويفور دون رادع، لينحني ويتكسر بعدها مع أول عائق صلب يواجهه.


احتضنت ذراعها الأيسر الذي يؤلمها ليصاحبها ثقل جاثوم يعبئ صدرها ويسحب روحها حيث القاع من جديد، كلما إنعادت على ذاكرتها أحداث ليلة أمس وانهيارها المخزي أمامه .. أمام المُسبب الوحيد في جحيمها .. ليلة أمس تَعرتْ قوتها الواهية وتمزقت أمامه.


كلما تذكرت ما تفوهت به في نوبة هذيانها دون وعي تلعن نفسها وتنبذها أكثر وأكثر .. كيف بدت له بهذا البؤس والانهزام والضعف؟؟ .. كيف، كيف فقدت كل زمام السيطرة على تداعيتها النفسية حتى انكشفت أمام غريمها بهذا الشكل المهين؟؟ .. لا شئ يسلبها أنفاسها الهانئة، سوى أن ما سعت ﻹخفائه طوال سنوات عن أقرب الناس لها، تلك الليلة تكشف أمام ذلك المجرم!! .. هنيئًا له انتصار آخر حققه دون عناء، فليجعله هذا منتشي حد الموت!!


لعل ما ذكره لها هو ما حفز ذاكرتها واستفزها، لتتربص بها ليًلا ناسجة لها ذلك الكابوس ثلاثي الأبعاد، ليقضي بذلك على ما بقي من مقاومة في جعبتها .. كلماته المقتضبة المبهمة التي لقّنها إياها عن الحادث مازالت تنخر ذهنها وتستنفر مستقبلاتها العصبية في نشاط عصبي حاد مشحوذ بالقلق والتوتر، يجبر ذاكرتها على إجترار المزيد من الأحداث علّه يساعدها في فك أُحجية ما آلم بها.


أخبرها أن ما حدث كان بدافع الغيرة، ولكونه سادي قد تفنن في استنزاف حقه من جسدها بكافة الطرق التي يفقهها .. وتوارى قصدًا عن ذكر أي تفاصيل تُسعفها في إلتقاط المحطات الهامة بالحادث، ولهشاشة بنائها النفسي لم تستطع إحجام عقلها عن الإنسياق في تَبعات الصدمة، ليتشتت بالنهاية في مفترق مُوحش بين ما قبل الحادث وبعده، وبين حاضرها الثقيل.


وبآلية إعتادها عقلها في مواجهته للصدمات، توقف عن العمل لساعات فصل بها الأحداث المحفزة للصدمة عن حيز الشعور، كيلا ينتابها إنهيار عصبي لاحقًا، وضمرها عميقًا في ثناياه، لتستيقظ بعدها وأعصابها في حالة خدر ألفته، هو ما مكّنها من التعامل مع أدهم بهذه البَلَادة، وكأن الأمر لا يُعنيها.


لكنها -ولتواطؤها مع عقلها- ابتلعت خدعته كعادتها، وصدقتها لبعض الوقت حتى حان الليل، الموعد المتفق عليه، لينصهر الحد الفاصل بين منطقتي الشعور واللا شعور، بين عقلها الواعي واللا واعي .. لتتسلل وحوشها من محجرها وتسرع في نهش روحها .. وما تجاهلته بالنهار كان لزامها عليها مواجهه ليلًا!!


هـي وهـو .. وجـهًا لوجـه!!


لم يبخل عليها خيالها في سد الفراغات الشاسعه من ذاكرتها وملأها بأحداث مريعة أذابت أعصابها رعبًا .. بدى حينها كل شئ مترابط ومنطقي بشكل مقزز، وكأنها قد خطت بقدمها في الأرض المحرمة لعملاق طاغية، وليس بجزء مفقود من حياتها .. لتظل طوال حلمها -وبينما تصراع للبقاء- تُعيّد وتردد ما يحدث، وتسعى لاهثة إلى حفظه في ذاكرتها؛ ذلك لوعيها بما سيتم ما إن تستفق لاحقًا؛ لأنه ببساطة المعتاد.


وهذا بالفعل ما حدث حينما استفاقت من فجوة كابوسها .. لم يعلق بذاكرتها شئ مما ظلت تهذي به طوال ساعات وتحفره في جدرانها الواهية .. لا شئ بتاتًا، سوى مشاعر الخوف والقهر التي تمسكت بتلابيب روحها وأبت أن تفارقها حتى في صحواها!! .. وليس أي خوف، بل درجات عالية من الإرتعاب، وكأن إعصار يضرب جسدها ويهدد بنسف ما عكفت على بناؤه طوال سنتان.


إلا أن ذلك لم يكن بشئ يذكر إلى جانب وجهه المقيت، الذي صاحبها طوال رحلتها من عالم اللاوعي لعالم الوعي، مع اختلاف تعابيره ونظراته المُربدة بالقسوة، لأخرى مُلتاعه تتفحصها على مقربة خطيرة .. وجهه وصوته الذي تخلل هواجس حلمها، ليمزج واقعها بما تراه من هواجس، لتتحول بعدها مصارعتها الذهنية لجسدية .. ولا تعرف بعدها ماذا فعلت حتى استيقظت باليوم التالي على أرضية الحمام الباردة ويلازمها ألم شنيع بذراعها!!


