-->

NEVER LET ME GO 3 (AFTER BURN) - الفصل الثامن



الفصل الثامن

قد يبدو الأمر هينا وأنا أحكيه لك الآن في جلسة ودية بعدما انقضى الهول
لكن أتعلم؟
إنه لم ينقض إلا ببضعة من روحي المحاربة!

•¤•¤•¤•



كم منا مر بهذه اللحظة، وقت أجبر على اختيار أفضل الأسوء .. لا مكان للحلول الوسط هنا .. انت تعلم، هذه ليست لعبة .. تنتهي فرص التفاوض مع الحياة حين تتحرر الوحوش من مكمنها!!



حينها، القرار لم يعد ملكا لك..



بعينٍ مدمغه بظلام والتيه، وقلبٍ فتته الندوب الضارية، تسمرت هي أمام المرآة تحصي ما بقى لها من دقائق في هذه الحياة البائسة، بعد أن تناولت كل ما كان بجعبتها من أقراص على دفعات متتالية.



تشعر بهذا، برودة تتشعب بأطرافها، وفراغ موحش يملئ روحها .. إنها خاوية من الداخل .. وبلحظة، جميع أفكارها المندلعة توقفت وسكنت بعد أن حصلت على مبتغاها الذي ظلت ﻷيام تحرضها عليه، ليحل من بعد الصمت .. صمت من نوع مميز .. صمت موجع .. إنه صمت مشارف النهاية!!



ودون أن تدري تبدل كل شئ حولها وعادت لذلك الصمت الذي تسلل لروحها من قبل .. وقت إنهيارها الأول .. كانت هناك، تقف مثلما تقف الآن، منهزمه الخراب يعث داخلها، تقف واليأس قد نال من روحها حتى تبدى الموت في عينها وكأنه الخلاص الوحيد.



تساقط جسدها ببطئ للتسطح الأرض الباردة، ثقل يحتل قدماها ولا تعرف إذا كان هذا تأثير نا تناولته أم لتضافر روحها مع ما عبرت به سابقا .. وقت صار الموت هو العلاج السريع لذلك الظلام الذي لطخ حياتها .. العاج لكل الآلم التي إستقيظت لتعانيها .. صدمات وندوب تشوهها من الداخل والخارج، عجز يلتهم جسدها ويسجن قدمها ويصم وجهها .. بذلك الوقت شق عليها العيش مع كل هذا، وإنتظار شفاء بعيد الآمد، لتقرر ذلك ليلة إكتفائها من كل هذا.



زاغت حدقتيها وهيئ لها أنها تستشعر ملمس الكرسي المدولب أسفلها بمسانده الجلدية الباردة وقد عادت لتلك الليلة منذ سنتان حين أضجعته ناقله جسدها إليه بمشقه بعد أن أوهمت الجميع بإستغرقها بالنوم .. وبعد مشقة تثبتت عجلات الكرسي بأرضية الحمام لتخرج بعدها من إحدى جيوب منامتها شفرة حادة جديدة وتنزع غلافها لتشرع في الكشف عن ذراعها الأيسر وتقرب منه الشفره في تصميم مستهدفة أوردتها الظاهرة أسفل جلدها الرقيق.



ولكن قبل أن يحدث هذا سقطت عينها تلقائيا على ندوب عميقة تشكل خطوط متفاوتة الأطوال على إمتداد رسغها وحتى كتفها، وحينها بزغ أمامها صور متقطعة ليد رجولية تقبض على مشرط وتحدث بجسدها هذه الجروح .. جروح سطحية عديدة لا تتجاوز السنتيمتر من طبقة الجلد ولكنها كانت على درجة من الحرفية والبطئ الكافي لينتزع روحها قبل صراخها



حينها تهدجت أنفاسها بضحيح مستعر وقد تحولت الصور لمشهد كامل الإركان لترى بصورة أوضح سرعة إنتقال يده على طول جسدها محدثا بمشرطه اللاذع العديد من تلك الجروح دون الإكتراث لدمائها التي باتت تشذب من جسدها أو حتى الإلتفات لصرخها الشحيح .. وجدت نفسها على دراية غريبة بأماكن هذه الجروح ودون أن تدري أنها تفعل كان تخلع عنها ما ترتديه لتتأكد مما ينهمر على عقلها لتنعكس بعد ذلك الصورة الصحيح أمامها بالمرآة.



ﻷول مرة منذ أن عادت لوعيها من غيبوبتها أن تتدرج لجسدخا لنظره متفحصة فدائما كان هناك شيئا ينهيها عن هذا أما الآن وبعد ما رأته من تبشع صرخت بنحيب داخلها دون أن يخرج لها صوت أو حتى تهتز ملامحها المتصلبة، تخبر نفسها كم هي ضئيلة وشنيعة مشوهه كالأرض التي مر عليها قطيع غاشم



آنى لها العيش مع كل هذا الخراب!!



بتلك اللحظة أجاب عليها صوتٍ ساخر يبادر السؤال بآخر .. آليس هذا الخراب ما كاد أن تشارك به الآن .. من ثواني مضت كانت ستقدم على فعل الجرم ذاته .. كانت ستشارك قاتلها في إنتهاك جسدها وسلبها حق الحياة .. لم تكتفي بما فعله لتأتي هي وتعينه على إتمام مهمته .. أن تتحول بفعلتها لجاني آخر، أهذا ما أرادت .. أن تتساوى الضحية والجاني ﻷول مرة .. لم يكفيها الظلم الواقع عليها، لتأتي هي أيضا وتظلم نفسها .. أهذا ما تستحقه



وجدت نفسها لا تفرق شيئا عن الشعوب التي تترك الجاني ينعم بحياته وتنزل العقاب بالضحية!!



