الفصل العاشر - شهاب قاتم
الفصل العاشر
"راجعة البيت الساعة 12 يا هانم، الشرف يا بنت الكلب.. الشرف" أخبرتها هبة وهي تفتح لها الباب لتضحك فيروز وهي تدلف إلي الداخل "إيه عاملتي مع أبو جلمبو إيه؟" أوصدت الباب خلفها وهي تتبعها بينما حلست فيروز بأريحية على الأريكة بغرفة الجلوس
"بصي، هو فيه تقدم.. بس مش اللي أنا عايزاه"
"ده اللي هو إيه ده إن شاء الله؟" صاحت من على مسافة بينما كانت بالمطبخ لتنهض فيروز وهي تُفكر ثم انضمت لها لتقوم بصنع بعض القهوة لنفسها "انتي يا بنتي ما تردي عليا!"
"هو اللي طلب من نفسه إنه محتاج يقعد معايا ويتكلم.. بس أنا شايفة إنه فاكر أنه بيستدرجني لحاجة، والحاجة دي أنا مش قادرة أفهمها!"
"قولتلك اخلعي من الأول مسمعتيش كلامي"
"لا بجد يا هبة مش ممكن.. كفاية أكل حرام عليكي" نظرت فيروز لما تفعله هبة
"ده ساندويتش جبنة غلبان.." قلبت شفتاها وهي تتصنع البراءة
"جبنة!! ما أنا اكيد لو فتحت التلاجة هلاقيها شطبت من كتر اللي بتعمليه فيها.. كان ليه حق والله يبات عند مامته! هياكل إيه يا عيني!"
"وانتي حوش الست الرياضية الجامدة اللي محافظة على صحتها وبتعمل فنجان قهوة بعد اتناشر بليل" أخبرتها بنبرة متهكمة لتطلق فيروز تنهيدة عميقة ثم شردت بالقهوة التي تنتظر نضجها في تفكير
"أنا محتاجة كده اقعد وارتب كل حاجة جوا دماغي، معنديش استعداد أبوظ الدنيا أكتر من كده"
"خربتي إيه يا بنت أحمد؟" أخبرتها بفم ممتلئ بالطعام
"أنا مش هاكدب عليكي، لسه موضوع ماهر مأثر فيا، أول مرة أحس إن مشاعري بتدخل في شغلي بالطريقة دي.. ساعات بلاقي نفسي بحكيله عن علاقتي بماهر بس أرجع وأقول إني بثبتله علشان ميشكش فيا.. والنهاردة مثلاً لما أنا وانتي شدينا مع بعض لقيتني بعامله بمنتهى العصبية وزي ما أكون نسيت أنا عرفته ليه أصلاً.. مش عارفة ليه بكون قدامه كده ولا علشان من ساعة ما ماهر ما اتوفى دي اول حالة صعبة اقابلها.. أنا جربت مع زينة قبله بس زينة موضوعها ابسط من شهاب بكتير.. وكمان بحس إني متلخبطة أوي، بس لما كنت معاه من شوية حسيت إني رجعت فيروز الهادية الواثقة من نفسها اللي بتحاول تعالج الحالة إللي قدامها"
زفرت فيروز التي شردت بالقهوة ولم يخرجها من شرودها سوى هبة التي دفعتها من أمام القهوة التي نضجت وقاربت على الفوران
"حاسبي حاسبي" رفعتها سريعاً من على الموقد ثم سكبتها في الفنجان
"شوفتي بقيت حتى مش مركزة"
"طب تعالي ياختي نقعد ونتكلم ده انتي شكل ليلتك ليلة" أخبرتها لتتبعها فيروز حيث غرفة الجلوس وجلسا سوياً على الأريكة "قوليلي بقى.. بتعملي اللي قولنا عليه؟" سألتها هبة عن تلك الطرق التي بدورها تُساعد فيروز على المرور بأزمة موت زوجها
"بصراحة مش دايماً.. وأنا مش قادرة اتكلم في الموضوع ده دلوقتي"
"حاضر، هعديهالك" همست بين أسنانها الملتحمة بغلٍ مصطنع "طيب نرجع لشهاب، ناوية تعملي معاه إيه؟"
"ناوية أشوف قصة إنه قابل العلاج، مع إني متأكدة إنه واخد الموضوع سلمة علشان يوصل لحاجة معايا" زفرت ثم أمسكت بفنجان القهوة لترتشف منه
"حاجة زي إيه بالظبط؟" نظرت لها بإهتمام
"واحد سيكوباتي، كداب كدب الإبل، إستحالة يقتنع بإن عنده مشكلة إلا لو الدنيا وقعت فوق راسه، إيه اللي هيخليه يقولي إنه عنده مشكلة ومحتاجني غير إنه بيحاول يعمل عليا لعبة سخيفة؟"
"يادي النيلة.. يا بنتي السيكوباتي ده علاجه إنه يتحبسله سنتين تلاتة مع علاج مكثف وطويل ومُتعب وفي الآخر يا نفع يا منفعش" أخبرتها لتزفر فيروز في ضيق ثم شردت مجدداً "هو قالك إيه بالحرف لما طلب انك تبدأي تسمعيه؟"
"قال إن ذهنة مش صافي ومبينامش!"