كارثة بالطبع، كارثة ظلت تعصر عقلها حتى يُكذبهاد ولكن أحداثها كانت واضحة فجة بذهنها مقارنة بأحداث كابوسها المبهم، الذي كادت تهشم رأسها حرفيًا حتى تلتقط منه ولو كلمه واحدة تعوضها عن لاواحقه الكارثية!!


ولكن ها هي تقف هنا منذ أن استيقظت، وعليها أن تتعامل مع زيادة نشاط جهازها العصبي المستقل، جفاف بالفم، خفقان قلب غير منتظم، ورجفة واضحة في اليدين تعطي دلالات واضحة على إنخفاض حاد في مستوى السيرتونين بدماغها، لترتفع في المقابل مستويات إستثارتها العصبية، مما دفعها لتناول جرعة مضاعفة من دواؤها على أمل أن تنال ولو قسط بسيط من الهدوء .. لكن على ما يبدو أن ذلك بعيد، خاصة والمهدد لها مازال موجود معها بقارب واحد وسط مياة لا نهاية ﻹمتدادها.


لنواجه الأمر، إنها الآن على حافة إنتكاسة!!


تكاد تشعر بذلك .. تشعر بدماؤها تهدر بأوردتها بعنف؛ لذلك أخذت زفير من جوف روحها وحبسته لعشر ثواني، لتخرجه بعدها على شكل دفعات .. كررت هذا السلوك كمحاولة أخيرة بائسة منها قبل أن تزعن بانهزامها في إحدى جولاتها النفسية .. لكنها على يقين بأن انهزامها هذه المرة لن يكون كسابقيها، لذلك مسحت على جبينها لتجفف نثرات العرق التي أندت جبينها، قبل أن تشحذ قواها من جديد ممنية نفسها بأنها قريبًا ستكون خارج نطاق هذا الضغط النفسي المريع .. قريبًا ستعود لبيتها ولحياتها الهادئة، ولن يكون عليها مواجهة قاتلها مرة أخرى!!


"اثبتي فريدة .. اثبتي أرجوك!!"

هكذا ظلت تردد بين جانبات نفسها متوسلة كل ذرة قوة تملكها، كي تجتاز هذا الموقف العصيب دون أن تنالها خسائر لن تستطيع تحمل كلفتها.


ومن بين شرودها في منظر البحر الممتد، شعرت بتباطؤ الصورة أمامها، بل بالأحرى تباطؤ المركب حتى توقفت .. تخبطت في حيرتها لثواني لتتبين من نافذتها إذا كانوا قد بلغوا المرفأ بالفعل أم لا .. ولكن ما لبثت أن تبينت عرض البحر الواقعين فيه، مما انعكس على حالتها المنفعلة بالسلب لتقرر بالنهاية إستطلاع الأمر بنفسها.


● ● ●


في ثواني كانت قد غادرت غرفتها وصعدت له، متجاهلة الدوار اللحظي الذي لف دماغها نتيجة انخفاض السكريات بجسدها لعزوفها عن تناول أي طعام منذ الصباح.


وبذلك الوقت، كان الشمس تنتصف السماء بحمية مزهرة، فكان من السهل عليها رؤية جسده في مقصورة القيادة .. دخلت عليه باندفاع وجسدها كله في حالة عالية من التحفز، غافلة عن ملامحه المتقلصة لإلتهائه الواضح .. تجنبت نداءه أو التلفظ بأسمه الذي يثير مقتها لتهتف مباشرة:

- لماذا توقفنا؟؟


تصلب جسده لحظيًا من وجودها ولكنه نوعا ما كان متوقعها.. ليترك معدات التحكم التي كان يعبث بها ويتأهب للقاء عينها الحتمي، بعد تلك الليلة المهلكة، وكأن لا مفر له من هذا العذاب .. مرهقة هي بالتأكيد، مقلتيها تشكيان مدى تعبها، لم تدخل المقصورة بل وقفت على عتبتها تحتفظ بمسافة حذره منه وكأنما لا تأمنه، صوتها مجروح يشوبه أثر بكاء أمس .. انقباضة اوغرت صدره وأشربته بجرعة مضاعفة من الحسرة، ليجيبها بنبرة جاهد لتكون بتلك الجدية:

- هناك عطل بالمحرك!!


