NEVER LET ME GO 3 (AFTER BURN) - الفصل العاشر
الفصل العاشر
إن شراستك كلها ﻹخفاء قلبٍ هش،
لا حدود لهشاشته!!
من رسائل غسان كنفاني إلى غادة السمان
•¤•¤•¤•
أنهى محادثته المقتضبة مع (كمال) والذي لقنه نفس الجملة المعتادة .. "ليس هناك أي جديد!!"
انزوى (مراد) بنفسٍ مهمومه عن الجمع الذي معه لينفرد بنفسه قليلا، عيناه حبيسه بدموع تقتله من الحسرة وتشبعه بالعجز .. عقله لا يرحمه أبدا، لا ينفك يعيد عليه أحداث تلك الليلة المشئومة، حينما تعرضوا ﻹطلاق النار والله وحده يعلم كيف نجو منه .. يومئذ ما إن هدئ قلبه اطمئن على فريدة بعدما خرجت من غرفة التصوير الأشعي ولم تظهر إصابتها سوى برضوض نتيجة سقوطها، وافق بعدها أن يذهب مع فريق التحقيق الذي أرسل ليقوم بتحريات حول الحادث الذي هز أمن الدولة نظرا لمقربته من مقر حساس ومركز حركة وتنقلات متعددة الجهات كالمطار.
وبينما كان يجالس المحققين في الكافيتريا التابعة للمشفى ويكثف جل تركيز لتذكر كامل التفاصيل التي قد تفيدهم في الاستدلال على الجناة، فوجئ بصفير إستدعاء لطاقم الأمن لتعرضهم لهجوم .. إندفع وسط الجموع المحتشده لتستكشف ما حدث، كانت الفوضى تعم المشفى وبات من الصعب عليه الوصول للطابق الذي تقيم به فريدة، هذا كل ما كان يهمه من الأمر، إلا إنه مع التدافع وحالة الهلع السائد بين الناس التي تردد بوجود هجوم إرهابي على المستشفى أصبح الأمر مستحيل، خاصة وقد كان يسير عكس إتجاه تدافع الناس.
انتقلت حالة الهلع له حينما سمع من أحد المتزاحمين أن الهجوم يستهدف الطابق الرابع، طابق فريدة، وبجنون كان يتحرك وسط الناس وكل ما يجول بباله أن مهاجميها قد عادوا ليقتلوا بعدما نجت .. وبشق الأنفس استطع بلوغ الطابق الذي كان قد حوصر برجال أمن المستشفى وتم إخلاءه من المواطنين وبعد صعوبة في التفاهم معهم واقناعهم بالسماح له بالإطمئنان على فريدة، اخبروه حقيقة ما حدث .. الحقيقة التي أسقطت قدماه أرضا .. لقد تم إختطافها وسط عدد من الرجال المدججين بالأسلحة .. وبتد مراجعة كاميرات المراقبة استطاع التعرف على ذلك المجرم الذي قام بهذا، لم يكن سوى عدوه اللدود .. وحيد عائلة الشاذلي المدلل!!
رغم فداحة الفاجعة إلا أن هذه المرة أقسم بأنه سيوقعه في سوء أعماله، لن يفلت دون عقاب كما فعل حين اعتداء الجسيم عليه .. ومن أجل هذا، فعل كل ما بوسعه حتى الآن، لم يهدئ ولينعم بلحظة راحه من حينها، بالأساس كان من الصعب عليه العودة للمنزل بدونها ليقابل عيون الجميع المتلهفة لخبر يبرد قلبهم، خاصة والدتها التي ما إن وصلها الأمر حتى عادت بإلتياع وكلما صادفته عينيها يرى بها لومها البائن على تقصيره في الحفاظ على أمانتها التي أوكلتها إليه .. لذلك فضل جلوسه ليعفي نفسه من هذا الألم ومن حهة أخرى يستخدمها كوسيلة ضغط على هؤلاء المجرمين .. خصوصا بعدما تنامى بداخله شعور بأن لهم يد أيضا في حادثة المطار.
مع هذا، لم ييأس ولم يأهبه لحظة لمدى نفوذ تلك العائلة اللعينة، وتعهد على نفسه باستعادتها حتى لو كان الثمن حياته .. وها قد مضى على اختطافها أسبوعان كاملان دون جديد، ليشعر بروحه وكأنها تتلاشى من الألم كلما فكر بكيف حالها الآن، ترى تعرضت للأذى من ذلك المجرم، قلبه يؤلمه كلما تطرق عقله لحاتها النفسية الهشة التي لن تحتمل مثل هذا الحادث العصيب .. ترى كيف حالها الآن؟!
