-->

NEVER LET ME GO 3 (AFTER BURN) - الفصل الثاني عشر


 

الفصل الثاني عشر


ماذا نفعل والمسافة بيننا كعُمق هذا المحيط؟؟

أنتِ لا تستطيعين الطفو إليّ،

وإن غُصت إليكِ سنغرق معًا،

فلنغرق معًا إذًا!!

•¤•¤•¤•


على استحياء، انبزغ أول شعاع دافئ من ذلك القرص الدامي لتستقبله فريدة بابتهال شديد وعينيها تضيق من ذلك الوهج المنبعث من دفقات شروق الشمس بهذا الوقت الباكر، في حين كانت تجلس بالطابق السطحي لتستجمع نفسها بعد أحداث أمس .. انفعالها وغضبها كان مبرر، وكل الحق لها ولما تمر به .. هي لم تخطئ به في شيء حتى الآن ولم تظلمه قط!! .. أكدت هذا الجانب لنفسها قبل تنخرط وراء تأثير هذا الجو الساحر الذي يشفي نفسها .. دائمًا ما كان مشهد ولادة الشمس من قلب الظلم يثير داخلها دغدغه دافئة مطمئنة ولم تفهم أبدا كيف أن هناك أناس يضيعون يومهم بل حياتهم وهم يحرمون أنفسهم من التمتع بمثل هذا المشهد وما يحمله من نفحات وعطايا صباحية؟!


كانت منغمسه تمامًا في غمره تأملها ولم تشعر إلا والشمس أصبحت تواجه عيناها بقوة مما اضطرها لغلقها بانسجام في تلك الساعة المميزة التي هدئت من حدة انفعالها ووضعتها قيد السيطرة .. ذلك حينما تناهى إلى سمعها طرق قدماه المقتربة منها ومن ثم كان من السهل عليها التكهن بالسيناريو التالي لذلك .. حتى فاجئها عندما توقف على مسافة منها وبصوت ثابت ناداها، فلتفتت له لتراه يمد له يده بعبوة كريم مضيفًا:

- لقد وجدت هذا عندي .. قد يفيدك إذا كنتِ تحبين الجلوس بالشمس!!

أخذته منه وهي في وضع استغراب حتى فطنت أنه يعطيها أحد انواع واقي الشمس .. فأوقفت هاتفه:

- انتظر 

تراجع لتكمل على بتردد بائن:

- انا موافقة!!


لا يعرف لما خاطره تلك اللحظة ذكرى اليوم الذي وافقت فيه على خضوعها له .. كانت تبدو له بهذا الوجه المرتبك متردد الخطى، ولكن أكثر خوفًا من الآن .. حينما قرأت التشوش الطالع على تعابيره، أضافت بنبرة تتدفق كلماتها دفعة واحدة:

- كنت طلبت مني أن اعلمك ممارسة التأمل .. أخبرك أنني ليس لدي مانع!!

قالتها وهي تتجنب تمامًا النظر بعينه طويلًا، وتكثف جُلّ نظرها على العبوة التي بين اصابعها، مدعية أنها تتفحص ما مدون عليها .. بينما كان هناك من زوج من العيون القاتمة التي انهالت عليها بالنظرات التي أقل ما يُقال عنها أنها تتأكد من أن هذا الحديث خارج من فريدة، ليُعد نفسه ويتحين تلك اللحظة التي ستنقلب على سيرتها الغاضبة وتنفجر في وجهه ككل مرة .. خاصة بعد أن رفضت مشاركته الطعام البارحة طول اليوم ومع ذلك لمحها في وقتٍ متأخر من الليل وهي تتسلل إلى المطبخ، تمامًا كقطة جائعة تبحث عن الطعام، وبالأخص تبحث عن السمك الذي أعده .. حسنًا أدهم، لا تهتم، هرمونات أنثوية!! .. تبًا له، سيفقد عقله عما قريب بسببها والغريب انه يُوجد لها الكثير من الأعذار .. والأغرب انه مؤخرًا أصبح يجد في الأمر متعةً ما!! 