تساقطت دموعها بغزاره مع صوت إرتطام الشفرة بالأرض .. مردده بين جانبات نفسها:

- "لا، لا أستحق هذا"



إنقضت الليلة ولا تعرف كيف إنقضت، ليأتي من بعدها نهار جديد وشيئا بداخلها قد تغير .. لم تعد تلك الفتاة المنهزمة المستسلمة لمصيرها، بزغ داخلها من العزيمة والقوة ما بدد الوحشة وهزم الظلام، لتتوجه إلى طبيبها النفسي ذلك اليوم وتخبره بما توصلت له من حل يخفف من معاناتها ووطأة ألمها النفسي .. حل لم تكن لتتخيل يوما أن تلجأ له، إلا إنه بذلك الوقت كان أرحم كثير من قتلها لنفسها.



وضعت يدها أعلى صدرها تضغط على قلبها الذي ينقبض وينبسط بسرعة قصوى وقد زاغت الرؤية أمامها وصار كل شئ حولها بالحمام يتحرك حتى إختلت إستقامت جزعها لتسقط على الأرضية الباردة .. ومن بين كل هذا توسد رؤييتها ذلك اليوم إفترشت به السرير الطبي ليأتي طبيبها ويحقن بواريدها إبره تحتوي على منوم ثم يتبعها بأخرى معبئة ب(أدرينالين)، في حين كان التمريض يقوم بتجهيز جسدها ونزع أي شئ معدني قبل أن يحزموا حول جسدها أربطه طبية تثبت جسدها بالسرير ويضعوا بين أسنانها شئ مطاطي .. ومن ثم تأتي الخطوة اﻷخيرة، وهي تثبيت لاصقتين طبيتين على جانبي صدغيها موصلاتان بأسلاك كهربية، وقبل أن تشعر بشئ كانت تغرق بنوم عميق لتستفيق بعد مدة وشيئا من ألمها النفسي قد إندثر كإندثار ذاكرتها!!





أربعة جلسات لتنظيم إيقاع المخ (ECT) هي كل ما إحتاجته لتتخلص من إكتئابها الحاد بسرعة لم تتخيلها .. بعد إنتهاء كل جلسة كان التحسن يتجلى على وجهها رغم ما كانت تعانيه من إعياء لاحق للجلسة يستمر ﻷكثر من يوم .. ولم يكن يخفف عليها وطأ كل هذا سوى وجود عائلتها بجانبها .. هذه التجربة ساعدتها على وضع الأمور بنصبها الصحيح وتقدير قيمة وجود عائلة حقيقية تحبها وتحتويها دون شرط، حطمت الحواجز بين وبين والدتها بوجددت شريان علاقتهما.



بعد خروجها من هذه التجربة شعرت بأنها قد إستعادت شئ من نفسها القديمة، صحيح ليس بنفس القدر ولكنه كان كافي لتنطلق بعدها مكثفه كل جهودها في جلسات العلاج الفيزيائي ليكتمل تعافيها جسديا ونفسيا وأعانها على المثابرة في ذلك وجود كلا من مراد وسارة اللذان لم يدخرا جهد في دعمها ليزداد يقينها بأنها بعد كل هذا لن تسقط أبدا .. بالأصح أخذة العهد على نفسها بألا تسمح لها بالسقوط .. ليس قبل أن تشهد بعينها سقوط الجاني!!



ولكن أين هي الآن من هذا وأين ذهب عهد .. لقد سقطت مجدا ونثرت كل ما بذلك من جهد على مدار سنة مع أول عاصفة ضربتها .. سقطت مرة أخرى وأخلت بالعهد وخانت نفسها لتهدي الجاني نهايدة سعيدة!!



حينما وصلت لهذه الفكرة، ثارت روحها المحاربة ضدها بجسارة لتلعنها على قبح ضعفها وإنهزامها المخزي .. ورغما عنها فوجئت بنفسها تزحف على أرضية الحمام بما بقى لها من وعي شاحذه قوة مستنفرة كل خلية بجسدها لتعينها على المحاربة ضد الموت.



حاولت تحريك جسدها لتزحف لقاعدة المرحاض، المسافة لم تكن بعيدة إلا أن جسدها كان ثقيل لدرجة أشعرتها بأنها النهاية .. فات أوان النجاة، أنتِ الآن تواجهي الموت!!



وعلى الصعيد الآخر من وعيها، وجدت صوت هي تألفه .. صوت محبب لقلبها لكنها بهذا الوقت عجزت عن تحديد هوية .. صوت كان يحدث نفسها "قاومي فريدة .. أصمدي قليلا هذه ليست النهاية .. ليست نهاية تليق بما تغلبتي عليه .. الموت ليس مكانك أنتِ فريدة!!"



وعندها -عندها فقط- إستطاعت أن تزحف بجزئها العلوي حتى وصلت إلى قاعدة المرحاض لتدب أصبعها بوهن داخل حلقها وعلى الفور كانت تجتر ما إبتلعته من أقراص أو بالاصح ما لم يتحلل بعد بمعدتها.



بعد دقائق من التقئ، وحينما استعادت جزء من وعيها اتجهت صوب صنبور المياة وضمت شفتيها بفوهتها لتندفع المياة بجوفها مساعدة إياها على ابتلاع ما تستطيع منه لتخفف من تركيز الأدوية بجسدها ومن ثم أعادت كرة تقيئها من جديد.