توقفت حياته قسرا عن تلك الفكرة، إلتهى عن عمله، وعن حياته، وعن إبنته حتى، بات لا يعرف ليومه ليل من نهار .. يتآكل قلبه من الحسرة كلما تذكر سعادته في مدة خطبتهما القصيرة وقد ظن حينها أن أمنيته الوحيدة بالحياة ستتحقق وآخير القدر سيكون عادلا ويجمعه بمناة قلبه حتى جاء ذلك الحقير وأفسد كل هذا بطرف عين .. كل هذا يجعل الغضب والحقد يتعاظم بداخله تجاه هذا اللعين الذي لم يكتفي بتدمير حياتها من قبل .. ومع كل زفير ملتهب له يخرج معه قسم شريف بقتله إذا طالها منه أي آذى!!
وفي خضم ما يصول بخاطره لمح من زواية عينه خيال شخص صغير بجانب إحدى أسوار القصر الجانبية لينهض ليستطلع الأمر دون تردد.
● ● ●
وقف أمام مرآة غرفته بعدما انتهى من حمامه وراح يتفحص كدمة ظهره التي قد انحسر تورمها وخف ألمها كثيرا خلال الأيام الماضية، ويرجع الفضل في هذا إلى تلك الأميرة التي رغم مزاجها الناري على الدوام إلا إنها ترفعت عن الإساءة في معاملته بل على العكس إلى جانب مداواته فعلت له ما زادها مكانة في قلبه، وزاد من ضئالته أمام نفسه في المقابل.
كانت تعد له وجبات الطعام كل يوم، حتى ولو كانت بسيطة غير متكلفة إلا إنها كانت أشهى ما تذوقه بعمره، بجانب هذا كانت تقوم ببعض مهام التنظيف الخفيفة، حتى أنها فاجئته ذات يوم وهي تضع له جانبا ملابس تخصه وقد قامت بنتظيفها له .. كل هذا جعله ينتشي من تأثير لمساتها المنعمة في كل تفاصيل حياته .. اجتذبه رغما عنه من عتمة أفكار لمنطقة محايدة بينهما خالية من الكراهية أو ظلام الماضى.
بدى له الأمر وكأنها قد أعلنت هدنة مؤقتة، لا حرب بها .. وهذا ما شجعه على استغلال هذه الهدنة، وبدلا من تفكيره فيه إعادة تصليح القارب بعد أن ذهب المرض عنه، صرف نظر عن هذا مؤقتا وترك نفسه ينعم في جنة قربها واعتنائها به ،حتى لو كانت شحيح .. يستمتع لكل ما تمنحه له من أول تحية الصباح إلى المساء، وحتى ما كان يتخللهما من مشادات مستفزة وكلمات لاذعة أصبح يجد متعته بها، في رؤية هذا الوجه الملائكي الذي يجوب به شغفا وهو يحتدم بحمرة الغضب والحنق .. وبات وكأنما قد تبددت بداخله أي وحوش كانت تحول دون هذا من قبل.
أزفر عن تنهيدة معبئة بولع وهو يمسح على شعره ليعيد تهذيبه بينما يفكر بأنه قد تركه هذه المدة ليستطيل أكثر من اللازم، كذلك لحيته التي باتت أكثر كثافة مما أكسبه هيئة مهيبة قاتمة، لم يعد يفضلها.
نفخ في سأمٍ من وضع يده اليمنى التى كانت تتحسن ببطئ، فكانت إصابتها من الدرجة الثانية لذلك يتوقع أن يمتد الأمر لأكثر من أسبوع آخر، وهذا ما لن يتحمله بهذه الخلقة التي تجعله يبدو وكأنه خارج من معتقل.
ودون أن يشعر كان باب غرفته يفتح بغتة وتظهر هي أمامه بملامح مكفهرة على غير العادة .. كمَن تلامسا في شرر كهربي فزع كلا منها ليدير ظهره للآخر، هو خشية من أن ترى وشمها الذي يحتل صدره، وهى اندفعت دماء الحرج بوجهها لذلك كادت أن تأخذ الباب بيدها وترحل قبل يتداركها أدهم وقد ارتدى على عجالة تيشيرت أزرق على بنطاله الذي كان يرتديه من قبل:
- مهلا .. صباح الخير!!
تراجعت قدماها وهي تلقي عليه نظره حذره لتتأكد من أنه قد ارتدى كامل ملابس حتى انقلبت تعابيرها للعبوس ثانية حينما تذكرت ما آتت من أجله لتسأله بلهجة عملية:
- هل لي أن أعلم أين خزانة الطعام أم أنها من الأشياء المحرمة عليَّ أيضا؟!
