-->

NEVER LET ME GO 3 (AFTER BURN) - الفصل التاسع



الفصل التاسع - الجزء الاول


من قال أن المدينة التي تقصف بها الحرب تعود مشرقة كما كانت
حتى وإن عادت آمنة،
يبقى هناك جزء محطم تماما

•¤•¤•¤•



وقفا بأعصاب مشدوده وملامح ترسمها الجهامة يراقبوا من النافذة العملاقة لقصر الشاذلي ذلك الشاب الذي يرابض البوابة الخارجية وبين الحين والآخر يشن حملات هجوم هستيرية عليهم لدرجة اجتذبت أنظار بعض الإعلاميين المتطفلين ليرصدوا هذا الحدث الحصري، وليصبح أهل القصر في ورطة تشبه الإقامة الجبرية.



غامت عين مصطفى الشاذلي بنظرة ذات معنى لما يشاهده من وقفات الإعلاميين شبه اليوميه أمام قصره، يقف بانتصاب رغم سنه الذي شارف على الستون، يضم ذراعيه خلف ظهره بتركيز، ثم غمغم وكأنه يتخذ قرار ضمني مع ذاته:

- هذا الشاب قد بلغه حده معي .. إلى الآن لا يدرك بوجه مَن يقف بحماقة!!

- لا أعتقد أن يفوق إبنك حماقة!! .. تبا له، بسبب فعلته الرعناء أنا حبيسه بقصري منذ أسبوعين لا أقوى على مواجهة أحد .. الجميع يسألني عما فعله وأنا لا أملك إجابة، وحتى إذا أجبت اقابل بالسخرية والتهكم .. سمر الشاذلي تلقى هذه المعاملة ﻷول مرة بسبب إبنك المختل!!



لم تهتز ملامحه رغم توتره مما يحدث، ولم يجد ما يجادلها به، يشق عليه قول هذا، ولكنها على صواب .. فبمرور الوقت، الحدث يتصاعد بشكل لم يتوقعه، بداية من فعلة أدهم التي لم يصدقها لولا الفيديوهات المشاعة لمشهد اختطافه لفريدة من المستشفى على مرآى من الجميع، ووصولا لذلك الشاب الذي استهتر بما يمكنه فعله بالبداية، وتعامل معه على النحو المعتاد من هؤلاء المشاغبين، لكن لا ينكر أن ذلك الشاب قد فاجئه والذي علم لاحقا أنه يكون خطيب فريدة لذلك لا عجب في كل ما يفعله.



فعندما طرده مصطفى أول مرة آتى بها مهاجما اياهم ويتهمهم بالتواطؤ مع أدهم ومعرفة بمكانه، لم يكن يتوقع أن يراه مرة أخرى، لكن -ولصدمته- مراد لم يبرح مكانه أمام القصر منذ ذلك الحين .. حتى عندما تدخلت الشرطة في ردعه عما يفعله إلا انه حينما اضطر للرحيل هذه المرة عاد بعدها ثانية بشكل لم يضعه في الحسبان .. عاد ومعه سلاح لا يمكن ردعه، سلاح الرأي العام!!



ففي ظرف ساعات قليلة من رحيله، انقلبت وسائل التواصل الاجتماعي ضدهم بعد أن تصدر خبر لعين محركات البحث في جميع صفحاتها..



"عائلة الشاذلي متورطون في خطف طليقة ابنهم البلياردير (أدهم الشاذلي)، وفقط ﻷنهم أثرياء يمكنهم فعل ما يحلو لهم دون أن تطولهم يد القانون"



فضيحة .. بل كارثة فجة عجزت أمامها كامل نفوذه .. فقط ﻷن الرأي العام لا نفوذ لها .. فلم يمض 24 ساعة على إندلاع هذا الخبر وقد طالتهم نيرانه، عدد لا بأس به من مسؤولي الدولة تواصلوا معه للتأكد من الخبر بشكلٍ ودي، لكن لم يلبث أن تحول الأمر إلى تحقيق رسمي أخبره فريق محاميه أنه قد يتطرق لفتح قضية حادثة فريدة منذ سنتان، خاصة وأن الأمر بالفعل قد شاع تداوله عبر وسائل التواصل، ليعيد عليه وعلى عائلته تلك الأيام مرة أخرى .. قدم إليه بعض المسؤولين عدد من النصائح الحازم للتصرف في مثل هذه الأمور بشكل قاطع قبل أن يأول بهم الأمر لوضع لا رجعة منه .. حسنا، هذا لم يكن اسلوبه أبدا، ولكن رغما عنه ما بدأ يفكر جديا بهذه الحلول وهو يرى كل ما يملكه على محك التهلكة



