الفصل الحادي عشر - شهاب قاتم
الفصل الحادي عشر
في صباح اليوم التالي..
"صباح الخير يا مرات أبويا" تحدث إليها بهاتفه مستهزءاً ولقد اجابته بعد فترة ليست بالقليلة وكذلك باغتها من رقم مجهول لا تعرف أنه هو صاحبه
"عايز إيه يا ابن كرم؟" تخلت عن تلك الصورة التي ترسمها أمام الجميع منذ سنوات وتخلت عن فكرة أنها إمرأة ثرية ومن ذوي الثراء الفاحش الذي ترتقبه في لهفة
"كده برضو تكلمي راجل في مقام ابنك بالأسلوب ده؟ طب ينفع؟! ده احنا حتى ولاد حتة واحدة.. ولا نسيتي؟" حدثها بمزيداً من التهكم ليستمع لتنهيدتها التي صرخت بغيظها الشديد ليبتسم في شعور بالإستمتاع
"طب لما أنت عارف إننا ولاد حتة واحدة ما تلخص وتجيب من الآخر!"
"يا سلام.. ده انتي تؤمري" أخبرها مرة أخرى وهي تلاحظ مزاحه السخيف
"بقولك إيه! أنا مروحتش اتجوزت ابوك وأنا في عز شبابي عشان سواد عيونه و.."
"عارف إنك اتجوزتيه علشان يطلعك من عيشة الفقر ومش مكفيكي اللي سايبهولك والبحر يحب الزيادة" قاطعها لتتريث هي في تفكير
"طب ما كفياك لف ودوران ولا عايز تتفضح في المحاكم؟"
"بقى دي تيجي برضو.. ده احنا ولاد حتة واحدة.. تفتكري هاسيبك تتمرمطي في المحاكم علشان شوية فلوس.. فكراني وحش اوي كده؟! تؤ تؤ تؤ.. اخص عليكي"
"طيب ماشي يا ابن كرم، هصدقك.. فلوسي وفلوس ابني هتجيلي امتى؟!" استمع لتأففها ليبتسم في استمتاع
"على طول، فكراني هاكل حقكوا؟! ده ابنك اخويا وانتي في مقام أمي.." ضحك في سخرية لتشعر هي بغليان الدماء في رأسها "بس الأول أقفل معاكي وتتصلي ترجعي المحامي الخايب ده بدل ما اخليكي انتي وابنك تسفوا تراب الأرض ومتلقوش حتى حُق يلمكوا بعد ما الكل يعرف إنك حرامية وسرقتي فلوس أبويا!"
"سرقته!.. ده أبوك حِفي ورايا لغاية ما رضيت بيه، فاكرني هضيع عمري مع الشايب النتن ده غير علشان مصلحتي.. لخص وجيب من الآخر يا شهاب"
"استني بس.. مالك محموقة أوي كده ليه؟" قاطعها لترفع هي احدى حاجبيها وتعالت أنفاسها في مزيد من الغضب "واحدة واحدة.. انتي هترجعي المحامي.. تجيلي انتي وحازم بليل.. نقعد قاعدة حلوة كده مع بعض نتلم فيها.. ده احنا عيلة وأهل"
تمالكت نفسها ثم صدحت بضحكة رقيعة ليعقد شهاب حاجباه في استغراب ولكنه قرر أن يُنهي تلك المكالمة لتتحدث هي له
"نسيت نفسك يا ابن الخاطية!! بتساومني على ورثي وفلوسي! مبقاش أنا سارة بنت محمد أبو يوسف إن ما سففتك تراب الأرض وفضحتك وبدل الفضيحة اتنين، ولا نسيت أنت ابن مين!! جرا إيه يا أبو شخة ولا نسيت تريقة ولاد الحارة عليك يا ابن المفضوحة!!.. ده أنا أجرسك قدام كل اللي عامل عليهم بيه يا ابن الزانية! جاي تقولي في مقام أمك الوسخة اللي سيرتها كانت على كل لسان من يوم ما اتفضحت.. جاي تلعب عليا أنا؟! ما ترجع لأصلك وتفتكر انت مين!"
