NEVER LET ME GO 3 (AFTER BURN) - الفصل التاسع
الفصل التاسع - الجزء الثاني
من قال أن المدينة التي تقصف بها الحرب تعود مشرقة كما كانت
حتى وإن عادت آمنة،
يبقى هناك جزء محطم تمامًا
محمد طارق
•¤•¤•¤•
في المساء، عادت فريدة إلى غرفة الطوارئ ثانية تبحث بين ما بها عن شئ يمكنها استخدامه في ردع توابع كوابيسها، فقد بدت مجهز بشكل محترف لحالات الإنقاذ الطبية وغيرها، لذلك تأملت أن تجد بها على الأقل حزام طبي يحتوي على دعامة حديدية تحول دون إلتواء معصمها أو شئ يفيد في وقف صرير أسنانها القهري.
تنهدت بشيئا من الخيبة بعد أن وجدت العديد من الأحزمة الطبية بالفعل من بينهم ذلك الذي تريده لكن لم تجد أي شئ يمكن استخدامه كواقي أسنان .. كانت في آمس الحاجة لهذا يمكن أكثر من الحزام الطبي، ذلك ﻷنها لم تكن تريده أن يسمع ويرى معاناتها مع ما خلفه بفعلته، رغم كل ما يدعيه من تعاطف لا يليق به إلا أنها لم تكن تراه سوى كلذة انتصار تملئ عينه، وهذا.. هذا كان يذبح روحها كلما ظنت انها قد تعافت!!
استدارت لترحل بينما عقلها يفكر في شيئا بديل، إلا أن عنيها مرت على ما صرف انتباهها عن هذا .. انها العلبة التي كانت تسعفه به صباحا، لماذا مازالت هنا؟! .. أليس من المفترض أن تكون معه ليستخدمها في مدواته؟؟
دمدمت بذلك داخل عقلها وحينما وصلت لها وتوضحت أنها مازالت على حالها، وجدت الإجابة..
لأنه لم يخرج من غرفته فريدة!!
تيبست مكانها لثواني والعديد من الأسلئة تتداخل بذهنها .. ماذا ستفعل الآن؟؟، هذا لا يعني سوى شيئا واحد، أن إصابته قد ألزمته الفراش .. نعم، فعلى عكس سالف الأيام لم تشعر بوجوده على المركب طوال النهار .. زمت شفتيها في حيره وهي تقبض على العلبة بتردد، أقل شئ يمكن أن تؤل له حالته بعد تعرضه للصعق ومع حرقٍ كهذا هو ارتفاع بالحرارة أو غثيان .. وبتلقائية عادت للداخل باحثة عن أدوية لهذه الأعراض وما إن عثرت عليها حتى أضافتها للعلبة وحملتها لتعطيها له.
قبل أن تغادر أعتاب الغرفة، أغمضت عينها تحتوي تصارع مشاعرها الذي كانت في غنى عنها، خاصة وقد بزخ داخل عقلها صوت ينهرها بعنف .. وما شأنها هي به، لقد فعلت ما يمليه عليها ضمير بعد أن اسعفته وانهضه على قدميه، ليس من شأنها الآن إن لم يأخذ دواؤه أو يمرض .. حسنا، ليس عليها فعل شئ، فليمرض أو يحدث ما هو أكثر، هي ليست مجبره علي شئ بعدما فعلته بالصباح، صدقا آخر شئ قد تحتاجه هو الصراع الذي تعيشه بسبب هذا الوغد .. الحقيقة انها تغشي الإفراط في تقديم العون فيطمع الذي في قلبه مرض.
تبا له، ماذا قد يحدث له، القليل من الحرارة أو الغثيان لن يقتلوه .. تعلم مثل هذه النوعية لا يتأثر بشيئا بسيط كهذا، هذا بالأساس ليس شئ إلى جانب ما يقتلها يوميا .. لا تهتمي فريدة، فربما قد يكون يتمارض أيضا ليستدر عطفك .. نعم، شخص حقير مثله قد يبادر بفعلٍ كهذا .. انتبهي لنفسك حتى تخرجي من هنا بما تبقى لكِ من عقل!!
تركت العلبة مرة أخرى وهي تهز رأسها بتصميم وإصرار بعد أن وئدت أي ذرة شفقة نبتت بداخلها تجاهه واتجهت لغرفتها عينٍ تغيم بالكراهية والحقد الخالص.