"بس دي حاجة generic (عامة) أوي، ومفيهاش أي حاجة إنه حاسس بأي أعراض من الأعراض اللي المفروض تكون عنده"
"ما أنا علشان الكلمتين دول أتأكدت إنه مش فارق معاه وبيحاول يقربني منه بأي طريقه"
"طيب أنتي مجيبتيش سيرتنا، أو مثلاً علاقته بماما؟"
"جبت السيرة، ووشه قلب، وفضل ساكت وبعدين حسيت إن الموضوع هيعك فسيبته براحته وقولتله إنه مش لازم يجاوب لو مش حابب يتكلم"
"راس العجل ده كمان! طيب وناوية تعملي إيه معاه؟"
"هاسمعه، هحاول اخليه يتكلم اكتر، هديله أدوية و.."
"أدوية!! للدرجادي؟" قاطعتها لتلتفت إليها فيروز وجلست القرفصاء وتركت فنجان القهوة الذي أنهته على المنضدة أمامهما
"ده يا بنتي شكله مبينامش، كتير بشوفه بيتاوب، وفراك، طول ما هو قاعد بيتحرك وشكله من الناس اللي عندها فرط حركة كتير! بيحاول يبين إنه هادي وتقيل إنما أنا قفشته كذا مرة"
"شوفي يا بنت الناس، وبالرغم من ماما هتتبسط أوي لو في يوم الإنسان ده اتغير شوية ولو بس عشرة في المية، بس أنا لسه عند كلمتي، ابعدي عن الحوار ده وبارك الله فيما رزق على كده وليكي الأجر والثواب لو موضوع المستشفى تم على خير وحلو أوي على كده"
"بطلي سخافة بقى.. انتي عارفة إنه دخل خلاص دماغي" حمحمت هبة ثم استفزتها
"علشان اخويا وحلو وكده"
"تصدقي إنك بايخة، أنا غلطانة إني بحكيلك حاجة" اجابتها بنظرة متقززة
"هو ليه انتي بتقعي في patients كتيرة شكلها حلو وأنا لأ؟" سألتها في مزاح لتتوسع عينا فيروز في هلع
"يخربيتك.. يا بنتي انتي مجنونة؟ انتي مشوفتيش الناس اللي في السجون كانوا عاملين ازاي؟ أنا لولا ماهر ومعاذ وربنا كنت جريت وبطلت الشغلانة دي"
"طيب نتكلم بجد.. أنتي مصممة لسه؟!"
"أيوة متهببة"
"طيب علشان خاطري خدي بالك من نفسك وانتي معاه، وبلاش مكان مقفول لواحدكوا"
"انتي بتفكري فإنه ممكن يـ.."
"أيوة بفكر في كده" قاطعتها بجدية "وكمان عمو بدر مش كفاية، أنا شايفة إن كمان لازم تحطي في دماغك إن معاذ موجود ولو بس عِرف حاجة هو أكتر واحد هيقدر يتصرف" سكتت لتتنهد فيروز "وكفاية بقى كلام عن الرخم ده ويالا نقوم ننام أو لو مش رايحة حتة بكرة ممكن نتفرجلنا على فيلم ولا حاجة"
"لا مش ورايا حاجة وأنا سبته قولتله يبقى يكلمني لما يعوز يقعد معايا"
"طيب قومي ياختي قومي وفكك من الحوارات دي وتعالي نفرفش شوية" حاولت النهوض ولكن لم تستطع
"ماهو من كتر الأكل.. هاتي إيدك يا مفجوعة" أخبرتها في مزاح بينما مدت يدها إليها لتساعدها على النهوض!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
صفعت لميس الباب خلفها بعد مشادة كلامية مع والدتها معتادة عن العودة بعد أن تأخر الوقت لتجلس على سريرها وهي تحاول أن تهدأ من نفسها ثم طالعت هاتفها لتتأكد من موعد المُنبه ثم وضعته بجانبها لتسبح بأفكارها مرة أخرى..
لو فقط كان عمرو غير متزوجاً وكان رجلاً بحق دون نزوات قذرة مع النساء لكانت تزوجته منذ سنوات، لماذا لا تقابل رجالاً تستطيع الإستقرار مع احدهم دون خوف؟ لماذا كل شيء معقد هكذا؟
تذكرت ذلك الشاب الجذاب الذي رآته اليوم لتُمسك بهاتفها وهي تبحث عن اسمه "شهاب الدمنهوري" مثل ما أخبرها عنه عمرو لتعرف معلومات عامة عنه وقلبت شفتاها في تعجب ثم تركت الهاتف مرة أخرى وهي تُفكر ما الذي يجعل رجل جذاب مثله غير متزوجاً إلي الآن؟!
أغلب رجال الأعمال يتزوجون بعمر صغيرة أو حتى يكون لهم العديد من الزيجات أو حتى يشتهروا بفضائحهم المتعددة بعلاقتهم المشبوهة أو غير الرسمية، لماذا لم تجد عن هذا الرجل أية أخبار؟
أوقفت عقلها عن التفكير في مثل هذا الأمر وهي تزجر نفسها، ماذا إن تزوجت؟! لن يفيدها الأمر.. ها هي والدتها قد تزوجت مرتان ولم يكن زواجها سوى وبالاً عليها..