عندما رفعت عينها بعدما طال صمته على سؤالها .. وجدها ترمقه بتلك النظرة، تلك النظرة التي من نقائها تحمل أثر السحر، وكأنها تلقي في قلبه تعويذة الأسر، فلا يبالي بما يليها، حتى ولو كانت تسوقه للجحيم بعينها!! .. تحشرج صوتها من ملامحه الغير مقرؤه التي كان يرمقها بها:

- إذا لم ترغب بذ...

- متى نستطيع أن نبدأ؟؟


دهشت من رده السريع الخالي من التردد مع تلك الابتسامة الرائقة التي تظهره غمازته اليمنى بجاذبية مهلكة مع خصله من شعره الداكن المبلل تغطي احدى حاجبيه، لتكتمل الصورة بلحيته الكثيفة التي اعطته هيئة خطيرة .. هنا وجدت شيئًا يهمس بها: 

"هذا كان السبب!!".


طارت عيونها عنه بحيرة وغضب دفين من نفسها، لتجد أصابعها تعبث بالعبوة من جديد ولم تتردد في فتحها واستخدام القليل منها على وجهها الذي بالفعل أصابه الالتهاب من الشمس منذ يوم الصيد الغبي .. قبل أن تعود إلى وضعيه جلوسها الأولى دون سؤاله إلا انه تبعها سائلا:

- ألن تعطيني القليل؟؟

اعطته نظرة تعلوها عدم الفهم قبل أن يضيف بمزاح خفيف:

- هيا .. نحن بمركب واحد، يجب أن نتشارك كل شيء!!

فتحت فمها بدهشه من جرأته معها غير المعهودة قبل أن تعيد له العبوة دون كلمة ثم جلست .. جلس بجانبها وسألها بجدية وهو يتصنع أنه يضع القليل من الواقي على ذراعيه:

- والآن؟؟


أطلقت زفرة عميقة من صدره وهي تنظر له ولا تصدق حقا انها تجالسه الآن لتلقنه مما تعلمت، وكأنهما أثنان أصدقاء .. هو، ادهم، الشخص ذاته الذي فعل بها كل هذا .. هي الآن على وشك مساعدته في الوصول لحالة من الهدوء والصفاء الذهني الخالي من الألم .. أي سخرية ما تجري بينهما .. إلا أنها عادت وذكرت نفسها بما قدمه لها البارحة، نوعًا ما كان لطفًا منه، لذا .. لذا لا مانع فريدة من مشاركته بعض أساسيات علاجك؟! .. بالنهاية، يبدو أنكِ عالقة مع هذا الشخص لفترة أطول!! .. تحمحمت واستعادت اتزانها العقلي بعد ان تشتت ثم جمعت حزمة أفكارها وراحت تشرح له بعملية:

- حسنًا .. ما يجب أن تعرفه عن التأمل أو التركيز هو أن له الكثير من أشكال الممارسة والتمارين التي تمكنك من ممارسته باختلاف المكان أو الموقف، إلا انني افضل هذا الوضع التقليدي .. وهو الأفضل عامة كبداية. 


تواصلت عيناها معه لتجده بالفعل ينصت لها ويركز كامل حواسه معها .. فاسترسلت:

- هناك ثلاثة أساسيات لممارسة التأمل .. الملاحظة .. الوصف .. عدم اصدار الأحكام .. دعنا نتدرب اليوم على الملاحظة اولًا حتى تقنها، الملاحظة ببساطة تشمل ملاحظة أفكاري ومشاعري واستجاباتي التلقائية دون الغرق في التفكير فيما ألاحظه .. المراقبة والملاحظة وظيفتها انها توقف الجزء المَعنيّ بالتفكير في عقلي، ذلك الجزء الذي يعمل بشكل أسرع في اوقات التوتر والضغوط .. هل هذا واضح؟؟