● ● ●
وفي وقتٍ متأخر من الليل، كانت تقف أمام جناحت وهي تتمتم وتصب اللعنات على نفسها بعدما فشلت في النوم وفكرة أن هناك شخص يعاني المرض بينما بإمكانها مساعدته لم تبارح عقلها .. عنفت نفسها كثيرا ووبختها على تزايد قلقها عليه، ولكن بالنهاية توصلت لفكرة أرضت ضميرها، أن من يفعل الخير عليه أن يتممه للنهاية!!
وحينما أخذت كفايتها في التفاوض مع نفسها واقتنعت أن ما تفعله لن يؤثر على صورتها الشامخة أمامه، بالعكس هي تثبت له صحة حديثها السابق معه، بأنها ليست مثله لتستغل حالته الصحية في الإنتقام لنفسها .. نعم، هذا ما تريد فعله!!
لذا، كانت تقف أمام الآن بعدما طرقت بابه أكثر من مرة دون أن تتلقى إجابه، للحظة فكرت بترك العلبة على بابه وبها تكون قد انهت مهمتها، ولكن ما لبثت أن عادت لتلعن نفسها مرة أخرى قبل أن تدق بابه مرة أخيرة وتدير المقبض مطله برأسها تناديه هذه المرة على استحياء، وحينما لم تسمع اجابة تطرقت للداخل بحذر وعينيها تفتش عنه لتجده بالنهاية يتوسد فراشه متسطحا على ظهره، بملابسه ذاتها وملامحه التي قد نال منها النصب.
تململت في وقفتها بحيرة ثم اتخذت قرارها بأن توقظه وبهمسٍ خافت نادته أكثر من مرة .. لكنها لم تلقى منه إجابة .. أرجعت هذا لمفعول المخدر ولقوة إصابته، ودون أن تدري راحت تمعن النظر به هذه المرة دون خوف، أو كراهية، أو شجار.
أنفاسه منتظمة، وجهه يميل بدرجة جانبا لتتدلى عدة خصلات من شعره الداكن وتغطي جبينه .. لتوها قد لاحظت التخدوش التي أحدثتها بوجهه وأن بعضها قد اتخذ طور كدمات صغيرة تتماثل للشفاء .. حسنا، ليست نادمة، إنه يستحق على كل حال .. مَن يراه وهو نائم بهذه الهيئة المثالية حتى وهو في أسوء حالاته لن يصدق أبدا أنه الشرير بقصتها.
زفرت لتطلق سراح ما يختلج بصدرها وتيقظت حواسها فور أن سمعت صوت أنين خافت آتي من جوفه، رمقته بترقب وحينما لم تجد منه أي بادرة للحركة تشجعت لتدنو منه أكثر وهنا استطاعت ان تلحظ وجهه المحتدم بحمرة لم تبدو لها طبيعية .. إذا، لقد حدث ما كانت تتوقعه، إنه يعاني من حمى.
ترددت يدها التي رغبت في التأكد من حرارته ليعاد على ذهنها تلك الرجفة الحسية التي سكنت بداخلها كلما لامست جسده ولم يرق لها أبدا تأثيرها المثير للريبة لتبتعد عنه وتذهب لتحضر جهاز قياس الحرارة.
فيما بعد، قربت الجهاز من رأسه لتتبين حرارته التي فاقت الطبيعي بما يتخطى الدرجة .. رمقته من جديد، بدى وكأن وضعه يزداد سوء كلما مضى الوقت لتأخذ الأقراص الخاصة بخافض الحرارة وتقبض عليها بأصابع مترددة وهي تناديه:
- هاي .. أنت أفق
كان صوتها ضعيف لدرجة كانت غريبة على سمعها مما زاد من حنقها علة نفسها وعليه هو أيضا وهو بكل ما يفعله حتى لو كان مرضه يسبب لها الضيق .. بالطبع لم يسمعها أو حتى يشعر بوجودها، فقررت أن ترفع من صوتها أكثر ورأسها قد انحنى عليه:
- هاي هاي .. استيقظ
توقفت لثانية ترقب ملامحه المنغمسه في اللاوعي قبل أن تلفظ بمشقة بالغه اسمه ﻷول مرة:
- أدهم .. هل تسمعني .. أدهم، أفق!!