انتهت الزيجة الأولى بفتاة في سن صغير والزيجة الثانية اختفى بلا رجعة!
الزواج رفاهية لا يستطيعون تحمله سوى هنيئي البال، ذوي الحياة السوية، السُذج.. وهي ليست بواحدة من هؤلاء..
نفضت الفكرة عن عقلها ثم نهضت لتبدل ثيابها حتى تنام فهي أمامها يوم طويل روتيني غداً على كل حال..
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
من أين ستبدا؟!
إياد وهديل الآن علاقتهما أقوى، وهديل قد تغيرت، وهي ليست في حاجة لصدام ولا في حالة تسمح لها بتملق والدتها، تبدو متأثرة للغاية لذا أياً كان ما تطالب به إذا فقط تحدثت سيُجاب..
من سيساعدها إذن في كل ما تريد؟ لن يكون إياد بالطبع، وزينة يستحيل أن تُخفي ولو خطوة واحدة عن سليم، آسر بعيداً، لذا عاصم هو الوحيد المناسب، فهو على قدرٍ عالٍ من السذاجة كي تستطيع إقناعه بأي شيء تريده!
إذن بمن ستبدأ؟!
شهاب أم إفساد الزواج؟! أم الأثنان معاً؟
أخذت تُرتب أوراقها، خططها، وكذلك الخطط البديلة، لن تقع في نفس الأخطاء التي وقعت بها بالماضي، وعليها العمل بسرية تامة حتى تستطيع تنفيذ كل شيء دون أي شعور!
ماذا إن سألها أحد عن الإغتصاب أو أين كانت ليلتها؟
ستخبر الجميع بأنها نسيت ولا تتذكر أي شيء سوى أنها غادرت من حفل خطبة أدهم وسيدرا ولا تتذكر أي شيء بعدها!
لن يثأر لها بدر الدين ولا ابنه، لا تريد شهامة من أي احد، فقط تريد الإنتقام من كل من أخطأ معها! وستحقق هذا مهما تطلب الأمر ولو حتى بعد حين.. في الصباح إذن ستبدأ خطتها وليكن ما يكون..
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
"ابن الكلب الواطي.. بقى أنا يقولي لما يجيلي مزاج" تحدثت سارة بمنتهى الغل
"اهدي بس يا حبيبتي.. برضو بين يوم وليلة أكتشف إن ابوه متجوز وواحده من دوره، اكيد كان متفاجئ"
"متفاجئ إيه، ماهو عارف بقاله أكتر من أسبوع! بقى أنا يعمل فيا كده ويوافق يشوفني بعد كل ده وفي الآخر يقولي تربية حواري، طب وربنا لا أندمه وافضحه وسط الناس واخلي أمة لا إله إلا الله تتفرج عليه.. هو فاكر نفسه مين يعني!"
صاحت بغضب وهي تتحدث لأختها وأخذت تتذكر طريقته وأسلوبه معها اليوم لتجن من كثرة الغضب لتسمع أختها مرة أخرى تحاول أن تُهدأها
"يا حبيبتي بس صلي على النبي.. هو الراجل ده يعرف إن جوزك كان كاتبلكوا حاجة؟ أو إن ادالك فلوس على حياة عينه؟"
"لا محدش يعرف عن الموضوع حاجة غير أنا وكرم ومحامي تاني غير المحامي اللي ماسكلهم حاجتهم" تلاحقت أنفاسها في لهاث وكادت تنفجر غيظاً لتشرد بعينتيها اللتين بدتا مرعبتين واتضح الشر بهما
"طيب يبقى اطمني خلاص.. مش هايعرف يعمل معاكي حاجة"
"بس انتي مشوفتيهوش وهو بيكلمني كأني مليش حاجة، ده بيكلمني من طرطوفة مناخيره الواطي.. فاكرني هخاف واكش منه، ده كله إلا الفلوس!"
"انتي قلقتيني يا سارة، يكونش ناويلك على حاجة تانية؟ وزي ما قولتيلي إنه واصل يعني فممكن يـ"
"لا عاش ولا كان اللي يلمس شعرة مني أنا او ابني.. ده أنا اواريه النجوم في عز الضهر من غير ما ارمش حتى، وإن كان جاي ابن كرم يعايرني بالحواري فأنا اوريله شغل الحواري على حق ابن الشايب" قاطعتها بغضب
"روقي بس كده وربنا هايجبلك حقك.." لا تدري ما عليها قوله ولكنها بالأساس غير مقتنعة بفكرة إدعاء سارة بأنها لم ترث في زوجها فهو بالأساس قد ترك لها ما يكفي بل وأكثر
"ماشي.. أنا هوريه!" تمتمت في حُرقة كلما أفتكرت حديثهما "وانتي لو وصلك أي خبر إن حد جه سأل عليا في الحارة ولا عليكي ولا على أبوكي عرفيني ساعتها!"
"حاضر.. عينيا.. اهدي انتي بس وقومي نامي احسن الوقت أتأخر"
"ماشي.. يالا سلام!"