حدثته بمنتهى الجبروت ليصر أسنانه في غضب شديد وتشنجت ملامحه من شدة الغضب بعد أن تذكر العديد من الذكريات السوداء التي ظن أنه تخلص منها للأبد وقبل أن يبالغ في تهديدها أكملت هي حديثها
"قدامك لغاية النهاردة بليل.. شوف حابب نتقابل في انهي مصيبة تاخدك، هاجيلك أنا والمحامي.. يا نخلص الموضوع ده بالإتفاق يا إما هاخلي البلد كلها تتفرج على البيه ابن الحارة اللي جاي يتريق عليها بعد ما الفلوس لعبت معاه واتبرى من الفقر ومعايا أهل الحتة كلهم اللي خيري مغرقهم هايفضحوك ويخلوك لبانة وسط الناس.. سلام يا ابن آمال الفاجرة"
أنهت المكالمة دون أن تستمع منه ولو لكلمة واحدة وتعالت أنفاس شهيقه وزفيره وهو يُحدق في الفراغ متصوراً أبشع النهايات لتلك العاهرة لتكون عبرة لإنتقامه!!
حسناً هي تعرف أكثر مما تصور، تتذكر كل شيء، تظن أنها قادرة على العبث معه، تظن أنها بحفنة كلمات استطاعت أن تتغلب عليه، ولكنها لا تعلم بعد ما يستطيع فعله.. سيريها هي وابنها ما نتيجة العبث معه.. الليلة قبل أي شيء.. لا بل الآن!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
"يااه يا طنط، انتي جبل.. ازاي قدرتي تستحملي كل ده؟!" أخبرتها فيروز لتجهش آمال بالبكاء فاحتضنتها وهي تحاول أن تهدأ من بكاءها
"والله يا بنتي استحملت، ده أنا يومها وأنا نازلة فرج عليا الناس وكلهم بقوا بيبصولي بصات كأني استغفر الله العظيم زنيت مع واحد.. ده حتى كان فيه راجل كبير الحتة ساعتها اسمه أبو يوسف روحت اتحامى فيه قام جري عليه وافترى عليا ظُلم وقال إني حِملت سفاح.. لغاية مبقتش اقدر أهوب من هناك وأنا ابني وسطهم وما بينهم" بكت مجدداً بمرارة وفيروز تنظر لها بتأثر شديد
"متجبيش سيرة لهبة وهاشم.. مالهوش لازمة نفتح في مواضيع قديمة.. دول همّ اللي فاضلين بعد ما أبوهم الله يرحمه مات"
تذكرت المزيد من حديث والدته وهي موصدة عينيها، تذكرت كل إجابة لأسئلتها التي صُدمت أمامها ولم تدر ما عليها أن تتحدث به عن زوجها الظالم.. ذهب تفكيرها إلي شهاب الطفل الصغير بحي فقير مثل الذي حدثت به كل تلك الأحداث! كيف كانت طفولته؟ وكيف تحمل؟ لابد وأن العنف قد بدأ معه منذ ذلك الوقت..
طفل بلا أم، أب مريض يبدو وأن شهاب قد حمل جيناته اللعينة التي جعلت السيكوباتية تتغلغل بداخله، أم تريد أقل وابسط الحقوق لصغيرها، كيف لها أن تلاحظ تأثره بالمرض في سن صغير وهي كل ما تطالب به هو طعام أو علاج كي تبقى هل وابنها على قيد الحياة؟
انهمرت احدى دموعها لينتعش بذاكرتها كلمات ماهر بعد العديد من تحدثهما عن الظلم في هذه الدنيا الفانية، نظرته أن هناك فصل مخفي في رواية كل ظالم تعرض للظلم يوماً ما مما دفعه لظلمه.. تعلم أن شهاب ليس أول ولا آخر طفل قد تعرض لحياة صعبة.. ولكن لماذا ينجب الآباء والأمهات؟ لماذا يدمرون أبناءهم؟ لماذا يتزوج الرجال من النساء قبل أن يُفكروا في كيف ستكون حياتهم؟ وكيف سيربون أبناءهم؟
لماذا كل ذلك الظلم؟
لو فقط تستطيع أن تُغير حياة الكثيرين كي تخلصهم مما يعانوا لكانت فعلتها.. ولكن كيف لها ذلك؟ كيف لها أن تُغير مجتمع بأكمله سيطر عليه الجهل والإفتراء؟ كيف لها أن تُحدث تغييراً جذرياً في مجتمع يجهل دينه، يجهل أساليب التربية الصحيحة، يجهل كل منطق صحيح، بلا تعليم قد يُصحح هذا الجهل ويسير كالأعمى خلف بضع عادات ظالمة قاتلة لأجيال ولّت وأجيال قادمة ستتعرض للمزيد من الظلم والإفتراء..