فطن ﻹنزعاجها المبرر فقد آبى الأيام الماضية أن يفصح لها عن مكان السكاكين وشبيهها من الأدوات الحادة؛ لإنعدم ثقته في تصرفها المتقلب لتنفجر به وقتها لاعنه اياه بأفظع السباب، ليقابلها هو بأعصاب بليدة لا يعرف من أين آتى بها .. واﻵن بعدما علم ما ينطوي عليه الأمر بات مجبر على التصرف نفس النهج البارد وأجابها مستفهما:
- ماذا تقصدين؟؟
تقدمت منه أكثر وهي تقول بخلجاتها المتجهمة وتندلع من عينيها نظرات متوعدة بالشر:
- ما أقصده أن خزانة المطبخ شبه فارغة من الطعام .. والآن أخبرني أن هذا ليس كل ما لدينا!!
حسنا، بهذه اللحظة إجابته كانة موضع ارتكاز سيتوقف عليها الكثير، وبالنظر لجسدها المتأهب للقتال علم أن القادم ليس جيد ويمكن أن يطيح بالهدنة التي بينهما لكن الأمر كان يستحق عناء المجازفة، أخذ كفاية في تنسيق جوانب الأمر برأسه قبل أن يردف بنبرة هادئة مترقبة:
- حسنا فريدة، هذا كان من الأمور التي حاولت الإبحار من أجلها وكنت على وشك إطلاعك على ذل..
لم يكمل ما بدأه لأنها رفعت يدها بوجه كإشارة ليصمت بينما تدير عنه وتعتصر عينها لتحتوي هذا الفوران الذي يندلع داخلها ومن ثم تحدث بصوتٍ باهت إلا إنه ينذر بالخطر:
- ماذا تعني بهذا؟! .. هل تخبرني الآن بأن الطعام قد نفذ؟؟
كاد يتحدث ليهون على آثر الصدمة ولكن عوضا عن وجدها تنفجر بوجه مربد بالغضب:
- اللعنة عليك .. أنت .. أنت ماذا تخطط أن تفعل بي حقا؟؟ .. بالبداية لم تكتفي بما فعلته واختطفتني، ثم عطلت المركب وبالأيام السابقة كدت تفتعل ماس كهربي لتحرقنا والآن تقف أمامي وتخبرني بكل سفاهه أننا سنتضور جوعا حتى الموت؟!
- فريدة .. هل يمكن أن نتحدث بروية؟؟
هتف بتمهل لتعاجلة هي مستجوبة بنبرة ملئية بالإتهام الممتزج بالغل:
- أي روية؟! .. لماذا لم تخبرني عن نفاذ المؤن؟؟
أفرج عن زفرة متأنية وأخيرا قد بدأت تسمع:
- ﻷننا كنا في طريقنا للعودة.
اهتاجت انفاسها من جديد وهي تعدد له على أصابعها:
- والآن ماذا؟؟ .. نحن عالقون بالبحر بدون طعام .. نحن هالكون!!
توسد ذراعه منتصف خصره وعينه تجوب ملامحها الملتاعه ليلقى بالكارت الأخير الذي بحوزته:
- الحقيقة، لسنا كذلك!!
تنبهت لنبرته الهادئة وارتابت به لتسأله بحذر:
- كيف؟؟
ليعبئ صدره بشهيق يمنحه الشجاعة ليكمل ما يتوقع بعده نوبة إنفجار أخرى:
- أنتِ قولتيها .. نحن بالبحر!!
رمقته مطولا بتوجس لا تعي ما يرمي إليه حتى استنار عقلها فجأة بالإجابة لينتفض جسدها كالملسوعة وهي تهز رأسها باستهجان:
- لا .. ما تفكر به لن يحدث!!
اقترب منها ليستجدي تفهمها متحدثا بأقصى نبرة عقلانية يمتلكها:
- فريدة، اعلم انكِ لا تأكلين الأسماك .. ولكن هذا ليس خيارا الآن، إما هو أو سنتضور جوعا!!
- إذا أفضل الموت!!