ألقت بالهاتف لا تدري إلي أين وهي تشتعل غضباً وأخذت تُفكر بأن خطوتها الأولى غداً أن تتأكد من سير القضية التي سترفعها وبعدها سترى إلي أين ستؤول الأمور مع هذا المتعجرف فهي لن تتنازل أبداً بعد أن أضاعت زهرة شبابها مع رجل مسن، فهي لم تكن تفعل ذلك هباءاً..
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
مزق الورقة أمامه للمرة التي لا يدري عددها فهو لا يستطيع التركيز، وهذا نادراً ما يحدث! لُعنت تلك المرأة! لماذا تحتل عقله بترهاتها؟!
نهض ثم ركل منضدة الرسم بما عليها ثم نظر حوله وقبل أن يُدمر المزيد من الأشياء التي ليس له شغف سوى بها توجه للخارج وقد قارب على خلع شعر رأسه من كثرة التفكير..
كلما وصل لمعلومة جديدة عنها كاد أن ينفجر غيظاً.. فيروز أحمد عبد الحي أخصائية نفسية، زوجها الميت كان ضابط جيش، صديقته هي اخته، تعرف عائلته ولم تكذب، مخلصة لزوجها، تتمتع بأفضل علاقة ممكنة مع أُسرتها، حالتها المرضية تلك فيما يتعلق بالإنجاب لم تكذب بها أيضاً.. كانت تعمل بمدرسة وكذلك مصحة وأحياناً مع بعض المسجونين.. لماذا هي صريحة للغاية؟ ما الذي تركته له حتى يكتشفه هو؟
كلما أكتشف عنها أمراً يكاد يجن أكثر، كيف أن هناك إمرأة بمثل تلك المواصفات؟ لا تستعرض ما تملك من مفاتن! لا تستجيب لأي من لمساته ولا نظراته التي وقعن بها كثيرات! ما الذي تريده تلك المرأة؟ ولماذا دعاها لمنزله هذا؟ لماذا لم يجعلها تحضر بذلك المنزل الذي يضاجع به نساءه؟!
لماذا تظاهرت هي بأنها قامت بسرقة ساعة يده؟ وما وراء تلك القصة التي قصتها على الفتاة الصغيرة يومها؟ ألهذا الحد هي تريد إكمال ذلك المشروع؟ يستحيل أن يكون هذا هو السبب! يستحيل أن هناك شخصاً على وجه الأرض لا يريد سوى الخير ومساعدة الجميع كما تزعم تلك المرأة!
لقد سأم التظاهر باللطافة والوقار، لقد سأم تحمل إهانتها كلما أراد لمسها! ماذا تظن نفسها تلك المرأة اللعينة؟ ألديها أدنى فكرة كم من إمرأة ضاجعها تفوقها جمالاً وأنوثة؟
التهم شفته السُفلى غيظاً في سخرية وهو يتذكر ملابسها التي كادت أن تُشابه الرجال بها.. فقط لولا شعرها الطويل المُزعج وعينيتيها اللتين تثيران غضبه الجحيمي لما صنفها من الإناث!
لابد وأن والدته هي السبب في كل ذلك.. لابد وأن تلك المرأة التي انجبته هي من أخبرتها بأن تحاول معه.. ماذا تريد منه؟ ماذا تريد بعد أن لفظته وقذفت به خارج حياتها لتتزوج رجل آخر يملك الأموال؟! لديها الآن أبناء، ماذا تريد منه؟ أتشعر الآن بفداحة خطأها؟ الآن تُرسل له تلك المرأة لتستعيده؟ يا لها من غبية!!
"بابا.. هي ماما فين؟"
"ماما مشيت يا شهاب" حدثه والده بشجن
"مشيت ازاي يعني، دي كانت هنا الصبح!"
"قالت إنها مش عايزة تعيش معانا، ولمت هدومها ومشيت وقالت إنها عايزة تعيش مع واحد تاني"
"ازاي.. أنا عايز اروحلها" تجمعت الدموع بعينيه
"يا حبيبي هي مش بتحبك ولا بتحبني، قالت إنها مش بتحب تعيش معانا علشان أنا مش معايا فلوس وهتروح لعمو تاني معاه فلوس اكتر مني.. بلاش تكلمها يا شهاب"
"لا يا بابا ده مش صح، هي مش هاتسبنا، وديني بس عندها وهي هترجع معايا" صرخ به في براءة وشرع في البُكاء
"اسمع كلامي يا شهاب، بلاش تكلمها، ماما لو كانت بتحبك كانت اخدتك معاها.. هي سابتك علشان عايزة اولاد غيرك وعايزة تروح تعيش مع واحد تاني غير بابا"
"لا خليني بس اكلمها وهي هتيجي تاني.. انا عارف إنها بتحبني" ازداد بكاءه ليعانقه والده
"لو كانت عايزة تيجي مكنتش مشيت يا حبيبي وكانت استنتك، بطل عياط يا شهاب.. مش أنت راجل زي بابا وشاطر في المدرسة" همس مهمهماً بين بكاءه ليفرق والده العناق وهو يجفف دموعه ونظر له
"بكرة لما بابا يبقى معاه فلوس كتيرة مش هتحتاج لحاجة، وأنت هتكبر وتبقى شاطر زيي وتشتغل معايا في الشركة وهتساعدني وهيكون معانا فلوس كتير حتى اكتر من اللي مع مامتك.. صح؟" أومأ له شهاب وهو ينظر له ببراءة
"يعني أنا مش هاكلمها تاني؟" سأله في حزن وانهمرت احدى دموعه
"لو رجعت في يوم وملقتنيش في البيت من غير ما أقولك مش هاتزعل مني؟" أومأ له بالموافقة "مش المفروض قبل ما بمشي بقولك؟" أومأ مجدداً ليتابع والده "علشان أنا بحبك عمري ما سيبتك ولا هاسيبك، إنما هي مش بتحبك وزهقت مننا.. معلش يا حبيبي متزعلش" أجهش شهاب مرة أخرى بالبكاء ليعانقه والده مرة أخرى ولم يدرك وقتها أن كل ما تحدث به والده كان كذب خالص!