قتلة، مدمنين، سارقين، زناة، مغتصبين، تجارات في كل ما حرم الله، لقد مر عليها العديد والعديد من الحالات.. رآت مجتمع مليء بكل أوجه الشر ومن يتصدى له هم أقلية تاه همسهم الحق وسط ارتفاع صوت عادات حمقاء باطلة تتستر على ظلم مبين.. يظهر وكأنه الصواب ولكن لو كانوا يعلمون أن شيطان الجهل يُزين لهم أن كل ما يفعلوه هو الحق لكانوا مجتمع آخر.. ولكن عُميت أبصارهم ليسيروا خلف أبحر من ظُلمات لا نهاية لها..
"اصحي يا ست هانم واقعدي معايا بدل ما أنا قاعدة لوحدي" صاحت هبة التي ازاحت الستارة ليتسلل ضوء النهار للغرفة "انتي يا دكتورة فيروز.. اصحي الساعة بقت واحدة الضهر.."
"صحيت اهو يا ستي" نهضت بتريث على السرير لتجلس وتصنعت بفرك وجهها لتزيل آثار النوم والنعاس ولكنها في الحقيقة لم تنم سوى ساعتان
"قومي كده استحمي وشوفيلك حاجة تلبسيها من الدولاب بتاعي ويالا فرفشة بقى.. تدخلي سينما النهاردة؟" حدثتها في حماس لتبتسم لها ثم أومأت بالموافقة
"أشرب بس نسكافيه وأفوق ونروح مكان ما انتي عايزة"
"ماشي.. بس انجزي خلينا منضيعش اليوم.. اجازتي قربت تخلص ومعملتش فيها حاجات كتير.. ولو على النسكافية هاعملهولك"
"لا خليكي انتي وأنا هاعمله" أخبرتها وهي تحاول النهوض لتخرج هبة وهي تصيح
"ده انتي يومك بسنة أنا عرفاكي وعارفة الكسل والأنتخة بتاعتك.. انجزي يالا خشي استحمي على ما اعملهولك"
ابتسمت على كلمات هبة ثم تناولت هاتفها لتتفقد ما إن اتصل بها أحد أو إذا كانت أي رسالة لم تتفقدها فلم تجد شيئاً جديداً لتشرد لثوانٍ في أمر شهاب.. متى سيحدثها ومتى ستبدأ معه ولكنها أقنعت نفسها بالإنتظار حتى يطلب هو وكادت أن تترك هاتفها لتجد بدر الدين يتصل بها فأطلقت تنهيدة عميقة ثم اجابته
"آلو"
"دكتورتنا الحلوة عاملة إيه؟"
"الحمد لله يا عمو.. حضرتك عامل إيه؟"
"أنا تمام.. أنتي إيه الأخبار؟ مفيش جديد؟"
"لا فيه، الموضوع ماشي كويس الحمد لله" أخبرته في توتر حاولت أن تخفيه ولكن لاحظه بدر الدين
"متأكدة؟!" سألها لتتنهد وهي لا تدري ماذا عليها أن تخبره
"هو لسه شاكك.. بس أظنه شاكك من ناحية تانية، مش من ناحيتك خالص!" همهم بدر الدين في تفهم
"طيب أنا كنت عايز أقولك حاجة بمناسبة موضوع الشك ده.. أنا شايف إننا المفروض منتكلمش في الموبايل ونتكلم بأي طريقة تانية، ممكن تليفون بيتك او account جديد.. يعني.. أأمن"
"حضرتك معاك حق.. هاعمل account جديد وهبقى ابعتلك منه"
"صحيح.. الأرض طلعلها الترخيص والتصاريح فعلاً والشغل ابتدى فيها"
"بالسرعة دي؟" سألت في اندهاش
"لو مكنش مطمن مكنش عمل كده أظن"
"يمكن" ساد الصمت لفترة بينما لم يشعر بدر الدين بالإطئنان الكافي وتضاربت أفكار فيروز داخل عقلها
"طيب.. ابقي طمنيني، ومش هاقولك اكيد لو محتاجة حاجة في أي وقت ابقي عرفيني"
"أكيد"
أنهى المكالمة لتغرقا ثاقبتاه في شرود هائل حتى أصبح يرى بدلاً من اللون الأخضر بحديقته أوجه شهاب والعديد من السيناريوهات وهو يدمر الجميع ويؤذي كل من حوله.. بداية بزوجته، ابنته، ابنه وزينة ونهايةً بفيروز وأُسرتها..