بصقت تلك الجملة المفتقدة للمنطق بوجه ليعاني بعدها إنقطاعها ليومين كاملين عن كل ما تقدمه له الذي كان بمثابة إعلان بائن لرفضها الغير مستهين لهذا الوضع المرتدي والذي بات لا يحتمل بجميع جوانبه .. مما أرغمه على إعادة تفكيره في خطته المتهورة التي لم تكون سوى وليدة اللحظة بعد أن بدت له كفرصة أخرى تجمعه بها وتذيب ما بينهما من حواجز جليدية كان واثقا بأنها ستنتهي بمجرد شفاءه .. وهذا ما رفض أن يسلم به .. شخصية عملية مثله لم يعتاد فقط أن ينتهز الفرص بل يختلق الفرص ويستخلصها لنفسه من وسط الصعاب، الأمر كله لا يحتاج سوى لجرعة من المخاطرة والتهور ليفتح به باب ظن أنه لم يخلق ليفتح.
وهذا ما فعله عندما أخبرته بنفاذ المؤن .. كان عليه أن يختار بين طمأنتها لوجود مخزن إحتياطي بالمركب كإجراء أمني إحترازي، أو أن يخفي عنها هذه الحقيقة لتزعن بعدها بوجوب تضامنهم معا في هذه الأزمة، بالطبع بعد أن تنقشع ثورة غضبها وحمأتها .. إلا إنها لم تنقشع وتصفو كما توقع، بل باتت له وكأنه تفضل الموت على أن تنفذ خطته اللعوب .. صحيح أنه كان يعلم عن أمر عزوفها عن تناول الأسماك لكن لم يتوقع أن يكون الأمر بالنسبة على هذه الدرجة من الفزع.
في صباح اليوم الثالث لتلك القطيع لم يجد بدا من الإستسلام أمام جنونها الذي أضحى يعرفه، ويعرف إلى أي مدى قد يتطور به، فقط تجدها فرصة لتنقطع بها عن الطعام وهذا ما كان يستحيل أن يسمح بأن يحدث؛ لذلك كان في طريقها إليها ليطلعها على وجود المخزن الإحتياطي مصطنعا أمامها سهوه على الأمر، ليس لدي أمل في أن تنطلي عليها كذبته.
وبينما كان يدلف إلى الرواق لمحها تفتح غرفتها فثبت مكانه حتى يتبين الأمر، ولدهشته أخذت خطواتها المتمهلة إليه بتعابيرها المسطحة كالعادة لتقف أمامه قائلة دون استباق وقبل أن تلقي عليه التحية:
- أين عدة الصيد؟؟
● ● ●
بعد مرور قرابة الساعتين، وقف أدهم متخفي بتلك الزاوية المنحصرة من بالسطح العلوي يراقب تلك الفاتنة وما تفعل بعدما صدمته العادة بموافقتها، وليس هذا فقط، بل وأنها وحدها من سيتولى مهمة الصيد الشاقة مستنكرة مساعدته ﻹصابة يده التي لم تتعافى بعد، لينصاع لها على مضض بعدما رآى من تصميم بعينها .. لتأتي بعدها المعضلة الكبرى عندما سألها عن مهارتها في الصيد والتي رفضت بحدة مجرد التشكيك بها .. وها هو الآن يرى بعين مستوى هذه المهارة الفائقة!!
جال بنظراته الهائمة على قوامها الفاتن وقد ارتدت إثنان من التيشيرتات القطنية بدون أكمام ولم يكن يحتاج ليخمن السبب .. أطلق تنهيدة مولعة حينما لاحظ إكتساب بشرتها لحمرة الشمس بعد وقوفها طوال هذه المدة تحتضن بذراعين متهدلين من التعب جراء حمل الصنارة .. تبدل بين قدميها في وقفتها لتزيد من إبراز إستدارة مؤخرتها بطريقة تصهر الأعين داخل هذا السروال القصير، ليتساءل حينها، "كم إزدادت فتنة في غيابه!!" .. اللعنة عليه!!
أعلن إكتفاءه من مشاهدتها وهي على حافة الإنهيار من صلابة دماغها العنيد .. تقدم بخطوات حثيثة ليهتف بطريقة بدون استباق:
- ساعتان بدون سمكة واحدة .. اعتقد انكِ بحاجة لمساعدة أيتها الأميرة!!
انتفضت في وقفتها وقد بدت وكأنها كانت شاردة لتجيبه بهجوم غير مبرر:
- ما الذي آتى بك؟؟
اشار بذراعيه قائلا بسماحة:
- انا بخير .. واعتقد أنني أستطيع مساعدتك!!
بدت وكأنها تتصيد له الأخطاء لتقول بجهامة بينما تدفع الصنارة تجاهه:
- جيد، إذا خذ وأرنا مهارتك!!
قبل أن تندفع راحلة وقف أمامها وهو يقول بإستغراب ممتزج بعتاب خفي:
- تمهلي .. انتي تفعلين هذا ﻷنك متأكد من أنني احتاجك!!