أومئ لها، وبدأ حقًا الأمر يجذبه عن كون في البداية كان مجرد وسيلة او حجة تقربه منها، أما الآن فبدى الأمر شيق ويحمل شق من المنفعة من كلا الجانبين .. يقربه منها، ويساعده في نفس الوقت .. رغم ما حدث، ورغم الفراق البائن، إلا أن هذه الفريدة بدت وكأنها خلقت فقط لتخفف معاناة وتحل عقده، حتى وإن كانت السبب في أذيتها يومًا ما .. فعادت لتكمل له بينما تستخدم يديها احيانًا في الشرح:

- الملاحظة هي طريقة رائعة لتهدئة العقل والجسد في آنً واحد .. إلى هنا وقد اكتفينا من الجزء النظري، دعنا ننتقل الجزء العملي .. اجلس كجلستي، ركبتيك أسفل منك، ظهرك مفرود باستقامة، وكتفيك في وضع استرخاء، كفيك مضمومتان بين ساقيك، رأسك قريب من صدرك .. الآن خذ نفس عميق وثم تأمل صدرك وهو يتسع وينخفض حتى يسكن.

نفذ ما قالته براحبة وشغف لهذه التجربة الجديدة رغم عدم اقتناعه بانه يمكن للتأمل أن يخلص شخص الوحوش التي ترعى في رأسه، إلا أنه نفذ، وهو الآن يراقب أثر ذلك .. هناك راحه خفية تتسلل أسفل أنفاسه .. ربما لأن أنفاسه تعبئة بأنفاسها ورائحتها المغوية .. حرارة جسدها، لا يشعر بجسدها ولكن يشعر فقط بحرارة جسدها .. انها واقعًا في دائرة تأثيرها الآسر .. أي عقل يمكنه ألا يتشتت وهو في حضرة مالكته؟! 


"ماذا تنوين أن تفعلي بي فريدة؟؟"


كان غارقًا تمامًا في وجودها، كيانه مدمغًا في كيانها .. يشعر فقط بانصهار عالمه في عالمها .. حتى سمع صوتها الحاني الذي اتخذ نغمه شديدة العذوبة لا ينبغي لها ان تتحدث بها امام أحد، حتى هو!! :

- الآن، استمع لجسدك!! .. انصت له، بماذا يريد أن يخبرك؟؟ .. هل هناك ألم أو تعب بعضو ما، تشعر بإرهاق أو تشنج بأي عضلة؟؟


"بلى، فريدة .. قلبي يؤلمني بشده .. انقباضاته العنيفة في وجودك تكاد تهلكني .. أنا اسمعه بوضوح، هل تسمعيه أنتِ؟؟ .. جسدي كله ينهار توقًا لجسدك، اكاد أذوب لهفةً للشعور بدفء جسدك بين ذراعي .. افتقدت ذلك كل ليلة، كل لحظة، كل غفلة عين أموت شغفًا لهذا .. إذا اوليت الانتباه لجسدي، سسقودني لجسدك، ولن تكون النتيجة مرضية لكِ!! ..  أنا اعرف ما يعانيه جسدي جيدًا فريدة، فهل تعرفيه أنتِ؟؟"

ماتت أنفاسه وهو يحبس هذه الكلمات المؤلمة بين أضلعه حتى لا تخونه شفتاه وترتجف أو تفعل ما هو أسوء .. تصرح لها بذلك .. وصدقًا، كان هذا أقصى أمنياته تلك اللحظة إلا أنها في الوقت ذاته، كانت والمستحيل واحد!!


افاق من غوصه السحيق داخله على صوتها وهي تقول برزانه وكأنها لم تفعل به شئ الآن:

- هذا التدريب البسيط يمكنك تطبيقه على كل شيء حولك .. مثلاً، ملاحظة صوت هذه الأمواج دون اعطائها اي صفة .. ملاحظة شكل الشروق أو الغروب دون الغرق في ألوانه .. أو حتى ملاحظة حركة السحاب البطيئة وتغير أشكاله .. التمرين على ملاحظة العالم من حولك سيساعدك بعد ذلك في مراقبة افكارك دون الانغماس فيها أو فيما تصحبه من مشاعر .. يعني تلاحظها فقط وتتركها تمضي وكأنها تشاهد هذا من بعيد كما نشاهد هذا البحر .. انظر .. نحن بالبداية سنتدرب على ملاحظة الأشياء، ثم وصفها بدون اصدار احكام عليها .. وبعد ذلك ننتقل من الطبيعة خارجنا إلى التأمل داخلنا في أفكارنا وما يطرأ على عقولنا، لنفك التشعب الذي ينتج عن الاحداث اليومية أو الضغوط، عن طريق ملاحظة ما يطرأ على ذهننا اول بأول، ووصف الفكرة كما هي في الحقيقة، دون آراء أو تكهنات او أحكام .. وبالتدريج والممارسة صدقني ستحصل على الصفاء الذهني الذي تريد!! .. هل هناك صعوبة فيما قلت؟؟


كان يرمقها بتلك الطريقة التي لم تفهمها أبدًا، ولم تستشف منها اي دليل عن شيء .. هل يمكن أن يكونا على القرب الشديد دون أن تشعر بما يجيش به صدره، هل حقًا هذا يحدث؟؟ .. تكن قريبة جدًا منه، وفي الوقت ذاته بعيدة كبعد تلك الشمس التي تتأمل بها؟! .. هذه الفكرة شديدة الرعب كانت ستقتلع جذور عقله وما كاد يفعل حتى شعر بإحباطها من صمته الطويل .. بالتأكيد لا بد أنها اعتقد بأن جهدها قد ذهب سدى .. لذلك تمتم لها بصوت خشن يقاوم تأثيرها الدامي:

- هذا كان رائع، فريدة .. شكرًا لكِ!!


تعلقت عيناها بخاصته، فبدت له في حالة تشتت وكأنها هي مَن تعاني من صعوبة الفهم، أو كأنها تخوض حربًا .. لم يفهم ما بها حتى تحدثت بينما تنهض فجأة:

- أظن أن هذا يكفي اليوم .. بالأساس لا يتم التدريب جميع الأساسيات في جلسة واحدة!!

- جلسة؟؟ .. أليست هذه رياضة؟؟

سألها مندهشًا من جملته، فاجابته بمنطقية:

- لا .. انها علاج كامل قائم على الانتباه والتركيز .. وبالممارسة تستطيع أن تتخذ قرارات صائبة وتتخلص من الضغوط وصخب المشاعر .. وهذا يختلف عن نوع الرياضة الذي يركز على الجانب الروحاني أكثر.

تاه فيما قالته، ودون أن يدري ردد بهمسٍ التقطته أُذنها .. وليته لم يحدث!!:

- هذا يشبه كثيرا ما كان يردده معالجي!!

كانت بالفعل على وشك مغادرته، حتى تداركت ما تلفظ به وأدرك هو فداحة زلته حينما سألته مستنكره بعين ضيقه:

- لحظة واحدة .. أقلت معالج؟؟ .. لمّ يحصل شخصًا مثلك على معالج؟؟


تماسك امامها مجيبًا بتلقائية رغم مشقة ما سيقوله:

- ربما لأكمل ما كنتِ بدأتيه!!

كزت على أسنانها وبهت وجهها تماما وهي تحني رأسها جانبًا بحركة مستنكرة بحتة:

- هل تعني ما فهمت؟؟ انا حاولت علاجك؟؟

هز كتفيه ببساطة وابتسامه داكنة تلون ثغرة بينما يتمتم:

- ونجحتِ فريدة .. منذ رحيلك لم تراوضني أي رغبة سادية!!


رفعت حاجبها بعدم تصديق ورددت:

- ربما قد شفيت بالفعل!!

أومأ له بعين تحمل نظرة ممتنة صادقة إلا انها امتزجت بحسرة لا تخفف:

- نعم

- وربما أيضًا لأنك قد أفرغت كامل رغبتك بما فعلته بي حتى زهدت ساديتك!!