منذ ذلك اليوم وبدأت تتضح الرؤية، بالرغم من طفولية تلك الكلمات الساذجة ولكن والده كان محقاً بكل حرف، لقد تزوجت وانجبت غيره، ماذا تريد الآن بعد كل تلك السنوات؟
منذ ذلك اليوم لم تُفكر ولو لمرة واحدة أن تراه أو أن تسأل عنه! لماذا الآن تهتم لأمره؟ أتريد المزيد من الأموال؟ أتريد الآن أن تتنعم في أموال من لفظته يوماً ما؟ لا لن يحدث! لن يحدث ولو حتى كان عليه أن يقتلها بيده..
زفر وهو يتذكر العديد من الذكريات الأخرى التي تمنى بها لو لديه والدة مثل أقرانه، شعر بالغضب من مجرد تذكر تلك الأيام، أين كان اهتمامها الشديد هذا عندما احتاج لها؟ لا يتذكر أي مرة حاولت رؤيته بها ولا حتى محادثته..
مرة واحدة فقط، مرة واحدة رآها من على مسافة بعيدة أمام مدرسته، ولم تستطع حتى أن تقترب منه بعدما علم الجميع خيانتها لوالده!
أوصد عينتيه ثم حاول نفض تلك الذكريات السوداء التي ظل يٌعاير بها من قِبل الجميع في المرحلة الإبتدائية، أرأته هو وجميع أقرانه ينادونه بأبشع الألفاظ؟ أهي من حالت بينه وبين هؤلاء الشياطين وهم يذيقونه أشد العذاب ولا يمر يوم إلا وهناك من هدده بالضرب أو قام بالتعدي عليه؟ أكنت هناك لتضمد ذلك الجرح الذي يراه إلي اليوم وقت أن وكزه احدى الفتيان ليقع أرضاً مرتطماً بذلك الرصيف الأسمنتي؟!
فتح عيناه مضيقاً إياها وذهبت يده لتتحسس موضع ذلك الجرح وهو يحاول أن يستعيد سيطرته على غضبه ويُفكر فيما سيفعل مع تلك المرأة التي أرسلتها والدته.. إذا كانت على علم بما حدث فهي مُذنبة وسيعاقبها، وإن كانت لا تعرف ما فعلته والدته منذ ستة وعشرون عاماً وقد كذبت عليها فسيُعاقبها أيضاً.. سيجعلها تلعن ذلك اليوم الذي حاولت أن تدلف حياته ظناً منها أنها ستعيده لتلك الفاجرة التي أنجبته!
ولكن عليه أولاً أن يتعامل مع الحثالة الأخرى التي تزوجها والده!
كما عليه أن ينال قسطاً من الراحة كي يواصل دائرة إنتقامه التي لا تنتهي..
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
"هاحكيلك يا بنتي يمكن ربنا يصلح الحال على ايديكي ويردهولي بعد العمر ده كله.. بس اوعديني متجبيش سيرة لهبة وهاشم.."
"متقلقيش يا طنط.. أنا استحالة أطلع كلمة بره، انتي عارفة إن أنا عمري ما هـ.."