اعطته نظرة غير محببة مليئة بالشك والريبة ليستفيض قبل أن تسئ فهمه:
- اعني نحنا نحتاج بعضنا البعض لنخرج من هذه المحنة!!
هنا وقد أوقن تنور جنونها لتهدر بإنفعال مَن بلغ حده:
- نحن في هذه المحنة بسببك!!
زم شفتيه متحاملا على نفسه ليبتلع طباعها الغليظة وهو يردف بنبرة محايدة تدعوها للتعقل:
- أعرف ولكن ليس هذا هو الوقت المناسب للحساب .. أليس كذلك؟؟
قالها بطريقة ذات مغزى وكأنه يذكرها بحديثها معه بغرفة المحركات، فاستكانت هي للحظة وكأنها تفكر بكلامه قبل أن تعود لتتناول منه الصنارة دون حديث لتجده يقبض عليها قائلا باستغراب مصطنع:
- هل كنت تحملينها كل هذه الفترة؟! .. إنها ثقيلة!!
لم تفهم ما يرمي إلبها لتقطب جبينها وهي تهز رأسها عدم فهم، فاشار خلفها لحامل خرساني مثبت على حافة سور المركب على قاعدة دوارة مضيفا بتوضيح:
- لمَّ لم تستخدمي الحامل وتجلسي فقط في انتظار الصيد؟؟
تصاعدت من عينها ابخرة الغيظ لتصر أسنانها محاولة ابتلاع حماقتها وعنادها في شئ هي لا تفهم به من الأساس، فقط بضع مرات قليلة كان يصطحبها بها مراد وتجالسه وقت الصيد .. لكن أبدا لم تجرب فعل هذا بنفسها، إلا أنها خشيت أن تفصح له عن هذا فيقابلها بالسخرية والتهكم ووقتها لن تضمن عواقب فعلها .. خطفت من يده الصنارة دون ان تعطيه اي فرصة للمساعدة متحاشية النظر بوجهه ورؤية تلك النظرة المستمتعه التي تتراقص بعينه ظفرا.
قامت بوضع الصنارة داخل الفراغ الدائري المخصص لها لتجرب بعد هذا تثبيتها كيلا تسقط بينما تقول مغيرة دفة الحديث لتغطي على خزيها الذي تغرق به:
- أظن أن هذه المنطقة ضحلة من الأسماك!!
عض على شفته ليكبح ضحكاته بينما يراها تكابر لتبدو أمامه على دراية بخبايا الصيد:
- حقا؟؟
توترت من نظراته الماكرة التي تخترقها ليختل احكامها على الصنارة فتميل مع الرياح القوية ليزداد ثقلها على يده فكاد أن تسقط منها، ليختل توازن فريدة وهي تحاول تثبيتها، وفي ثانية شعرت بأدهم يدعم جسدها بين يديه ويلتصق بها بطريقة حميمة حتى قام بتثبيت الصنارة وحجم المقبض قدرها .. وحينما انتهى كانت فريدة تلفظه بعداء شرس:
- ابتعد عني أيها المنحرف المستغل!!
انزعج من سوء ظنها بها ليقول بنبرة جادة نافية:
- كنت احاول مساعدتك.
تقافزت شياطينها من جديد وهي ترمقه بنظرة مستهجنة:
- لا احتاج لشئ منك!! .. ثم أنت هنا لتساعد نفسك، لأنني لن أأكل من هذا السمك !!
- عفوا؟؟
غمعم بها مستنكرا لما سمعه مؤخرا فقد عجز عن تفسير جنونها ليقول بما يعلم أنه ستسفز برودها:
- إذا في سبيل ماذا قد تحملتي الوقفة ﻷكثر من ساعتين؟!
صددت له نظرات نارين من عينيها التي تبرق الآن كالعسل الصافي لتنافس لهيب الشمس ثم ادعت التفكير للحظة ومن ثم تشدقت بتأني مهين ونبرة متغطرسة أعادت بذاكرته شخصية فريدة التي استفزته لتحطيم غرورها:
- اممم، أتعرف لم؟؟ .. ربما ﻷن هناك وغد خطفني بمركب معطل بائس مثله، وليس لدي شئ أفعله، لذلك ارتضيت بفعل هذا السخف، وليس طمعا في رضاك سيد أدهم!!