بصقت هذه الجملة بوجهه حرفيًا مستدعية بها كامل حقدها وغضبها المستعر تجاه، رامية بالخطوات العلاجية التي كانت تلقناها بسكينة منذ قليل بعرض البحر .. ثم مضت كعادتها كإعصارٍ مهلك، إلا أن أدهم تحرك بسرعة يلتقط ذراعها ويوقفها، وبذات اللحظة كانت فريدة تسدد له لكمة في الحال، ولسرعته النفسية الحركية المهارة استطاع صدها بسهولة .. رغم الصدمة التي وجد صعوبة في تقبلها إلا انه لم يستطع ان يخفي نظرة الاعجاب التي بزغت من عينه بينما يهمهم لها وهو مستمتع بذهبية عينها الغاضبة:

- مهاراتك الدفاعية تذهلني .. يبدو أنكِ تبلين حسنًا في الرياضات العنيفة أكثر من هذا التأمل .. ولكن دعيني اخبرك سرًا، القوة تليق بكِ!!

- لقد اعتقدت ان القوة والخضوع لا يتفقان!!


سخرت منه بتهكم لاذع، إلا أن ذلك لم يخفف من شدة انبهاره بها، فراح يكمل لها بصراحة لم يتوقع أن يحدثها بها من قبل .. في حين احتفظت عينه بنظرة مبهمة صعبة التفسير:

- المشكلة تكمن في قوتك فريدة .. أنتِ تتوهجين بها أكثر من اللازم، وهذا .. هذا كان يهدد سيطرتي عليكِ!! .. ذلك ما قاله لي المعالج!!

صدقًا لم تتوقع صراحته معها إلى هذا الحد .. ونوعًا ما امتص هذا من غضبها بينما تحلل بذهنها غرضه من وراء ذلك:

- يبدو انه يفهم في هذا!!

- بلى، انه كذلك!! 

همس لها بشفتين بالكاد يتحركان، وكعادة كان يخوض حربًا في السيطرة على جماح جسده الذي يطلب بلمسها .. ثانية ومازال يحتفظ بيدها، ليضطرب الهواء بينهما، حتى استعادت فريدة عقلها وجذبت ذراعها منه .. وقبل أن تتركه أعترضها ثانيةً بصوته الأجش الرجولي: 

- ما رأيك أن أعلمك بعض الفنون القتالية في مقابل أن تعلميني التأمل .. ربما طريقة كل منا تنفع الآخر .. يبدو كاتفاق عادل، أليس كذلك؟؟

- موافقة!!

● ● ●


جلست على هذا الكرسي العالي قرب السياج المحاط لسطح المركب، توزع نظراتها من حين لآخر بين البحر الداكن في هذه العتمة ولا ينيرة سوى الأضواء الزرقاء المنكسة عليه من المركب، وبين أدهم الذي يقف قرب البار ويعبث بين اسطوانات الأغاني .. وجدت نفسها تشرد في الأيام المنقضية، وكيف اختلفت تمامًا طريقة التعامل بينهما .. طول هذه الأيام اعتادت على صحبته، منذ قبيل الشروق يجتمعان هنا عند السطح ليمارسا التأمل، ثم يتشاركان الفطار الخفيف بالقليل مما تبقى لديهم .. ومن بعدها ياتي دوره في تعليمها بعض أساليب الدفاع عن النفس، والتي تعترف انها بالغة الصعوبة إلا أنها رغم تمنحها بعض الراحة يمكن أكثر من تمارين التأمل مثلما قال لها هذا الوغد، خاصة في تلك المرات التي تنال منه وتسدد له بعض الضربات المؤلمة التي تجعله منتشية بقية اليوم .. ومن ثم تبدأ فترة الصيد اللعينة التي تنتهي عادة بمشاجرة ليست حميدة يفسدا بها التأمل الصباحي .. وبعد ذلك، يجتمعا على طاولة واحدة يتناولا الطعام بموائمة شديدة، بل ويتبادلا بعض الاحاديث العادية، وكأن شيئّا لم يحدث أو ربما قد اعتادا على ذلك من كثرة حدوثه .. وفي نهاية اليوم، ينتهي بهما الحال كلًا في عالمه الخاص في جانبًا من المركب، قد تلجأ هي للقراءة أو مشاهدة شئ أو الاستمتاع بسكون البحر .. وقد يحدث أن يتشاركا الليل معًا كهذه الليلة!!