لم يعد يصدق أن مَن صدر عنه كل التصرفات الهوجاء الطائشه هذه هو أدهم!! .. إبنه الذي استطاع أن يرد له الصفعة التي صفعها له بعد سنوات عندما بلغ من النفوذ والثروة ما فاقه هو شخصيا اضعاف مضاعفه، ليخبره بجسارة أنه استطاع أن يصل ما لم يصله دون مساعدته .. دون الحاجة لوجوده الغائب . وليخبره أيضا انه اختار الجانب الخطئ وخسر إبنه الوحيد حينما صدق تلك الأفعى الدخيلة.



لكن لم يكن بحاجة لهذا، فسنوات العشره كانت كافية ليعرف ممَن تزوج، كانت كافية لتسكن بداخله نوعا آخر من الوحشة أضيفت مرارتها لوحشة زوجته اﻷولى الراحلة .. (نور) .. وكانت بالفعل نور حياته الذي سلب برحيلها الجارح .. ظن أنه بزواجه من (سمر) سيستطيع تجاوز فقدها والتعافي من ألمه وأنه بذلك يضحي من أجل استمرار حياة ابنه الوحيد، إلا أن ما حدث كان خطأ غاشم



خطأ غاشم لم تفلح السنين في مدواته، ولم يستطع هو إصلاحه بعدما تبدت له تلك الأفعى على حقيقتها من جوع وتعطش للثروة لا يرتوى أبدا .. أفعى نفثت سمها في علاقته بابنها الوحيد لتسلبه بذلك آخر ذكرى حية من نوره .. تذكر المرات العديدة التي كان على وشك لفظها من حياته، وتراجع عن هذا من أجله صغيرته (ريم) .. لم يرد أن يخرج من معركة الحياة وقد خسر بها كلتا أبناءه، بل على العكس، قد رآى بها المسكن الوحيد الذي بدد ما يعانيه من ألم الوحشة، بعدما تيقن بأن أقصى ما قد يجمعه بوحيده هما شيئان لا ثالث لها .. العائلة، والعمل .. هذا فقد ما كان يربطهما طوال السنوات المنصرمة، الحفاظ على مركز العائلة وصورتها المترابطة أمام الناس، وما بينهما من أعمال ومشاريع كأي رجال أعمال.



امتقع وجهه بالحسرة وهو يتذكر أن عزائه الوحيد في هذا هو أن وريثه يكون أدهم الشاذلي .. الكيان الإقتصادي المرعب الي يتحدثون عنه كنموذج منفرد، هو إبنه .. من أجل هذا فقط تحمل جفاءه ومعاملته الرسمية في مقابل حمايته وحرصه على كل ما يخص العائلة، وبالتحديد خوفه الظاهر على اخته (ريم)، ويبدو أنه بمعجزة ما قد نجت علاقتهما من آثام الماضى .. أما الآن، ومع كل ما حدث من سنتان لم يعد يثق بنزاهه عقله كالسابق، فتصرفاته الغاشمة لم تكن تحمل نفس الحماية والحرص على العائلة .. بدى غير مهتم بعواقب افعاله، وما قد يطول العائلة جراء هذا .. لا يهتم سوى لشئ وحيد .. تلك الفريدة!!