مرتان وربما ثلاثة كررت ما فعلته حتى استشعرت الانقشاع النسبي لتأثير المخدر عن عقلها وخف الدوار لتنسحب بجسدها ببطئ نحو الغرفة وتندس بجسد متهالك أسفل الفراش وقد طغى التعب على إدراكها إلا أن ذلك لم يمنع عقلها عن مواصلة لعنها وجلدها لما اقترفته.



● ● ●



انتظرها طويلا، لم يفعل شئ بيومه سوى انتظرها .. من آن لآخر كان يلقى نظرة نحو غرفتها علَّها تنير قلبه برؤيتها، إلا إنها غابت هذا اليوم أيضا!!



كيف يمكن لإنسان أن يكون بهذه الدرجة من القرب، وبالوقت ذاته بعيد؟! .. بعيد لدرجة أنه يحرم من رؤيتها المهلكة كشمسٍ براقة تحرق بلهيبها كل قريب!!



توسط القلق صدره خاصة وهي لم تفتح بابها له وقت الغداء حتى مع نداءه المتكرر لها .. دن أنها عادت لتتجاهل مرة أخرى، ولكن حين استرق النظر لنافذتها من الخارج وتبدى له نومها العميق بهيئتها المرهقة، اعادته لتلك الأيام التي كانت تجمعهما في لحظات حميمية تسقط بعدها بنوما كهذا تلفظ به غطائها ولا تشعر حتى بأنها لا تتوسد شئ أسفل رأسها .. لساعات بقى يراقبها، يبتسم بين الحين والآخر بحزن دفين ينبض بشرايين قلبه الواهن، يذكره بكم كانت الجنة بين يديه ولمدى حماقة لفظها واختار الجحيم!!



مضى النهار بينما هو بمكانه ولم يشعر بنفسه إلا والليل قد أغشى عليه .. أعاد نظره لتلك النائمة على وضعها قلما يصدر عنها حركة طفيفة، ووقع في حيرة من أمره، لم يعرف ماذا عليه فعله، لقد انقضى النهار ولم تتناول إلا وجبة الإفطار، وليس من عادتها أن تنام بمتنصف النهار كل هذه المدة .. أصدر تنهيدة حارة أفرج بها عما يعتريه ، بدأ يرتابه القلق حيال وجود خطب معها، ثم اتخذ قراره بالأخير سيجرب معها مرة أخيرة وإن لم تستجيب، لن يمنع نفسه عن تفحصها.



وقبل أن يفارق موضعه تسرب إلى سمعه صوت همهمات .. همهمات واهنه ضعيفة .. إلتصق بالزجاج غير عابئ برؤيتها له، ليتأكد ما سمعه، همهماتها تتعالى بينما تدس رأسها منغمسه بالفراش وكأنها تخبئ وجهها مما تتراه .. تبا لذلك، انها على مشارف الخوض في كابوس!!



لم ينتظر مكانه وهرول إلى غرفتها بتمنى أنها لا تغلق الباب بالقفل، وبتوفيق من الله كان هذا.



هذا المرة استطاع تجاوز صدمته الأولى وتحرك اتجاهها ليمنع انغماسها في هذا الكابوس اللعين .. وجهها يغمره العرق، يديها المتشنجة على جانبيها، جسدها متحفز وروحها أسيرة هناك بالظلام.



بنظرة منكسره تمزقه رؤيتها من الداخل، اقترب منها ليمسح عنها حبات العرق بحركات ناعمة وكأنه يهذب وحش ثائر، وهي بالفعل كذلك .. هبط بلمساته ليمسد ذراعيها محاولا تليين تشنجها حتى تشجع ليهمس لها بصوت مرتجف:

- فريدة .. لا تخافي فريدة .. لا شئ مما تريه حقيقي!!



تأوه مختنق كانت استجابتها له وهي تدير بوجهها بعيد عنها وبعقلها تجد تشوش كبير من واقعها وبين ما تعايشه اﻵن، لكن حينما تسلل إلى أنفها رائحته حتى تحولت آنينها لصرير متوجع يصدر من بين أسنانها المتلاحمة، تضغطها بقوة ليتردى صدى احتكاك ضروسها ببعضها بقساوة، وعلى التوازي انحرفا معصميه بذات الإستداره الخطيرة التي رآها من قبل .. وهذا ما أفزعه، لينكب عليها بجسده، وهو يثبت يديه بوضع صحيح إلى الفراش منحن على فريدة برأسه ليهتف بصوت عالي نسبيا يخاطب به روحها:

- لا لا فريدة .. قاومي، قاومي فريدة، أنتِ قوية .. لا تدعينه يهزمك فريدة .. قاتليه لا تستسلمي!!



ارتج جسدها أسفله وهي تشيح بوجهها يمنى ويسرى بحثا عن هرب من صوت، ليزداد جزها على أسنانها أكثر .. ترك أدهم احدى ذراعيها وملامحه كتلة من الهلع، ليمسك بفكيه ويحاول التخفيف من ضغطها عليه خشية أن تؤذي نفسها إلا كانت حقا حالة ميؤسة!!



ازداد ضغطها على جانبي فكها وقد تحول هتافه لها لصراخ متوسل بغضب:

- لا فريدة .. توقفي أنتِ تؤذين نفسك .. قاتلي فريدة، لا تؤذي نفسك لا تدعيه يهزمك قاتلي ارجوك!!



وقبل أن يتم جملته كانت ترفع ذراعها الحرة وتخبئ بها وجهها، وحينما ارتطمت بجسدته الكائن فوقها عملت على تسديد لكمات وضربات طائشة شديد السرعة لثواني كانت كافية لترسل لعقلها إشارات بأنها قد تجاوزت حيز اللاشعور وهي تواجه الآن الواقع!!