تأوه ثانية وهو يجبر جفناه المربدان بالحرارة على الإنفراج وقد خيل له أنه قد سمع شخصا يهتف بإسمه، وليس أي شخص إنه صوتها .. ذلك الصوت المحبب لقلبه فقط هو حرضه على الإستفاقه وجل ما يتصوره أنه يهلوس كعادته المثيرة للشفقة.
ما إن فتح عينه حتى اعتدلت بوقفتها وهي تراقب بحذر عينيه التي كان ترفرف كثيرا، وأرجعت هذا لأثر الحمى وإلا ما كانت تصدق أنه يعاني من صدمة وجودها أمامه ولا يصدق أن حقا تقف هنا، بغرفته .. بصوت متحشرج ضعيف سألها ليتأكد من حقيقة وجودها:
- فريدة؟!
اصدت تنهيدة عميق تخرج بها عبئ اللحظة ولم تطل النظر بعينيه المتسعتين، ودون مزيد من المهاترات ضغطت على شريط الدواء الذي بيدها لتخرج قرصا منه وتمده قربه موضحه:
- تناول هذا .. حرارتك مرتفعه!!
بجسدٍ ينبض بالألم رفع رأسه بالكاد ليغالب تشوش وعيه وذهوله من حضورها الطاغي ليحدق بما بيدها لجزء من الثانية قبل أن يستجيب لها فتتبعه هي بمناولته كوب الماء رادفه على عجالة وبملامح مشدودة:
- كل ما يخص علاجك بهذه العلبة .. تناول الكثير من الماء وسيكون من الأفضل لو استطعت غمر رأسك أسفل الماء البارد.
قالت ما قالته متحاشية النظر مباشرة لعينه التي تهلكها بعلامات الإستفهام وقد بدى وكأنه قد استعاد كامل وعيه وغير جاهز أبدا لمغادرتها الآن .. ولكنها غادرت.
غادرت وتلكته وسط هالة رهيبة من الذهول غير المبرر أذهب أي آثر للحمى أو المرض .. هل كانت هنا لتتفقده وتعطيه ما يلزمه من الدواء .. منذ متى وهي هنا .. وابتسم، ابتسم ابتسامه غابت عن شفتاه منذ أن غابت صاحبتها .. لكن لم تطل هذه الإبتسامة فور أن راود خاطر لقطات مما فعله به، هذا كان كفيل ليوئد أي ذرة سعادة قد ترد قلبه هو لا يستحقها .. لا يسحق أي شيئا منها .. معاملتها الجيدة معه تؤذيه، تكثف من شعوره بمدى دناءته وباحتقاره لنفسه .. هو لا يستحق حتى نظرة رأفة من عينها، لا يستحق سوى كل سئ .. لذلك ليتها تركته يعاني ولم تلتفت له .. هذا بالتأكيد كان ليكون أهون.
"لمَّ فريدة .. لمَّ أصبح كل ما بكِ يؤلم؟؟"
ودون أن يدري، غفى على حاله وسط فوضى هالكة من المشاعر الساخطة على الذات .. غفى ولم يدرك تلك الدمعة الحارقة التي فارقت إحدى أجفناه لتعبر عن نوع آخر من عذابها يتذوقه لمرته الأولى معها.
● ● ●
في صباح اليوم التالي، كان من السهل عليها الشعور ملاحظة حالتها المزاجية الجيدة على غير العادة، ذلك ﻷنها أول ليلة تقضيها على هذا المركب بدون كوابيس!! .. جسدها خامل، يريد الإستغراق بالنوم لفترة أكثر لكن حالتها المزاجية تشجعها على إنتهاز اليوم من بدايته.
لذلك، تحركت بتكاسل للمرحاض لتبدأ يومها بالإستحمام، ثم وقفت أمام تنثر شعرها بغزارة لتتركه على سجيته مشكلا شلالات من الأمواج الصغيرة .. تنفست برضا عن مظهرها بعد أن ارتدت تيشيرت أبيض بدون أكمام دسته داخل سروال قصير أحكمت حزامه على مقاس خصرها .. رمقت نفسها مرة أخرى فانتبهت لثديها النافر والبارز بشكلٍ مخجل أسفل التيشيرت لتمطر عينيها بحقد مفاجئ على ذلك السافل الذي اختطفها هنا دون ثانية تفكير فيما سترتديه جتى لو كانت ملابس داخلية، بالطبع عقله العاهر سيروق له هذا!! .. زفرت بقنوط لتخرج الطاقة السلبية التي هددت صفو مزاجها ثم جذبت قميص آخر بأكمام وارتدته مضطره دون أن تغلقه مكتفيه بإخفاء حافتيها لصدرها.