لا يصدق أن كل ما فعله من أجلها .. ما المميز بها ليضحى بحياته وسمعته وسمعة مَن معه هكذا؟! .. لكن على ما يبدو أن تأثير هذه المرأة واسع المجال على سائر الرجال، والدليل على هذا ما يفعله الآن هذة الأحمق، يجازف بحياته ويقف بوجه مَن لا قبيل له به في سبيل استعادتها .. يعترف، لقد أخطأ في تقييمه له أول مرة عندما علم بزواج أدهم المفاجئ منها، ظن أنها إحدى نزواته التي ستخبو ما إن يمتلكها، رغم كل شئ كان يدرك إبنه، ليس لديه متسع بحياته للزواج، هذا كان الجواب الذي يحصل عليه منه كلما فاتحه بهذا الأمر ، لذلك صدم حينما أخبره بأمر زواجه العاجل من امرأة مجهولة بالنسبة له .. لكن حينما اصطحبها معه إلى مصر، علم أن الأمر يتخطى كونه نزوه، علم ان بها خطب مميز استطاع جعل ابنه يقدم على مثل هذه الخطوة المستحيلة، أن يعود معها إلى قصر الشاذلي من جديد



وهذا ما تأكد منه حينما رآها أول مرة، فرغم ملامحها الهادئة الوديعة إلا أن بريق عينها الداهي كان شديد الخطورة ترائ به أنها لن تخرج من حياة أدهم بالسهولة التي دخلتها، خاصة إذا عرفت بحقيقة عمله .. وهذا ما كان، فلم يمضي شهر واحد على زيارتها، وقد حدث ما حدث وانقلبت حياة ابنه على عقب، من إهماله لعمله الذي كان مقدسا بالنسبة له، وحتى عدائه أمام المنظمة التي طالما اعدها عائلته الثانية، مما كان سببا في نفيه لسنتان، احداهما كانت برغبة منه.



لكن حينما عاد للظهور مرة أخرى ظن أنه قد عاد معها لرشده وسيتسلم أعماله التي تحملها عنه طوال هذه المدة .. ظن أنه سيلتفت لحياته ويطوي ما ماضي، إلا انه لم يعد سوى ليمارس افعاله الرعناء كمراهق أحمق .. احترم المسافة التي بينهما ولم يرد التدخل فيما يفعله، لم يسأله لمَّ رفض العودة منذ أكثر من سنة ولم يسأله لمَّ عاد الآن أيضا، لمَّ يسأله حتى إلام توصل مع الجماعة التي بالخارج رغم قلقه الذي يقتله .. لم يسأله شئ لأنه كان يثق بعقليته الرزينه وأنه لن يدع أحد يمسك عليه خطأ .. أما الآن، فتبا له ولعقليته التي اتضح انها عاهرة مختلة، لن يقف يشاهد تدميره لنفسه وتدميرهم معه، لن ينتظر اللحظة التي يشاهد بها تصفيته .. نعم، هذا ما وصله مؤخرا من الخارج ردا على أفعال إبنه السافرة التي تسلط المزيد من الأضواء عليه وتطيح بسمعته والتي هي أساس عمله معهم، لذلك تبا له مرة أخرى، من الآن هو مَن سيستلم موازين الأمور!!



تجاهل ثرثرة زوجته التي لم تكف عن الدمدمة الساخطة والتزمر ليرفع هاتفه ويجري اتصال بأحدهم والذي ما لبث أن اجاب على الفور ليسأله مصطفى بكلمة محسوبة:

- هل هو معكم؟؟

- بلى سيدي، رغم أنه كان صعب المنال إلا إنه في قبضتنا الآن، ونحن بطريقنا للمزرعة كما أمرت!!



● ● ●





كما انطفأت بعينه الحياة بغته، عادت إليه بغته وقد تخلل إليه أول شئ بأنفاسه الخافته التي تخرج وتدخل بسهولة بعدما ظن أنه قد فقدها، ورويدا رويدا راح تجسد شعوره بالأرض الصلبة أسفله عوضا الخواء الذي كان يملئ جسده.



أمضى لحظات عانى فيها من اختلال الوعي حتى استطاع أن يفرج عن جفناه بوهن بالغ ليستقبل الضباب الأبيض أمامه وما لبث أن تبدد واتزنت الرؤية امامه، ليستقر امتداد بصره على الأرضية الخشبية الداكنة التي يضجعها الآن داخل غرفة المحركات .. مجددا



بعد هذا لم يكن من الصعب عليه تذكر الكارثة التي حلت به فتحركت عينه بتلقايية إلى كابينة الكهرباء الرئيسية التي صرعته وهو الآن يتسطح الأرض بسببها، لكن ما يذكره أن وضعه الأخير لم يكون كذلك، فهو الآن ممدد على جانبه الأيمن ورأسه تتوسد على ذراعه اليمنى المفروده بجانبه افقيا، أما ساقه وذراعه الأيسر تأخذ زاوية إلى الأمام .. حانت منه مبادرة منه للنهوض إلا أن جسده لم يستجب وقد شعر وكأنه يحمل أطنانا من الحديد تثقل سائر عضلاته، وكل ما بدر منه هي حركة بسيطة صدرت من رأسه ليستشعر بعدها ألم مهيب بظهره أفصح عنه بأنين مكتوم كان كافيا لتندفع نحوه أقدام صغيرة حافية حتى استقرت بالقرب من رأسه لتنهاه بهمس:

- هاي .. لا تتحرك!!