تصلب جسده بشرارة حسية لدى سماعه لكلمتها الأخيرة، وقد لاقت رنين خاص بداخله .. وباللحظة التالية كانت قد انتبهت هي لبريق عينه المطعم بغموض، ووجدت نفسها تفقه سببه على الفور لتفرج عن ابتسامها صفراء ماكرة لتغمغم مخمنة بطريقة مستهتره:
- لحظة .. أنت تحب هذا .. تحب سماع هذه الكلمة!! .. (سيدي) .. اللعنة عليّ!!
رمقها بنظرة قاتمة غريبة لم تستطع أن تستشف ما يدور بخلده خلفها، وكأنها بذلك قد تعدت حدوده الحمراء وصار واضح أنه لا يستسيغ أسلوبها المتدني في التلميح لشئ ما .. أنقذها من احتدام نظراته والطاقة الموترة التي شحنت الأجواء حولهما، إهتزاز الصنارة فجأة، لتندفع فريدة بفزع تحاول السيطرة على خيط البكرة الذي ينسحب بسرعة رهيبة وهي بالكاد تدرك أن هناك صيد أخيرا، لولا يد أدهم الذي وقف خلقها من جديد ليمسك بالخيط ويسحبه بقوة من الماء حتى يتسنى لفريدة فرصة إستعادة جذبه على البكرة.
وبمهارة وقوة كان يثبت السمكة إلى حد ما التي بدى انها ليست بصغيرة لحين تمكنت فريدة من سحب الخيط، فترك أدهم السمكة ليقوم بإيصال خيط الصنارة برافعة اتوماتيكية فتتولى هي مهمة انتشارها من الماء .. بعد ثواني لم تصدق فريدة عينها وهي ترى أمامها هذه السمكة والتي اتضح أنها سمكة متوسطة الحجم إلى حد ما تكاد تبلغ الخمسون سنتيمتر لتبتسم فريدة دون أن تدري من بين أنفاسها المبتهجة مفصحه عن سعادتها:
- لقد فعلنا هذا!!
رمقها أدهم بغموض لثانية ثم أعطاها بسمة طفيفة مصححا لها:
- لقد فعلت أنتِ هذا فريدة!!
اومأت له وقد زاد فخرها واعتزازها بنفسها، وبينهما هي في غمره سعادتها هذه، سمعت إجترار خيط البكرة ويتبعه سقوط مجحف للسمكة بالبحر مرة أخرى!! .. زعقت فريدة به بعين متسعة بعدم تصديق:
- ماذا فعلت الآن؟؟ .. هل انت مجنون؟؟
انتصب قي وقفته أمامها ليحجب عنها قرص الشمس، بل الهواء أيضا ليغمغم بعدها بابتسامه متعجرفه وكأنه يتفضل عليها بالإجابة ويشير لكذبتها بشأن معرفتها بالصيد:
- ألا تعرفي فريدة أن الطعم الحي أفضل من الصناعي؟؟
نظرة عينه الباردة أخبرتها أنه كان يتقصد هذا، لينهج صدرها بأنفاس مستعره من أجلها اعتصرت قبضتها حتى لا تتهور وتدفع هذا اللئيم في البحر لتندفع بعدها من أمامه تدق الأرض بخطوات غاضبة وتتمتم بحديث لا يسمع ليس إلا انهسباب ولعن له ولنفسها ﻷنها تساهلت معه وساعدته .. وفاتها ذلك الذي وقف يتتبعها بابتسامه ماجنة يخبئ تحتها ضحكاته التي تحاربة للإنفلات بضراوة.
● ● ●
جلست بعيدا مكتفيه بتأمله بخلجات أقل ما يقال عنها أنها متناهية الإشمئزار بينما تشاهد عن كثب وهو يقوم بمشقة بتقطيع هذه السمكة العملاقة التي تفترش الحاجز الرخامي للمطبخ أمامه مستخدما يده اليسرى في مهمة تتحدى قدراته.
لم تكن قد اختفت آثار الذهول من وجهها بعد، فهي وﻷول مرة ترى بها سمكة بهذا الحجم الذي يكاد يضاهي وزنها هي شخصيات بل ويفوقه أيضا .. إلى الآن لم تصدق كيف اصطادها وحده بعدما تركته هي غاضبة مستخدما سمكتها الصغيرة كطعم، ليثبت لها بذلك أنه لم يكن بحاجة لها من الآساس .. وهذه الفكرة في حد ذاتها كانت توقد حقدها تجاهه متخيلة أنه كان يحتال عليها كالعادة، وبنزق مندفع صرحت بصوت عالي قليلا:
- انا لن أأكل من هذا؟؟
ألقى السكين الكبير من يده بإجهاد .. للمرة الثالثة أو الرابعة تعيد على مسامعه هذه الجملة المستفزة، وخمن ماذا؟؟، لقد إكتفى!! .. ليجيبها بنبرة حانقة دون أن يرفع عينه لها:
- كفى فريدة، أقسم عرفت!!