"مش محتاجة تتكلمي كتير يا فيروز" قاطعتها بآسى والحزن اتضح على ملامحها "عارفة يا بنتي إنك عايزة تساعديه ويمكن ربنا جعلك في طريقه علشان يريح قلبي" انهمرت احدى دموع آمال لتُمسك فيروز بيدها في دعم
"إن شاء الله يا طنط متقلقيش" أخبرتها بإبتسامة مقتضبة وربتت على يدها لتشرع والدته في الحديث
"كرم أنا حبيته من أيام الجامعة، كان أول مرة قلبي يدق، كنت صغيرة وعمري ما عرفت راجل قبل منه، اتعلقت بيه واتبهرت بكلامه وأحلامه وإنه عايز يكون كبير في يوم من الأيام.. افتكرت إن هو ده الراجل المناسب ليا.. ولما حكيت لخالتي قالتلي يتقدم وماله.. واتقدملي واتخطبنا واحنا في الجامعة واتجوزنا اول ما خلصنا دراسة بعد ما جاله اعفا من الجيش" تنهدت بحرقة وبعدها أكملت
"خالتي كانت عايشة على معاش جدي الله يرحمه، ومتجوزتش علشان خاطري، هي اللي ربتني بعد ما أهلي ماتوا.." ابتلعت في مرارة ثم تابعت "المهم اتجوزنا واكتشفت إنه بخيل.. بخيل لدرجة متتصوريهاش، في الأول الموضوع مكنش فارق معايا وبعدها ابتديت اشوف بخله في العلاج والأكل وأقل المصاريف اللي أي راجل بيتكفل بيها.." انهمرت دموعها رغماً عنها ولكنها تماسكت لتتأثر فيروز هي الأخرى بما تسمعه
"كان مانعني إني أحمل لأنه مش عايز اولاد لغاية ما يعمل المشروع اللي عايزه.. ويوم ما حملت في شهاب فضل ميكلمنيش اول تلت شهور حمل، بيبصلي كأنه مش ابنه، كأن أنا السبب في ده، مع إن حق الوسيلة اللي كنت بستخدمها طلبتها منه ورفض.. والحمل حصل بعد سنتين من اول الجواز.. وملهوش لازمة اقولك قد ايه كان الحمل صعب وقعدت تقريباً عند خالتي لغاية ما شهاب كان على ايدي عنده خمس شهور" زفرت بحرقة لتحاول فيروز التغلب على مشاعرها التي تأثرت بشدة عندما استمعت لتلك التفاصيل خاصة وأنها كانت تحاول الإنجاب بأعجوبة
"جالي ورجعت معاه بس خالتي ادته كلمتين، يمكن يحس إنه بقى أب ومسؤول، ومن يومها وهو رفض إنها تساعدني بأي ماديات وأنا عشت واستحملت.. مكنتش بلاقي الدوا لشهاب، كان كل حاجة لازم خناقة معاه، كل فلوسه بيحوش فيها علشان مشروعه، كان كل اللي بيتمناه هو الفلوس ومكنش بيفكر فينا، ولا لبس ولا أكل ولا دوا ولا حتى وقته اللي كان مضيعه بين شغلانتين، سنين لغاية ما شهاب تم تمن سنين وساعتها مكنتش قادرة أستحمل..يوميها كان لازم أشوف حل"
"ماما أنتي كويسة؟" سأل شهاب والدته التي تبدو وأنها ليست بخير على الإطلاق
"آه يا حبيبي" بالكاد أجابته وهي تجر قدميها بصعوبة حيث المطبخ لتصنع له أي طعام قد تجده لتقف أمام مبرد الطعام الذي لا يتواجد به سوى رغيفين من الخبز وبعض الجبن التي لا تعلم ما إن كانت صالحة للإستخدام لتخرجهما وهي تحاول صنع شطيرتان وبالرغم من علمها أن ذلك لا يكفي طفل في عمره ولكنها وقتها لا تملك سوى ذلك القليل
"بس انتي شكلك تعبان" همس وهو يتفقدها ببراءة
"هاروح للدكتور النهاردة حاضر" أخبرته وبداخلها تعلم أنها تكذب عليه
"طب هاتروحي امتى علشان اجي معاكي؟"
"هتكون يا حبيبي في المدرسة والدكتور موجود الصبح بس"
"طب بابا هيروح معاكي؟"
"آه هياخد إذن من الشغل ويجيلي.. يالا عملتلك السندويتشات.. ركز يا شهاب في الفصل في كل كلمة بيقولها المدرسين علشان تبقى شاطر وتعرف تحل كويس في الإمتحانات، ولما تكبر تاخدني توديني لأحسن دكتور في الدنيا"
"حاضر يا ماما" ناولته كيس الطعام ليضعه شهاب بحقيبته المدرسية التي لاحظت والدته اهترائها فتلك هي السنة الثالثة لإستخدامها لتشعر بغصة في حلقها وهي تنظر له بحزن وقلة حيلة على ذلك الحال الذي وصل له طفلها
"يالا يا حبيبي علشان متتأخرش.. خد بالك وأنت ماشي ومتتخانقش مع الولاد.. سامع؟" حاولت إجبار إبتسامة على شفتيها
"حاضر" همس بالموافقة واقترب ليعانقها بينما أوقفته
"بلاش يا حبيبي علشان متتعديش مني" نظرت له بمزيداً من الحزن ليومأ هو لها ثم توجه للخارج فظنت والدته أنه ذهب لتجر هي قدميها بصعوبة وهي تحاول التغلب على مرضها لتتوجه لزوجها
"كرم.. أنت لازم تشوف حل للي بيحصل ده، الولد حاجته مقطعة، مفيش أكل ليه، حتى مبياخدش مصروف.. طلع جزء يا أخي من اللي أنت بتحوشه لكل شهر، مش هاينفع الولد يكون كده في وسط زمايله"
"رجعنا بقى للزن.. قولتلك مش معايا!" حدثها بسأم زافراً
"مش معاك ازاي، أنت مش هتبطل بقى! ما أنت مرتبك قد كده و.." توقفت عن الحديث لموجة شديدة من السعال الذي باغتها وبعد أن انتهت واصلت الحديث "حرام عليك، أنا هاستحمل إنما ابنك لأ.. الولد هيطلع معقد من كتر الفقر اللي أنت معيشنا فيه، مش علشان المشروع اللي بتحلم بيه يبقى تفرط في حق ابنك" حدثته بنبرة مجهدة من آثار تلك الحمى
"ما تستحملوا شوية، وهو يوم ما أكبر وأعمل المشروع مش ده برضو هيفيدكوا؟" علت نبرته لتنظر هي له بحزن
"نستحمل إيه أكتر من كده؟ دكاترة وعلاج مفيش، أكل مفيش، هدوم مفيش، خناقات علشان الكهربا ولا مصاريف البيت الأساسية حتى مش عايزنا نصرفها.. مش ممكن يا كرم كده، مبقتش عيشة.. وحتى لما قولتلك أرجع عند خالتي أنا والولد رفضت ورافض أي مساعدات منها، يا أخي أنت لا بترحم ولا بتسيب رحمة ربنا تنزل!"