رأسه ثقيل جدا، ما إن حاول رفعها لينظرها حتى غلف عينيه دوار شنيع فاستسلم له مغلقا عينه بضعف.



حثت فريدة أرضا بجانبه حينما شعرت باسترداده للوعي، ثم تناول زجاجة الماء التي احضرتها بعد عناء من البحث عما تسعفه به في تلك المتاهه المسماه بالمركب، أفرغت منها على منشفة لتمسح على وجهه الشاحب عل ذلك يسارع في استعادته للوعي، وبالفعل ما انفكت تفعل هذا حتى بدأ يستجيب لها .. سألته كي ستجاوب معها:

- هاي .. هل أنت بخير؟؟



صوتها كان كافيا لاستحضار كامل ذهنه، ليرمقها من بين غيامة عينه، رغم أن ملامحها كانت جاهمة ونظرتها جليدية كالمعتاد إلا انها وﻷول مرة يراها خالية من الكره، فقط القلق ما يحتلها . حينما تأخر في الإجابه ارتابت في حالته لتسأله مضيقه عينها بتركيز:

- هاي هل تسمعني؟؟ كيف تشعر؟؟



"أشعر كمَن تم صعقه بالكهرباء!!"

ردد هذا بسخرية داخل عقله دون أن يفصح عنه وقد امتقع وجهه بالألم فور تذكر ما حدث ولم يحبذ كونه بهذا الضعف أمامها، وبينما كانت عينه تدور بأرجاء الغرفة يبحث عما يجدي في الإستناد عليه، أي شئ عدا وجهها الذي يحاصره الآن، حتى وقع بصره على إضاءه الغرفة الناصعة وقد بدأ يعتاد عليها، إذا الكهرباء تعمل؟!



وبينما كانت فريدة بانتظار إشارة منه تطمئنها قد استعاد وعيه بالكامل ولا يعاني من شئ والأفضل أنه لا يحتاجها، حتى تنبهت بأنه على وشك محاولة النهوض بينما مازال على وضعه الذي يستند برأسه على ذراعه اليمنى، لتوقفه هي بإشارة من يدها:

- توقف، لا تتحرك!!

- أنا بخير..

شحذ صوته ليخرج بالكاد ويخبرها بهذا الجملة المقتضبة ليتراجع القلق عن وجهها قليلا وكأنه بهذا قد اعفاها من عبئ مساعدته لتكتفي بمراقبته هذه المرة بنظره حذره بينما كان يعتصر قواه ليرفع جسده متكئا على ذراعه اليمنى والتي ما لبثت أن خانته وقد انعدم شعوره بها ليحل محله فراغ مؤلم إلا أن كفه على النقيض مما به من توهج وحرارة وتورم .. نعم هذا ما إلتقطته زاوية عينه المحتقنه بينما يسمع فريدة تلعن من بين أنفاسها وقبل أن يقابل الأرض بوجهه كانت تحول دون هذا ذراعها التي سندته واعادته برويه وهي تتمتم بأنفاس منفعلة:

- أخبرتك لا تتحرك!!



في حين أغمض هو عينه ليحتوي هذا الألم الباذخ الذي عصف بأوصال جسده والآن بات يستشعر مواضع الإصابة ليبدأ عقله في البحث عن حل لهذه المعضلة حتى استمع لهمسها القريب:

- أشرب!!