مسح عن جبينه العرق الذي ينزح على عينه ليعيق رؤيته ثم غمغم لها بهدوء:
- والآن هل يمكن أن تأتي وتساعديني؟؟
ردت بالرفض دون تفكير:
- لن ألمس هذا ال..
قاطعها بلهجة لا تدع لها مجالا للرفض وهو يرمي لها قفازات بلاستيكية:
- لن تلمسيها، فهمنا!!
اقتربت منه بينما ترتدي القفازات بتلكؤ، ليعطيها نظرة فارغة الصبر فتدب الأرض بقدمها مدمدمة بحديث غير مفهوم، تغلب على نوبة الضحك التي تأتيه كلما رآها تتصرف بطريقتها الطفولية وشيئا بداخله يغتبط كونها لم تفقد هذا الجانب، ليضيق عينه مستحضرا الجدية وهو يشير له على موضع معين بالسمكة:
- أضغطي بقوة هنا!!
كان يحاول سلخ الجلد وتشفيه اللحم الطازج عن الشوك ليفلت السكين هدفه الدقيق في هذا ؛ لأن فريدة كانت بالكاد تلمس بأطراف أصابعها المتقززة السمكة .. أدار عينه بنفاذ صبر، تبا هذا لن يفلح .. وبلحظة كان يجذب كفها بقوة ويضغطه بالكامل على السمكة وهو يؤكد عليها بنبرة حازمة:
- لا تحركيها!!
نظرت له شزرا وزمت شفتيها ولم تعقب علها تنتهي من هذا الأمر السخيف واكتفت بمتابعة السكين الذي يشق ما أمامه بمهارة ويتحرك بسرعة على طول السمكة .. مضت دقائق من الصمت جمعتهما شعر بأنه غارقا داخل هالة وجودها، يستغل قربها المهلك ليعبئ رئتيه من انفاسها الدافئة ويستشعرها على وجهه، أغمض عينه ليحتوى ما يعتمل بداخله من دبيب الرغبة التي تناوشه في حضورها، ليسألها بغته مسترقا انتباهها:
- لماذا لا تحبين السمك؟؟
اجابتها بينما كانت مآخوذه بما يفعله وهي تهز كتفيها بعدم إكتراث مشيرة لما امامه وكأنه خير دليل:
- كما ترى .. كل شئ به يثير غثياني!!
- هل تذوقتيه من قبل؟؟
- بالطبع وإلا كيف علمت مذاقه السئ؟؟
استنكرت عدم منطقية سؤاله لتجيبه بطريقة قاطعة لا تحمل مكانا للهزل مما زاد من فضوله ليعرف عن تجربتها هذه أكثر، إلا انه ادعى عدم الإهتمام وهو يقول بتهذيب:
- يكفي هذا .. هل يمكن أن تنتقي مما لدينا من خضروات ما يصلح لعمل طبق سلطة؟؟
لم تصدق أنه قد آعفاها أخيرا من هذه المهمة البغيضة لتبتعد على الفور زافره براحة وهي تتجه إلى البراد دون حديث .. أخرجت ما وجدته ثم استدارت له تطلب بوجه جامد ما تقطع به، ليعطيها أدهم نظره تقيمية قبل أن يفتح درج يحتفظ به بالسكاكين والأدوات الحادة ويعيد غلقة بعد الاستخدام .. استخرج لها سكين صغير ولم تفتها نظره التحذير التي حدجها بها.
فيما بعد، جلس الإثنان بإرهاق إلى طاولة المطبخ ليبدؤا في تناول طعام الغداء قرب مغيب الشمس، ﻷول مرة معا .. تأملها ادهم بنظرات جانبية بينما تجلس بالكرسي المقابل له مكتفية بطبق من السلطة الخضراء وقطع البطاطا المقلية كغداء لها .. تنهد بإحباط، لم يتوقع أن تكون عنيدة الرأس إلى هذه الدرجة، لم تتنازل عن رفضها حتى أمام كل الإغراءات التي بذلها مسترجعا كل مهاراته في الطهي ليستخرج لها أشهى طبق أسماك قد تتذوقه، إلا إنها لم تلقى عليه نظره وإذا حدث وفعلت، تكن نظرة تقزز.