لم يتراجع حتى مع قساوة الضربات، بل استمر في تعزيزها على ذلك بهتافاته وقد رآى أن الأمر كان فاعلا معها وقد نجح في تشتيت عقلها عما ينسجه لها من خيالات مرعبة ليرتخي تشنج ذراعيها ويخف صرير أسنانها .. تراجع ببطئ على الفراش فقط حينما رآها تفتح عينها بطريقة مباغته على أقصى اتساع لها، بينما هي لم تتراجع.



كانت ترمقه بنظرة متوحشة لا عهد له بها بينما تتبع تراجعه بلكماتها العشوائية حتى أفقدته القدرة على النهوض وبدت له من موضعه أسفلها على الفراش بحالة فاقدة لتوازنها العقلي وكأنها لم تستفق من حلمها بعد!!



ضرباتها هائجة تزداد قساوة مع تعالي صراخها وكأن روحها المظلمة هي المتحكمة به، ما بين لكمات وصفعات كانت تضرب هي بغل لتجرح بأظافرها وجهه وتحدث لكمات لا أحد يصدق أن أصابعها الرقيقة هي ما فعلتها .. أما هو، فتلبسته حالة استسلام غريبة، لم يحرك أصبع للزود عن نفسه ضد عدائها المتوحش، ربما ﻷن كان يرى مدى حاجتها لهذا بعينها المحتقنه التي تبكي بقهر وتصرخ بولع من بين ضرباتها، وربما ﻷن هذا ما أراده هو .. أرادها أن تفرغ ولو قليلا عن شحنة الغضب التي تحجم روحها علها تنعم بلحظة هدوء ولو كلن لحظي!!



لم تمهله الوقت ليستوعب عقله، فبذروة جنونها كانت تنتشل صينية الطعام الخشبية من جانبها مطيحة بما فيها لترفعها عاليا عازمة على تحطيم وجهه بها .. بل الأصح، كانت عازمة على قتله!!



نظرته .. تبا لنظرته تلك اللحظة!! .. شعرت وكأنها تنفذ إلى روحها وتخترقها وتجردها من قوتها .. نظرة ألبكت بدنها لما كانت تحمله بداخلها من احتواء لروحها الثائرة وكأنها تهددها بعاطفة صادقة .. نظرة لعينة كانت على دراية بها دون الحاجة لذاكرة، إنها النظرة التي تخبرها بأنها الوحيدة التي ملكت نياط قلبه .. تخبرها بأن حياته ليس شئ أمام رضائها!!





لحظات كان لهاثها وشهقاتها هي كل ما يسمع بينما مازالت يدها تحتفظ بالصينية عاليا في تهديد ما لبث أخذ طور التردد .. التردد الذي يحتل محياها بينما تجول بعيناها الخاويتين وجهه المدمغ بالكدمات والخدوش وبضع قطرات دماء تنفذ من أنفه .. شيئا في إستسلامه واستكانته أسفل منها ارسل شرارات حسية خدرت جسدها وامتصت هياجها لتسقط من يدها الصينية بعيدا بينما تنسحب من فوق جسده بضياع وقد انقشعت غيامة الغضب والجنون عن عقلها لتدرك فداحة ما فعلته للتو وما كادت أن تفعله!!



انهارت بجسدها بعيدا عنه في احد أركان الفراش، لتحتوي جسدها بذراعيها تحول لملمت شتات نفسها، عقلها في حالة فوضى ما بين ما حدث الآن، وما فعلته بالصباح، بكلتا الحالتان لا تصدق أنها نفس الشخص!!



من وضعت ﻷسوء تتردى حالتها دون أن تمتلك أي فرصة في السيطرة، لسان حالها يسأل ويفتش عن هويتها بين كل هذا الخراب .. تيه وتشتت بل إنعدام رؤية نفسية، ضباب يحجب قلبها ويغشي عقلها .. أين هي الآن من الدكتور فريدة؟!



اعتدل بوضعه بسكون يراقب انسحابها المتخاذل وكأنها تجر أذيال الخيبة من معركة خاسرة .. يراقب انكسارها أمام نفسها، بل رغبتها في التواري عنها .. عن نفسها!! .. يراقب كل هذا بعجزٍ بائن عن تقديم يد العون لها .. شحذ صوته ليخاطبها وهو لا يعرف حقا ماذا يقول:

- فريدة...

- أخرج!!



صريخ مكتوم ولكنه كان زاجر صدر منها بينما تخبئ وجهها عنه .. حاول التحدث مرة أخرى لكن زجرتها كانت أقوى هذه المرة وهي ترفع وجهها الممتقع ضاربة الفراش بذراعيها:

- أخرج .. واللعنة ألا تسمع!!



نهض رافعا ذراعيه لأعلى علها تهدئ فآخر ما تحتاتجه أعصابها هو انفعال آخر .. مع ذلك وجدها تنهض بشراسة وعينٍ متقده بالعداء لتدفعه في صدره وهي تهدر بصوتٍ متهدج من فرط انفعالها لتنفي إستسلامها السابق:

- أخرج .. لا أريد رؤيتك مطلقا .. ألا تفهم أنا اتقزز من وجهك وصوتك وكل ما كل ما يخصك .. أنا أكرهك أكرهك .. أخرج ايها العاهر، أخرج!!



ظلت دفعاتها القوية تزج جسده بالرغم من ضخامته حتى أخرجته من الغرفة لتوصدها على نفسها هذه المرة، ومن ثم تهاوى جسدها أرضا .. كانت تعرف هذا، انقطاعها عن الدواء ﻷيام كان له أثر سئ على حالتها النفسية.