للحظة لم تعي ما قاله، لتتمسك أصابعها بجانبي باب المقصورة كي تدعم جسدها بعد أن ضربته هزة مجهورة المصدر، قبل أن تشحذ صوتها من جديد وتسأله بلهجة ملبدة بالحدة وهي ترمق معدات القيادة خلفه:

- ماذا يعني بـ(تعطل)؟؟ .. أنت تصلحه أليس كذلك؟؟


رعشة من الخوف هربت منها وباتت واضحة الرنين في صوتها .. إنها خائفة أدهم .. بالطبع إنها خائفة من أن تعلق مع مجرم مثلك!! .. وَدَّ لو يطمئنها، لكن ليس هذا ما يجب أن ينطوي عليه الأمر .. هز رأسه ببطئ وتوجس من ردة فعلها:

- مازالت أفحصه لكني أجهل موضع العطل.


هوى قلبها وتعنفت دفقاته، هذا ما كانت تخشاه .. تحركت قدماها للداخل باندفاع وقد تشنجت ملامحها لتكرر جملته بريبة:

- تجهله؟؟ .. هل تستطيع تصليحه أم لا؟؟


صرخت به بطريقة مباغته قوية لم يتوقعها لتنسف من ذهنه الصورة الضعيفة التي رآها عليها أمس .. لا ينكر توتر جسده من حالتها غير المقرؤه ليحاول امتصاص غضبها غير المعهود وهو يرفع يديه ليهدئها قائلًا بتريث:

- سأحاول .. فقد أجلسي و..

- لن أجلس .. هذه المركب ستتحرك الآن!!


قاطعته آمره بلهجة مشبعة بالغضب، لا تحمل أي فرصة للنقاش .. ضيق عينه بغموض من طريقتها الجديدة المتسلطة معه، أبسط شئ يقال انها جمدت جسده لثواني .. الحقيقة كل رد فعل يصدر عنها يضعه في اختبار لم يتوقع أن يخوضه .

"اهدئ أدهم، على أحدكما أن يكون هادئ" .. أعطاها ظهره حتى يسيطر على انفعالاته التي تتصاعد دون ارادته تفاعلا مع خاصتها وركز فيما أمامه.


أكمل تفحصه لمعدات القيادة وهو يجرب تشغيلها مرة تلو الأخرى دون فائدة حتى تسرب الإحباط إلى نفسها من فشله وازداد ذلك حين توقف واستدار لها بملامح مجهدة ومشدوده:

- سأفحص العطل من غرفة الماكينات .. ابقي هنا!!


لم ينتظر ردها وتحرك خارجًا من المقصورة ليهبط السلم باتجاه السطح السفلي للقارب، حيث غرف الضيوف والمطبخ وغرفة الماكينات .. لم تلتزم فريدة بما قال ليشعر بأقدامها تتبعه خطوة بخطوة .. توقفت قدماه عن الهبوط ليلتفت لها رافعًا حاجبه باحتجاج على فعلها، لتشير له برأسها أن يستأنف هبوطه وهي تغمغم بنزق:

- دعنا ننتهي من هذا سريعًا!!


هز رأسه باستنكار من عِندها، الشك يبدو متراقصًا بين عينيها، ولتزداد غرابته تجاه نفسه يجد هذا مبرر!! .. أخرج من جيبه مفاتيح الغرفة، والتي كانت عبارة عن عدد لا يحصى من الماكينات والمحركات الضخمة، الموصولة معًا بأسلاك ممتدة، ومعزولة داخل كابلات كهربائية .. وكالمرة السابقة إلتزمت بوقوفها على أعتابها، مكتفية بتفحصها بعينًا حذرة.


مضت دقائق تراقبه فيها بينما يتفحص جزء جزء من تلك الماكينات ويقوم بإعادة تشغيلة ويتمم على الموصلات بينهم، حتى بدى وكأنه انتهى، فتأهبت بوقفتها واحتدت ملامحها الحذره، خاصة حينما قرأت الإحباط والتوتر يكسو وجهه، فخرجت حينها عن دور المشاهد لتضع حد لفقرة القلق هذه:

- هل انتهيت؟؟ .. هل يمكن أن نتابع عودتنا الآن؟؟

قابلها بملامحه التي تدرس وتقيم مستوى القلق والعصبية البادية عليها، قبل أن يقرر أنه لا فائدة من تأخير الإجابة، ليردف بنبرة يشوبها مسحة من الإحباط:

- للأسف لم أجد موضع العطل!!


منحها نظرة متوجسة من ردة فعلها، ولكنها على العكس أبدت ملامحة ساكنة متفهمة، مما شجعه على الإسترسال في مزيد من التوضيح ليبدد أي مشاعر للقلق أو الخوف قد تتسرب داخلها:

- لا تقلقي فريدة .. سأجد حل لهذه المعضلة وأعدك أننا سنعود قري...


لم تسمع الباقي من حديثه وهي تهز برأسها تفهمًا وتوليه ظهرها، وكأنها قد أخذت كفايتها من التفسير .. حتى استرخى جسده رغم اندهاشه لتقبلها السلس، ولم يكتمل إحساسه هذا حتى أثبت حدسه العكس؛ ذلك ﻷنها لم تسبقه السير إلا لتُسارع بغلق باب الغرفة عليه من الخارج، مستخدمة المفاتيح التي سبق وتركها بالباب عندما فتحها!!

● ● ●

يتبع