- هل يمكن أن تجلبي لي ماء بارد .. من فضلك؟؟
سألها بمنتهى اللباقة وهو يستعمل سلاح التعب الذي تأكد من أنه يجدي معها .. بالفعل نهضت بعد أن اعطته نظرة من نظراتها الباردة، وفور أن أولته ظهرها جذب طبقها ليسقط به قطعة سمك مشوية ويدسها على السطح بين الخضروات بشكل مخفي ليعيد الطبق سريعا وقبل أن تلحظ.
شكرها وارتشف قليلا قبل أن يلزم مراقبتها بعين حذره متظاهرا بتناوله للطعام في حين عادت هي لتفعل هذا بشهية غائبة وذهن غير حاضر .. حتى آتت اللحظة التي التقطت شوكتها قطعه السمك أسفل الخضروات وتناولتها دون أن تدري ليضع هو شوكته جانبا ويتحضر للآتي.
ما إن تنبهت لمذاق غريب بفمها لم تعطي لنفسها فرصة للتفكير لتتناول إحدى المحارم لتبصق به ما بفمها .. وقبل أن تفعل هذا، طالتها يد أدهم الذي انتفض من كرسيه في سرعة وخفة وهو يميل على كرسيها متجاوزا الطاولة بجسده ليكمم فمها برفق .. ذعرت عينها وعلى الفور جذبت يدها شوكتها لتنغزه بها فسابقها القول بتحليل ورجاء جاد:
- لا لا، إياكِ فريدة .. كل ما اريده هو أن تعطي نفسك فرصة لتذوق ما بفمك .. لا تهلعي، ليس به شئ .. فقط أغمضي عينك وتذوقيه على مهل!!
ترددت يدها التي تقبض على الشوكة لدى قوله .. وباتت عينها في صراع مندلع لتجده يزيح يده عن فمها ببطئ وبملامح مسالمة تنفي أي رغبة عدائية وكأنه بذلك يمنحها حرية الإختيار.
مضت عليهما أكثر من ثانية في هذا الوضع، وكل ما اختلف أنه قد عاد لكرسيه ليعطيها مساحتها الكاملة وهو متوقع في أي لحظة أن تبصق الطعام ليس في منديل ولكن في وجهه .. إلا أن ما حدث كان خلاف هذا!! .. فقد وجدها قد استجابت لطلبه بالفعل، وأغمضت عينها بينما تلوك الطعام بفمها ببطئ شديد، مستمتعة بالمذاق الغريب الذي تستسيغه ﻷول مرة.
توقفت اللحظات بينهما هو في انتظار ردة فعلها التي كانت غير مقرؤة تماما بعد أن فتحت عينها وقد كانت تضيقها بملامح متصلبة .. ورغم معرفته برفضها الذي كان واضحا إلا أنه سألها متلهف للإجابة منها:
- ها .. هل كان سئ إلى هذه الدرجة؟؟
أخذت كامل وقتها في الإجابة بينما ترطب لسانها وكأنها تسترجع المذاق دون أن تنظر إليه وهي تجيبه بإستنكار وغرابة لنفسها:
- يشق عليَّ قول هذا، ولكنه ..
كان جيد!!
قالت هذا ثم رفعت رأسها له بابتسامه رائعة تمتزج بالخجل أعطتها له كمكافآة وهي تطلب بحياء بالكاد تحتويه:
- هل لي بالمزيد!!
كانت تبدو حينها شديدة اللطافة إلى درجة لم يشعر معها بالإبتسامة البلهاء التي حلقت على ثغرة وبينما عملت يده فورا على تقطيع شريحة السمك التي كانت في صحنه إلى قطع صغيرة ثم أغرقها بالصوص الأبيض الذي صنعه من المايونيز ثم قدم لها الطبق ليستمتع بعد بثالث أروع مشهد قد رأته عيناه من بعد رؤيتها تبلغ نشوتها أو تتناول الشيكولاه!!
قالت هذا ثم رفعت رأسها له بابتسامه رائعة تمتزج بالخجل أعطتها له كمكافآة وهي تطلب بحياء بالكاد تحتويه:
- هل لي بالمزيد!!
كانت تبدو حينها شديدة اللطافة إلى درجة لم يشعر معها بالإبتسامة البلهاء التي حلقت على ثغرة وبينما عملت يده فورا على تقطيع شريحة السمك التي كانت في صحنه إلى قطع صغيرة ثم أغرقها بالصوص الأبيض الذي صنعه من المايونيز ثم قدم لها الطبق ليستمتع بعد بثالث أروع مشهد قد رأته عيناه من بعد رؤيتها تبلغ نشوتها أو تتناول الشيكولاه!!
● ● ●