كانت ترفع رأسه عن الأرض قليلا برفق قرب فوهة الزجاجة لتدفعه للشرب، بصعوبة استطاع تفرقه اسنانه التي كان يصرها ألما بعد أدرك مدى العطش الذي يؤذي حلقه ولكن ما إن عبرت أول رشفه فمه حتى أصابه سعال جاف جعله يبصق الماء المتبقي .. ليجدها تبعد الزجاجة وتعدل من وضع رأسه جانبا مرة أخرى ليتثنى له التنفس ومن بين شرقاته سمع همسها من جديد مهونا عليه:

- لا بأس .. لا بأس



عندما انتهى سعاله قد أصبح وجهه كتلة حمراء تنافرت لها عروق جبهته لما يكبته من توجع .. رفع عينه ليجدها قد استدارت بجسدها لتصبح جالسه في مرمى رؤيته لتردف بعدها بلسان يفضح قلقهارغم عقلانية نبرته:

- حسنا، أنت لا تستطيع النهوض، لذا أين أجد علبة الإسعافات؟؟



تعلقت عيناه بها وهي بهذا القرب الشديد، تميل بجزعها على رأسه، عبيرها الحاني يتخلل انفاسه ليهون عليه وجع اللحظة .. تمعن بوجهها أكثر لينسى ما به ويفكر بكونها الآن بجانبه وتحاول مساعدته، رغم كل شئ، هي بجانبه .. وهذا فقط كان كافيا ليسكن ألم قلبه الذي لازمه طويلا حتى يأس من لحظة راحة .. أراد أن يخبرها ما بمكنونه بصدق .. "أنتِ كل ما احتاجه فريدة" .. ولكنه بدلا من هذا وجد نفسه يتللب على ثقل لسانه قائلا:

- لا احتاج لشئ، يمكنك مساعدتي في الوصول لغرفتي.

- لا!!



لم يتوقع هذه الإجابة السريعة والقاطعة رغم مشقة الشعور بالضعف الذي تكبده ليرغم نفسه على هذا الطلب .. ولكنها رفضته دون التفكير، بل ونهضت أيضا بعيدا عنه لتؤكد على كلامها .. اشاحت بوجهها عن نظرت عينه التي كانت تخترقها بهذا الوقت قبل أن تسند ذراعها بمنتصف خصرها وتقول بينما تضم حاجبيها بطريقة مبرره:

- لا استطيع تحريكك من هنا، يبدو واضحا تعرضك ﻹصابة بالظهر وربما هناك كسور أو رضوض بالفقرات أو الضلوع، لذا يستحسن أن نتأكد من هذا أولا، والآن أخبرني أين علبة الإسعافات اللعينة ﻷنني بحثت طويلا ولم اجدها!!



حسنا، هذه الإجابة أفضل من سابقتها رغم ملامحها المتصببة ولهجتها المنفعله إلا انه استطاع أن يرى من بين هذا أنها تريد مساعدته واسعافه حقا، ولن يكذب، هو لن يستطيع تدبر نفسه بنفسه لذا اجابها بعد ثانية:

- بالخارج .. غرفة صغيرة بنهاية هذا الممر يعلوها يافطة (الطوارئ)، ستجدين بها كل ما تريده.



لم تضع المزيد من الوقت فانطلقت قاصدة الغرفة ولم تغب ثواني حتى عادت حاملة علبة متوسطة بها عدة أشياء وضعتها على الأرض جانبه، ثم رفعت شعرها الثائر لتعقصه بإهمال خلف عنقها وتقول بتوتر بالكاد تتحكم به:

- حسنا، نحن نحتاج لحقنك بمسكن أولا لأتمكن من فحصك ومن ثم نقلك لغرفتك بالأعلى.



لم تكن تسأله بل كانت تقرر أمر واقع بينما تشرع بالفعل بتعبئة إبرة من أنبول مسكن وباللحظة التالية كانت تمسك بذراعه اليسرى وتضغط بأطراف أصابعها على الوريد حتى ينتصب لتغذيه بالمخدر وبسبب تركز نظراته عليها تملكت منها رجفة أصابعها وتردد بداخلها خوف من أن تخطئ موضع الحقن فتصيبه بضرر هو بغنى عنه، ووسط هذا، وقعت عينها على هذا الحرق الذي يحتل ساعده الأيسر وجزء من عضده بحجم كبير لا يمكن تجاهله .. شردت بذلك دون أن تدري لتفاجئ به يحتوي كفها بيده وهو يسألها باهتمام وقد كان من الواضح ما تمر به من اختلاجات:

- أنتِ بخير؟؟

على الفور كانت تسحب يدها منه وقد عاود الجمود لملامحها لتجيبه بسخرية وتهكم:

- أظنك أنك من تعرض للصعق هنا وليس أنا!!