فطوال الأيام المنصرمة بالكادت كانت تنام، واﻷمر الجيد في هذا أنها لم تكن تروادها تلك الكوابيس اللعينة .. أم الأمر السئ فهو غرقها في مستقع أفكارها الضحل، وكلما مضى عليها الوقت دون نوم أو مهدئ كانت تزداد انغماسا، وتستفحل بعقلها الأفكار الإنتحارية وتتضاف بعينها سوداوية حياتها حتى تتيقن من أن قرارها بالإنتحار هو القرار الأكثر صوابا!!



أما الآن، فما هو إلى نتيجة طبيعية لما وصلت له، ولعتمة أفكارتها ولحرمانها من النوم .. كان طبيعي لدرجة مقززة .. طبيعة لدرجة جعلتها تخشى نفسها ﻷول مرة، تخشى ما قد تفعله دون حتى أن تدرك أنها تفعله .. تخشى من أن تستيقظ ذات مرة لتجد نفسها عليها مواجهة جريمة لا تتذكر لحظة ارتكابها!!



ما حدث الآن زاد من غرابة نفسها وتعثر تعرفها إليها .. درب بداخلها على نقطة ضعف أخرى، ازدرائها لنفسها!!



هذه هي الآن، ها ما حولها له .. مجرد مسخ غير آدمي مثله، لا يعرف سوى الهمجية كطريق لتهدئة إنفعال روحه .. هل حقا أصبحت هكذا!!



وعلى غرارا آخر، دبت خطوت أرضية القارب وهو يندفع بكل ما يحمله بداخله من مشاعر قاتمة تغذي جسده العجز والغضب والحسرة .. نظرات عينها الحالكة تحكي عن قهرٍ متعاظم يسكن داخل ويمتزج بنقمه على نفسه ليولج من عصر قلبه دون أي أمل في تخفف كل هذا .. اندفع بكل هذا الوهج الحارق ليقذف جسده من الطابق الثاني للقارب مرحبا بصقيع البحر بهذا الوقت الذي لذع جسده كتيار كهربي، لم يبدي أي شعور حيال هذا مستقبل برودة الماء التي تنخر عظامه علها تبدد في طريقها النيران التي داخله!!



وهنا فقط سمح لتلك الدموع اللعينة أن تتحرر وتجد لها مكان بين ظلمة البحر بعد أن صارع ولادتها لأيام .. الآن فقط بكى، بكى كطفلا يتيم أدرك لتوه خسارة أمه!!



وفي الخلفية، كان لا يزال يسمع صدى صوتها الذي يردد دون رحمة كلماتها التي لم تفشل أبدا في النفاذ إلى قلبه كطعنة سكين غادر ...



أكرهك!!



● ● ●



انجلى نهار جديد ليضمر في ثنايا لهيب ليلة مظلمة، لا يعرف أيا منهما كيف انقضت؟!



وعلى توابع الأيام السابقة، بادر مبكرا في إعداد فطورها بملامح خاوية وروح اندثرت ليلة أمس .. متجاهل كل ما اعتمل بداخله ليلا ولم تستطع حتى برودة الماء احتوائها .. مذكرا نفسه بهدفه عازما على تقبل كل هذا وأكثر منها في سبيل إستعادتها لنفسها.



وعلى عكس ما اعتاد، لم تفتح له هذا الصباح لتغيب عن عينه لهفته في الإطمئنان عليها .. وجد نفسه يضع لها الأعذار والمبررات الكافية لجعله يتركه مع وعد بعودته إلى خرج الأمر عن حدود المعقول، ليترك صينية طعام على غرفتها ويرحل



وعلى هذا مضى النهار ببطئ ثقيل عليه، خاصة ولم تفتح بابها .. يتكبده القلق كلما مضى الوقت، وتددافع بداخله التساؤلات عما سيفعل في حال استصعبت حالتها .. بل ويتساءل أكثر عن سبب تقلباتها غير المتوقعه ، فصباح أمس كانت سلسلة التعامل، أما ما حدث يالليل فكان بمثابة صدمة أخرى من الصدمات التي من المفترضة أنه اعتاد على تلقيها.





بعد مغيب الشمس بساعات، وبينما كان طريح خواطره المضرمة، إنتبه للأضواء الخافته التي تنعكس على سطح المياة أمامه، وعندما تتبعها كانت آتية من الطابق السطحي .. للحظة ظن أنه يتوهم ولكن مع صوت تهشم زجاج تأكد حدسه .. ليندفع بجسده قبل عقلها وهو يدعو ألا يكون قد أصابها شئ.





قلبه الملتاع شعر بها قبل أن يراها .. كانت تجلس إلى البار الكريستالي أمام المسبح وتوليه ظهرها .. محرر شعرها لأول مرة منذ أن آتى بها إلى هنا ليشكل أمواج صغيرة صاخبة كمزاجها الحاد تتطاير بفعل الرياح القوية بهذا الوقت، مرتديه إحدى قمصانه التي تصل لمنتصف فخذها .. تهادت دقات قلبه وهو يقترب منها ليتفحصها بقلق يتآكله من أن تكون تسببت لنفسها بأي أذية، لكن كلما دنى منها أكثر كلما أدرك أن القادم أسوء مما مضى.