حدثته بحرقة وهي لا تدري إلي متى سيظل زوجها لا يريد إلقاء بال لها هي وابنها، لم تعد تستطيع التحمل، لم تعد تستطيع رؤية حال ابنها بمثل تلك الطريقة وتظل صامتة.. متى سيتحمل زوجها مسئوليتهما؟
"أنا مش هاستنى واحد ست تصرف على بيتي.. اللي بقدر أعمله باعمله وانتي مطالبة تستحملي جوزك وتقفي جانبه"
"هنستحمل لإمتى فقر وكمان قلة وجودك جانبنا، ما كفاية اللي معاك وافتح بيه مشروع صغير وخلاص"
"مش هو ده اللي أنا باحلم بيه!" هدأت نبرته وهو يشرد من احدى نوافذ المنزل والتفت ليُعطيها ظهره لتتقدم هي وتلمس كتفه في حنان
"كرم.. أنا مقدرة إنك طموح وعايز تبني نفسك.. بس أنا بقا زهقت.. زهقت من الكفاح والتعب.. نفسي أعيش مستورة ومبسوطة وخلاص.. أنا مش بشتكي ولا بطلب حاجة زيادة.. إنما أنا مش لقياك جنبي.. مش حاسة بوجودك.. كل وقتك للشغل للشغل.. كفاية بقا حرام عليك" تحدثت بنبرة ارتفعت رغماً عنها
"أنتي عارفة من زمان إن ده حلمي وعمري ما خبيت عليكي.. وما دام هو ده قرارك فأنا مش هامنعك من إنك تعيشي مبسوطة وسعيدة ومستورة زي ما بتقولي.. شوفي اللي يريحك واعمليه!" كان هذا تعقيب كرم على حديثها لتنظر له باكية
"يعني ايه أعمل اللي يرحني؟!" استفسرت في عدم فهم
"يعني احنا وصلنا لطريق مسدود.. الإختيار أختيارك" نظرت له لتنهمر المزيد من دموعها بينما هو لا يزال موليها ظهره
"يعني خلاص.. هتسيبني بالسهولة دي؟" همست في حُزن
"مش شايف حل تاني لأني عمري ما هنسى حلمي اللي فضلت أحلم بيه سنين"
"وأنا.. أنا مفرقش معاك؟"
"مقولتش كده بس أنتي مش قادرة تستحملي شوية" تحدثا كليهما بهدوء لم يتخلله سوى نحيب هادئ من والدته وهو يستمع لهما
"أنا بستحمل بقالي كتير وأنت عارف.. من ساعة ما كنا في الجامعة.. شهاب دلوقتي بقا عنده تمن سنين يا كرم.. عارف يعني ايه؟ يعني بقالي مستحملة خمستاشر سنة"
"وأنا مش هاجبرك تستحملي.. وليكي الأختيار.. لو حابة نتطلق ماشي.. بس مش هتاخدي شهاب" حدثها بهدوء مجدداً لتهطل دمعاتها ويبدو أنها لم تستطع التحمل معه أكثر..
"ازاي عايز تحرمني من ابني؟ أنت بتتكلم بجد؟" سألته في صدمة
"بقولك إيه.." التفت إليها ليلاحظ شهاب واقفاً بجوار الباب لينظر لها في غضب ولكنه توجه نحو ابنه "شهاب يا حبيبي أنت لسه مروحتش المدرسة؟"
"أصل.. أنا عايز مصروف" همس وهو يتفقد وجه والده في براءة بالرغم من تلك الكلمات والمشاجرة التي دارت بين أبويه وتركيزه بها جيداً ولكنه بالنهاية طفل صغير لا يعلم بعد اختيار الوقت المناسب
"بكرة يا حبيبي هديلك مصروف، يالا روح علشان متتأخرش" ربت على رأسه ليومأ شهاب بإقتضاب وتوجه للخارج وتابعه والده بنظره حتى تأكد من عدم وجوده لتتابع زوجته الحديث مرة أخرى
"يعني خلاص يا كرم بعد خمستاشر سنة معاك مستحملة وعايشة تقولي لو عايزة تمشي امشي؟"
"اه.. وبقولهالك تاني.. عايزة تمشي أمشي في ستين سلامة، إنما ده ابني ومش هاسيبه!"