الهدوء الذي يحوم حولها يعزز من راحتها النفسية وهي تدرك المساحة الشخصية اللامحدودة وتشعر ﻷول مرة وكأنها ليست مختطفة أو سجينة أو مهدده .. كل ذلك مدها بشهية جيدة للطعام وهي تتحرك بالمركب بحرية مطلقه دون أن يراقبها أحد أو يحدد لها ما تتناول كل يوم.
فتحت البراد وهي تتفحص الأغراض بعين متمهلة، شعرت لوهلة بالإحباط فلم تجد ما تطالب به شهيتها من فطائر محلاه أو معجنات محشوه .. ماذا تريد فريدة، أي معجنات قد تجدينها بالبحر .. سخرت بنفسها ثم تلعنه لقدرته المبهرة على إفساد سعادتها بأبسط الأشياء .. لم تيأس، لتبحث بين المعلبات الزجاجية عن أي شئ تركيز السكريات به عالية واتسعت ابتسامتها حينما ابتسم لها الحظ لتعثر على علبة شيكولاه ذابئة هي المفضلة لديها، لتأخذها دون تردد.
إلتفتت لتفتش بين رفوف المطبخ عن (الدقيق) لتحضر العجين لنفسها .. نعم، كان مزاجها رائق إلى هذه الدرجة ولم ترد لأي شئ أن يفسده .. شهيتها الشرهه جعلته تصنع شطيرتين لم تكتفي بحشو العجين بشيكولاه وفيرة بل أفرغت المزيد منها على سطحه.
بعد قليل، جلست إلى طاولة المطبخ وقد أعدت كوب (نسكافيه) إلى جانب شطيرتها الساخنة ولم تنتظر كثيرا لتبرد حتى تأكلها .. بعد ثاني راحت عينيها تجوب بالمكان حولها كنوع من التسلية ولاحظت كم كان كل شئ نظيف ومرتب رغم عدم وجود من يقوم بذلك .. إذا هو مَن فعل؟! أخيرا عثر على ما هو جيد به!!
إلتقمه قضمة أخرى وهي تحتسي على مهل كوبها، ودون أن تدري شردت فيما كان يعده لها من وجبات غنية وصحية على مدار اليوم .. لا تنكر، رغم تقززه منه إلا أن الوغد كان يطهو باحتراف .. رفعت شفتيها بسخريه وهي تتمتمت لنفسها:
- شيئا آخر يجيد فعله عدا إفساد متعتي وتعطيل القارب!!
تنهدت لتأخذ قضمه ليتساءل عقلها لمَّ لم يخرج من غرفته حتى الآن، هل إصابه ظهره كانت قوية لهذا الحد؟؟ .. لقد رأت بعينها كم كانت الكدمة سيئة، ونعم تتوقع أن ترقده بالفراش بضعة أيام حتى يتعافى .. حسنا، هذا سيكون فرصة بالنسبة لتتعافي هي الأخرى من رؤيته!!
توقفت الشوكة قبل أن تصل لفمها وقد أدركت للتو كامل وضعه .. إذا كان بالفعل يعجز عن مفارقة الفراش، إذا من كيف سيطعم نفسه ويعتني بإصابته؟؟
سقطت الشوكة من يدها وقد رن الصمت بداخلها، حقا لم تعطي لنفسها أي مجال للتفكير بوضعه بهذا العمق، ذلك ﻷن كراهيته تستحوذ على جانب كبير من عقلها وقلبها وبالكاد أجبرت نفسها على ما فعلته بالأمس .. والسؤال هنا، ماذا ستفعل بهذه الورطة؟؟
لعنت نفسها مجددا ومجددا في كل مرة تجبر على رؤيته ومساعدته!! .. فليرقد المزاج الرائق بسلام، بعد أن أدركت سوداوية أيامها المقبلة معه!!
"تبا لهذا!!"
هدرت بها بشفاه مزمومه بسخط وهي تسحب طبق نظيف لتنقل به الشطيرة الباقية ثم وضعته بصينية وفتحت البراد من جديد لتملئ منها كوب عصير وحضر آخر للماء .. نفخت بغيظ ومن ثم حملت الصينية بإستسلام لتذهب له.