لوهلة عاد بدر الدين إلي تلك الأيام التي كان بها واحداً من أسوأ الرجال على الأرض، تلك الأيام بعد أن رحلت ليلى، تعرضه لوفاء بعدها، عذابه لنورسين.. كان مستعداً وقتها أن يبرم اتفاقاً مع ابليس نفسه فقط لينتقم، ولكنه كان ينتقم لأُسرته، كان ينتقم من إمرأة ظلمته، كان ينتقم من كل إمرأة ارادت المال.. كل من رآى فيهن المرأة التي أنجبته كان على إستعداد أن يُعذبهن لسنوات..
ماذا يرى بهم شهاب؟! أُسرة ليس لها عداءات مع أحد.. أسرة تبدو للجميع سعيدة بالرغم ممن يعانون بداخلها فكل واحد منهم لديه معركته الخاصة التي لا يعلم عنها الجميع..
ربما معاناة كل فرد من أبناء الخولي قد تكون هينة ويسيرة أمام معاناة آخرين، أو أمام معاناة مثل معاناة شهاب! ماذا حدث لذلك الشاب؟ كيف كان وكيف أصبح؟!
"يا بدر!" تفاجئ جسده بإهتزازه أثر صياح نورسين بإسمه
"نورسين" همس اسمها ثم عقد حاجباه في تأثر وجذبها ممسكاً بكلتا يداها
"مالك إيه السرحان ده؟ أنت قلقتني وأنا بقالي حبة بنادي عليك"
"انتي مسمحاني صح؟ سامحتيني على كل اللي عملته؟" سألها بعينتين نادمتين لتطلق تنهيدة وهي تومأ له
"أيوة وبلاش نتكلم في الموضوع ده تاني.. ويالا علشان الأكل" أمسكت يده بقوة لتشتد هو مسكته على يدها بعد أن نهض وتوجه كليهما إلي الداخل ونورسين تتعجب بداخلها ما الذي طرأ بعقله حتى يسألها مثل هذا السؤال.. أمّا عن بدر الدين فلقد طرأ بعقله الأسوأ على الإطلاق!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
"مـ ما.. ماما" تظاهرت أروى بصعوبة نطقها للكلمة لتتوقف هديل التي كانت في طريقها للخارج بمنتصف الغرفة ثم ألتفت في مفاجأة شديدة وهي تنظر لإبنتها الجالسة فوق سرير المشفى لتهرول نحوها في صدمة
"أروى حبيبتي أنتي ناديتيني مش كده؟" تحدثت بهمس في صدمة ثم امسكت بوجه ابنتها بين يديها وقد بدأت الدموع في التكون فوق حدقتيها "أروى.. قولي اي حاجة تاني يا حبيبتي.. اندهيني.. قولي أي حاجة" تحدثت في صدمة وهي تتفقد عينا ابنتها
"ماما" نطقت أروى في همس لتنهمر دموع هديل ثم احتضنتها
"الحمد لله يارب.. الحمد لله" تساقطت دموعها في فرحة شديدة وهي لا تُصدق أن ابنتها باتت تتحدث الآن ثم عادت لتنظر لها في حنان
"قوليلي يا حبيبتي عايزة إيه وأنا اعملهولك؟ أي حاجة هعملهالك يا أروى"
"هو.. عاصم.. هو إيه اللي.. حصل؟" سكتت أروى وهي تتظاهر ببراعة أنها لا تستطيع التحدث كثيراً ونطقها للأحرف كانت تدعي من خلاله أنها تنطق بصعوبة وبعد نظرات متساءلة من هديل
"حاضر يا حبيبتي هاكلم عاصم يجي" جففت دموعها وهي تُمسك بهاتفها لتتصل بعاصم بينما غادرت للبحث عن طبيب لتتابعها أروى بنظرة في منتهى الخبث وابتسامة ماكرة لم تتوسع في حذر شديد ما إن دلف أحد غرفتها لتمتم بعقلها
"لما بقيت نسخة من زينة بقيتو كلكوا حلوين معايا.. أنا هعرفكم يعني إيه تعملوا فيا اللي عملتوه ده!!"