"حتى لو قولتلك إني حامل؟!"
"يوميها مد ايده عليا علشان الحمل وكانت اول مرة كرم يضربني.." اجهشت بالبكاء بعد أن أخبرتها بكل التفاصيل لتُمسك بيدها في دعم وباغتت فيروز دمعة وهي لا تُصدق أن هناك رجل بمثل تلك البشاعة
"طبعاً مكنش عايز أولاد تاني علشان الفلوس، كان عايز يفضل يحوش في فلوس ويفضل في نفس المكان اللي ساكنين فيه ومش عايز ولاد.. مع إن شهاب ده هو الوحيد اللي ضحكته ووجوده جانبي كانوا بيهونوا عليا العيشة مع أبوه.. مكنتش أصدق للحظة إن كرم يكون كده.." حاولت التقاط أنفاسها بين شهقات البكاؤ الذي داهمها
"ضربني وساعتها وقعت على الأرض وجالي نزيف.. وساعة ما شافني كده وأنا غصب عني قولتله هاعمل واسوي فيك قام مخرجني بره الشقة وقال بعلو صوته إني خاينة ورمى عليا اليمين قدام الناس.. وكلام تاني كتير اوي أنا مش عايزة افتكره اكتر من كده.. والحتة اللي كنا فيها كانت شعبية.. لو كحيتي في شقتك جارك يسمعك.. والناس كلها بصتلي بصات عمري ما هنساها.. ده غير اللي رماني بحاجة والكلام اللي سمعته" انتعشت الذكريات بعقلها لتشعر بالهوان تجاه نفسها لتشعر فيروز بالغضب وكأنما تريد إخراج جثة ذلك الرجل لتُمثل بها ولكنها صمتت لتدع مجالاً لوالدته أن تُكمل
"اتفضحت في الحتة، والكلام وصل مدرسة شهاب.. وعلى ما فوقت من اللي أنا فيه والحالة اللي كنت فيها وبعد ما بعتلي ورقتي رجعت بعد أربع شهور علشان أشوفه ومنعوني في المدرسة بعد ما اتشتمت بأبشع الألفاظ والناس كلها كانت مصدقاه لأن هو الراجل.. مكنش معايا غير ورقة التقرير من المستشفى باللي حصللي وكل ما كنت بحاول أكلم كرم في شغله لأن ده كان الحل الوحيد ساعتها كان بيتهرب مني واستحالة كنت أروح الحتة تاني الناس مكنتش هتسبني.. ومكنش جانبنا راجل بعد ما أهلي كلهم ماتوا" انسابت دموعها في هدوء بمرارة
"مفيش كام يوم وخالتي ماتت، بقيت لوحدي، من غير ضهر ولا سند.. ولا لحقت أرفع قضية ولا معايا حاجة .. كنت بموت من الرعب في نفسي وأنا لوحدي، عشت وأنا مش عارفة أعمل إيه، وأهل كرم مكنش فيه منهم غير كريم أخوه وده كان أصغر منه وميفرقش عنه كتير وعمري ما ارتحتله.. وكلمته قال إنه ملوش دعوة وإن أحل مشاكلي معاه" حاولت السيطرة على دموعها ثم أكملت حديثها
"لغاية ما جه ابن جار خالتي من السفر بعدها بسنة ونص وعرض عليا الجواز.. كان انسان طيب ومحترم ومشوفتش معاه غير كل خير وربنا عوضني بيه وربنا رزقني بهبة وهاشم.. حكيتله كل حاجة وهو وقف جانبي بس التقرير ساعتها كان هيعمل إيه بعد الوقت ده كله.. ولما جينا ناخد خطوة لقيناه عزل ومعرفنالوش طريق.. ورفعنا عليه قضية رؤية في المحكمة بس عمره ما جه.." توقفت عن البُكاء وهي ترمق فيروز في حسرة
"فين بقى بعد سنين.. جه يكلمني ويقولي ابنك في ايطاليا وناجح وشاطر، ويقولي أنا بقوله يكلمك وهو مش عايز.. بس بعد إيه؟!" ابتسمت بمزيداً من الحسرة في مرارة وآسى "عارفة شهاب بيشوفني ازاي دلوقتي؟ طب عارفة شايفني ازاي السنين اللي فاتت دي كلها؟ هتقدري يا بنتي تغيري حاجة عدا عليها أكتر من خمسة وعشرين سنة؟!"
كلما تذكرت ما عرفته من والدته أدركت أن طريقها بات أصعب، كيف لها أن تُقنع شهاب بكل ذلك؟ كيف لها أن تجعله يتبين حقيقة الأمر؟
لابد وأن تكون في منتهى الذكاء حتى تقنعه بأن يقابل والدته ويستمع لكل هذا منها، ولكن كيف وهو رافض كل الرفض أن يتحدث عنها حتى؟!
نظرت إلي خارج النافذة بعد أن رآت ضوء الصباح ثم نظرت هبة النائمة بجوارها على الأريكة بنصف إبتسامة لتعلم أن إخبارها بأن تبتعد عن هذا الأمر برُمته كان أفضل سبيل قد تجده في هذه الرحلة الشاقة!!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
#يتبع . . .