لتغرز بعدها المخدر بموضعه بثبات وخفة ثم تناولت من الصندوق عدة لوازم طبية لتكثف اهتمامها تجاه ذراعه الأيمن وتتفحص ما حل به متحاشية النظر له .. وفي غفلة شروده في قربها الشافي لداء قلبه افتجع لذلك الألم الشنيع الذي انطلق من ذراعه ليفطن لتوه لمدى الضرر الذي لحق بها من تورم يحتل الرسغ بالكامل ويتخلله عدة حروق حلقية على سطح الجلد تخلفت عن قوة الصعقة التي تعرض لها، تتمركز بكثافة في راحة يده وبين أصابعه وقد بدأت في تكوين سائل شفاف.



تجاوز ما به من آلام ليحاول صرف انتباهه لشئ آخر إلى أن يبدأ مفعول المخدر، فسألها مركزا نظره عليها وعلى ما تفعله من تطهيرات وعناية بحروق يده:

- كيف علمتي بما حدث؟؟

توقفت يدها عن العمل لثواني لتطلق زفرة عبرت بها عن تعبها وربما سأمها من الوضع السخيف الذي تعانيه، ثم اجابته بعدم اكتراث:

- نور الغرفة انطفأ لثانية قبل أن يعود ثم أعقبه صوت ارتطام آتى من الأسفل أخبرني بوجود خطب ما .. لن أنكر بالبداية ظننت انها إحدى ألاعيبك، لكن حينما نزلت ووجدتك ملقى هنا تأكد من هذا!!



انهت حديثها لتعلن انتهاء مهمتها في تنظيف الحرق وتغطية جيدا ثم رفعت نظرها له ترمقه بحنق ولسانها يتحدث بلهجة متنمرة يسمعها منها ﻷول مرة:

- بربك، ماس كهربي؟! .. ماذا تنوي أن تفعل بنا بالتحديد؟؟

- كنت احاول إعادتك لحبيبك!!

عاجلها بهذه الإجابة السريعة والقاطعة وبالرغم من الهدوء الذي كان عليه إلا أن نظرة عينه لم تكن مسالمه بتاتا لدرجة أثارت بداخلها رجفة خفية، ومع ذلك لم يمنعها في مواصلة التنمر:

- حسنا، لقد فشلت!!



انتفض على إثر كلمتها دون أن يستشعر أدنى ألم .. وأي أﻻم قد يفوق ما يشعر به الآن .. عينه، كان يقتلها فقط بعينه وظلت النظرات بينهما سيجال في تحدي بائن منها لترى أقصى ما قد يصل له إلا إنه قد اختار أن يقطعها هو أولا بينما يحاول النهوض مدمدما على مضض:

- مفعول المخدر بدأ يعمل .. شكرا لكِ

صدته بيدها عن فعله وهي ترفع حاجبه بتصميم ولهجتها الباردة تحولت لأخرى عصبية:

- لن تذهب قبل أن نعالج ظهرك!!

حدق بيدها التي كانت تدفع صدره وقد اطاحت بفعلتها قدرته على احتمال جنونها :

- ولمَّ قد يهمك هذا؟؟ .. هل تسمحي أن توضحي لي لمَّ تفعلين هذا معي .. أنا لا أفهم، لمَّ تساعديني بالأساس وانا استطيع أن أرى بوضوح مدى الكره الذي تضميره .. لمَّ تساعدين الشخص الذي عذبك وأوصلك لما أنتِ به الآن .. لماذا فريدة؟؟



صدرت منها ضحكة تهكمية ولتهز رأسها باستنكار:

- لحظة واحدة، هل تعتقد حقا أنني قد ارفض مساعدتك بسبب ما فعلته؟؟ .. حسنا، أنت لا تعرفني!! .. هذه ليست طريقتي مطلقا في موازنة الحسابات وليست طريقتي في إسترداد حقي!! والآن هل يمكننا الانتهاء من هذا؟؟