عندما شعرت بنظراته المندلعة التي تخترق ظهرها، تحدثت بنبرة خاوية تعبر عن الفراغ الذي تشعر به هذه الليلة:

- مثيرة للإشمئزاز، أليس كذلك؟؟



حقا لم يعي ما تقصد، لكن ما إن رفعت ذلك الكأس الذي كان من الواضح ما بداخله لتبتلعه دفعة واحدة لم يشعر بنفسه إلا يندفع نحو بملامح جاهمة أكتفت من العبث لينتشل منها الكأس حتى انتفضت بعيدا عنه وهى تهسهس بنفس الشراسة التي اعتادها منها هذا الأيام:

- إياك أن تلمسني .. إياك أن تلمس يدك القذرة جسدي، أفهمت؟؟



لم يفهم .. هو لم يعد يفهم حقا ما تمر به من تغيرات سريعة ستفقده عقله .. أو بالفعل أفقدته عقله ﻷنه أقترب منها بطريقة خطيرة وعينيه القاتمة توحي بأنه قد بلغ حده هرائها .. إلا تنوي بفعلتها الهوجاء هذه؟؟ .. أردف بملامح حاد وهو يأكد على كل حرفٍ يلفظه:

- وإلا ماذا فريدة؟؟ .. ليس ﻷنني كنت لطيف معك وأحاول مراعاة ظروفك قدر للإمكان أن تتصوري بأنني قد أسمح لكِ بهذا!!



قبل أن يرتد له جفن كان تكسر الكأس الذي كان بيدها بحافة البار لتضع نصل قطع الزجاج المتبقية بسن أصابعها على طرف معصمها، لتبتسم بعدها بعينٍ تبرق بجنون جاد:

- وهكذا؟؟



ما كان منه إلا أن يعلن تراجعه وإستسلامه أمام جنوجنها الذي ينهال منها وهي في كل مرة تذهله ببلوغها مرحلة أعلى عن الأخرى .. ليحصي بعدها الإحتمالات بعقله ﻹنتهاء ليلة كارثية أخرى مع لعنته!!



أشارت له بطرف ذقنها بعيدا، ليستمر في التراجع بجسده حتى بلغ أريكة سوداء تجاور البار فارتمى بجسده عليها .. ليأمرها بصوت متشنج من الغضب:

- لن أقترب، فهمت .. اتركي ما بيدك!!



رمته بنظرة مستهترة لهجته الآمرة وكأنه يقوى على فعل شئ حقا!! .. ثم اتخذت آخر كرسي يطل على البار واحتفظ بقطعة الزجاج عن قرب لتعاود صب كأس آخر من ذلك النبيذ اللذيذ .. حدثت بينما تفعل هذا وقد عاد صوتها لنفس النبرة الباردة:

- لم تجيب سؤالي .. هل أبدو لك مثيرة للإشمئزاز؟؟



إستدارت له بجسدها مستند بذراعها إلى البار، يتأجح الكأس بيدها ثم وضعت إحدى قدميها على الأخرى لتكشف عن الجزء العلوي من ساقها وما يتناثر به من ندوب متفرقه بعضها كان سطحى ولكن الأكثر كان غائر .. لتعلق نظرها بعينه منتظرة الإجابة وهي ترتشف من كأسها على مهل.



ملامحه كانت غير مقرؤة له، كان يرمقه بطريقة لم تفهمها .. لم تفهمها لانه لا يمكنها الإطلاع النيران المضرمة بصدره .. عن أي هراء تتحدث الآن، يبدو أنها قد تناولت ما جعلت رأسها يتأرجح ولسانها يتفوه بالحماقات .. لذا آثر الصمت مفضلا عزوفه عن الإشتباك معها، متوقعا سقوطها في أي لحظة على اعتقاد أنها مرتها الأولى في الشرب.



هزت برأسها أكثر من مرة متظاهرة بالإستيعاب وهي تتناول بعض حبات من المكسرات أمامها:

- حسنا، فهمت .. أممم ما رأيك أن تحكي لي تفاصيل هذه الندوب؟؟ .. لقد خممت وانت تحكي القصة على عجالة، لذا دعنا نحكيها الآن بمزاج رائق!!



إلتفت له من جديد تحدثه بسلاسة وكأن الحديث عن هذا لا يؤذيها .. انتظرت وانتظر ناظرة له بتحفز لأي كلمة، بل ﻷي تعبير يثلج قلبها .. إلا أن ملامحه الجامدة كانت تصدها .. كركرت ساخرة وهي تحرك رأسها بكلا الجانبين:

- لا تريد أن تتحدث!! .. حسنا، سأسألك أنا وانت تجيب، أتفقنا؟؟

تجرعت قليلا من كأسها لتدير الكرسي هذه المرة ليصبح مواجها له .. لتتشدق بنبرة خالية من أي شعور:

- لنبدأ بما شعرت وأنت تفعل هذا؟؟



صمت للحظات ظنت أن سيمتنع بهذا أيضا عن الحديث وأنه لا أمل من تجاوبه معها هذه الليلة، إلا أن فاجئها وتحدث بنبرة ميتة ولكنها كانت صادقة .. نبرة وصف بها ما يختلج بداخله منذ هذه اللحظة وحتى الآن:

- وكأنني بالجحيم!!

هذه المرة تحاشت النظر له، تعابيره تقززها، بل الصدقة الذي يندح من عينه هو أكثر ما كان يقززها .. تغلبت على المرارة التي تصاعدت لحلقها بتجرع ما بقى بكأسها ثم قالت ما إن استعةدت شيئا من برودها:

- ومع هذا أكملت؟؟



أخذ كامل وقته ليستشف إلام تريد الوصول من هذا .. حالتها لم تكن مطمئنه بالمرة، مع كل رشفة ينتظر تساقط جفونها أو أم تسقط هي إلا كانت تبدو أمامه وكأنها معتاده على الشرب .. هذا يجعل جسده يفور!! .. مسح وجهه لاعنا نفسه مع كل زفير ليفكر بإجابة لسؤالها .. لماذا أكملت؟؟ .. هذا حقا سؤال صعب فريدة، لو كانت لدي له إجابة من قبل ما كنت أكملت!! .. رمقها من جديد، كانت تبعد خصلاتها المتطايرة عن وجهها، تصفيفة شعرها الغجري لتعيد له الذكرى .. ذكرى أول مرة وقعت عينه عليها .. المرة التي تمنها محياها من حياته بقدر ما كان يقدس!!