● ● ●
طرقت الباب مرة وقبل أن تعيدها سمعته صوته الخشن يسمح لها بالدخول .. أخذت ارتدت به قناع البرود قبل أن تدخل عليه لتجد على وضعه الذي تركته عليه بالأمس .. يفترش السرير لم يتغير وضعه سوى في وجهه الذي ذهب عنه الحمره وسكن بدلا منه الضيق يغيم عليه منذ فتح عينه على ألام جسده المبرحة .. بنظره، وضعه لم يكن سئ مقارنة بما مر به منه قبل، لكن لا يعلم من يأتيه هذا الشعور اليأس ليجد نفسه عاجز حتى على مفارقة الفراش وكأن ما بداخله من طاقة تحمل قد فرغت.
الإنهزام المخزي، هذا ما يشعر به!! .. ارتكب خطأ لا يغتفر، بذل كل ما في وسعه ﻹصلاحه إلا إنه لم يكن كافيا .. مَن يتعبد قلبه بها تهوى آخر، ولا أمل له في ذلك .. وأخيرا القارب قد تعطل حقا بهم، وفشل في إصلاحه هو الآخر كما قالت .. ما يؤلمه هو توريطه لها في مثل هذا المأزق، بالأول كان كل شئ تحت السيطرة وما إن يشق عليه صعب كان بإمكنه إنهاءه والعودة كما كاد أن يفعل .. أما الوضع الحالي غير معلوم بطريقه ترهبه، ليس نفسه، إنما عليها.
والآن، هو يضجع الفراش مستسلم لشعور الضعف العاهر الذي ينسج خيوطه، هو خاسر لما فات، وفاقد السيطرة على ما هو آت .. أهلا به في أرض الجحيم!!
كان هذا قبل أن يستشعر وجوها قبل أن تطرق بابه، وكل ما كان به قد اندثر ما إن أطلت عليه بهيئتها الصباحية التي أنعشت قلبه .. رآها تقبل عليها محتفظه بملامحها الجامدة ونظرتها الحذره بينما تحمل بيدها صينية طعام ثم تمتمت وكأنها مجبره على قول هذا:
- صباح الخير.
بصعوبة اعتدل بالفراش بوضع غير مريح بالمرة ولكن تعابيرة على النقيض كانت مبتهجة بذهول .. لقد ألقت عليه تحية الصباح؟! .. لم تمهله الصدمة وهي تكمل موضحة باقتضاب بينما الصينية على الفراش قربه:
- أعتقد أنك لم تتناول شئ منذ الأمس في حين أنك تحتاج لهذا من أجل الدواء!!
هز رأسه لها بتفهم ومازالت عينه تحكي الصراع الذي يخوضه بين غبطته الممتزجة بالذهول وبين شعوره بعدم الإستحقاق الذي يجلده .. مع هذا كان عليه أن يردف بنبرة مهذبة لبقة:
- شكرا لكِ، لم يكن عليكِ فعل هذا.
كانت ترمقه بنظرة قرأ بها تخبطها وحيرتها مثله ثم تنظر إلى كل شئ عداه .. وما إن انهى حديثه لم تعطي بالا لشكره بل سألته بتقطع وكأن لديها مهمة تريد إنهائها:
- هل تفضل أن .. نقوم بتبدل ضمامات الجرح الآن أم .. أم بعد الفطور؟؟
انزعج من طريقتها التي تفضح مدى ضيقها من مساعدته لذلك ضيق عينه بتجهم:
- لا داعي لذلك، استطيع تدبر نفسي!!
خدش بقوله كبرياؤها الذي تحايلت عليه لأجل أن تساعده .. هل يعرف كم كان من الشاق عليها أن تقف أمامه وتعرض عليه هذا ليرفضه بهذه الغطرسه .. لذلك قررت أن تردها بتهكم يقطر فظاظة:
- أخبرني كيف ستفعل هذا؟؟ .. كدمة ظهرك تعجزك حتى عن الجلوس باستقامه، ويدك.. حسنا، أن أدرى بوضعها مني!! .. والآن آرى أن أعود لك ريثما تتناول فطورك!!
قبل أن توليه ظهرها، كان قد انتصب في جلسته بحمأه وقد أوقدت بصدره نواقيس الغضب ليهدر بها:
- لا داعي لعودتك، فريدة!!