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
حفنة من الأموال، مجموعة من الرجال، صور مُخلة، حبلٌ واحد، ورغبة انتقام بداخله أستطاع من خلال كل تلك الوسائل الهينة أن يُأتي بها هي وابنها من عقر دارهم إلي أسفل قدماه الآن ليُشاهدها تُعذب على أيدي هؤلاء الرجال دون أن يلوث إصبعه بلمس تلك العاهرة التي لا تعلم مع من عبثت!
أطرق برأسه يمينا وهو يشاهدها تبكي، ثم مرة ثانية إلي اليسار وهو يُشاهدها تتعذب.. كم راقه المشهد، شعر بالراحة والإستمتاع لرؤية إمرأة مثلها تُعذب.. إستمتاعه كان شديداً للغاية لدرجة أنه لم يستمع لكل ما قالته بالرغم من صراخها به!
نهض وهو يسير نحوها ليُشير للرجال فابتعدوا عنها ثم وقف أمامها وهي تنظر له نظرة مليئة بالتألم والأوجاع التي امتزجت بنظرة إنتقامية
"شوفتي ابن الخاطية بيعمل إيه؟" همس بزهو أمامها فما كان منها إلا أن بصقت على وجهه
"إن مكنتش انتقم منك يا بن المرا مبقاش أنا!" تحدثت بغل بين بكاءها وشدة تألمها من تلك الجلدات التي تلقتها على يد الرجال الذي آتى بهم شهاب
"بقى بتفي عليا أنا.. طيب.. أنا هوريكي" جفف بصاقها بكم قميصه لينظر لأحدى الرجال ثم أومأ له واتجه للخارج حيث حازم ابنها الذي جلس بسيارة مع رجلان ولم يسمحا له بالمغادرة..
دلف السيارة بجانب حازم ليغادر الرجلان بعد أن فهما منه رغبته في التواجد بمفرده مع حازم فنظر له الطفل نظرات مستفسرة
"أنت مين؟ ومامي راحت فين؟ أنا عايز اروحلها" حدثه ببراءة وعينيه اتضح بهما الخوف ليبتسم شهاب نصف ابتسامة في تهكم متمتماً لنفسه
"مامي!!" حمحم ثم نظر إليه "أنا شهاب.. أخوك"
"أنا كان نفسي أشوفك ونبقى أصحاب.. بس كنا في البيت وفيه ناس كلهم لابسين black وشكلهم وحش.. they took her and left me.. did you see her؟"
سأله ليرمقه شهاب في صمت وبداخله تعالى الحقد الدفين، أهذا هو أخوه؟ أهذا هو نفسه ابن كرم الدمنهوري؟ واحداً تعلم الإنجليزية منذ نعومة أظافره ويتحدثها في طلاقة وآخر كان ينطقها بصعوبة بالغة بين تهكم من الجميع وتعلمها بالسادسة عشر فقط ليستطيع الإلتحاق بتلك المنحة التي يعلم أن مبلغها وقتها لا يساوي ولو ربع تلك الأموال التي أغدق بها كرم الدمنهوري على هذا الفتى الصغير..
"أنا كمان كان نفسي أشوفك يا حبيبي" ابتسم له ثم سأله "أنت عندك كام سنة؟"
"أنا.." تريث حازم لبرهة ثم اجابه مجدداً بالإنجليزية "Eight" ابتسم له شهاب بينما بداخله صمم أن التاريخ سوف يُعيد نفسه .. تركته والدته وعمره ثمانية أعوام من أجل رجل آخر، بينما سيجعل ذلك الفتى ذو الثمان سنوات يُصدق أن والدته تركته هو الآخر من أجل رجل.. أليسا أخوان بالنهاية؟!