فصادف لجوئهما في الوقت ذاته للسطح في هذا الوقت .. فعندما طالعت السماء هذه الليلة لم غرها منظر القمر المكتمل والنجوم المتناثرة من حوله، فأرادت أن تشبع تأملها منه لذلك صعدت هنا لتجد أدهم بالفعل موجود .. فلم يمانعا قضاء السهرة معًا .. وها هي الآن تسمع موسيقى حانية تنبعث من جوانب القارب لتثري روحها وتزيد نشوتها بهذه الليلة المنعشة.


- تفضلي؟؟

انتبهت فريدة لأدهم الذي وقف على مقربة منها وهو يمد يده لها بمشروبًا ما لم تتبينه، فرفضت بلباقة:

- لا رغبة لي بالشراب اليوم!!

حنت منه ابتسامه لعوب تداركها بخفة قبل أن يردف:

- لم يكن ذلك رأيك تلك الليلة التي دفعتني بها للشرب!!


عبست ملامحها، فاضاف بجدية وهو يحاول جاهدا أن يغير من معاملته له ويجعلها تتخذ نمط صداقة أكثر من النمط الواصي المتسلط الذي كان عليه، لذلك اراد ان يشاركها شئ بسيط كهذا لينسيها رد فعله القديم:

- لا تقلقي .. نسبة الكحول به لا تزيد عن 4٪.

تناولت منه بعد تردد، ليسود بينهما صمت لا يتخلله سوى الموسيقى فقط .. حتى قطعته فريدة وهي تسأله باندفاع يحمل لوم جسيم:

- ماذا برأيك سيحدث لنا؟؟ .. لقد انقضى شهر تقريبًا ولم يصادف أن يعبر هذه المنطقة سفينة واحدة أو حتى قارب سياحي!! .. ما الأمر حقا؟؟ .. هل سنقضي حياتنا منفيين هنا؟؟ .. بصراحة، لن احتمل ان أعيش على السمك أكثر من هذا!!


رفع حاجبه باستنكار طريف لها:

- الآن أصبح السمك خاصتي كريه؟؟

نفخت وجنتيها بطفولية محببة لقلبه، قبل أن تتجهم ملاحها بالكامل:

- انا اتحدث جديًا .. لا بد ان نجد حل!!


استنار قلبه على الفور حين سمع صيغة الجمع في جملتها .. "وأخيرًا فريدة .. اخيرًا أقتنعتِ أن لا ملجأ لكِ سواي .. أنتِ قدري فريدة وانا قدرك!!" .. قطب حاجبية ليكتسب هيئة جدية وهو يولي وجهه جهة البحر ويستند على السياج بذراعيه بينما يسألها:

- يبدو أنكِ قد اشتقتِ له؟؟

رمقته باستغراب جالي، فأضاف من بين أسنانه وبالكاد لفظها بحنكة:

- خطيبك أقصد!!


تنهدت فريدة ثم تقلصت ملامحها وهي تشيح عنه وجهها .. وأخذت وقتها قبل أن تجيبه:

- أكيد!!

- اتحبيه؟؟

اطلق السؤال قبل حتى أن يدرك بأنه قد فعل .. ورغم غرابة السؤال ورغم انها المرة الأولى التي يتبادلا فيها هذه الأسئلة إلا انها وجدت نفسها تجيبه بسلاسة مطلقة وهي تنبطح برأسها على السياج:

- احبه .. مراد يستحق الحب ..طالما كان كل شئ بالنسبة لي .. احبني وانا لا شئ، واحبني في وقت الذي كرهت فيه انا نفسي .. لذلك، نعم انا احبه .. هو جدير بهذا!!


نبرتها كانت هادئة، ملامحها محايدة .. لا شئ فيها ينكر ما قالته، وهذا قتله .. قتله لدرجة انه أصبح خارج دائرة هدوئه واندفع كما فالسابق بتحريك من نيران الغيرة التي تضرم داخله وترفض مجرد تخيله مع غيره:

- ولكن هذا لم يكن قولك فالسابق!!