دنت منه بجسد متشنج من تصلبه وعنده:
- هلا تفضلت وأخبرتني سبب حماقتك هذه؟؟
جز على أسنانه وهو يرفع عينه لها ليرى مدى الإصرار والتحدى الذي يندلع من ذهبيتيها عكس ما كان يبدو منذ قليل وكأنه قد جرحها برفضه .. ليس هذا ما يقصده، تبا .. مسح وجهه ليقول بعدها وقد لانت ملامحه:
- لا أريد أجبرك على فعل ما تكرهه!!
تفاجئت من صراحته التي تعترف أنها أشعرتها بنفحة من الذنب وقد هدم بقوله ظنونها السيئة به .. نفثت بضيق ثم إلتجأت إلى السخرية للدفاع وهي تنظره بجانب عينها:
- وما الذي أخبرك أنني مجبره على هذا؟؟
- وجهك فريدة!!
صدمها بقوله هذا ليكمل دون أن ينظر لها:
- مازالت أعرف كيف تبدين حينما تكوني مجبره علي شئ!!
- وجهي؟!
حسنا، لا تنكر صدمتها في البداية لكن حينما أكمل جملته كان صوت كركرتها الساخرة يتردد في أرجاء الغرفة بينما تخفي تستدير بظهرها لتخفي وجهها عنه كعادة جديدة لاحظها مؤخرا .. وحينما تمالك نفسها عادت له وهي تمسح عينها التي أدمعت من فرط الضحك لتقول بطريقتها المستخفة بالأمور:
- حسنا، لا تهتم
هنا وبرقت عينيه بتحذير واضح من تماديها في أسلوبها المستفز ﻵخر درجات تحمله ليهسهس بنبرة خطيرة:
- فريدة!!
استندت على الكومود بجاوره وهي تكتف ذراعيها أمام صدرها وقد عادت الجهامة لتحتل تعابيرها بينما تقول بجدية هذه المرة:
- لا تهتم بوجهي لأنه..
توقفت وهي تدير وجهها عنه من جديد وكأنها تبحث عن كلمات تسعفها قبل أن تسترسل فيما لا بد منه:
- حسنا .. حينما يعاني أحدهم من شلل وجهي ﻷكثر من سنتان يبقى لديه تذكار مما حدث، جزء يصعب السيطرة عليه أحيانا .. هذا الجزء هنا هو تعابيري الجامدة لذلك لا تهتم وتأخذها على محمل شخصي!!
طلقات من رصاص، هذا أدق تعبير يمكنه أن ما يجمعهما من حديث .. شعر بالسواد يهدد بابتلاع روحه من جديد قبل أن تنحدر عينه بعفوية جهتها لتقع على ما أسكت كل الحروب بداخله، ولتنطفئ بداخله أفكاره السوداوية وتتحرر أفكار أكثر قتامة منها.
من موضعه هذا، وبفضل حركتها الدفاعية التي تسببت في بروز صدرها أكثر أعطت له رؤية أكثر من هالكة لحنايا نهدها الذي تتبدى له بوضح أسفل القماشة القطنية للتيشيرت وقد انحسر عنه قميصها العلوي .. ولا يعرف حينها ماذا حدث له، كل ما يمكن أن يدركه أنه قد فقد السيطرة على عقله ولم يستطع أن يمنعه من تذكر كيف كان مذاقه المسكر وكيف كان كان ملمسه البض لينغمس في مخيلته التي لم تبخل عليه باجترار كل ما زاد حالته سوءا ولم يفق إلا على صراخها الشرس:
- إلام تنظر أيها المنحرف اللعين!! .. أقسم سأقتلك!!
أفجعته حقا بنظرتها حينها، رأى صدق قولها به وهي تنتفض أمام بجسد يتصاعد منه الغضب الممزوج بالنوايا السيئة بينما تحكم القميص حولها ليغطي صدرها بالكامل .. اخفض نظره على الفور، ليس ﻷنه لا يحتمل رؤيتها ولكن لما انتابه هذه اللحظة من نوبة ضحك هستيرية لا يعرف من آتته وقد عثر بمظهرها هذا على متعته الضائعة في إثارة غضبها.
رفع رأسه من جديد حينما سمع صفق الباب وقد رحلت بكل عنفوانها وهالتها الثائرة التي طالما جذبته .. تنهد براحة ولم تفارق الابتسامه الماكرة وجهه خاصة بعدما دقق النظر لأول مرة فيما أعدته له كفطور .. تبا له، أيامه القادمة معها ستكون مهلكة!!
● ● ●