"شهاب.. تعرف مامي فين؟" سأله ليعود هو من أفكاره وتخيلاته ليومأ له
"هي كانت كلمتني وقالتلي تعالى خد حازم.. وقالت إنك لازم تعيش معايا علشان هي هتتجوز.." سكت وهو يتفقد ملامح الطفل الذي أدرك أنه ليس ببريء براءته يوم أن تركته والدته
"no.. أنا حاسس إن الرجالة دول اخدوها وهي كانت مضايقة" جذبه شهاب في ود مصطنع بذراعه ليقترب منه إلي صدره
"لا هي كانت عايزة تروح معاهم علشان هي مش عايزة تعيش معاك.. وعملت بس كده علشان تضايقك.."
"أكيد غلط، مامي مش هاتسبني، وهتضايقني ليه أصلاً.. she loves me"
"طيب ولو روحنا وشوفناها مع جوزها اللي سابتك علشانه، هتعيش معاها ولا معايا؟" نظر إليه حازم في استغراب ليرمقه شهاب بمنتهى الهدوء وبدأ يتسلل إليه الإستمتاع بالقادم!
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
في مساء نفس اليوم..
"ياااه.. أخيراً.. ده انتي تعبتيني!" زفرت هبة في إرهاق وهي تنظر إلي فيروز بمرآة صالون التجميل
"خلاص كده اتبسطتي لما قصيت شعري قصة جديد واشتريت هدوم ملونة.. كده اتسليتي النهاردة؟ ضحكتي عليا وقولتيلي سينما وفي الآخر برضو عملتي اللي في دماغك!" سألتها في ضيق بعد أن اجبرتها على كل ما فعلتاه طوال اليوم من تسوق وقضاء باقي الوقت في صالون التجميل
"فيروز.. بصي لنفسك.. اديها فرصتها تعيش.. قراية فاتحة اخواتنا كمان عشر أيام، أنا خلاص داخلة على السابع والأيام بتجري وقربت أولد، فريدة خلصت سنة تالتة واخدت كورس في الاجازة ومكملة دراستها.. إنما انتي.. ناوية تفضلي امتى لغاية كده؟ لو كان ماهر شافك وانتي حزينة اوي تفتكري كان هيبقى مبسوط؟" التفتت لها فيروز لترمقها بحزن ثم أكملت هبة حديثها إليها
"كتير عليا لما يوحشني صاحبتي؟ كتير عليا لما ابقى محتاجها هي اللي توقف جانبي شوية؟ كتير إني أشوفها زي زمان؟" نظرت إليها بدموع في عينتيها
"انتي عايزاني انسى ماهر؟ هو ده اللي عايزاني اعمله؟" همست سائلة إياها في شجن لتومأ لها هبة بالإنكار وحدثتها بنبرة هادئة امتلئت بالحنان
"لا أنا نسيته ولا كل اللي حوالينا يقدر ينشى مين ماهر ولا بطلب منك تنسيه.. كل اللي بطلبه إنك تكوني كويسة.. إنك تحاولي تكوني كويسة.. ده قضاء ربنا.. ماهر راح للي احسن مني ومنك وربنا هيجمعك بيه في يوم من الأيام.. بس اللي انتي عملاه في نفسك ده حرام.. حرام الواحد يعذب نفسه بالحيا زي ما انتي ما بتعملي.. انتي بس مش بتعذبي نفسك.. لأ يا فيروز.. انتي معذبة كل اللي حواليكي.. باباكي اللي كل ما بيبصلك بشوف في عينيه الزعل علشانك، مامتك الست اللي مبتبطلش ضحك اطفت علشانك.. فريدة اللي دايماً شايفاكي مثل أعلى.. أنا.. هاشم.. كل اللي حواليكي مش قادرين يستحملوا زعلك.. انتي وحشتينا كلنا يا فيروز.. وحشتنا ضحكتك وهزارك اللي بتكبتيهم جواكي من كتر الحزن وزي ما تكوني بتحاسبي نفسك لو طلعوا غصب عنك وبتعاقبيها علشان روحك الحلوة دي متطلعش لحد"
بكت فيروز وهي تنظر إلي هبة بحزن وتبادلتا النظرات لبرهة لتجهش الأولى بنحيب مرتفع ورمقت هبة في إنزعاج شديد