تلك المرة التي أصدمت به بينما تحمل كوب قهوتها .. كلنت تصفف شعرها كالآن، تتركه على تمرده، ثائر يفوح عبيره عفى كل مار .. ثائر، يستفزك لتعيد تهذيبه .. تماما كما فعلت هي به!!



بحث بداخله عن إجابات ولكن أكثر قربا من الحقيقة هو ما قاله بصوته الرخيم وسحابة غائمة تملئ صدره:

- لأنني لم أكن أثق بأن ﻷمثالي أي مكان بالجنة!!



جميل .. حديثه جميل، يحب المرأ سماع مثل هذا الحديث .. ولكن هي لديها الأفضل منه والذي تثق بأنه سيروق له .. ملئت كأسها للمرة الرابعة أو ربما أكثر ثم طالة بأصابع كأس آخر لتعبئه وتضع به مكعبان من الثلج، بعد دفعته بضع إنشات إتجاه أدهم وهي تشير له:

- أشرب



فقط هذا ومن ثم ارتخت بجلستها أكثر وهي تصدر تنهيدات عميقة تعبر عن التخمة التي تشعر بها .. رائع، حقا رائع .. كل الأصوات بداخلها صامته الآن، لا ضجيج أو صخب .. إرتشفت من كأسها مستمر بالتنهد بارتياح لتعود بنظرها له من جديد وتجد قد استجاب لدعوتها وامسك بكأسه يراقب حالتها التي لا شك في أنها الآن منتشية، فليعينه الله على تحمل هذه الليلة!!



أخذت نفس آخر ثم قالت دون مقدمات:

- هل تريد سماع قصة أفضل من هذه .. قصة ساخرة للحقيقة!!

تحفزت حواسه وقد شعر أن حالة الإنتشاء التي بها ستجعله تفصح ولو قليلا عما تخبئه .. وبالفعل وجدها تبتسم تلك الإبتسامة الساخرة قبل أن تبدأ في الإسترسال:

- ذات يوم استيقظت على اعتقاد أنني فقدت حياتي المثالية .. الحياة التي حققت بها كل ما تمنته يوما، حلمي، دراستي، عملي، وفوق كل هذا أحببت .. أحببت شخص وسيم، مشهور، وثري .. لكن كأي قصة لطيفة كان هناك أشرار هم من حطموا كل هذا.



ضحكت مرة بإستهزاء لترتشف من جديد قبل أن تكمل بتعابير مقتضبة وكأنها تتذكر تلك الفترة من حياتها، تحدثه بجدية دون أن تلتفت له، فقط تنظر بعتمة السماء المطلة عليهم:

- لك أن تتخيل كم يوم ظللت أعيش بها الوهم بل وخيل لي أنني تذكرت بضعا من مشاهد رومانسية لعينة مع الشخص الذي احببت . والذي بالمناسبة تركني ما ان استفقت .. تركني لأنني لم أعد صالحة له .. هذا ما قرأت بالصحف عن الحادثة من تحليلات لغيابك المفاجئ!!



أخرجت ما تكون بصدرها من ضيق في زفرة واحدة وقد توقفت عن هذه النقطة المريرة لتستكمل بنفس النبرة اللا مبالية:

- كل يوم كنت أنظر لنفسي بالمرآة أتأكد بأنني السبب .. من سقبل بزوجة مثلي، بشعة، عديمة الفائدة .. فاقدة للذاكرة، مشلولة، وفوق كل هذا مشوهه الجسد .. هناك من استباحها جسديا وربما الأكثر من هذا .. إلى اليوم الذي عرفت به أن حياتي لم تكن مثالية، وأن ما تخيلته ليس من مخزون ذاكرتي المفقودة، ما تخيلته ما هو إلا قصة سخيفة اخترعتها ﻷداري بشاعة وبؤس حياتي وانني كنت مغفلة كبيرة أحبت وغد لم يبادلها الحب وارتضت بساديته وعقده حتى أفقدها صوابها، وكاد يفقدها حياتها أيضا!! .. وخمن ماذا؟؟ .. الآن هو يختطفني في مركب مختلة مثلة، فقط ليخرب حياتي مرة أخرى!!



خلل حديثها ضحكات هستيرية بالكاد كانت تكبحها لتتم جملها، بدت في ذروة انتشاؤها، وذروة صدقها أيضا .. وبالنهاسة استطاعت تمالك نفسها لتكمل بوجه أرهقه الضحك لا ما تقول:

- الآن فهمت .. أنت جئت لتخرب حياتي بعد أن تأكد من أن وجدتني قد نهضت مجددا .. بعد أن تأكدت من أنني قد وجدت شخص يحبني حقا .. شخص عاني بجانبي من أجل أن انهض، تحمل مرضي وتعبي .. لم يتركني وأنا مجرد خردة عديمة النفع .. شخص أن أتحدث الآن بفضله.