استدارت له تسأله بعينها عن مغزى حديثه، فهتف مكملا بتأني ثعلب، مستخدمًا أحد اوراقه القديمة لقلب الأمور لصفه، أي إعادتها لوضعها الصحيح من نظره:

- سبق واخبرتيني انه تقدم للزواج منك ورفضتيه لأنكِ لم تحبيه قط .. ولم تريه سوى كأخ!!

- لا .. لا أتذكر هذا!!

تمتمت بملامح باهته وصوت متقطع، فشرع يكمل طارقًا على الحديد وهو ساخن:

- إذًا، مراد يعلم عن قصة والدك؟؟


اكفهرت ملامحها وانتفضت من كرسيها بذعر وهي تهدر به بانفعال:

- هل اخبرتك عن هذا؟؟

- نعم فريدة .. واخبريني الآن، إذا لم يكن ما بينا حب، فماذا يكون؟؟


اخبرها بتأكيد وزهو بالمكانة التي حظى بها في قلبها، بينما يدنو ليقف امامها ويجابهها بنظرات ثاقبة تصهر من شدتها الحديد، يتحدها بها أن تدعى مرة أخرى أن ما بينها وبين هذا الأحمق يسمى حب .. إلا انها صعقت حين قالت بنبرة جليدة أعادت بها الحاجز بينهما من جديد:

- كان ثقة .. اريد ان أكون وحدي!!


● ● ●


مضت اكثر من ساعة وهو مازال يحارب عقله الذي يجلده بسواط من نار على ما فعله وهدم به ما احتاج لشهر لبنائه .. كان يقف بالدور العلوى جانب مقصورة القيادة، ويلهث حرفيًا من الغضب .. رأسه تؤلمه من تخيل أن تعود فريدة لبرودها وجنونها معه .. لا، لن يتحمل .. لن يتحمل هذا!!


وبينما هو على هذا الحال، لمح طيف وهي قادمة له .. تسمر في مكانه بجسد متأهب لإحدى نوباتها، إلا انها فاجأته حين تقدمت ووقفت بجانبه بهدوء وملامح ساكنه .. ودون مقدمات شرعت تتحدث:

- ذات ليلة، كان هناك مهندسان بمحطة لتوليد الكهرباء في إحدى مناوبتهما اليومية .. اتصل احدهما بابنته واخبرها أنه عائد فلا تنام وتنتظره حتى يعود لها بالحلوى .. ما إن أغلق الهاتف حتى بلغه أن زميله الذي من المفترض أن يتسلم منه المناوبة مضطر للذهاب لظرف طارئ، وعلى هذا فهو مضطر لقضاء هذه الليلة هنا .. وافق على مضض، وقبل أن يهاتف ابنته ليبلغها بذلك آسف، ناداه احد العمال لوجود خطبا ما في احدى ابراج الكهرباء، فصعد ليفحص العطل .. وبينما كان ذلك، وقبل أن يفعل شيء، ضربت صاعقة كهربائية هذا البرج، ففزع العمال وحالما استطاعوا ايقاف هذا، سقط هذا الرجل من البرج وقد تحول إلى جثة متفحمة .. ولم يعد للبيت هذه الليلة .. لم يعد مطلقًا .. في حين لم تيأس طفلته أبدًا من انتظار عودته!!


انهت قصتها وهي تشهق بقوة وترفع رأسها للسماء مغمضة العينين .. ورغم المسافة بينهما وظلم الليل، إلا انها استطاع رؤية دموعها المنهمرة بصمتٍ قاتل .. كانت هي!! .. هذه الطفلة أنتِ فريدة؟؟!  .. لهذا السبب كنتِ تخشين الكهرباء؟؟


ما الذي فعلته بحق الجحيم؟!