"عايزني ارجع فيروز بتاعة زمان؟ اقلع الأسود وامشي واتنطط ما بين مدرسة ومصحة وسجون.. ادرس تاني واعمل دراسات.. طب وفين اللي كان بيساعدني على كل ده؟ فين ماهر؟ عايزني كلكوا ارجع رجعهولي، خليه يرجع تاني ويبقى جانبي" صاحت بحرقة بمزيداً من البكاء لتعانقها هبة إليها
"ماهر عمره ما كان يرضى باللي انتي بتعمليه ده.. كان دايماً بيعمل كل حاجة تسعدك.. ابسطيه يا فيروز.. ارجعي زي ما كنتي علشان هو واحنا نرتاح.. أنا مبقولش انسيه بس حاولي ترجعي.. واحدة واحدة.. اعملي كل اللي كان بيحبه.. ارجعي الجامدة الواثقة من نفسها اللي ضحكتها بتملى الدنيا سعادة حواليها، ولو احنا كلنا مش فارقين معاكي فأرجوكي اعملي كده علشانه.. وكلنا جانبك وهنساعدك"
همست بمزيد من الإلحاح ولكن بنبرة حنونة لتنظر لها فيروز دون كلام وقبل أن تدعها تتحدث أخبرتها في توسل
"ارجعي تاني علشانه، قوليله إنك سعيدة، قوليله إنك قوية.. ماهر دايماً كان بيحبك كده.. علشان خاطره هو، مش علشان خاطر أي حد"
أقتربت هبة منها لتجفف دموع صديقتها بأناملها ثم نظرت إليها في ود وابتسامة وبكت أمامها في ترجي ثم عادت لتتوسل لها مرة اخرى
"أنا عايزة صاحبتي اللي طول عمري اعرفها.. أنا محتجاها جانبي.. ماليش دعوة اتصرفي علشان أنا خلاص مبقتش قادرة ومش عارفة احاول معاها أكتر من كده.. رجعيهالي علشان وحشتني والحياة وحشة اوي من غيرها!"
"انتي جزمة" عانقتها فيروز التي عادت لتبكي مرة أخرى "وأنانية وبكرهك"
"قال يعني انتي اللي ملاك نازل من السما.. يالا يا مجنونة يا بتاعت المجانين" همست هبة وهي تعانقها بشدة وبكت ثم ضحكت "بطني يا فيروز.." همست في استغاثة لتبتعد فيروز وهي تتفقدها
"علشان عِجلة.." ابتسمت إليها إبتسامة هادئة
"سنة بحاول.. يخربيت سنينك، دماغ جزمة صحيح" حدثتها هبة وهي تجفف دموعها ليرن هاتف فيروز فتفقدته
"ده شهاب" أخبرتها بنظرة متوترة
"ردي" هزت كتفيها وهي تنظر لها في تريث
"آلو"
"عاملة إيه؟"
"تمام الحمد لله.. وأنت؟" سألته لتكون لائقة فحسب
"كويس" أخبرها ليتبع كلمته بتنهيدة وهو حقاً يشعر بأنه في أفضل حالاته "بخصوص الموضوع اللي اتكلمنا فيه امبارح.. فاضية؟"
"ممم.. بصراحة لأ.. مشغولة شوية" همهمت ليُدرك أنها تكذب
"مشغولة في إيه؟" همست هبة تسألها لتشير فيروز بسبابتها على شفتاها كي تصمت هبة
"وراكي إيه بالظبط؟" رفعت فيروز حاجبيها من ذلك المتطفل
"أظن دي حاجة شخصية" اجابته بنبرة حازمة
"ممكن تخلصيها وأنا ابعتلك حد لغاية عندك يجيبك"
"أظن إني قولت أنا النهاردة مش فاضية ومشغولة! مكونتش واضحة في كلامي؟" رفعت هبة احدى حاجباها في فضول بينما همهم شهاب في تفهم
"هو عايز إيه ده؟" همست سائلة لتتوسع عينتي فيروز بمزيد في زجر وتحذير
"يعني ده معناه إن كلامك ليا مكنش بجد.. تمام"
"لأ.. كان بجد بس أنا فعلاً مش فاضية"
"علشان كده سألتك وراكي إيه! مش يمكن أنا اهم؟! أو عندي مشكلة أكبر؟" تركها تظن أنه يشعر بالحاجة إليها أو هكذا ظن..