ابتلع ريقه وهو يجد صعوبة في تفسير جملتها لما تحويه من تناقض في المعاني بالنسبة له .. ما وصله ان مساعدتها لا تعني تغاضيها عن حقها ونسيانه إنما شفقة عليه؟! .. هل حقا بعد كل ما حدث بينهما هو لا يعرفها؟؟ ولكن حبيب الطفولة الأخرق يفعل، أليس كذلك؟! .. كان على وشك الخروج عن وعيه والخوض في تفاهات لن تفيد أحدهم وقد بدأ يشك في المخدر الذي حقنته به، قبل أن يجدها تدفعه مرة أخرى بأطراف اصابعها متحاشية النظر له ودون أن يدري كان يستسلم لها ويضجحع الأرض على بطنه هذه المرة بحذر شديد وألم طفيف يلازمه.



عندما رفعت قميصه توقفت انفاسها لجزء من الثانية وهي تتأمل هذه الكدمة التي تحتل جزء كبير بمنتصف ظهره .. كدمة متورمة يتدرج لونها بين القرمزي والأزرق الداكن، لتدعي بداخلها ألا يكون ما ورائها أعظم .. حسنا فريدة، إذا كان موضوع الإصابة بالامود الفقري فلا تعتقد أن ذلك المخدر كان ليجدي نفعا في تسكينها وجعله ينتصب بجلسته كما كان منذ قليل، وهذا جعلها تعاود التنفس .. وببطئ وحرص شديد تتبعت أصابعها عظام الضلوع متممه على سلامته من أي كسر حتى تأكدت من أن الكدمة موضع اصابتها قد طال النسيج العضلي فقط .. لذا حدثته بنبرة تسرب لها بعض الراحة:

- حسنا، الخبر الجيد لا كسور بالظهر وإلا في وجود قارب معطل فرصك ستكون سيئة!!



تناول الدهان الطبي الذي يساعد في علاج الكدمات لتضع له برفق كمية مناسبة منه بينما تسترسل:

- أعتقد أن هذا المرهم وبعض الراحة ﻷيام سيكونا كافيان للشفاء.



همهم لها وقد بدى في حالة شبة مخدره، ليس لتأثير الدواء ولكن لتأثير أصابعها التي كانت تتنقل كالسحر على مواضع الألم لتطفؤه في لحظة .. لم يفق من هذا إلا حينما أعلنت وهي تعيد التيشيرت لموضعه قبل أن تنهض:

- انتهينا!!



بطريقة مفجأة بدأ يستشعر هذه الحرارة التي تصهد وجهه وجسده .. حرارة تصيبه فقط كلما تلامست أجسادهم، حرارة ليست بموضعها الآن، ما يحدث معه خطأ، ليس مرة أخرى أدهم، أنت تعلم نهاية هذا، لذا لا تعشم نفسك بما ليس لك!!



بعد أن سعادته على النهوض والذي كان بمثابة عمل شاق له بعد الوقت الذي قضاه مفترش الأرضية، ودون أن يشعر أنه فعل أبقى على يدها بين أصابعه وهم باصطحابها معه في الرحيل .. وكأنه الأمر الأكثر طبيعية في العالم .. لكن ما حدث أنها أوقظته من أحلامه هي تستل يدها منه بفظاظة موضحة بتعابيرها التي اكتست بالجمود ثانية:

- اعتقد أن بإمكانك الوصول لغرفتك دون مساعدة!!



ابتلع حسرته وآسرها بداخله، الخطأ هنا خطأه، لقد فعلت ما عليه بزيادة وتحملت مساعدة أكثر شخص تكرهه .. ماذا تريد منها .. رمقها حين أولته ظهرها وهي تنحني لتلملم الأشياء التي تركتها بالأرض، ثم غمغم لها بصوت منهزم مشبع بالحزن:

- شكرا لكل ما فعلتيه فريدة!!



تجمدت بمكانها حين سمعته ومع ذلك لم تلتف له أو تجيب .. الحقيقة انها لم تكن تعرف بما تجيبه وحينما وجدت الرد المناسب نادته قبل أن يبتعد ليتلفت لها بوهن فيجدها قد استقامت لتقف أمامه بشموخ وصلابة لا تليق سوى بها ثم تشدقت بنبرة جدية متوعدة:

- ما فعلته لا يغير حقيقة ما بيننا في شئ!!



● ● ●

يتبع