أي لعنة حلّت عليّ وستلازمني حتى الممات؟؟

أين الخلاص من هذا العذاب؟؟


تزاحمت خلايا عقله بهذه الأسئلة وما على شاكلتها للتصارع مع حدة مشاهد تعذيبه لها .. ليتردد حديثه المفتقر للعقل ذلك اليوم قبل أن يصعقها بالكهرباء أول مرة .. آنى له فعل هذا؟! .. كيف لم يرى حقيقة الملاك الجريح الذي كانت تخفيه خلف قناع قوتها وعنادها على الدوام .. رغم رؤيته لهذا منذ الوهلة الاولى، إلا إنه -وبغباء متقن- اختار جانب شياطينه دون تردد .. هنيئًا لك الجحيم، أدهم!!


بذات الهدوء، ورغم ارتعاش صوتها أكملت لتكشر جمود وجهه المنصدم وتزيده من العذاب كفاية:

- عندما رأيتك ذلك اليوم ملقى على الأرض .. جسدك بارد وممدد انا كابينة الكهرباء، اعادني ذلك المشهد من جديد لتلك الخيالات التي ظلت تطاردني لفترة طويلة من عمري .. طالما كانت الكهرباء العفريت الذي يخيفني .. تلك اللعنة التي تسمى الكهرباء دمرت حياتي في بضع ثواني!! .. حين اخلي بنفسي كنت أتساءل عن كيف كان (بابا) حينما مات؟؟.. بماذا شعر؟؟ .. هل تألم كثيرًا؟؟ .. كان من المفترض ألا يكون هو من يصعد البرج هذه الليلة!! ..  تخيل، كان معي قبل دقيقة من موته؟؟ .. والكثير والكثير من الأسئلة التي أثقلت روحي وعذبت نفسيتي .. صوت الأخير كان يتردد بأذني طوال الوقت ويمنعني من النوم، فقط لأنه طلب مني هذا!! .. كنت أجن دون أن يشعر أحد .. ما أريد قوله هنا أنني .. انني إذا كنت قد أخبرتك بذلك من قبل، فهذا يعني أنني رأيت بك ما كنت أبحث عنه لسنوات، ولم اجده حتى بمراد .. لا اعرف ماذا رأيت بك عن حق، لكن أن اخبرك بهكذا شئ يعني أنك استطع أن تراني بوضوح، وهذا ما كنت ابحث عنه .. والآن اريد ان أعرف عن هذا .. منذ ان استفقت من تلك الغيبوبة والجميع يحدثني عن فريدة التي اعرفها .. واردت الجميع أن يعرفها ويراني عليها .. لم يحدثني احد عن تلك التي سافرت وعاشت وحدها بالغربة ودرست وعملت لم يحدثني احد عن ذلك ببساطة لأن -لسوء حظي- لا احد كان معي تلك الفترة ولا احد عرفني حقًا .. سوى أنت .. لذلك .. انا سأرتكب نفس الخطأ ثانيةً .. انا قررت أنا أثق مجددا، فهل ستخذلني هذه المرة؟؟


انهت حديثها الطويل، ونظرت له هذه المرة .. تلك النظرة التي لم يفقها بالمرة الأولى .. أما الآن .. وبعد حديثها الذي نزل عليه منزل الموت .. لم يسعه سوى ان يبتسم له بعينه تقتتل حسرة وملامح فاقدة للحياة، وفي هذه اللحظة رهن حياته قيد الوفاء بهذا الوعد!!


مد ذراعه لها في دعوة راجية للقدوم له، للوثوق به، لتسمح له بإصلاح خطأه الذي لا يغتفر .. فقط تسمح له بالوجود جانبها .. ولدهشته قبلت دعوته وهي تتقدم منه بخطى مترددة حذرة .. وفي اللحظة تلامست فيها أيديهم صدمها له بصدق، دون رغبات خفية، دون شهوة، دون أغراض أو مصالح .. وأشار لها لتنظر للسماء عاليًا بينما تفترق شفتاه بتلك الابتسامة الجامعة بين الحياة والموت داخله وشرع يحكي له هذه المرة:

- كل شيء بيننا بدأ مع ظهور هذا النجم الكبير .. هل ترينه؟؟ .. انه مميز وواضح عن جميع النجوم، وكأنه مصباح مضاء في عتمة السماء .. يُقال أن الليلة التي يطل بها، تكن مميزة فريدة!!


يتبع