"ماشي.. خلاص.." زفرت في ضيق ثم تابعت "ممكن نتقابل في كـ.."
"لأ انتي هتجيلي في نفس المكان بتاع امبارح.." قاطعها بمنتهى الثقة "أكيد مش هاتكلم في مكان بره قدام الناس.. واكيد مش هاروح عيادة.." حدثها في تهكم لتنظر فيروز إلي هبة في صمت ثم تنهدت
"ماشي.. نص ساعة وهكون عندك، بس أنا فاضية ساعة واحدة بس.."
أنهى مكالمته معها ليضع هاتفه بجيبه بإبتسامة لم تلامس عينيه وبمنتهى الزهو شعر بعودته مُجدداً ليتحكم بالأمور.. ها هي تلك الساذجة ستأتي له.. مجدداً!
تلك العاهرة التي ظنت أنها تستطيع أخذ أمواله جعل رجال قام بتأجيرهم بالقليل من المال يلقونها أمام الجميع بتلك "الحارة" التي آتت منها عارية لا يسترها شيء..
كانت تلك الكلمات التي أمر احد الرجال أن يُلقيها على مسامع الجميع كمثابة موسيقي في أُذنيه كما عيروه لسنتين كاملتين.. ماذا تفرق الآن عن والدته؟ كلتاهما عاهرتان خائنتان لنفس الرجل!
ليس هذا فحسب.. بل خدرها.. ألقاها على السرير مع رجل.. وبعد أن سأم من ابنها جعله يراها عارية في حضن رجل آخر.. هما الآن أخوان بحق.. وسيعمل أن يعاني هذا الطفل نفس المعاناة.. عدا معاناة الفقر!! ولكن لديه الكثير في جعبته مما يريد فعله مع هذا الصغير بعد أن عاش ثماني سنوات بين أبوين وكان لديه العديد من الأشياء التي حُرم هو منها!!
تناول نفساً عميقاً ثم أطلقه وهو يرسم بمخيلته العديد من السيناريوهات لتلك الساذجة التي ينتظر وصولها بعد دقائق، شعر بغضب طفيف تجاه نفسه لتواجده بهذا المنزل مجدداً وحده معها وهو يعلم كذلك أنه لن يضاجعها اليوم ولا غداً ولا بعد غد، ولكن لماذا في ذلك المنزل بالتحديد؟!
حمحم مُفكراً ثم ابتسم لترتسم على وجهه ملامح الجنون، أليست هي مختلفة عن بقية النساء؟ إذن هذا المنزل يُناسبها أكثر.. خاصة أنها ذكية للغاية في حديثها، جميلة بملامح لم يجدها في إمرأة من قبل، شعرها وعينتيها اللعينتين اللتين لا يُميز لونهما إلي الآن، هادئة أحياناً خاصة عندما تسأله سؤال بجدية، ثم تعود لحيويتها.. ضحكتها تبدو لطيفة، تلك النظرة بعينيها بها جاذبية غريبة، لديها ثقة بالنفس، لديها عزة نفس أيضاً وليست ممن تتهافتن على الرجال.. تعامل الرجال بحدود دائماً..
عقد حاجباه وهو ينفي هذا الأمر عن عقله وكل ما فكر به، هكذا تظن نفسها، لا ينظر إليها بالطبع هكذا، هي فحسب من ترى نفسها بتلك الطريقة أما هو فيعلم أنها عاجلاً أم آجلاً ستتحول لتكون واحدة ممكن يُلقي بهن في صندوق نفاياته من النساء.. كل ما يُريده معرفة ما خلفها فحسب..
التفت ليتوجه حتى يُغير ملابسه التي آتى بها للتو بعد أن ترك حازم بصحبة عنايات مدبرة ذلك المنزل الذي كان يتواجد فيه والده وكذلك هو نفس المنزل الذي ترك به كريم عمه.. يعلم أنه يوماً ما عليه تدبر أمرهما ولكن فيما بعد..
عليه أولاً أن ينتهي من تلك الساذجة وبعدها سيرى ما عليه فعله مع الجميع..
⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢ ⬢
#يتبع . . .