فرقت جوفها تنهيدة حزين معبئ بعبق تلك الأيام، ازداد إسترخاءها بالمقعد عندما عبر طيف وجهه أمامها لترفع قدميها على مقعد أخرى وتحت شفتيها ابتسامه شغوفة وهي تتغنى بصوت خافت ناعم ولسان ينطق الإيطالية بسلاسة:

- عيونك الضاحكة للحب .. كغصن الصفصاف الغض .. زوريني كل ليلة .. واملئ قلبي بالحب .. الإبتسامة الرقيقة تليق بك .. عيناك أغلى ما في الدنيا .. ما أروع هذا الشعور .. أن أحبك.. ما أروع هذا الشعور .. أن أحبك..



بالرغم من دندتها الخافته إلى رنين صوتها كان يضرب آذنه بعمق .. عرف ما تتغنى به، إنها إحدى الأشعار الإيطالية التي بدون شك كان يتغزل بها هذا اللعين .. كل ما مضى كان يستطيع تحمله، يقسم انه كان على إستعداد لتحمله دون شكوى أن تذمر .. لكن هذا.. يظن أن قد بلغ عذره!!



رغم ما يتفاقم بداخله من مشاعر حقد وغضب لم تكن لتنتهي نهاية حميدة أبدا، إلا أنه كان يشعر بإرتخاء أوصاله وتخدرها ببطئ يثقل جسده عن أي رد فعل عدائي .. علم أنه الآثر السئ للكحول، اللعنة عليها، لم يكن ينوي مشاركتها الشرب ولكن بحديث المتستفز لكل ذرة تعقل به لم يشعر بنفسه إلا وهو يقضي على متبقى من زجاجة النبيذ ليبتلع بها بشاعة حديثها ويبتلع معه حقد المتنامي تجاه نفسه .. للتلاقى جفونه على صورتها النائمة أمامه وقد فقدت هي الآخرى الوعي بليلة لن تنسى أبدا!!



● ● ●



ضربت أشعة شمس الظهيرة جفونه لتجبره على الإستيقاظ وصدع شرس يلتهم عقله .. أول شئ بحث عنه كانت هي، لم تكن بمكانها مما جعله أنه أحد أحلامه، ولكن الكؤوس الفارغة أثبتت عكس هذا!!



اللعنة!!



لقطات مما حدث تتوافد على عقله لتزده اشتعالا من شربها، حركاتها، سخريتها، تهديدها له بقتل نفسها، حديثها اللعين وحتى أشعار ذلك الأبله!!



هل ذكرت أنه يحبها، ويعوضها عما عانته معه؟؟ .. لنكن صادقين حتى وإن كان هذا هو الحقيقة، وحتى وإن اعترف به مكابرة أمام نفسه إلا أن اعترافها هي بذلك كان الأكصر ألما على الإطلاق!!



اعتاد على التعامل بحنكة وروية مع كل ما يصدر منها منذ جمعتهما الحياة من جديد إلا أن ليلة أمس كانت كالقشة التي كسرت ظهر صلابته النفسية.



ما قالته من كلمات ضارية كطلقات رصاص وما فاق هذا من نظرات نفور مشبعة بحقدٍ خالص وكراهية لا حدود لها جعلته يرى الأمر من زواية حقيقية أطاحت بكل أحلامه السابقة في الحصول على فرصة لتصحيح ما حطمه .. حطم ذلك الشئ الذي نمى بداخله وذهب ﻷبعد من هذا، ﻷبعد حتى من فرصة إصلاحها .. ذهب لفرصة له معها!!



نعم، أنكر كثيرا هذا، بل ونهره كلما طالب به قلبه بلوعه .. لكن هذا ما حدث، رغما عنه كلما رآها أمامه تتسرب روحه من بين يديه دون إراده لتنسج مع روحها، يرتجف قلبه وتنبض به دماء الحياة كلما رآى مالكته .. ورغم بعدها المحقق، إلا أن الأمل اللعين لم ينضب عن التنامي من بين جانبات روحه!!



لكن ما حدث أنها وأدت هذا الأمل ليلة أمس بما قالته .. لنواجه الحقيقة، لا يمكن إعادة ما احترق وتحول إلى حفنة رماد!!



هذه الحقيقة، كانت كافية لتعيد الأمور لنصبها الصحيح، وليعرف محدودية قدرته .. ليشرع في الصباح في اعداد آخر وجبة فطورٍ لها على هذا المركب بآلية وجمود سكن روحه وقد عزم على تحريك هذا المركب في طريقه للعودة!!



وفي منتصف النهار كان قد انتهى من إعادة كل شئ بالمركب لموضعه الصحيح، ليقف خلف المقود ويكبس ذر التشغيل.



المفاجأة التي لم يفهمها للحظات، أن القارب لم يتحرك، بل أصدر أزيز جعله يقضب جبينه بعدم فهم قبل أن يشرع في اعادة تفحص كل جزء بها متتبعا ذلك الأزيز الذي كان يبتعد عن كونه يصدر من المحرك، بل من شئ آخر.



وعلى هذا، قرر النزول لغرفة المحركات ليتفاجئ بعلو الصوت كلما مضى في طريقة تجاه علبة التحكم الكهربائي .. فتح باب وهو يضيق عينه بتفحص عله يلتقط موضع العطل الذي يصدر هذه الأزيز، وعندما تعذر عليه هذا، قرر أن يغلق الأزرار المسئولة عن المحرك ليتفحصها بروية أكثر .. وما إن أنزلت أصابعه زر المكبس حتى اقتحمت جسده شحنة كهربائية عنيفة لتصعقة بقوة لدرجة انها أطاحت بجسده في الهواء ليصطدم ظهره بالحائط المقابل قبل أن يرتد ساقطا في الأرض دون حراك!!

● ● ●

يتبع